لجريدة عمان:
2025-01-24@08:50:18 GMT

بُوصلة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية

تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT

أطلَّ علينا رمضانُ قبل عدة أيام بمشاعره الروحية المتفرّدة، إلا أن مشاعره هذه المرة ممتزجة مع مشاعر الحزن المتعلقة بأحداث غزة والحرب الظالمة التي يشنها الكيان الصهيوني على أهلها، ومع فظاعة هذه الأحداث التي طال أمدها يعتري المشهد فقدان المجتمعات الإنسانية المتمثلة في مؤسساتها السياسية النافذة لبُوصلتها الأخلاقية التي يُفترض أنها تلين لمشاهد الظلم والقهر التي يتعرّض له أهل غزة، وهنا تتضح معادلة السياسة العالمية التي تنتهج منهج المصلحة الضيّقة مع فقدانها لبُوصلة أخلاقها المعنية بحماية الإنسان وكرامته، وتتبين عبر هذه المعادلة ماهية النظام العالمي الفاقد لقيمه وأخلاقه، والمتمسك بزيفه المفضوح الذي لم يعدْ يخفى عن أيّ إنسان متابع لأحداث الظلم والقتل وسقوط الأخلاق.

سقطت أقنعة كثير من الدول الغربية، وفي مقدمتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية المتمثلة في أنظمتها السياسيّة النافذة وليس غالبية أفراد شعوبها الذين يتألمون لمشاهد الظلم الذي يمارسه الكيان الصهيوني ودعم مؤسساته السياسية والعسكرية له، ولا تخفى مشاهد انتفاض هذه الشعوب الغربية على كياناتها السياسية الداعمة للكيان المحتل العنصري؛ لنرى نتائج انتفاض شعوب الغرب المنبثق من وعي بواقع الهيمنة الصهيونية التي تخنق العالم بممارستها الظالمة.

