في بعض الأحيان، يمكن للقليل من التكنولوجيا الحديثة أن تساعد في اكتشاف كنز قديم، حتى لو كانت هذه التكنولوجيا ليست أكثر من مجرد شاشة كمبيوتر وبحث بسيط على الويب، وهذا ما حدث لفيدريكا جيجانتي، المؤرخة بجامعة كامبريدج البريطانية، ووذلك عندما كانت تعد محاضرة عن الأشخاص الذين يجمعون الفن والتحف الإسلامية، وكان أحد هؤلاء الجامعين نبيلًا إيطاليًا من القرن السابع عشر من فيرونا يُدعى لودوفيكو موسكاردو.

وتتذكر جيغانتي قائلاً: "لقد بحثت ببساطة عن اسمه في Google، وفكرت في أنني سألصق صورته على برنامج PowerPoint"، وبالفعل البحث على جوجل أخرج صورة شخصية له، ولكن البحث استدعى أيضًا صورة لغرفة من متحف مؤسسة Miniscalchi-Erizzo في فيرونا، إيطاليا، حيث تم تعليق تلك الصورة، وشيء ما في هذه الصورة لفت انتباه جيغانتي، وتقول: "لقد لاحظت شيئًا في الزاوية يشبه الإسطرلاب بشكل ملحوظ"، ومن هنا بدأت رحلة البحث عن تفاصيل تلك الصرة باستخدام التكنولوجية وفق ما رصده تقرير صحيفة NPR الأمريكية.

 

 

الإسطرلاب يكشف عن أسراره 

 

 

وكانت الصورة تتضمن الإسطرلاب، وهو عبارة عن خريطة ثنائية الأبعاد للكون، كانت رائجة منذ عدة مئات من السنين، ويتكون هذا من مجموعة من الأطباق النحاسية المستديرة، كل منها ليس بحجم بيتزا صغيرة، وتقول جيغانتي إن الأسطرلابات تشبه أقدم الهواتف الذكية في العالم، وتشير العلامات الموجودة على أسطرلاب فيرونا إلى الوقت الذي كان فيه العلماء المسلمون واليهود والمسيحيون يعتمدون على أعمال بعضهم البعض.

وتقول: "بعملية حسابية واحدة بسيطة، يمكنك معرفة الوقت، ويمكنك التنبؤ في أي وقت سيكون غروب الشمس أو شروق الشمس، كما أنه يتيح لك حساب المسافات وتحديد مواقع النجوم، والتي يمكن استخدامها بعد ذلك لصنع الأبراج، وبالمناسبة، فهي أيضًا السبب وراء تحرك ساعاتنا في الاتجاه الذي نسميه الآن "باتجاه عقارب الساعة" - بدلاً من عكس اتجاه عقارب الساعة.

 

لم تكن جيغانتي تعرف ذلك في ذلك الوقت، لكن النقوش الموجودة على هذا الإسطرلاب ستسمح لها برسم رحلتها عبر قارتين خلال العصور الوسطى، وسوف تكشف عن حقبة كان فيها المسلمون واليهود والمسيحيون يبنون على الإنجازات الفكرية لبعضهم البعض. ونشرت اكتشافها في مجلة نونسيوس، وتقول بيترا شميدل، مؤرخة العلوم في جامعة إرلانجن-نورمبرغ والتي لم تشارك في البحث: "إن الأسطرلاب هو مثال رائع يوضح أن المعرفة كانت في حالة حركة دائمة، بالفعل في عصور ما قبل الحداثة".

 

 

رحلة صيفية إلى فيرونا والعودة للعهد الأندلسي

 

 

وبالعودة إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بها، تعقبت جيغانتي صورًا أخرى لهذا الجسم. وتقول: "وعندها شعرت بالحماس الشديد لأنه كان جسمًا رائعًا حقًا، حيث كانت مغطاة بالنقوش العربية، واستنتجت أنه من المحتمل أن يكون أندلسيًا، مما يعني أنه تم إنشاء الإسطرلاب في جنوب إسبانيا خلال العصور الوسطى"، وبينما كانت جيغانتي تدقق في صور هذا الإسطرلاب، أدركت أنه لكي تفهمه بشكل أكبر - للإجابة على سؤال حول كيف انتهى إسطرلاب من إسبانيا في القرن الحادي عشر إلى متحف في فيرونا في القرن السابع عشر - كان عليها ببساطة رؤيته عن قرب، لذلك شقت طريقها إلى فيرونا في يوليو الماضي.

