يشكل التضامن الاجتماعي الرابط الأساس لاستدامة بقاء الجماعة الاجتماعية، وكبح أشكال الصراع الاجتماعي الناشئة، أو التقليل من احتماليات حدوثها؛ ذلك أنه ينطلق من فهم موحد للقيمة الاجتماعية، وقبول مشترك لها، واتفاق عام على ضرورة ترجمتها في السلوك الاجتماعي. وليس بمحدث القول: إن بدايات تفتت المجتمعات إنما تنشأ من خلال تقلص مساحة التضامن الاجتماعي، وعلو قيم «التنسيب»، و«الأنانية الفردية»، أو «أنانية المجموعة الاجتماعية» على المصلحة العامة للمجتمع.
ومن هنا فإن ما يُعرف بـ«الهيمنة الثقافية»، أو محاولة بعض المجتمعات تصدير منتجاتها الثقافية حاملة قيمها، والأسس الفكرية التي تؤمن بها، ومحاولة تسويقها وترويجها إنما يحمل في طياته محاولة لتفتيت الفهم المشترك للقيمة الاجتماعية التي يؤمن بها مجتمع/ جماعة ما. فنصير إلى حالة «تنسيب القيم»، أي جعل معناها ومغزاها ومضامينها خاضعة لتفسير الأفراد المتباين، وحاملة للتأويلات، دون اتفاق جمعي عليها. فتنشأ حالة «المفهوم غير المتفق عليه»، التي هي في الحقيقة ليست نتيجة نسبية المفهوم/ القيمة نفسها، وإنما نتيجة التعرض لشكل جديد من تفسيراتها، أو السلوكيات المنبنية عليها، وحينها لا يستطيع المجتمع تحقيق التوافق الجمعي، الذي هو الأصل لبقاء القيمة من ناحية، وبالتالي حفظ التضامن الاجتماعي من ناحية أخرى. لذلك حين الحديث عن «قيم تحاول ترويجها مجتمعات معينة» أو «حملات إعلامية وثقافية معينة» لابد من فهم الهندسة الجديدة التي يمكن أن تضرب القيم الاجتماعية القائمة في المجتمع نتيجة ذلك، وكيف ستتأثر؟ وكيف ستكون عرضة للتفسيرات المتعددة، وكيف ستتغير السلوكيات والممارسات الاجتماعية التي تقوم عليها؟
وأهمية هذا العامل لا تنفي أو تقلل دور العوامل الأخرى؛ فالقوانين والسياسات والنظم الداعمة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية كفيلة بجعل أفراد المجتمع على خط واحد؛ وبالتالي تحقيق القبول المعني للقيم المشتركة، والشعور بالوحدة الاجتماعية تجاه الحفاظ على التضامن الاجتماعي. ولحفظ هذا التضامن في حالتنا الراهنة نعتقد بضرورة «مأسسة التضامن الاجتماعي»، بمعنى تحويل مبادئه وصيغه وقيمه إلى نماذج في عمل المؤسسات الاجتماعية ومؤسسات الدولة القائمة. فوجود منظومة فاعلة للتطوع، ومحوكمة، وذات أثر مستبين للمجتمع هو عنصر عصري يعبر عن قوة التضامن الاجتماعي، وتعكس مؤشراته مدى الترابط الاجتماعي عبر مرور السنوات، وربط ذلك التطوع باستحقاقات أخرى، مثل أفضلية التنافس على الوظائف، أو الأفضلية الأكاديمية، أو أفضلية الترقي في مؤسسات العمل، أو أفضلية الترشح والترشيح للمجالس المنتخبة، من شأن ذلك أن يعزز دافعية المجتمع نحوه، ويضمن استدامته، وبالتالي تعزيز التضامن الاجتماعي. وتعزيز مساحة «المجتمعية» في وسائل الإعلام على حساب «الفردية» من خلال مجمل المضامين والبرامج والأعمال الدرامية من شأنه أن يدفع بالتضامن الاجتماعي إلى الديمومة والبقاء. كما أن بناء السياسات الاجتماعية على أساس مركزية التضامن الاجتماعي، وتعزيز حيزه في برامج التنمية الاجتماعية من شأنه أن يضمن قبول المجتمع لتلك البرامج من ناحية، وتعزيز التضامن الاجتماعي من ناحية أخرى. كما أن مأسسة نظام للاقتصاد التضامني الذي يعكس في أشكاله وجود مؤسسات تقوم بتقديم الخدمات الاجتماعي التي تقدمها الدولة، ولكن بصورة تضامنية، كالجمعيات التعاونية، والخدمات المقدمة عبر مؤسسات المجتمع المدني، ومنصات تسويق منتجات الأسر المنتجة، كلها تصب في اقتصاديات التضامن التي تعززه وتستديمه وتحيله إلى شكل مؤسسي قائم.
وإذ يتميز المجتمع في سلطنة عُمان بحالة متسقة من التضامن الاجتماعي تاريخيًا؛ فإن التحدي الراهن والمستقبلي هو في القدرة على صون هذا التضامن، نتيجة تعدد المؤثرات ومنها اشتباك المفاهيم العالمية للقيم، وتنسيب تلك القيم في الخطاب العالمي. وهو ما يستدعي النظر إلى كافة منظومة العوامل التي تسهم في تعزيز هذا التضامن، فحتى تخطيط المدن وأنماط إسكان الناس، وحتى أنماط التنقل وتصاميمها والعمليات التي نعتقد أنها تخاطب الجانب المادي في التنمية المجتمعية هي تؤثر بطريقة غير مباشرة إما إيجابًا وإما سلبًا على نمط التضامن الاجتماعي. فعلى سبيل المثال الأفكار التي يقوم عليها الاقتصاد التشاركي (وإن كانت قادمة من منظورات اقتصادية / تجارية صرفة) إلا أن جوانب منها إذا ما استطعنا تطويعها ومحورتها وفق مبادئ وثقافة المجتمع قد تكون محركًا حديثًا لفعل التضامن الاجتماعي.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التضامن الاجتماعی الاجتماعی ا من ناحیة
إقرأ أيضاً:
تعزيز العدالة الاجتماعية من خلال الابتكار في نظام الضمان الاجتماعي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في إطار الجهود المستمرة لدعم الفئات الأولى بالرعاية وتعزيز نظام الضمان الاجتماعي، انطلقت فعاليات المؤتمر الدولي للإدارة والابتكار في الضمان الاجتماعي في القاهرة اليوم. يشارك في المؤتمر عدد من الشخصيات البارزة في الحكومة المصرية بالإضافة إلى ممثلين من 81 دولة حول العالم، وأكثر من 138 هيئة ومنظمة دولية.
الحماية الاجتماعية محور أساسي من محاور التنميةبدأ المؤتمر بكلمة للدكتور خالد عبد الغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية ووزير الصحة والسكان، حيث أشار إلى أن الحكومة المصرية تضع ملف الحماية الاجتماعية في قلب أولوياتها. ولفت إلى أن الحماية الاجتماعية تمثل "شريان حياة" للمواطن المصري، لا سيما للفئات الأكثر احتياجًا مثل العمالة غير المنتظمة والفئات ذات الدخل المحدود.
وأكد عبد الغفار في كلمته أن الحكومة تسعى لتحسين آليات استهداف الأسر المستحقة للدعم من خلال تحسين الشفافية والحوكمة الرقمية، مما يعزز من وصول الضمان الاجتماعي إلى مستحقيه، وهو ما يتماشى مع استراتيجية مصر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ورؤية 2030.
الابتكار في نظم الضمان الاجتماعيتحدث في المؤتمر عدد من المسؤولين البارزين، منهم الدكتورة مايا مرسي وزيرة التضامن الاجتماعي، التي استعرضت جهود الحكومة في تطوير برامج الحماية الاجتماعية، مثل برنامج "تكافل وكرامة"، الذي يخدم حوالي 4.7 مليون أسرة. وأشارت إلى أن الحكومة المصرية قد أولت اهتمامًا خاصًا بتحسين استهداف الأسر الأكثر احتياجًا وتنفيذ مشروعات تهدف إلى الاستثمار في رأس المال البشري، بما في ذلك توفير الخدمات الصحية والتعليمية للأسر المستفيدة.
من جهة أخرى، ناقش محمد جبران وزير العمل التوسع في مظلة الحماية الاجتماعية للعمالة غير المنتظمة، موضحًا أن الوزارة قد أنشأت صندوقًا خاصًا لهذه الفئة منذ عام 2002، يقدم الدعم الاجتماعي والصحي لهم، ويتضمن منحًا سنوية تزداد قيمتها تدريجيًا لتلبية احتياجاتهم.
التأمين الصحي الشامل ركيزة العدالة الاجتماعيةسلط الدكتور إيهاب أبو عيش، نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل، الضوء على أن تطوير منظومة التأمين الصحي الشامل يعد محورًا أساسيًا من محاور الحماية الاجتماعية في مصر. وأشار إلى أن هذا النظام يهدف إلى توفير رعاية صحية متميزة لجميع المواطنين، وأنه يسير في اتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال ضمان وصول خدمات صحية عالية الجودة وفقًا للمعايير العالمية.
نظام تأمين اجتماعي رائدوأكد اللواء جمال عوض، رئيس الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، على أهمية الإصلاحات القانونية التي شهدها النظام التأميني في مصر، بدءًا من قانون التأمينات الاجتماعية الجديد في 2018، وصولًا إلى قانون التأمين الصحي الشامل في 2022. وأوضح عوض أن هذه القوانين تمثل جزءًا من رؤية الدولة المصرية في تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان استدامة النظام المالي للضمان الاجتماعي، بما يتوافق مع المعايير الدولية.
خلاصةيُظهر المؤتمر الدولي للإدارة والابتكار في الضمان الاجتماعي في مصر مدى التزام الحكومة المصرية بتطوير نظام الضمان الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال برامج مبتكرة ومتطورة. يشارك فيه ممثلون دوليون، ما يعكس التعاون المثمر بين مصر والدول الأخرى في تبادل الخبرات وتطوير الأنظمة الاجتماعية التي تضمن رفاهية المواطنين وتساهم في القضاء على الفقر.