بُوصلة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
أطلَّ علينا رمضانُ قبل عدة أيام بمشاعره الروحية المتفرّدة، إلا أن مشاعره هذه المرة ممتزجة مع مشاعر الحزن المتعلقة بأحداث غزة والحرب الظالمة التي يشنها الكيان الصهيوني على أهلها، ومع فظاعة هذه الأحداث التي طال أمدها يعتري المشهد فقدان المجتمعات الإنسانية المتمثلة في مؤسساتها السياسية النافذة لبُوصلتها الأخلاقية التي يُفترض أنها تلين لمشاهد الظلم والقهر التي يتعرّض له أهل غزة، وهنا تتضح معادلة السياسة العالمية التي تنتهج منهج المصلحة الضيّقة مع فقدانها لبُوصلة أخلاقها المعنية بحماية الإنسان وكرامته، وتتبين عبر هذه المعادلة ماهية النظام العالمي الفاقد لقيمه وأخلاقه، والمتمسك بزيفه المفضوح الذي لم يعدْ يخفى عن أيّ إنسان متابع لأحداث الظلم والقتل وسقوط الأخلاق.
لا أكتب هذا المقال ليكون بمثابة المحتوى الكتابي المتكرر الذي لا يأتي بجديد فيما يخص ساحة أحداث غزة وحربها، ولكن أكتبه ليكون بمثابة رسائل -حتى لو تكررت- تفيض بها المشاعر لتؤكد بقاء القضية، وتذكّر بأن بُوصلة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية في خطر محدق، وتذكّر القارئ -أينما كان- بزيف القيم الغربية -السياسية- الفاقدة للأخلاق والإنسانية؛ إذ تؤكد لنا أحداث التاريخ القديمة والمعاصرة وأحداث زمننا الحالي أن الفلسفة الغربية المعتمدة في مؤسسات الغرب السياسية فاقدة لعنصرها الأخلاقي، وهذا ليس بمستغرب في ظل فقدان هذه الأنظمة لعنصرها الديني الذي يعتبر المكّون الرئيس للعملية الأخلاقية وأطرها العليا، وخير من أشار إلى هذه الفجوة التي جعلت من مؤسسات الغرب السياسية عالقة في وحل الأزمة الأخلاقية الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن الذي أكد على ضرورة الدين لتعزيز مبدأ الأخلاق في أي توجه فلسفي سياسي. رغم أزمة الأخلاق وفقدانها في مؤسسات الغرب السياسية يذكّر هذا المقال بوجود أحرار العالم -بما فيهم الشعوب الغربية- بتعدد أديانهم ومشاربهم الفكرية والسياسية وأعراقهم، فهم يشكلون جميعا صِمام أمان لوقف انحراف البُوصلة الأخلاقية التي توشك على الانحراف المفرط؛ فتدمر المجتمعات الإنسانية وتعبث بأمنها وحياتها. هذا المقال رغم ما يحتويه من إنشاء عاطفي إلا أنه لا يغادر حيّزه العقلاني لالتحامه بواقعٍ مشهود؛ ليعكس رأي الكاتب ورأي كل إنسان يقيم للإنسانية وزنًا؛ فيذكّر بتاريخ الغرب الاستعماري والاستيطاني؛ فلا يمكن مسح آثار التاريخ وشهاداته في جرائم الإبادة التي حلّت -مثلا- بسكان أمريكا الأصليين -الهنود الحمر-، ومهما بُذلت المحاولات لطمس هذه الحقائق المؤلمة وإطفاء نارها المشتعلة في قلوب من تبقّى من أجيال هذه الأمم المظلومة، فقد اطّلعت قبل سنوات عدّة على كتاب لمؤلف أمريكي «James W. Loewen» عنوانه « Lies My Teacher Told Me: Everything Your American History» الذي يمكن ترجمته بالعربية إلى «أكاذيب أخبرني بها معلمي: كلّ شيء عن تاريخك الأمريكي» الذي ينضح بحقائق كثيرة عن الجانب المظلم للتاريخ الأمريكي وأخطره عن التزييف الممنهج لبعض مفاصل التاريخ الأمريكي القاتم -وهذه حقيقة أكدت عليها مصادر كثيرة، ولست أول من يظهرها؛ فلم تعدْ مخفية-؛ لإظهار جانب مشرق -مزيّف- يخفي حقيقة أحداث للتاريخ الأمريكي الذي فقد مبادئه الأخلاقية وأضّر بالمبادئ الإنسانية -المتمثلة في الحرية والعدالة- التي نادى بها مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتجاوز حدود التنظير؛ إذ لم يسجلِ التاريخ عن تطبيق واقعي لهذه المبادئ، وأضاف مع طغيانه بالمجتمعات الإنسانية طمسه للحقائق، ومحاولته إظهار قيم نظرية لا يجيد ممارستها. أليست حرب الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان خيرَ شاهد في عصرنا منذ بداية الألفية الثانية على معنى الظلم والدمار الذي مارسته أمريكا وقبلها فيتنام وما لحقها من ظلم؟ أَنَسي العالم قنبلة هيروشيما النووية وما آلت إليه بشاعة آلة القتل الأمريكية؟ أليس حربها على العراق وتدميره -بعد سنتين من حرب أفغانستان- دليلا آخر يمكن أن نضيفه إلى تاريخ أمريكا المعاصر؟ ألا يكفي ما نراه من دعم مباشر للكيان الصهيوني في حرب الإبادة التي يمارسها على غزة وأهلها؟ بعد كل هذه الدماء النازفة من الأطفال والنساء وكبار السن والأنفس التي أُزهقت بواسطة آلة القتل الأمريكية التي تمنحها للكيان الصهيوني تأتي الحكومة الأمريكية لتعلن عن خطة لبناء ميناء في غزة لغرض المساعدات الإنسانية لأهل غزة -كما تدّعي-، أيعقل أن تَصْدُقَ في نواياها الإنسانية في حين أنها ما تزال مصرة في اللحظة ذاتها على الاستمرار في دعم الاحتلال، وممارسة «فيتو القمع» المانع لأيّ توقف للحرب؟ ولتكن في طيات هذه المقالة رسالة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الرسالة التي نشرها الأستاذ يحيي العوفي في جريدة عُمان قبل عدّة أسابيع -دون أن ننسى دور الحكومة العُمانية ورسائلها المستمرة الداعية لنبذ الظلم ودعم القضية الفلسطينية التي تبعثها عبر قنواتها المعنية مثل وزارة الخارجية- لتُذكّرَ مرة أخرى بوجود الانفصال المطلق بين المبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة الأمريكية وبين ممارستها الحالية التي تهدد استقرار الشعوب والعالم أجمع.
لا يمكن أن أجد لهذا المقال نهاية لولا حدود الكلمات وعددها؛ إذ إن المقال يعبّر عن جزء يسير من مكنونات تغلي في النفس الإنسانية، فتطلق العبرات والمطالبات بوقف هذه الكارثة الإنسانية التي تخالطها صرخات الأطفال وأحلامهم المسلوبة، فتظل الأسئلة تتوارد بلا توقف لنسأل أين تتجه المجتمعات الإنسانية مع فقدان ساستها الكبار للقيم الأخلاقية؟ أين يمكن أن تتحقق العدالة والكرامة الإنسانية في ظل طغيان الظالم وضربه بكل قوانين الإنسانية عرض الحائط؟ رغم كل هذا الألم الذي يعتري نفوسنا، أرى -وفقا لقانون الحياة- أن الأمل ينبثق من البلاء، وأن الحياة تستأنف وجودها رغم الأسى، وسيعقب أحداث غزة بعث جديد للحضارة الإنسانية ومشروعها الأخلاقي.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة المجتمعات الإنسانیة هذا المقال
إقرأ أيضاً:
تعرّف على العقل المدبر لأكثر الهجمات تعقيدا ضد القوات الأمريكية خلال حرب العراق
كشفت عدد من الصحف الأمريكية، عبر تقارير لها، أن "غارة جوية إسرائيلية على سوريا، مؤخرا، قد أسفرت عن مقتل علي موسى دقدوق"، وهو الذي يعرف بكونه قائدا كبيرا في حزب الله اللبناني، وساعد في هجمات ضد القوات الأمريكية خلال حرب العراق.
من بين الصحف شبكة "إن بي سي"، التي أوردت تصريحا لمسؤول بوزارة الدفاع الأمريكية كشف عن الغارة الجوّية، فيما لم توضّح أي تفاصيل تخصّ الغارة، سواء فيما يتعلق بالزمان أو المكان، أو ما إذا كانت قد استهدفت دقدوق بشكل محدد. فيما لم يرد المتحدث باسم البنتاغون، على طلب الشبكة الأمريكية للتعليق.
وفي السياق نفسه، كان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد أبرز في حديثه لوكالة "فرانس برس" في الـ11 من الشهر الجاري، أنّ "دقدوق مسؤول ملف الجولان في حزب الله أصيب جراء غارة إسرائيلية، استهدفت منطقة السيدة زينب، جنوب دمشق، في الـ10 من نوفمبر".
وبحسب المرصد نفسه، فإن الغارة استهدفت مبنى تقطنه عائلات لبنانية، وعناصر من حزب الله، وأسفرت عن مقتل تسعة أشخاص بينهم قيادي آخر من الحزب، من دون تحديد هويته". فيما قال مصدر أمني لبناني لـ"فرانس برس" إنّ "دقدوق أصيب، لكنه لم يقتل".
من هو دقدوق؟
انضم دقدوق إلى حزب الله اللبناني، خلال عام 1983، وبعد فترة وجيزة تمّ تعيينه لقيادة وحدة العمليات الخاصة للحزب في لبنان، وذلك وفقا لمعلومات نشرها معهد دراسات الحرب، في وقت سابق.
دقدوق، سرعان ما ارتقى في الرتب بقلب حزب الله، وعمل على تنسيق العمليات في قطاعات كبيرة من لبنان، وكان أيضا مسؤولا عن تنسيق الأمن الشخصي لزعيم حزب الله، حسن نصر الله، الذي استشهد في غارة جوية للاحتلال الإسرائيلي، عام 2024 الجاري.
وكان الجيش الأمريكي أعلن القبض على دقدوق، خلال تموز/ يوليو من عام 2007، في جنوب العراق. فيما أكدت الولايات المتحدة أنه "يعتبر عنصرا في حزب الله، جاء إلى العراق، من أجل تدريب عناصر بمساعدة فيلق القدس، وحدة النخبة في الحرس الثوري الإيراني".
الولايات المتحدة، اتّهمت دقدوق بـ"بالضلوع في هجوم حصل في كانون الثاني/ يناير 2007 في مدينة كربلاء، جنوب بغداد، وقتل فيه مسلحون جنديا أمريكيا، وخطفوا أربعة آخرين، قبل أن يقتلوا لاحقا".
آنذاك، قالت الولايات المتحدة إن "قيادة حزب الله اللبناني أرسلت دقدوق في عام 2005 إلى إيران، من أجل العمل مع فيلق القدس على تدريب متطرفين عراقيين".
العراق أطلق سراحه
وقبيل انسحابها من العراق خلال عام 2011، كانت واشنطن قد أعلنت عن تسليم دقدوق إلى السلطات العراقية، وذلك عقب حصولها على ضمانات من الحكومة العراقية، بأنه "سوف يلاحق على جرائمه". حيث كان دقدوق آخر معتقل تسلّمه الولايات المتحدة إلى بغداد، قبل أن تنسحب من البلاد.
وفيما أوضح مسؤول أمريكي طلب عدم كشف اسمه، آنذاك، لـ"فرانس برس" أن "الحكومة العراقية رفضت أي حديث عن ترحيله إلى غوانتانامو". وقرّرت المحكمة الجنائية المركزية العراقية في 2012 إطلاق سراح دقدوق "لعدم توفر أي دليل لإدانته، ليعود لبيروت بعدها".