لجريدة عمان:
2024-10-03@05:15:51 GMT

الجنوب المنسي والشمال الحاضر

تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT

آه أيها الجنوب، أبناؤك التواقون للحرية والانعتاق، أبناؤك المشرئبة أعناقهم نحو العدالة، ما أحلى الجنوب وما أعظمه. أفكر في الجنوب وعالمه الأثيري ويحضرني بيت شعري جميل للشاعر عمر الفرا يقول فيه:

جنوبي الهواء قلبي

وما أحلاه أن يغدو هوى قلبي جنوبيا.

أثارني خبر أوردته إحدى الصحف الإلكترونية وكتب عنوانه بالبنط العريض «الجنوب العالمي يقاوم» يتحدث عن احتجاجات خرجت في شوارع برلين العاصمة الألمانية، لمجموعة من المتظاهرين وكان من بينهم من هم مؤيدون للفلسطينيين داعمين لغزة ومنددين بالعدوان الإسرائيلي.

توقفت عند الخبر وبقدر ما أثارني تداعت الذاكرة حاملة في طياتها رؤى بعيدة، توقفت وقلت في نفسي.

منذ أن رسم ويلي برانت المستشار الألماني في عام 1970 خطه على خريطة العالم وقسَّم العالم إلى دول تقع شمال الخط ودول تقع جنوبه، منذ تلك اللحظة والعالم منقسم إلى شمال وجنوب. شمال ثري متطور متقدم وينتصب بكل قوة وعنفوان وتمثله الدول الأكثر ثراء وتقع غالبيتها في أمريكا الشمالية وأوروبا وأماكن أخرى من العالم، تتمدد الرأسمالية العالمية وسلطة المال، وبين جنوب منزوٍ يلفه الفقر والعوز، عالم مظلم يتكوَّن من بلدان تنتشر حول قارات العالم المختلفة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتوصف أحيانا بأنها دول نامية أو أقل نموا أو متخلّفة وأكثر فقرا. منذ تلك اللحظة والعالم ليس إلا اتجاه واحد فقط، أو هكذا يفهمه الأقوياء، ظل الشمال قويا ويسحق الجنوب في غياهب الفقر والعوز والظلم.

وقبل ذلك ظهر مصطلح الجنوب العالمي في عام 1969 لأول مرة عندما وصف الناشط الأمريكي المعادي لحرب فيتنام كارل أوغلسبي الحرب في فيتنام بأنها كانت تتويجا لتاريخ هيمنة دول الشمال على الجنوب العالمي.

في الحقيقة مهما تعددت الأسماء والمصطلحات بين الجنوب أو الجنوب العالمي أو دول العالم الثالث فهي كلها تشير إلى نعوت أوجدها الغرب أو الشمال العالمي لوصف الجانب الآخر المختلف عنه، وهي ليست إلا شعارات ذات أهداف سياسية.

وبعيدا عن تلك التأويلات السياسية المقيتة والدلالات الجغرافية في تحديد الواقع والاتجاهات، نتحدث هنا عن الجنوب الذي عرفناه منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، هو جنوب الشعوب المقاومة، فأيًّا كان الجنوب سواء كان زاوية معتمة في فناء مضيء يتلألأ بالأنوار والمصابيح، أو كان هامشا منسيا لأرض مهملة يعيش عليها ناس أو شعوب فقيرة، أو هو العالم الموحش، عالم من المآسي والمعاناة والفقر، عالم بائس، لكنه عالم نضالي كوني الهوى عنوانه المقاومة والثورة، قيض لأبناء الجنوب لهم أن يكونوا مقاومين ثوريين لا يستكينون للظلم والجور، تظل أرواحهم وثابة وقلوبهم خفاقة.

وبقدر ما كان الخبر مقتضبا كان مثيرا ويثير شهوة السؤال والتأمل، والكثير من الشجن والعاطفة. أستذكر وأتساءل كيف لهذا الجنوب أن يعود مرة أخرى للواجهة العالمية بكل هذا الزخم والحضور؟ وأتساءل مع نفسي هل لا يزال الجنوب هو الجنوب الذي عرفناه منذ الخمسينيات، جنوب النضال والمقاومة والثورة، الجنوب الرافض.

