قضايا غريبة وقعت وأثارت الجدل تحول فيها القاتل إلى برئ، والجاني إلى مجني عليه، ألغاز كشفتها التحقيقات، وأزال عنها الستار دفوع المحامين في ساحات القضاء، اليوم السابع يقدم على مدار 30 حلقة خلال شهر رمضان المبارك، أبرز هذه القضايا ووقائعها المُثيرة.

"ضيف على مائدة..عشماوى"

يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا.

.

ويقول المستشار بهاء أبو شقة، إنه وخلال وصوله لمكتبه فوجد أحد الموكلين يصر على مقابلته ويستعجل دوره حتى يلحق بالقطار المسافر إلى الصعيد الساعة الحادية عشرة ليلاً، فسمح له بالدخول.

كانت النظرة إليه منذ الوهلة الأولى مخيفة.. كان أشبه بثور بشرى شرس من الصعب ترويضه، من المستحيل السيطرة على فكره او إقناعه بغير راى اعتقده.. كان ضخم الجثة طويلاً عريض المنكبين، بريق عينيه يشع منهما القسوة.. جلس أمامى وقد أحضر معه سيدة في العقد الخامس من عمرها جاءت معه على استحياء على غير عادة أهل الصعيد الحضور في أقران هذه القضايا.. وأحست بما يجول في خاطرى عندما سألتها عن سر حضورها وخروجها عما هو مألوف من تقاليد وأعراف.. فبادرتنى.. " أنا أم المتهم".. وحبس دموعها في مقلتيها وهى تقول بصوت خفيض ملؤه الثقة " ابنى برىء والله، وكررتها عدة مرات من قتل أخته".. مما أدخل الشك في نفسى بصدق حديثها.

وأشارت إلى الحاضر معها "وده خطيبها وابن عمها في الوقت نفسه.. وكان مفروض حيتجوزها قبل الجريمة بحوالي أسبوعين".

ويروى أبو شقة، طلبت دوسيه القضية لتصفحه حتى أكون راياً قانونياً قبل قبول الدفاع في القضية، وبالفعل اطلعت على القضية وقبلت بالدفاع عن المتهم، فقد أيقنت منذ الوهلة الأولى أن المتهم بقتل شقيقته عمداً مع سبق الإصرار والترصد والذى أصر على الاعتراف بقتلها ومثل كيفية ارتكابه للجريمة برىء.. وأنه ليس القاتل.. وأن للواقعة صورة أخرى مغايرة تمام التغاير ومخالفة كل الخلاف لما جرى عليه اعترافه الذى أصر وصمم عليه طيلة فترة الاستدلالات والتحقيقات أمام النيابة العامة.

كانت نظرات المتهم حادة وقسمات وجهه التي تنطق بالجدية والإصرار على المضي باعترافه مهما كان الثمن، ولو كان حبل عشماوى ملفوفاً حول رقبته، كان يجلس في قفص الاتهام كالطاووس نافشاً جناحيه وسط أبناء قريته الذين اكتظت بهم القاعة عن أخرها.. وهو ما يلبث أن يتجول في قفصه بين الحين والأخر مستعرضاً قوته، مؤكداً للجميع نخوته ورجولته، موزعاً نظراته على الجميع الذين كانوا يبادلونه نظرات الفخر والإعجاب ويحسون فيه الرجولة بمعناها الحقيقى، المدافع عن شرفه وشرف أسرته.. بل القرية بأكملها، لم يكن بالقرية موضع قدمن فقد جاء الجميع ليشهدوا محاكمة ابن قريتهم.. الرجل بمعنى الكلمة، صاحب النخوة الذى لم يتحمل خروج شقيقته عن العادات والتقاليد التي توارثوها منذ أمد بعيد.

لم يكن لديه خيار أمام أهله وذويه، وأهل قريته سوى الثأر لشرفه.. أن ينتقم لكرامت، وأن يثبت للجميع أنه الرجل القوى الذى لا يهاب شيئاً، ولا يرهبه حتى حبل المشنقة، واستبد به شيطان العادات والتقاليد والأعراف البالية، أنه إذا لم يثأر لشرفه وينتقم لكرامته سيصبح أضحوكة الجميع.. سيمحون اسمه من سجل الرجال.

