تفاجأ البعض من الانتقال الصريح والعلني في الخطاب السياسي الأمريكي الأيام الماضية للمطالبة بخروج نتانياهو من الحكم والمطالبة بانتخابات جديدة تجعل ذلك ممكنا. سبب المفاجأة هو أن كل التقارير الأمريكية والإسرائيلية عن الزيارة الأخيرة لبيني غانتس (الخليفة المحبذ أمريكيا لخلافة نتانياهو) لواشنطن أجمعت على أن ما سمعه الأمريكيون منه من مواقف كان نسخة مطابقة لمواقف نتانياهو المتشددة دون أدنى اختلاف.

إذ كرر غانتس مواقف نتانياهو المحورية فيما يتعلق بدعمه التام مسار وأهداف حرب الإبادة الجارية للشعب الفلسطيني في غزة أو لحرب التجويع ومنع المساعدات من الدخول إلى ما يزيد على مليوني نسمة.. والأهم فيما يتعلق باتفاقه مع نتانياهو في الرفض التام لقيام دولة فلسطينية في أي سيناريو مستقبلي لما يُعرف «باليوم التالي» للحرب.

إذن لماذا اختارت الإدارة الأمريكية في الفيلم الهوليوودي الكبير الذي تحضره للشرق الأوسط بعد غزة.. أن تجعل من نتانياهو الرجل الشرير وتجعل من غانتس البطل أو الرجل الطيب.

في البداية لا بد من الإشارة إلى ما سبق لكاتب المقال أن بادر به بعد أيام قليلة من هجوم ٧ أكتوبر المظفر من أن أحد أهم التغييرات الاستراتيجية التي أحدثها الهجوم هو إعادة إسرائيل إلى حجمها الطبيعي كتابع صغير للغرب الرأسمالي بقيادة أمريكا بهدف حماية مصالحه الهائلة في المنطقة. لقد عنى ذلك سقوط أحلام «بيبي ملك إسرائيل» الذي صوَّر له غروره الشخصي وغرور بقائه الطويل في السلطة وجائزة التطبيع الإبراهيمي المشؤوم غير المستحق التي نالها أنه يستطيع أن يرتقي لوضع الشريك في عملية صنع القرار الغربي في المنطقة وأن أربابه سيسمحون له بهامش استقلال عنهم في الشؤون الإقليمية والدولية.

هذا السيناريو في واقع الأمر مقصود به الهندسة السياسية الأمريكية التي تجهزها للمنطقة وسط استسلام وخضوع تام لها من قبل النظام العربي والفلسطيني، ووسط مجاراة وموافقة ضمنية ولكن حاسمة من حليفها الدائم والراسخ في الكيان الصهيوني وهو «جيش الدفاع الإسرائيلي» وعلى رأسهم رموز مثل بيني غانتس رئيس الأركان الأسبق.

فقط تأتي المقاومة -جزئيا- من نتانياهو الذي لا يزال في حالة إنكار لما طرأ على وزن إسرائيل الاستراتيجي من انكماش ورفضه تصديق أنها عادت للمربع الأول القديم.. مربع تلقي الأوامر من البيت الأبيض.

جزء من عقدة العلاقة بين بايدن ونتانياهو بدا واضحا في الصورة الشهيرة لتربيت الأول على كتف الثاني في زيارة الدعم الأعمى التي قام بها الأول لإسرائيل في ١٨ أكتوبر الماضي. إذ كانت تلخيصا استراتيجيا دقيقا لعودة علاقة الاعتماد التام الابن على الأب وأخذ الأب لزمام الأمور في يده بعد أن خيّب الابن آماله وسقط مهزوما أمام مباغتة المقاومة -عدوهما المشترك- فجر ٧ أكتوبر. لا يزال الابن في حالة إنكار، يرفض الاعتراف بالتغير الذي جعله مرة أخرى ولأول مرة منذ حرب ٧٣ يستنجد بوالده وسيده الأمريكي عسكريا وسياسيا واقتصاديا لإنقاذه كدولة من الانهيار في أخطر تهديد وجودي تتعرّض له منذ نكبة تأسيس إسرائيل قبل ٧٥ عاما.

لم يفهم نتانياهو أنه لن يسمح له مرة أخرى أن يكون هو من يقوم برسم خريطة الشرق الأوسط الجديد كما تجرأ وفعل في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام من صدمة طوفان الأقصى وأن الطرف الوحيد المخول برسم خرائط المنطقة وتحديد نوع التسوية التي تنتهي إليها حرب غزة هو فقط العم سام.

لم يفهم نتانياهو أيضا بأنه صار أمام العالم كله رمزا للشر والقتل ومجرمي الحرب أو بتعبير بعض الإسرائيليين علامة تجارية سيئة تضر بسمعة إسرائيل. لم يفهم أنه بذلك بات يعرقل خطة واشنطن لخداع العرب من جديد والتي تزعم أنه إذا قَبِلَ العرب بتصفية حماس والمقاومة ونزع سلاحها وإنهاء حكمها لغزة ونقل هذا الحكم لسلطة رام الله.. فإن ذلك سيؤدي لإحياء حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية.

حسب هذه الخدعة فإن حل الدولتين ممكن فقط إذا تم التخلص من المتطرفين الشريرين على الجانبين واستبدالهما المعتدلين الطيبين. حماس والجهاد في هذا السيناريو أو الشرك الخداعي هما المتطرفان في الجانب الفلسطيني بينما المعتدلون فيه هي السلطة الفلسطينية بعد تجديدها وتغيير وجوهها «تم تعيين محمد مصطفى الاقتصادي المقرب من واشنطن رئيسا للحكومة الفلسطينية قبل أيام». على الجانب الإسرائيلي فإن التطرف تمثله حكومة نتانياهو وبن غفير وسموتيرش وأن مخاطبة الجمهور الإسرائيلي بشكل غير مباشر كما فعل شومر رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، أو بشكل مباشر -كما يتردد في واشنطن- من أن بايدن قد يقبل زيارة لإسرائيل تسمح له بإلقاء خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي قد تفتح الباب لانتخابات يفوز بها غانتس، فالأخير كسائر قادة الجيش الإسرائيلي يؤمن بعقيدة ثابتة منذ بن غوريون أنه لولا التحالف مع أمريكا ودعمها لما استطاعت إسرائيل الاستمرار في الوجود كدولة.. وأن اندفاع نتانياهو إلى السجال الكلامي العلني مع واشنطن وتحديها ولو ظاهريا هو نزق وترف سياسي غير مقبول على الأقل وإسرائيل في حرب ضروس تعتمد فيها على جسر السلاح الجوي شبه اليومي من أمريكا والذي من دونه لخسرت الحرب حتما.

ستدعي أمريكا هنا أنها تخلصت من الأشرار على الجانبين وأن الإسرائيليين كسبوا بنزع سلاح المقاومة اختفاء التهديد الوجودي لأمنهم وأن العرب والفلسطينيين كسبوا إزاحة نتانياهو وحكومته المتطرفة التي تقف في وجه حل الدولتين.

تحاول واشنطن هنا تبرئة إسرائيل كدولة احتلال عنصري تمثل سياسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري لسكان وأحزاب البلاد الأصليين جزءا لا يتجزأ من عقيدتها ومن قدرتها على البقاء كدولة غير طبيعية زرعها النظام الرأسمالي الغربي بمرحلتيه في الاستعمار القديم والجديد.. وتحول إدانة الشعوب المتزايدة لها ككيان وكفكرة إلى إدانة لأشخاص يتم استبدالهم بوجوه جديدة والسياسات نفسها. تعرف واشنطن أن المشكلة ليست تطرف نتانياهو وأن المشكلة هي في كامل الطبقة السياسية الإسرائيلية الحاكمة من ٤٨ حتى الآن، وأن رفض الانسحاب من القدس وغور الأردن ومعظم الضفة الغربية هي سياسة متفق عليها في القوس السياسي كله ممتدا من أحزاب اليسار العلماني لأحزاب اليمين القومي والديني المتطرف. لا فرق في هذا بين رابين وبيريز وبيجين ونتانياهو ولا بين باراك وغانتس. بل تعرف واشنطن أن المشكلة أن مصالحها في المنطقة ومواقف طبقتها السياسية إنما تتبنى الأفكار نفسها وأنه ليس هناك رئيس أمريكي ولا وزير خارجية أمريكي منذ ٦٧ وافق على دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو. تعرف أيضا أن حل الدولتين قتله الاستيطان غير الشرعي في الضفة الغربية والقدس الذي مولته التبرعات الأمريكية غير الحكومية والمساعدات الحكومية السنوية لإسرائيل التي تصب حكومات تل أبيب المتعاقبة نصيبا مهما منها في أسمنت المستوطنات لكن أمريكا تراهن على أنها تستطيع عبر تغيير الوجوه في السلطة الفلسطينية وتغيير الوجوه في حكومة إسرائيل خداع العرب والوصول لهدفها في إحياء صفقة التطبيع الشامل بين إسرائيل والسعودية وست دول عربية أخرى. أي تأمل في تحقيق مشروعها الاستراتيجي ببناء تحالف إسرائيلي عربي تركي سني تابع لها يحاصر أو يكسر شوكة إيران الشيعية وبالتالي يضمن استمرار هيمنة واشنطن على الشرق الأوسط.

حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حل الدولتین

إقرأ أيضاً:

تحديات سياسية هائلة تنتظر ائتلاف نتانياهو في 2025

رأت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، أن الائتلاف الحكومي برئاسة بنيامين نتانياهو، سيواجه تحديات كبيرة في العام الجديد، تشمل الميزانية، وقانون تجنيد الحريديم في الجيش الإسرائيلي.

 

وقالت "جيروزاليم بوست" تحت عنوان "تحديات سياسية هائلة تنتظر الائتلاف  عام 2025"، إن الائتلاف الحكومي تجنب أزمة خطيرة، أمس الثلاثاء، من خلال تمرير أحد قوانين الميزانية الذي يُعد ضرورياً للتمكن من إقرار ميزانية 2025، وهي واحدة من أكبر التحديات التي سيحتاج الائتلاف إلى التعامل معها خلال الأشهر المقبلة.
وأضافت الصحيفة أن القانون الإسرائيلي ينص على أن الميزانية يجب تمريرها قبل 31 مارس (أذار) المقبل، وإلا تسقط الحكومة، ويتم إجراء انتخابات, ومع ذلك، يعتزم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش تمريرها بحلول نهاية يناير (كانون الثاني) الجاري، موضحة أنه طالما لم تمر الميزانية، ستعمل الوزارات بما يُسمى "الميزانية المستمرة"، والتي تعتمد على ميزانية العام الماضي.
وتعيق الميزانيات المستمرة قدرات الحكومة، لأن إنفاقها محدود، وكلما طال أمد التشريع، كلما كان الضرر الذي يلحق بالاقتصاد أكبر.

 

هل نفهم إسرائيل؟https://t.co/QAabFXZyog pic.twitter.com/pNviAt9gEC

— 24.ae (@20fourMedia) January 1, 2025

 

 


خدمة الحريديم في الجيش الإسرائيلي

أما عن التحدي الرئيسي الآخر الذي يجب على الائتلاف الحكومي التعامل معه فهو قضية خدمة الحريديم في الجيش الإسرائيلي، حيث انشق 3 من أعضاء الكنيست الحريديم عن الائتلاف، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه، بل ويتعمق حتى يمنحهم نتانياهو اتفاقاً مقبولاً.
وأوضحت الصحيفة أن أعضاء الكنيست الذين انشقوا عن الائتلاف، من حزب "أجودات يسرائيل"، لكن الأحزاب الحريدية الأخرى، ديغل هتوراه وشاس، طالبت أيضاً بتمرير مشروع قانون، يعفي جميع طلاب التوراة من الخدمة في الجيش الإسرائيلي.
وفي محاولة تهدف على الأرجح إلى استرضاء أعضاء الكنيست الحريديم قبل تصويت يوم الثلاثاء، كشف وزير الدفاع يسرائيل كاتس أن خطته كانت أن يدخل 50٪ من كل دفعة حريدية متخرجة في الخدمة الوطنية في غضون 7 سنوات، وأن يتلقى الحريديم الشروط اللازمة للحفاظ على نمط حياتهم أثناء الخدمة.
وترى الصحيفة الإسرائيلية، أنه حتى لو تم تمرير الخطة في الائتلاف، فمن غير المرجح أن تتلقى دعم مكتب النائب العام، بالإضافة إلى أنها ستواجه حكماً بـ"عدم المساواة" من قبل محكمة العدل العليا في إسرائيل، مشيرة إلى أنه منذ انتهاء صلاحية الإعفاء الحريدي السابق رسمياً في نهاية يونيو (حزيران)، شهد الجيش الإسرائيلي نجاحاً ضئيلاً للغاية في تجنيد الحريديم، على الرغم من إصدار آلاف أوامر التجنيد.
ولكن في غياب مشروع قانون جديد، أصبح الجيش الإسرائيلي ملزماً بموجب القانون بتجنيد جميع الرجال الحريديم المؤهلين، وبالتالي فإن الوقت ليس في صالح الأحزاب الحريدية.

 

#عاجل| وول ستريت جورنال: صفقة الرهائن بين #حماس وإسرائيل تصل إلى طريق مسدود مع تمسك كل طرف بشروطه لوقف إطلاق النار pic.twitter.com/BEfOLW1DUk

— 24.ae | عاجل (@20fourLive) January 1, 2025

 


قضية الرهائن

وبحسب الصحيفة، فإن الأمر الأكثر أهمية هو قضية صفقة الرهائن وإنهاء الحرب في غزة، والتي من المرجح أن تستمر في خلق التوتر، لأن نتانياهو رفض النظر في إنهاء الحرب مقابل صفقة شاملة للرهائن، ويفضل صفقة جزئية تعيد بعضهم، وتمكن الجيش الإسرائيلي من استئناف القتال بعد وقف إطلاق النار المؤقت.
وأضافت أنه من غير المرجح أن يدعم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ورئيس حزب عوتسما يهوديت، إيتمار بن غفير، اللذان يشغلان 13 مقعداً في الكنيست معاً، الصفقة الجزئية، وقد يتركان الحكومة إذا وافق نتانياهو على ما اعتبراه "اتفاقية استسلام".

مقالات مشابهة

  • التهديد بإغلاق الأونروا يلوح في الأفق مع اقتراب نفاذ القانون الإسرائيلي الجديد ضدها
  • وزير الدفاع الإسرائيلي: قانون التجنيد الجديد سيؤدي إلى تجنيد آلاف الحريديم
  • مكان: اسرائيل وحماس تتوصلان الى تفاهمات بشأن صفقة التبادل
  • نقابة المحررين نعت سعيد ناصر الدين القصيفي: خسارة لا يعوضها إلا ذكره الطيب
  • تحديات سياسية هائلة تنتظر ائتلاف نتانياهو في 2025
  • الكشف عن قيمة الدعم المالي الهائل الذي قدمته أمريكا لـ إسرائيل منذ 7 أكتوبر .. أرقام صادمة وشراكة في الإبادة
  • أول قرارات العام الجديد.. أمريكا تفرض عقوبات غير مسبوقة على إيران
  • أول قرارات العام الجديد.. أمريكا تفرض عقوبات غير مسبوقة على إيران- عاجل
  • بشير الديك.. "درب الطيب" مسلسل كسر حواجز الدين الوسطي وأبرز مفهوم القدوة
  • عبدالسلام: العدوان الأمريكي على اليمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة جرائم الإبادة في غزة