لكل منا له جنوبه، وكما لو كانت حتمية كونية قيض للجنوب أيا كان موقعه وفي أي دولة، قيض له أن يكون هو رافع راية النضال والحرية والمقاومة، وقيض للشمال أين ما يكون على الكرة الأرضية هو المهيمن والمتعالي والنرجسي، وهو صاحب اليد العليا المتحكم والحاكم. الجنوب هو الشعلة المقاومة التي لا تنطفئ.

الجنوب لم تعد كلمة تعني جهة معينة أو بقعة جغرافية، بل هي كلمة تثير العاطفة والشجون في الذاكرة والوجدان ولها دلالات ورموز تتعلق بالمقاومة، وتغنّى الكثير بالجنوب المقاوم البطل، فغنّت فيروز للجنوب اللبناني الذي بقيت جذوة مقاومته مشتعلة ووصفته في أغنيتها (أسوارة العروس) بالجنوب المشغول بالقلوب والمكتوب بالعز، وكما تقول «تولّع حروب وتنطفي حروب وبتظلّك حبيبي يا تراب الجنوب».

أفرغ من قراءة الخبر وأتأمل أولئك المتظاهرين الذين خرجوا يطالبون بالحرية والعدالة للشعوب المقهورة في الجنوب، أستذكر الجامعات والكليات التي كانت مرتعا للحركات الماركسية والشيوعية والجنوب بشكل عام وقت مضى، كان الجنوب كلمة تثير الفخر والاعتزاز، تتعالى الأصوات نحن جنوبيين أتينا من الجنوب، عندما كان الجنوب يقاوم ويقف ندًّا في وجه عالم الشمال المتعنت. يشعل الجنوب الذاكرة بعظمته وتجلياته المختلفة، وهو بالفعل عالمي الهوى والاتجاه، اكتسب شهرته وعالميته من المظلومية. الجنوب فينا ومعنا وهو ملاصق لوجودنا وكينونتنا، نحبه ويحبنا يملأ قلوبنا ولا ينضب. أشعر كلما قرأت أو سمعت عن الجنوب بأني أنتمي إلى عالمه المثالي رغم وسمه بالفقر، أنتمي إلى الجنوب بكبريائه وبعنفه وبطيبة أهله، وبجمال مدنه وشواطئه وجباله، الجنوب الثوري بهامات رجاله المناضلين، فكل الثورات تأتي من الجنوب والانتفاضات تنبثق من الجنوب، هكذا كتب للجنوب أن يكون ثوريا منتفضا، الشرارة الأولى تأتي من الجنوب وتظل جذوتها مشتعلة لا تنطفئ.

نحب الجنوب متضامنا متجليا مع قضايا شعوبه، فعندما كان الجزائريون يقاومون المحتل الفرنسي كان الجنوب كله يقف مع ذلك النضال، وفي مصر عام 1956 وفي إفريقيا ودول آسيا وحتى أمريكا الشمالية، وها هو الجنوب اليوم يقف مستضعفا خائر القوى مخترقا مسحوقا مهضومة حقوقه، نرى ويرى العالم كله كيف يقف الجنوب ودوله متفرجا على المذابح التي تقع في فلسطين، وقبله في العراق وليبيا وسوريا والسودان والقائمة تطول.

كل ذلك ونحن نحب الجنوب ونعشقه أيضا وجنوبنا هو الجنوب المقاوم المناضل وهو بالتأكيد ليس ذلك الجنوب الذي غارت أم كلثوم من نسمته كما قالت «أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبي» فنحن جدير بنا أن نغار بل نخاف من تلك النسمة الوديعة إن هبّت وتحوّلت إلى عنفوان وثورة وبركان.