أما شقيقته فكانت ريفية يفور منها الجمال وتتدفق منها الأنوثة، كانت بيضاء اللون.. ممشوقة القوام، شعرها الأسمر الطويل يزيدها جمالاً على جمالها، كان كستائر الليل بمجرد أن يبتلع البحر قرص الشمس وقت الغروي، وقد أكسبها هذا الجمال الطبيعى الطاغى ثقة بنفسها بلا حدود وتمرداً على واقعها الريفى الذى حال بينها وبين إتمام دراستها، فقد كانت متفوقة في دراستها وحصلت على مجموع كبير في الثانوية العامة، كانت أمنيتها أن تكمل تعليمها الجامعى وتتفوق فيه وتحصل على الشهادة العالية، لكن أخاها أصر على أن تقف عند هذا القدر، وقد فرضت عليها التقاليد أن تعد نفسها للزواج من ابن عمها القروى الثرى، الذى دفن فكره وأغلق عقله في معتقدات أهل قريته، وأنه أولى من غيره وأحق بالزواج من ابنة عمه، خاصةً بعد أنا قرأ المرحوم والدها الفاتحة لهما منذ طفولتهما.

وفى هذا الوقت كان تفكيرها يسير في خط معاكس وفى طريق متناقض ضد كل ما خطط له، وعليه هو أن يسير في طريقه ومنطقه الذى تحكمه القوة والعنف والبطش.. لقد رأت أن مستقبلها يرتبط بمستقبل مهندس شاب كان يعمل في إحدى الشركات قريباً من قريتها، جمع الحب بين قلبيهما منذ النظرة الأولى التي التقط نظراتهما أثناء عودتها من المدرسة، والتقيا أكثر من مرة، والتحف حبهما واعتصم بأشجار الحقول ونما تحت تغريد العصافير، وتعددت اللقاءات بينهما، وامتلاء قلبهما بالحب الذى تناقلته الطيور على أوراق الشجر من كثرة لقئهما ومن يض ما سمعوه من أحاديث الحب وتنهيدات الغرام.

انتشرت قصة حبهما بين أهالى القرية وتناقلتها الألسنة كل حسب ما خيل له شيطان هواه بل وجنح بهم ميزان التخيلات المسمومة إلى حدود بعيدة لا أساس لها، فقد كان حبهما شريفاً نقياً عفيفاً، ولكن ألسنة الناس لا ترحم وتخيلاتهم وشطحاتهم لا تقف عند حدود، فقد شاع الخبر بين أبناء القرية على هذا النحو الكريه مسرى الريح، ونما إلى علم شقيقها هذه الأحاديث الهامسة، ولم يكن بمقدور أحد من أهل القرية أن يواجهه بالحقيقة، فجن جنونه وحمل سلاحه النارى، وأطلق الرصاص على المحبوب قاصداً قتله، وشاء القدر أن ينجو من الموت بأعجوبة بعد أن انبطح على الأرض متخذاً ساتر كان وجاءً له ومانعاً من نفاذ الرصاصات المتلاحقة إلى جسده والذى لولاه للقى حتفه في الحال.

الفتى لم يقابل الإساءة بمثلها، وقدر مشاعر الأخ والظروف والعادات والأعراف والتقاليد التي يعيش أسيراً في دائرتها، ولا يملك إلا الانصياع لها مجبراً، ولم يجابه ثورة الأخ ونيته القضاء عليه بانتقام مقابل، كان بوسعه أن يزج به في غياهب السجن وينفرد بمحبوبته، ولكن سمو فكره وحسن تقديره ووزنه العاقل للأمور كان هادياً له، غلبت عليه أخلاقه وشهامته واستبدت بفكره وقراراه.

فبالرغم من أنه رأه وتأكد من أنه هو الذى أطلق النار عليه، إلا أنه رفض اتهامه وحتى بعد أن أكدت التحريات أنه هو الذى شرع في قتله، وواجهته النيابة بها، أصر على أنه ليس المتهم، وانتهت القضية بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم معرفة الفاعل وقيدت القضية ضد مجهول، وحفاظاً على حياة المهندس تم نقله إلى مكان آخر بعيدا.