لا أكتب هذا المقال ليكون بمثابة المحتوى الكتابي المتكرر الذي لا يأتي بجديد فيما يخص ساحة أحداث غزة وحربها، ولكن أكتبه ليكون بمثابة رسائل -حتى لو تكررت- تفيض بها المشاعر لتؤكد بقاء القضية، وتذكّر بأن بُوصلة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية في خطر محدق، وتذكّر القارئ -أينما كان- بزيف القيم الغربية -السياسية- الفاقدة للأخلاق والإنسانية؛ إذ تؤكد لنا أحداث التاريخ القديمة والمعاصرة وأحداث زمننا الحالي أن الفلسفة الغربية المعتمدة في مؤسسات الغرب السياسية فاقدة لعنصرها الأخلاقي، وهذا ليس بمستغرب في ظل فقدان هذه الأنظمة لعنصرها الديني الذي يعتبر المكّون الرئيس للعملية الأخلاقية وأطرها العليا، وخير من أشار إلى هذه الفجوة التي جعلت من مؤسسات الغرب السياسية عالقة في وحل الأزمة الأخلاقية الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن الذي أكد على ضرورة الدين لتعزيز مبدأ الأخلاق في أي توجه فلسفي سياسي. رغم أزمة الأخلاق وفقدانها في مؤسسات الغرب السياسية يذكّر هذا المقال بوجود أحرار العالم -بما فيهم الشعوب الغربية- بتعدد أديانهم ومشاربهم الفكرية والسياسية وأعراقهم، فهم يشكلون جميعا صِمام أمان لوقف انحراف البُوصلة الأخلاقية التي توشك على الانحراف المفرط؛ فتدمر المجتمعات الإنسانية وتعبث بأمنها وحياتها. هذا المقال رغم ما يحتويه من إنشاء عاطفي إلا أنه لا يغادر حيّزه العقلاني لالتحامه بواقعٍ مشهود؛ ليعكس رأي الكاتب ورأي كل إنسان يقيم للإنسانية وزنًا؛ فيذكّر بتاريخ الغرب الاستعماري والاستيطاني؛ فلا يمكن مسح آثار التاريخ وشهاداته في جرائم الإبادة التي حلّت -مثلا- بسكان أمريكا الأصليين -الهنود الحمر-، ومهما بُذلت المحاولات لطمس هذه الحقائق المؤلمة وإطفاء نارها المشتعلة في قلوب من تبقّى من أجيال هذه الأمم المظلومة، فقد اطّلعت قبل سنوات عدّة على كتاب لمؤلف أمريكي «James W. Loewen» عنوانه « Lies My Teacher Told Me: Everything Your American History» الذي يمكن ترجمته بالعربية إلى «أكاذيب أخبرني بها معلمي: كلّ شيء عن تاريخك الأمريكي» الذي ينضح بحقائق كثيرة عن الجانب المظلم للتاريخ الأمريكي وأخطره عن التزييف الممنهج لبعض مفاصل التاريخ الأمريكي القاتم -وهذه حقيقة أكدت عليها مصادر كثيرة، ولست أول من يظهرها؛ فلم تعدْ مخفية-؛ لإظهار جانب مشرق -مزيّف- يخفي حقيقة أحداث للتاريخ الأمريكي الذي فقد مبادئه الأخلاقية وأضّر بالمبادئ الإنسانية -المتمثلة في الحرية والعدالة- التي نادى بها مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتجاوز حدود التنظير؛ إذ لم يسجلِ التاريخ عن تطبيق واقعي لهذه المبادئ، وأضاف مع طغيانه بالمجتمعات الإنسانية طمسه للحقائق، ومحاولته إظهار قيم نظرية لا يجيد ممارستها. أليست حرب الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان خيرَ شاهد في عصرنا منذ بداية الألفية الثانية على معنى الظلم والدمار الذي مارسته أمريكا وقبلها فيتنام وما لحقها من ظلم؟ أَنَسي العالم قنبلة هيروشيما النووية وما آلت إليه بشاعة آلة القتل الأمريكية؟ أليس حربها على العراق وتدميره -بعد سنتين من حرب أفغانستان- دليلا آخر يمكن أن نضيفه إلى تاريخ أمريكا المعاصر؟ ألا يكفي ما نراه من دعم مباشر للكيان الصهيوني في حرب الإبادة التي يمارسها على غزة وأهلها؟ بعد كل هذه الدماء النازفة من الأطفال والنساء وكبار السن والأنفس التي أُزهقت بواسطة آلة القتل الأمريكية التي تمنحها للكيان الصهيوني تأتي الحكومة الأمريكية لتعلن عن خطة لبناء ميناء في غزة لغرض المساعدات الإنسانية لأهل غزة -كما تدّعي-، أيعقل أن تَصْدُقَ في نواياها الإنسانية في حين أنها ما تزال مصرة في اللحظة ذاتها على الاستمرار في دعم الاحتلال، وممارسة «فيتو القمع» المانع لأيّ توقف للحرب؟ ولتكن في طيات هذه المقالة رسالة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الرسالة التي نشرها الأستاذ يحيي العوفي في جريدة عُمان قبل عدّة أسابيع -دون أن ننسى دور الحكومة العُمانية ورسائلها المستمرة الداعية لنبذ الظلم ودعم القضية الفلسطينية التي تبعثها عبر قنواتها المعنية مثل وزارة الخارجية- لتُذكّرَ مرة أخرى بوجود الانفصال المطلق بين المبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة الأمريكية وبين ممارستها الحالية التي تهدد استقرار الشعوب والعالم أجمع.

لا يمكن أن أجد لهذا المقال نهاية لولا حدود الكلمات وعددها؛ إذ إن المقال يعبّر عن جزء يسير من مكنونات تغلي في النفس الإنسانية، فتطلق العبرات والمطالبات بوقف هذه الكارثة الإنسانية التي تخالطها صرخات الأطفال وأحلامهم المسلوبة، فتظل الأسئلة تتوارد بلا توقف لنسأل أين تتجه المجتمعات الإنسانية مع فقدان ساستها الكبار للقيم الأخلاقية؟ أين يمكن أن تتحقق العدالة والكرامة الإنسانية في ظل طغيان الظالم وضربه بكل قوانين الإنسانية عرض الحائط؟ رغم كل هذا الألم الذي يعتري نفوسنا، أرى -وفقا لقانون الحياة- أن الأمل ينبثق من البلاء، وأن الحياة تستأنف وجودها رغم الأسى، وسيعقب أحداث غزة بعث جديد للحضارة الإنسانية ومشروعها الأخلاقي.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة المجتمعات الإنسانیة هذا المقال

إقرأ أيضاً:

الأمم المتحدة: وقف إطلاق النار في غزة يبعث على الأمل رغم استمرار تفاقم الأزمة الإنسانية

قال المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حق، اليوم الثلاثاء، إنه على الرغم من أن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة دخل حيز التنفيذ وسمح لبعض السكان النازحين بالعودة لديارهم إلا أن مئات الآلاف في جميع أنحاء القطاع المنكوب لا يزالون يحتاجون المساعدات الإنسانية.