الخبر المنشور يقول «الجنوب العالمي يقاوم» لا أدري إن كانت تلك المظاهرات هي حركة منظمة كمثل الحركات التي ظهرت في الشمال العالمي كحركة «احتلوا وول ستريت» في نيويورك في عام 2011م تأثرا بالربيع العربي وظهرت قبلها حركة «الخضر» المعنية بالدفاع عن البيئة وغيرها من الحركات الاحتجاجية المنظمة التي تتظاهر وتحتج على تغلغل الرأسمالية العالمية والعولمة المتوحشة وغالبا ما تنشط هذه الحركات عند الأحداث الدولية الكبيرة كالحروب والمآسي والكوارث المفتعلة كاجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتأخذ هذه التحركات من الشوارع مسرحا لإيصال أصواتها.

لكن هل الجنوب هو الجنوب، هل ما يقدمه الجنوب للعالم يعكس ذلك التضامن الذي كان بين شعوبه ودوله؟ بالطبع لا، لم يبقَ الجنوب كما كان. تفكك الجنوب وتشتت دوله وأصبحت أغلبها ملحقة وتابعة بشكل أو بآخر بالشمال العالمي والإمبريالية العالمية.

مهما كان وصفنا لهذه المظاهرات، لكنها بالتأكيد احتجاجات وتظاهرات تقف ضد الظلم والعدوان وتنشد الحرية والعدالة للشعوب المقهورة. الحرية ليس لها وطن، والشعوب الأحرار لا يحدهم حدود ولا مكان، فهم في كل مكان من العالم. زخم جديد يكتسبه الجنوب العالمي في نضاله العالمي ويتحول إلى نضال كوني تنشده كل الشعوب المحبة للحرية والعدالة بمختلف جنسياتها وانتمائها، ويبقى الجنوب هو المحرك الرئيسي لنضال الشعوب المقهورة المقاومة ضد الشمال وعالمه الظالم العدواني وأفكاره المتوحشة، وشهوته في السيطرة على الشعوب وثرواتها.

لا تنطفئ مقاومة شعوب الجنوب ولا تتراجع ضد تلك العجرفة والظلم والعدوان والاستغلال البشع للشمال العالمي وسيطرته على مقدّرات الشعوب وهو العنصري البغيض المتعالي المتكبر، وهو كل شيء وكل قبيح ومتعجرف الذي لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية. تبقى الشعوب الحية الحرة التي لا تعرف تلك التقسيمات التي تأبى إلا أن تقف في وجه الظلم والعدوان، فمن هذا الشمال الظالم خرجت تلك المظاهرات الحاشدة الرافعة لراية الجنوب العالمي المقاوم ومنه تخرج الأصوات المنددة بالعدوان والمذابح المنظمة الرافضة لغطرسة دول الشمال العالمي وتماديها في دعم النظام المجرم الصهيوني.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجنوب العالمی الشمال العالمی کان الجنوب الجنوب هو هو الجنوب من الجنوب ما کان

إقرأ أيضاً:

اليوم العالمي للقهوة.. استمتع برحلة من المتعة والانتعاش في فنجانك اليومي

مقالات مشابهة طرح الرسوم التوضيحية الجديدة لتقويم جوجل مع الوضع الداكن

‏14 دقيقة مضت

مصدر الإماراتية تنهي صفقة الاستحواذ على 50% من شركة طاقة أميركية

‏30 دقيقة مضت

“وزارة الإسكان “.. تتيح خدمة نقل المديونية سكني وإعادة جدولة القروض العقارية المدعومة 1446

‏47 دقيقة مضت

أسعار الذهب ترتفع 5 دولارات وسط ترقب بيانات أميركية

‏ساعتين مضت

بدء بناء أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا

‏6 ساعات مضت

مبيعات المضخات الحرارية في أوروبا تهبط 47% بالنصف الأول

‏7 ساعات مضت

في الأول من أكتوبر من كل عام، يحتفل العالم بـ اليوم العالمي للقهوة، وهي مناسبة عالمية تخصص للاحتفاء بإحدى أكثر المشروبات انتشارا وحبًا في جميع أنحاء العالم، كما يعود تاريخ القهوة إلى قرون مضت حيث بدأت رحلتها في إثيوبيا لتنتشر بعدها في كافة أرجاء العالم، وأصبحت القهوة منذ ذلك الحين جزء لا يتجزأ من حياة الملايين، تلهمهم وتجمعهم على موائد الحديث والنقاش، فهو مناسبة للتوعية بأهمية هذه الصناعة.