بعد الوقعة ازدادت شراسة الأخ واستبد له عناده على تزويج شقيقته من ابن عمها، بل وأصر ابن عمها على ضرورة إتمام هذا الزواج بأسرع ما يمكن قطعاً للألسن ووضع حد للقليل والقال، ولكن الأخت أصرت على الرفض.. بل وأكدت لوالدتها أن الموت أهون عليها من الزواج من هذا الأمى. ضيق الأفق، محدود الفكر، وأن تقدم على الانتحار لتقدم جثتها للموت الأبدى خير من أن تقدم جسداً بلا روح، جثة مجردة من الإحساس والمشاعر لهذا الوحش، كانت تتخيل بين الحين والأخر أنها جثة هامدة يلتهمها في وحشية بين أنيابه التي تقطر دماً في نهم يتلذذ في أنانية.

فجأة اختفت الأخت وكأن الأرض انشقت وبلعتها، وانتشرت الشائعات في القرية وسرت مسرى الريح تؤكد أن شقيقها أو ابن عمها قد قتلها حتى يتم التخلص من عارها، ولم تمض أيام على اختفائها حتى ظهرت جثة طافية في نهر النيل الملاصق للقرية، وتم استخراج الجثة، كانت مشوهة الوجه على نحو يصعب معه الوقوف يقيناً على صاحبتها.

أثبت مفتش الصحة الذى انتقل فور العثور عليها لمناظرة الجثة، وإثبات حالتها وعما إذا كانت الوفاة طبيعية أم جنائية، وجاءت النتيجة أن الوفاة جنائية نتيجة الاعتداء عليها جنائياً، كما جاء بالتقرير وجود إصابات مدممة بارأس وترك تحديد سبب الوفاة والالة المستخدمة في أحداثها للطب الشرعى.

كانت المفاجأة إذ تقدم الأخ معترفاً بأن الجثة لشقيقته وأنه قتلها ليغسل عاره، ولينقى ثوب الأسرة الأبيض من دنس هذه الفاجرة التي لطخت سمعته وأذلت كبرياءه، كانت هذه هي صورة لأحداث الدعوى التي وقفت أمام المحكمة مدافعاً عنه.

ويقول المستشار أبو شقة، إن اعتراف المتهم جاء حسبما رصدت التحقيقات على لسانه، بانه استدرج شقيقته إلى الشاطئ النيل ليتفاهم معها بعد أن أوهمها بانه قبل زواجها من المهندس، وأنه يرغب في الوقوف على معلومات عنهن وقبل دعوته لإتمام هذا الزواج، وتجاذبا الحديث وأثناء محاولته إثناءها عن فكرتها وإصراره على زواجها من ابن عمها قفزت في النيل محاولة الهرب، لكنه ألقى بنفسه في المياه وتعقبها وضغط على رأسها في المياه قاصداً إغراقها، حتى تأكد من موتها وتركها جثة هامدة وسط المياه، وراى التيار يجرفها وهى تعوم على سطح الماء.

في حين أن تقرير الصفة التشريحية أكد أن الجثة تضمن عدة حقائق، أن الجثة تم انتشالها وهى في حالة انتفاخ شديد وتحلل، أن سبب  الوفاة هو إصابات قطعية بالرأس، أي حدثت قبل الوفاة وأثناء الحياة، أنه بتشريح الجثة لم يتبين وجود مياه بداخلهان فطلبت مناقشة الطبيب الشرعى خلال جلسة المحاكمة.

وسألته هل من الممكن فنياً أن يكون سبب الوفاة اسفسكيا الغرق دون أن يتبين من التشريح وجود مياه في الرئتين؟، فأجاب لا لابد أن يوجد مياه بارئتين إذا كان الموت نتيجة الغرق، فسألته هل يمكن للجثة أن تطفو فور وفاتها، فأجاب لا وهى استحالة لان كثافة الجثة لا تسمح بذلك إلا بعد فترة زمنية تنتفخ فيها وتطفو على سطح الماء.

وبدأت مرافعتى طالباً البراءة للمتهم مستهلاً دفاعى بأن الحقيقة في الدعوى أن المتهم لم يقتل شقيقته، واعترفاه أقوال ضعيفة لا أساسا لها من الصحة بعد استجواب الطبيب الشرعى، وحديثه مخالف للواقع وهو ما أكد كذبه الطبيب الشرعى.

