لجريدة عمان:
2025-03-19@22:37:11 GMT

المذكرات الشخصية وكتابة التاريخ

تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT

كتابة المذكرات الشخصية لكبار الساسة والمفكرين والقادة من العسكريين وصولا إلى المثقفين والعامة جميعها أصبحت ظاهرة ثقافية منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، بعد أن انخرط الكثيرون في هذا النوع من الكتابة وقد استهوتهم هذه الظاهرة الجديدة التي وجدت رواجًا كبيرًا لدى القراء، وبقدر ما تتسم المذكرات بالصراحة أو التلفيق فإن جمهور القراء يُقدم عليها بما في ذلك مذكرات العوام من قبيل ما نشر في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، من كتابات كانت لافتة (مذكرات حلاق) و(مذكرات بلطجي) و(مذكرات فتوة) وغيرها من المذكرات التي تلقاها جمهور القراء بقدر من العناية، وقد حظيت أيضا باهتمام الصحافة التي راحت تنشر الكثير منها، سواء بشكل يومي أو أسبوعي.

ظاهرة كتابة المذكرات الشخصية شاعت في أوروبا منذ بداية التاريخ الحديث، خلال القرن السادس عشر، وأصبحت خلال القرون التي تلته من بين الموضوعات المهمة في الثقافة الأوروبية، وخصوصًا حينما اعتبرها المؤرخون من بين المصادر المهمة للكتابة التاريخية، ظهر ذلك خلال عصر النهضة الأوروبية المبكرة حيث نُشرت في إيطاليا مذكرات وكتابات شكلت تجارب حياتية لرواد عصر النهضة الأوروبية، من قبيل ما كتبه دانتي وميكاڤيلي وتوماس مور وغيرهم من رواد عصر النهضة، وقد جاء اكتشاف الطباعة التي اخترعها الألمان وتلقفها الإيطاليون الذين نشروا من خلالها تجارب عظيمة لرواد كبار في كل مناحي الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية.

مع انتشار مظاهر النهضة التي عمت أوروبا راح العلماء والفنانون والمفكرون والساسة يوثقون تجاربهم لكي تكون في متناول القراء، اعتقادًا منهم بأن هذا النوع من الكتابة يعد مسؤولية اجتماعية وسياسية تستوجب إتاحة قراءتها لعوام الناس ومتخذي القرار السياسي، وهو ما حفز دور النشر في معظم الدول الأوروبية على نشر هذه الأعمال باعتبارها محصلة هائلة من الخبرات الإنسانية، التي يتعطش الجمهور إلى قراءتها.

لم تعرف مجتمعاتنا العربية مثل هذا النوع من الكتابة إلا خلال القرن التاسع عشر، حينما سافر بعض الدارسين إلى أوروبا للمرة الأولى، وكانت إقامتهم في العواصم الأوروبية سببًا كافيًا لتأثرهم بنمط الحياة في تلك البلاد وبطريقة تفكير الأوروبيين والوقوف على نمط حياتهم، كما كانت الجهات التي تبتعثهم غالبا ما تطالبهم بكتابة تقارير سنوية عن حياتهم ونمط معيشتهم وطبيعة الدراسة التي يتلقونها، فضلاً عن المصاعب التي يواجهونها، وقد راح الكثيرون منهم يكتبون في تقاريرهم عن أشياء تمجد ثقافة هذه البلاد، وخصوصًا طريقة تفكيرهم وعنايتهم بالتعليم والبحث العلمي، فضلاً عن الحياة الاجتماعية التي انبهر بها البعض، لدرجة أنهم تمنوا لو أن ذلك كان نموذجًا يحتذى به في بلادهم.

كان من بين من اعتنوا بكتابة تجربتهم في باريس رفاعة رافع الطهطاوي، الذي ابتعثه محمد علي مرشدًا دينيًا واجتماعيًا للدارسين المصريين في فرنسا، فإذا بالرجل يتأثر بالحياة العلمية والاجتماعية أكثر من المبتعثين للدراسة الأكاديمية، وقد انبهر بالحياة الفرنسية وراح يكتب تجربته بكل وعي ومعرفة، وخصوصًا في المجال العلمي والاجتماعي، وقد عُني كثيرًا بتعليم الفتاة الفرنسية، لهذا أحدثت كتابات الطهطاوي ردود فعل كبيرة في الأوساط الاجتماعية والسياسية، سواء في مصر أو في غيرها من الأقطار العربية، أعقب ذلك كتابات أخرى كثيرة لرواد من الشام والمغرب العربي، وفي دار الوثائق المصرية توجد ملفات ضخمة لتقارير كتبها المبتعثون إلى أوروبا، وهي مادة خصبة وغنية للمؤرخين، ومن بينها بشكل خاص ما كتبه حسن أفندي توفيق العدل، الذي استعانت به جامعة برلين في ثمانينات القرن التاسع عشر مدرسًا للأدب العربي لمدة خمس سنوات، انتقل بعدها إلى جامعة كمبردج في نهايات القرن التاسع عشر للقيام بذات المهمة، وقد كتب عن تجربته خمسة كتب نُشر بعضها في حياته، من قبيل (رحلة حسن أفندي توفيق العدل إلى ألمانيا وسويسرا) وله كتاب عن تعليم البنات في ألمانيا وبريطانيا، وآخر عن تاريخ الأدب العربي، لعله الكتاب الأول في هذا المجال.