وقد كانت رحلة لا تُنسى، فأثناء وجوده هناك، ذهب جيغانتي لسماع الأوبرا في الساحة الخارجية وتناول الكثير من الآيس كريم اللذيذ، ولكن أفضل ما في الأمر هو الإسطرلاب الذي كان ينتظرها في المتحف، وتقول: "لقد تبين أن الأمر أكثر بكثير مما كنت أتمناه وتوقعته، فأولاً، رأت مؤشرات على أنها نشأت في القرن الحادي عشر، وهو الوقت الذي كانت فيه إسبانيا تحت الحكم الإسلامي وكانت أحد مراكز البحث العلمي والبحث الفلكي في العالم"، وتوضح جيغانتي أن "الأسطرلاب كان أداة شائعة إلى حد ما بين العلماء إلى جانب استخدامه في المجتمع، وربما في المساجد من قبل المؤذنين لحساب وقت الصلاة".

ولتشغيل الإسطرلاب، عليك أن تعرف خط العرض الذي تتواجد فيه. لذلك عندما فحصت جيغانتي صفيحة نحاسية إضافية تمت إضافتها إلى هذا الإسطرلاب في وقت لاحق ورأت أن لها خطي عرض جنوبيين أكثر، أخبرتها أن القطعة قد هاجرت، وتقول: "إذا كان علي أن أخمن، فهم على الأرجح مغاربة، وهذا يعني أن شخصًا ما في مرحلة معينة من حياة القطعة إما كان بحاجة للسفر إلى شمال إفريقيا أو العيش هناك".

 

 

ومضة من البصيرة ونقوش عبرية

 

 

وكانت الغرفة التي كان جيغانتي تفحص فيها الإسطرلاب تحتوي على نوافذ كبيرة، تدفق ضوء الشمس، وأضاء النحاس، وتقول: "فجأة، عندما قمت بتحريكه، لاحظت بعض الخدوش التي بدت وكأنها علامات مقصودة حقًا، وعندها فقط أدركت أن هذه الخدوش كانت في الواقع عبارة عن حروف لم تكن عربية أصلا، بل كانت عبرية"، وتوضح جيغانتي، أن هذه التوقيعات والترجمات كانت مكتوبة ربما بواسطة ثلاثة يهود مختلفين من مالكي الأسطرلاب، فهو دليل على أن القطعة انتقلت من أيدي المسلمين إلى أيدي اليهود – وأن المجموعتين كانتا تعيشان وتعملان جنبًا إلى جنب.

وتضيف: "إنها تكشف الطريقة التي استمر بها المجتمع اليهودي في استخدام هذا الشيء، على الرغم من أنه من الواضح أنه غرض إسلامي مخصص للمسلمين لخدمة شخص كان عليه أن يصلي خمس مرات في اليوم"، وتشير العلامات الإضافية إلى أن الإسطرلاب وقع على الأرجح في أيدي متحدث لاتيني أو إيطالي، ووجد طريقه إلى حيازة لودوفيكو موسكاردو، والذي أصبح في النهاية جزءًا من مجموعة المتحف في فيرونا، وتقول جيغانتي: "يمكننا قراءة كل هذا من الجسم نفسه، إنها شهادة على فترة من الوجود المشترك بين المسلمين واليهود والمسيحيين الذين استمروا في البناء على معرفة بعضهم البعض وتقدمهم".

 

 

اكتشاف جيجانتي أمر مثير 

 

 

مارغريت جايدا، مؤرخة العلوم في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والتي لم تشارك في الدراسة، تشيد باكتشاف جيجانتي، وتقول: "إنه أمر مثير حقًا، لأنه يوجد عدد قليل جدًا من الأسطرلابات التي تحتوي في الواقع على مثل هذا الدليل الواضح على التفاعل بين الثقافات، كما أن القدرة على ربط أحد الأسطرلاب بمكان وزمان معينين يمثل تحديًا حقيقيًا أيضًا، ولذا فإن وحقيقة أن فيديريكا كانت قادرة على القيام بذلك هي أيضًا جديرة بالملاحظة حقًا".