وخلال مرافعتى، حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد لا الدفاع ولا هيئة المحكمة، ولا حتى المتهم داخل قفصه، ظهرت الأم بصوت مرتفع تطالب من هيئة المحكمة الحديث، وتصطحب معها فتاة توشحت بالسواد الذى غطى جسدها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، وطلب القاضي أن تزيل النقاب وزالت النقاب بالفعل وكشفت عنه وجهها إنها أخته التي اعترف بقتلها.. جاءت بصحبة أمها التي كانت تصيح صيحة مذعورة " أنا بصفتى أم أردت حماية ابنتى بعد أن شعرت بأن ابنى وابن عمها قد اتفقا على قتلها، والبحث عن المهندس لقته، يقتل اخته باسم العار، أي عار ارتكبته أبنتى؟، لقد أحبت حباً شريفياً، فهدانى الله أن أقف مع ابنتى وطلبت منها الاختفاء بسرعة من القرية عند أحد أقاربنا بالقاهرةن وطلبت منها ان تطلب من المهندس الشاب وتتزوجه على أعين الأشهاد وعلى سنة الله ورسوله".

وتابعت الأم حديثها، "وقدمت قسيمة زواج ابنتها الشرعية، وأضافت بفرحة هذا الزواج أنتج عن جنين في جسد ابنتى، وصرخت صرخة اسمعت الجميع لعنة الله على هذه المعتقدات البالية، هل كنت على حق عندما اخترت هذا الطريق؟، عندما أصدرت قراراى لأخمد ناراً كانت ستلتهم الجميع، هل أجرمت ابنتى عندما تزوجت؟.

تبدلت مشاعر الجميع بالفرحة والسعادة، مباركين الزواج وهكذا تقدم ابن عم الفتاة بالتهنئة والفرحة، وفى هذه الأحيان صدر قرار القاضي ببراءة المتهم من تهمة قتل شقيقته.







المصدر: اليوم السابع

كلمات دلالية: غرائب القضايا اغرب القضايا اخبار الحوادث ابن عمها أبو شقة بعد أن من ابن

إقرأ أيضاً:

فيلم رعب بنصف تذكرة! (قصة قصيرة من وحي المعركة)

بالكاد عانقت عيناها شيئا أصبح عملة نادرة كان اسمه قديما النوم، أصبح اليوم كابوسا ترتعب منه، فالحاجة الثمانينيّة أم عزيز ما أن يداهمها النوم إلا وتجد نفسها تقف على حبل رفيع كحدّ السّيف هو الفاصل بين الأحياء والأموات، يعود لها الشهداء وتعانق منهم من تعانق، تناجي وتحادث وتضحك وتبكي؛ ثم ما تلبث إلا وقد عادت لها روحها لتجد أن كلّ من رأتهم في منامها قد غادروا الحياة الدنيا شهداء، منهم من قُتل تحت الردم ومنهم من قطّعته صواريخ مسيّرات الموت التي تحوم فوق رؤوسهم، ومنهم من تحوّل إلى هباء منثور بعد أن أُلقي على حيّهم قنبلة الألفي رطل؛ أمريكية الإبداع وفخر الصناعة وعبقرية الموت والدمار.

كلّ يوم قبل أن تنجح بسرقة هنيهة من الرحيل من كابوس اليقظة إلى كابوس النوم، تناجي نفسها:

- علامَ تحزنين على من سبقك هناك، عاجلا أم عاجلا ستلحقين بهم، ما لك في هذه الدنيا من قرار، رائحة الموت تنبعث من كل مكان وبكل الأشكال والألوان؛ برصاص مصبوب يا ترى أم بصاروخ مدمّر؟ أُعلّق أملي بالله فقط أن أحظى بموت سريع لا يؤلمني كثيرا ولا يتعب من سيخرج جثتي من تحت الأنقاض، كلّ أشكال الموت أصبحت معروفة في غزّة. لحظة الفراق قاسية ولكن هذا كان ماضيا، اليوم من نخشى فراقه قد سبقنا، ومن تبقّى منّا فهو على شفا موت قريب، لا ينتظر لحظة وداع لأن طريقة الموت التي أبدعوها لنا لا تدع مجالا لوداع أو وصية أو حتى نظرة عابرة أو ابتسامة إشفاق أو لوعة فراق.