أعتقد أن كتابات المبعوثين إلى أوروبا سواء للدراسة أو لأي عمل آخر تستحق العناية من المؤرخين والباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية، جميعها تستحق الدراسة، وفي حياتنا المعاصرة زادت بشكل لافت ظاهرة كتابة المذكرات الشخصية للساسة وقادة الرأي، وكل من شغل وظيفة عامة، حتى بعض المثقفين والشعراء قد كتبوا تجربتهم، سواء في الثقافة أو في الحياة العامة، وقد اعتقد البعض أن هذا النوع من الكتابة يعد تاريخا بالمعنى العلمي، يستوي في ذلك ما كتبه الوزراء وكبار الساسة أو المثقفون والعامة، كل هذا لا يندرج تحت تصنيف الكتابة التاريخية، وإنما هو مادة يمكن أن يعتمد عليها مؤرخو الأدب والسياسة والحياة الاجتماعية، ولا يجوز أن ترقى أبدا إلى مستوى الوثيقة، فالوثائق بحكم صدورها من الجهات الرسمية، قرارات، اتفاقات، توجيهات، برامج تنمية.. إلخ، كل هذه وثائق ولا يجوز أن نعتمد عليها إلا في سياق إخضاعها لمنهج البحث العلمي، ومقارنتها بغيرها من الوثائق الصادرة من جهات أخرى.

هناك فرق كبير بين كتابة المذكرات وبين كتابة التاريخ، فالمذكرات يكتبها أصحابها (من وجهة نظرهم) باعتبارهم جزءا من الحدث أو شهودًا عليه، وغالبًا ما تُكتب مثل هذه المذكرات كتبرير لأخطاء وقع فيها كاتبوها، أو تضخيما لأدوار قاموا بها، أو إدانة لعصر أو نظام، ومثل هذه المذكرات تمثل وجهة نظر كاتبها، بينما المؤرخ لا يُعتد بمثل هذه الكتابات، رغم أنه يعتمد عليها، كما يعتمد على غيرها من الوثائق، مفسرًا ومحللاً وناقدًا، منتهيًا إلى رأي علمي، ورغم ذلك فهو لا يملك الحقيقة كاملة مهما توفرت لديه المعلومات، ومهما كانت درجة مصداقيتها.

كلما اجتهد المؤرخ وكانت لديه القدرة على النقد والتحليل والانفتاح على معارف فلسفية واجتماعية متنوعة، ومهما استخدم الوثائق بطريقة علمية، كلما كان لديه نصيب من الحقيقة وليس الحقيقة كاملة، بعكس كاتب المذكرات الذي لا يرى الحقيقة إلا من وجهة نظره فقط، ولهذا فالفرق هائل بين ما يكتبه المؤرخ وما يُكتب في المذكرات الشخصية.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتابة التاریخ من بین

إقرأ أيضاً:

سور الصين العظيم.. أسطورة التاريخ

 

 

فيصل السعدي

بينما أخطو خطواتي وأصعد السلم تلو الآخر في سور الصين العظيم، أشعرُ وكأنني أعود إلى نقطة البداية، التفتُ مرارًا لأتأكد من مدى صعودي، وكأنني أبحث عن إجابة لسؤال يتردد في داخلي: كيف استطاعوا؟ كيف لجهد البشر أن يُشيِّد سورًا يمتد لأكثر من 21 ألف كيلومتر، من مواد بسيطة لا تتجاوز الطوب والخشب؟! كيف تمكنت عزيمة الصينيين من أن تصنع أسطورة خالدة، أصبحت رمزًا للصمود والقوة في وجه الزمن؟

ظل شعور غريب يراودني أثناء مسيري، وكأن خيالي أوصلني إلى رؤية سور يمتد من بكين إلى مسقط؛ بل أطول من ذلك بأربع مرات. هذا السور الذي لم يكن مجرد بناء عملاق؛ بل كان درعًا حصينًا حمى الممالك والأسر الحاكمة في الصين من غزوات الشمال على مرِّ القرون. بدأ بناؤه منذ القرن السابع قبل الميلاد، واستمر عبر العصور، ليُصبح أطول وأقوى نظام دفاعي شيده الإنسان في التاريخ.