ما هو تاريخ القهوة

بدأت حكاية القهوة من إثيوبيا، حيث يُعتقد أن أحد الرعاة لاحظ تأثير حبوب البن في زيادة نشاط ماشيته، ومن هنا انطلقت القهوة في رحلة انتشارها، حيث دخلت العالم العربي أولاً ثم أوروبا وبقية أنحاء العالم، وعلى مر القرون تحولت القهوة من مجرد مشروب إلى رمز يجمع الشعوب حول طقوسها اليومية، حيث أصبحت وسيلة للتواصل والتفاعل بين الناس على اختلاف ثقافاتهم، وهذا التاريخ الطويل يعكس كيف أصبحت القهوة مشروب عالمي يربط بين الشعوب مهما اختلفت لغاتهم.

اليوم العالمي للقهوةالقهوة كجزء من التراث الثقافي تحضير القهوة وتقديمها يختلف من دولة إلى أخرى، وكل طريقة تحمل في طياتها جزءًا من هوية وثقافة البلد الذي تنتمي إليه، وفي الدول العربية تعتبر القهوة رمزًا للضيافة والكرم، حيث يتم تقديمها للضيوف كعلامة على الاحترام والترحيب، أما في دول مثل تركيا وإيطاليا، فالقهوة جزء أساسي من الحياة اليومية،يتم تناولها في الصباح لبدء اليوم بنشاط، أو خلال الجلسات الاجتماعية للتواصل والاسترخاء، وتظل القهوة في جميع هذه الثقافات رمز للتواصل الاجتماعي.وتعتبر القهوة صناعة ضخمة تعتمد عليها ملايين الأسر حول العالم، خاصة في الدول النامية التي تعتبر من أكبر منتجي البن،وتوفر زراعة البن فرص عمل ودخل لملايين المزارعين،وتعتمد العديد من الاقتصادات على هذا المنتج كمصدر رئيسي للدخل،وفي اليوم العالمي للقهوة يتم تسليط الضوء على أهمية دعم زراعة البن.وتحسين ظروف العمل للمزارعين وتوعيتهم بأهمية حماية البيئة خلال عملية الزراعة.
Source link ذات صلة

مقالات مشابهة

  • “التغير والنظام العالمي.. فهم التحولات التي تشكل عصرنا” .. ندوة حوارية بمعرض الكتاب
  • متخصصة في حرب العصابات.. ما هي وحدة إيغوز التي قتل 8 من جنودها في الجنوب؟
  • الإمارات تشارك العالم الاحتفاء باليوم العالمي للمسنين
  • علي الكعبي: كبار المواطنين مساهمون في إنجازات الحاضر
  • هل تتخلى روسيا عن بناء خطوط السكك الحديدية في مشروع رشت-آستارا؟
  • غارات إسرائيليّة على الجنوب.. إليكم المناطق التي استُهدِفَت
  • أغلى أنواع الأرز في العالم.. أسراره وفوائده التي ستدهشك!
  • اليوم العالمي للقهوة.. استمتع برحلة من المتعة والانتعاش في فنجانك اليومي
  • حكومة السوداني:رغم العجز المالي ومديونية العراق التي تجاوت (90) مليار دولار لكننا سنعمر الجنوب اللبناني ونستمر في دعم حزب الله اللباني
  • وزير الاقتصاد يُشارك في حوار برلين العالمي لمناقشة السياسات التي تدعم النمو الاقتصادي العالمي