ووفقا لجيدا، فإن الأسطرلاب مثل هذا مهم لأنه يكشف عن لحظة كانت فيها التفاعلات بين المسلمين واليهود والمسيحيين في كثير من الأحيان بناءة، ومحددة من خلال تبادل الأفكار والعلوم، ويقول جايدا: "تذكرنا هذه الأشياء بأن لدينا تراثًا ثقافيًا علميًا مشتركًا وقويًا جدًا، لسبب واحد، ولسبب آخر: تم تحديد التفاعلات بين اليهود والمسيحيين والمسلمين من خلال احترام التقاليد الفكرية لبعضهم البعض وسلطة تلك التقاليد".

 

 

الاكتشاف يبدد اٍسطورة "العلم ولد بأوروبا بمعزل عن العالم"

 

 

وبحسب حديث جايدا للصحيفة الأمريكية، فقد ساعد الأسطرلاب في تبديد الأسطورة القائلة بأن العلم الحديث ولد في أوروبا بمعزل عن العالم الخارجي، ويوضح جيدا أن مساهمات العالم الإسلامي في مجال علم الفلك هائلة، وأيضًا علماء الفلك اليهود الذين عملوا خلال هذا الوقت، ثم تُرجمت العديد من هذه النصوص إلى اللاتينية، مما أدى في النهاية إلى كوبرنيكوس والثورة العلمية".

 

يوافق جيجانت، وتقول إن الإسطرلاب هو اختراع يوناني، لكن العالم الإسلامي هو الذي أتقنه وحوّله إلى هذه الأشياء غير العادية، وتسمح لنا الأسطرلابات بالنظر بعمق في هذه العوالم والأزمنة المختلفة، بينما نقشر طبقاتها العديدة من التاريخ والسفر والذاكرة، وتقول جيغانتي: "كلما نظرت إلى شيء واحد، كلما رأيت أشياء أكثر في بعض الأحيان، ويمكنك قراءة الكثير من الأشياء إذا كنت تعرف أين تبحث".

المصدر: صدى البلد

إقرأ أيضاً:

عالم رباني.. نور في زمن الظلمات

في زمن تكثر فيه الفتن وتتلاطم أمواج الشبهات، يظهر بيننا علماء ربانيون، أنار الله بصائرهم، وأفاض عليهم من علمه، فصاروا نبراسًا يهتدي به الحائرون، وسراجًا يضيء دروب السائرين.

فضيلة الامام العالم الرباني، لم يقتصر علمه على العلوم الشرعية، بل اجتهد في أفرع العلوم الأخرى حتى بلغ فيها المنتهى، فكان موسوعة علمية متنقلة، ينهل من علمه القاصي والداني.

لم يكن علمه حبيس الكتب، بل تجلى في مواقف وطنية عظيمة، فكان خير مدافع عن دينه ووطنه، يقف في وجه الإرهاب بالكلمة ويصدع بالحق، ويفضح زيف المتطرفين، ويدعو إلى الوسطية والاعتدال.

فضيلة الإمام العالم الرباني الجليل على جمعة، كان لتصديه للأفكار الإرهابية أهمية بالغة، فقد كان يدرك خطورة هذه الأفكار على المجتمع، وكيف أنها تستغل الدين لتبرير العنف والقتل، فكان يواجهها بالحجة والبرهان، ويفند شبهاتهم، ويكشف زيف ادعاءاتهم.

كانت كلماته بمثابة سهام الحق، تخترق قلوب الظالمين، وتكشف زيفهم، وتدحض حججهم، فكانت له مواقف مشهودة في الدفاع عن الوطن، والذود عن حياضه، والتصدي لكل من تسول له نفسه المساس بأمنه واستقراره.