قبل أن يهاجمها كابوس النوم تستعرض طرق الموت وتحاول تمني إحداها وتقديمه على الأخرى، أصبحت تتمنى رصاصة طائشة في الرأس أو سقفا يخرّ دفعة واحدة فيسوّي بها الأرض، لا تريد حرقا ولا أن تُنقل جريحة محطّمة فيها رمق حياة لتموت في المشافي التي دمّروها وجعلوا من يأتيها جريحا يموت في اليوم ألف مرّة.

في المقابل تسامر الجنود مع ضابطهم، قال أحدهم:

- لقد رصدت مجسّاتنا سيدي في هذا البيت نبض حياة لشخص واحد، مسنّة طريحة الفراش، الأغلب أنها تجاوزت الثمانين.

نعق أحدهم:

- دعوها إن لم تمت رعبا ماتت جوعا.

- ولكنّها لا تستحق الموت السريع.

- هذه لو كشفت عنها لوجدت أن عشرة من مخربيهم قد خرجوا من رحمها.

- مجرمة سافلة.

- أطلقوا عليها وطهّروا الهواء من نفَسها.

- هذه كما قال بن غفير عن الفلسطينيين: "الموت عقوبة غير كافية".

- أنا لا أؤمن بهذا المجنون.

- بماذا تؤمن؟ أنتركها حيّة ترزق؟

- لم أقصد هذا، ولكن الموت وحده يكفي.

رفع الضابط صوته:

- دعوكم من هذا الجدال الفارغ، ألا ترون أننا نبالغ ونتفنّن في قتل النساء والأطفال، سألتم أنفسكم لماذا؟ أنتم بهذا تقهرون وتحرقون قلوب الفلسطينيين وكلّ العرب والمسلمين أجمعين، ألم تسمعوا ماذا قال لكم نتنياهو كما ورد في كتبنا المقدّسة؟

- نعم قال: عليكم بالعماليق، لا تذروا منهم امرأة ولا طفلا حتى دوابهم وحميرهم، اسحقوهم تحت نعالكم.

ردّ ضابطهم مغتبطا:

- أحسنت أنت فاهم الدّرس جيّدا.

- كلّنا كذلك سيدي، نمارس ذلك كلّ يوم.

- أحسنتم بدل أحسنت، هكذا رضيت؟ المهم الآن نريد أن نتفنّن بتعذيب هذه المرأة التي أنجبت المخرّبين وأرضعتهم كره اليهود، اقترحوا عليّ..

- نطلق عليها النار بطريقة تجعلها تنزف حياتها قطرة قطرة، ولا ندعها تموت سريعا.

- غيره؟

- نحرقها، نعم نشعل النيران في جسدها.

- غيره؟

- أنا أقول بقاءها في هذه الحياة البائسة المدمّرة دون طعام ولا علاج هو أفضل، تعيش حسرتها وحسرة من فقدت من أبنائها وأهلها. دعوها وشأنها تتجرّع الموت كل يوم قبل أن يأتيها موتها الطبيعي.

- هؤلاء أنت لا تعرفهم، يصبرون ويتجرّعون الألم بحبّ ورضى، يعتبرون من مات شهيدا ومن بقي فهو ينتظر الشهادة. أنا قرأت عنهم أشياء كثيرة.

حرّك الضابط الأشمّ رأسه يمينا ويسارا مظهرا امتعاضه وعدم سماعه لما يشبع حقده وروح انتقامه..

- ماذا تقترح إذا؟ هلّا جلست في بيتك على "الببجي" يا "كيوت" إنت! ركّزوا معي يا شباب النخبة الطلائعية للشعب اليهودي الأغرّ، نريد إيلامها وزراعة الألم والقهر في قلب كل من يسمع عن هذه المرأة وما فعلنا بها.

هتف أحدهم مازحا:

- هل نغتصبها مثلا؟ هذه امرأة إلى الموت أقرب، والله من يغتصبها لتأخذه معها إلى القبر.

بعد تعالي القهقهات حسم ضابطهم الأمر:

- سأريكم فيلما هوليوديا لا يخرجه إلا مخرج يهودي يعرف كيف يسحق العماليق. سأُحضّركم فيلما بنصف تذكرة، هيّا اتبعوني، أرسلوا قلوبكم إلى عشيقاتكم وتعالوا معي دون قلوب، وأنت (أشار إلى المسئول عن وحدة الكلاب) أحضر لي أضخم كلب عندك.