 

بناءٌ عجزت ظروف الأزمان أن تُثني من شموخه، ليُبرهن مدى إصرار وقوة مئات آلاف من الجنود والبُناة الذين لم يدركوا أنهم صنعوا رمزًا وفخرًا للصين. وما أن أضع قدمي على حجارة السور، حتى أشعر بأنني أعود إلى حقبة بعيدة من الزمن. أُلامسُ الطوب، وأتأمل النقوش، وأتجول بين أبراج المُراقبة التي كانت يومًا مراكز لحراسة الحدود. وكأنني أسمع أصوات الحروب وصيحات الجنود الذين دافعوا بشجاعة عن وطنهم. هذه المشاهد ليست مجرد خيال؛ بل هي ما جسدته العديد من الأساطير والأفلام التي تحكي عن هذا السور الأعظم.

الصينيون يقولون إن جزء "جيورانغ" هو أجمل أجزاء السور في بكين؛ حيث يمتاز بجمال طبيعته الساحرة؛ إذ إن هناك ثماني بوابات تتيح الوصول إلى السور في بكين، ما يعكس امتداد السور كأجزاء متفرقة، وليس كجدار متصل.

تحيط بالسور العظيم مياه وافرة ومساحات خضراء شاسعة، تمتد إلى أبعد ما تصله العين، ما يجعل المشهد يبدو كلوحة فنية فريدة. ولعل هذا الجمال الطبيعي كان أحد الأسباب المهمة لبناء السور؛ حيث صُمم لحماية الأراضي الزراعية الخصبة من الغزاة.

عند النظر إلى التفاصيل الدقيقة للسور، يمكنك أن تُدرك الحكمة وراء تصميمه. الفتحات الصغيرة والنوافذ التي تنتشر على طول الجدار لم تكن مجرد إضافات عشوائية؛ بل أدّت دورًا حيويًا في مواجهة الأعداء. تعرجات الجدار، التي تبدو وكأنها تناغم بين البناء والطبيعة، أظهرت عبقرية الصينيين في استغلال التضاريس الصعبة لصالحهم.

في زيارتي الأخيرة للسور، كنت بصحبة حقيبة مليئة بالمأكولات الخفيفة، ولكن هذه المرة، كانت زيارتي تحمل طابعًا مختلفًا؛ فقد تزامنت مع أيام شهر رمضان المبارك. صعدتُ إلى أعلى قمة سُمح لي وقت الزيارة بالوصول إليها، متأملًا عظمة ما صنعه الإنسان بإرادة لا تعرف الكلل. قررتُ أن أتحلى بالصبر، فلا أكون أقل عزيمة من أولئك البُناة الذين شيدوا هذا السور تحت ظروف قاسية، لتحيا ذكراهم في كل حجر وطوبة.

سور الصين العظيم ليس مجرد بناء حجري؛ بل هو أسطورة حيَّة تروي قصة الإصرار والعزيمة. إنه رمز للصمود الذي تغلَّب على الزمن، وظل شامخًا في وجه كل التحديات. ولا ريب أنَّ زيارة هذا الصرح العظيم تتجاوز تجربة سياحية؛ لأنها رحلة معرفية وتأملية في أعماق التاريخ، ودرس في قوة الإنسان عندما يجتمع الإصرار مع الإبداع.

مقالات مشابهة

  • أحمد بلال: المدرب المصري ضعيف الشخصية ويتأثر بالإعلام
  • إيه لي سبنس.. اكتشف كنز الجورجيانا وأعاد كتابة تاريخ الحرب الأهلية ما القصة؟
  • الحد الأدنى للأجور: ما هي الدول الأوروبية التي شهدت أعلى الزيادات؟
  • طور: يجب على المصرف المركزي إيقاف مبيعات النقد الأجنبي للأغراض الشخصية
  • سور الصين العظيم.. أسطورة التاريخ
  • وظائف شاغرة ومدعوون لإجراء المقابلات الشخصية
  • خلال نصف ساعة.. أسرع طريقة لاستخراج البطاقة الشخصية 2025
  • من الشخصية التي أوصى أبو إسحاق الحويني بأن يدفن معها؟
  • الكويت: تعديلات جديدة في قوانين الأحوال الشخصية
  • واتساب يتيح ميزة جديدة تسهل التنقل بين الحسابات الشخصية على المواقع