لقد كان فضيلة الإمام على جمعة، العالم الرباني نموذجًا فريدًا للعالم العامل، الذي يجمع بين العلم والعمل، وبين الدين والوطن، وبين الأصالة والمعاصرة، فكان بحق قدوة للأجيال، ومصدر إلهام للشباب، ونبراسًا يضيء طريق الحق والخير.

و كما قال الشاعر:

العلم يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف

وبمناسبة شهر رمضان الكريم، شهر الطاعة والتقوى، نحث جموع المواطنين على الاقتداء بهذا العالم الرباني الجليل، والزود عن دينه ووطنه، والدفاع عن مذهبه الوسطي المستنير، الذي يدعو إلى التسامح والتعايش، ونبذ العنف والتطرف.

وإذا نظرنا إلى التاريخ، نجد أن علماءنا الربانيين كانوا دائمًا في طليعة المدافعين عن الدين والوطن، فكما كان الإمام العز بن عبد السلام يقف في وجه الظلم والطغيان، ويصدع بالحق، كذلك عالمنا اليوم، فضيلة الإمام على جمعة، يقف في وجه الإرهاب والتطرف، ويدعو إلى الوسطية والاعتدال.

قال الشاعر:

إذا العلم لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفاق.

وكما كان الإمام النووي يجمع بين العلم والعمل، والزهد والورع، فوريثه الشرعي فضيلة الامام على جمعة، يجمع بين العلم الغزير، والعمل الدؤوب، والزهد في الدنيا، والورع في الدين.

وبما أن العلماء ورثة الأنبياء، فإن عالمنا الجليل يرث عنهم العلم والحكمة، ويشارك السلف الصالح في حمل رسالة الدين، وتبليغها للناس.

فقد قيل في حب العلماء:

العلماء ورثة الأنبياء فحبهم فريضة وتقديرهم إحسان.

وإذا أردنا أن نشبهه بأحد الصحابة العلماء، لكان أشبه بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي كان من أعلم الصحابة بالقرآن والسنة، ومن أزهدهم في الدنيا، ومن أورعهم في الدين.

وإننا إذ نرى فضيلة الإمام العالم الجليل على جمعة - حفظه الله - يعيش بيننا حيًا يرزق، لندعو الله له بموفور الصحة والعافية، وأن يزيده علمًا وتوفيقًا، وأن يجعله ذخرًا للإسلام والمسلمين، وأن يبارك في عمره وعمله، وأن يجعله من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء".

رحم الله علمائنا الربانيين الذين سبقوا بالإيمان، وجزاهم عن أمتهم خير الجزاء، وأدام علمائنا الحاليين و جعلهم لنا نبراسًا نهتدي به، وسراجًا يضيء لنا دروبنا، حيا الله فضيلة الإمام على جمعة و كل علماء أمتنا.

في كل أسبوع خلال شهر رمضان، أتشرف بأن تُزين صفحات جريدة الأسبوع بنور عالم من علماء أمتنا الأجلاء، فنسعى جاهدين لنقل قبس من علمهم، ونشر عبق من حكمتهم، ليكونوا لنا نبراسًا يضيء دروبنا في زمن الفتن والشبهات.

مقالات مشابهة

  • الوعد الإلهي بخسارة المسارعين نحو اليهود يتحقق على أرض الواقع..
  • أعداء السامية الإسلامية لا سامية اليهود
  • اعتقال شخص رفع العلم الصدّامي فوق منزله وسط بغداد
  • محمد بن يزيد المبرّد
  • نجل شقيق الضحية الثانية لسفاح الإسكندرية يكشف التفاصيل الأخيرة في حياتها: «كانت واعية وحنونة»
  • اختراع صيني نووي غير مسبوق يضع العلماء في حالة ذهول ويقرب العالم من طاقة نظيفة غير محدودة
  • تقرير يكشف .. نتنياهو قد يعود إلى الحرب
  • السلطات المحلية بمحافظة تعز تفضل عدم فتح طريق الحوبان على مدار 24 ساعة وتقول السبب
  • الخارجية الروسية: رحلة زيلينسكي لواشنطن كانت فاشلة
  • عالم رباني.. نور في زمن الظلمات