وسار أمامهم كالديك الأمين على دجاجاته، على يمينه الكلب وضابط إيقاعه ومن خلفه جنوده الأشاوس وقد ثارت شهيّتهم لحضور فيلم رعب وكأنّهم ذاهبون إلى قاعة سينمائية، لولا الدمار الهائل الذي يحيط بهذا البيت الذي ما زال واقفا.. الليل لا يسدل ستائره بفضل بريق القصف وأصوات الطائرات التي تلقي بحممها المرعبة، أصوات بعيدة عن هذا المكان ولكن صوتها يقرّب المسافات ويجعلها أقرب إليهم من أنفسهم.. ركل بوابة البيت المتهالكة ببسطاره العسكري الثقيل فتهاوى دون تردّد، سبقته حزمة من الأشعة المنطلقة من فوّهة مدفعه الرشّاش لتصدم عينيّ تلك العجوز، حالة من الصمت يترقّبون ماذا سيفعل ضابطهم ولا تصل عقولهم إلى هذه العجوز ماذا تراها فاعلة، ثارت شهيّتهم لرؤية الرعب كيف ينتشر على وجه مسنّة فلسطينيّة، أمر مسلّ إذا في جوف هذه الليلة الطويلة المملّة، بدل تصفّح شاشة النت على فيدو مرعب، ها أنت تراه بأمّ عينيك دون شاشة، صوت وصورة.

أشار إلى صاحب الكلب أن يطلق العنان له على العجوز، فوجئت المرأة بهم أوّلا فتماسكت وتشاهدت وشعرت بأن الشهادة أصبحت تحلّق فوق رأسها، جاءتها صور الشهداء من أحبّتها فاستبشرت وأمّلت أن تلحق بهم وأن يتهيأ لها مخرج صدق من هذه الفانية، لحظات ثم رأت الكلب يتفلّت عليها ويزمجر، بدت أنيابه مشرّعة تريد التهامها، شعرت بمخالبه تمزّق صدرها وفمه يقضم ساعدها، دبّ الرعب أضعافا مضاعفة في قلبها، أعظم من كلّ الرعب الذي عاشته في هذه الحرب وكل الحروب التي سبقتها، لم تتوقّع أبدا مثل هذه الميتة، صرخت صرخة مدويّة ثم راحت في ملكوت غيبوبة لم تدرِ كم طال وقتها، ما تذكره أنها قبل أن تبيضّ عيناها وتغرق في ظلام عميق رأيت الجنود وهم يقهقهون، رقصوا وعلت صيحاتهم وكأنهم قد انتصروا ووصلوا في هذه الحرب إلى كلّ أهدافهم.

لماذا نشر جنديّ منهم الشريط المصوّر للكاميرا المثبتة على رأس ذلك الكلب؟ هل هي طبيعة هذه الأرض المقدّسة الفاضحة الكاشفة لكلّ جرائم البشر؟ أم أنهم باتوا لا يخشون صورتهم النكرة مهما تماهت مع حثالة البشر؟

مقالات مشابهة

  • غرائب وعجائب الكرة المصرية
  • قبل توليها منصب وزيرة التضامن.. قضايا للمرأة شغلت عقل مايا مرسي
  • فيلم رعب بنصف تذكرة! (قصة قصيرة من وحي المعركة)
  • 3 كتب إماراتية في قائمة الشرف للمجلس الدولي لكتب اليافعين
  • بسبب خلافات أسرية.. شاب ينهي حياة شقيقته"خنقا" بالفيوم
  • رئيس الوزراء يعلن عن استثمار جديد في الساحل الشمالي تحت مسمى SouthMed
  • ثلاثة كتب إماراتية في قائمة الشرف للمجلس الدولي لكتب اليافعين لعام 2024
  • ركلات الترجيح تنقذ البرتغال من فخ سلوفينيا
  • الموت يغيب الروائي الألباني الشهير إسماعيل قادري
  • هبة عبد العزيز تكتب: ثورة 30 يونيو كانت بمثابة المخرج للمرأة المصرية من الوقوع فى فخ الجهل والتجهيل الذى مارسته الجماعة المحظورة