وأفاد العاملون في المجال الإنساني التابعون للأمم المتحدة بأن الأزمة الإنسانية في غزة مستمرة في التفاقم في ظل النقص الحاد في المياه والغذاء وجهود توصيل المساعدات الحيوية إلى المنطقة التي مزقتها الحرب، وفي الوقت نفسه أدى تصاعد العنف في الضفة الغربية إلى تعميق المخاوف بشأن سلامة المدنيين والوصول إلى المساعدات، وفقا لما نشرته الأمم المتحدة.

وقال المتحدث الأممي -في مؤتمر صحفي- "مع سريان وقف إطلاق النار بدأ الفلسطينيون النازحون في العودة إلى ديارهم ليجد العديد منهم جبالا من الأنقاض"، موضحا أن أكثر من 90 بالمائة من المباني السكنية في غزة تضررت أو دمرت على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية.

وأضاف المتحدث الأممي "نظرا لحجم الدمار والاحتياجات في غزة، فإننا نعمل على توصيل المساعدات الحيوية للناس بأسرع ما يمكن، كما نحث الدول الأعضاء والشركاء على ضمان تمويل عمليات المساعدة لدينا لتلبية الاحتياجات الهائلة".

ووفقا لبيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، دخلت اليوم الثلاثاء 897 شاحنة من المساعدات الإنسانية إلى غزة.

كما أعرب المتحدث الأممي عن قلقه العميق إزاء الوضع في الضفة الغربية، وخاصة سلامة الفلسطينيين في مدينة جنين ومخيمها للاجئين، حيث أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية اليوم عن سقوط قتلى وجرحى، وقال "وفقا للتقارير الأولية، أسفرت الغارات الجوية والجرافات الثقيلة وعمليات القوات السرية عن سقوط العديد من القتلى وعشرات الجرحى منهم أفراد من الطاقم الطبي".

يأتي ذلك بعد أسابيع من الاشتباكات بين القوات الإسرائيلية والفلسطينيين المسلحين، وقد أدت أعمال العنف السابقة إلى نزوح حوالي ألفي أسرة من مخيم جنين، مع تعطيل الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، وقد كافح العاملون في المجال الإنساني للوصول إلى المنطقة بأمان، مما حد من توزيع المساعدات مثل المراتب والبطانيات.

ووصف نائب المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط مهند هادي زيارته لغزة بأنها واحدة من أكثر اللحظات التي تبعث على الأمل في حياته المهنية الإنسانية، وقال إنه لأول مرة منذ أشهر يرى الناس في الشوارع وهم يبدأون في تنظيف الطرق ومحاولة إعادة بناء حياتهم.

ولفت هادي إلى تحول الموقف بين سكان غزة حيث أعرب العديد منهم عن رغبتهم القوية في العودة إلى العمل وإعادة البناء بدلا من الاعتماد على المساعدات، وأكد ضرورة عودة وسائل الإعلام الدولية إلى غزة وتقديم تقارير مباشرة عن الوضع.

ومن جانبها، أكدت مديرة الاتصالات في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) جولييت توما أن الأونروا لا تزال ملتزمة بالبقاء في كل من قطاع غزة والضفة الغربية وتقديم المساعدة والخدمات الحيوية للأشخاص المحتاجين.

مقالات مشابهة

  • «اليونيسف»: سوريا من أكثر الأوضاع الإنسانية تعقيداً في العالم
  • ماهي الدلالات السياسية التي تحملها زيارة وزير الخارجية السعودي إلى لبنان؟
  • الخطوات التي ستتخذها الحكومة الأمريكية بعد تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية
  • جوتيريش: نعمل على زيادة المساعدات الإنسانية العاجلة في غزة
  • مطالب بتدريس مادة التربية الأخلاقية في المدارس
  • إعادة إعمار غزة.. رؤية شاملة بين التحديات الإنسانية والرهانات السياسية
  • الأمم المتحدة: وقف إطلاق النار في غزة يبعث على الأمل رغم استمرار تفاقم الأزمة الإنسانية
  • الأمم المتحدة: وقف إطلاق النار في غزة يبعث على الأمل رغم استمرار الأزمة الإنسانية
  • وزير الخارجية يؤكد أهمية قيام الأمم المتحدة بمسؤوليتها في مساعدة اللاجئين
  • «الباعور» يلتقي وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية