كتاب الدعائم.. فاتحة كتب النظم العلمي
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
اشتهر الفقهاء العمانيون بالنظم العلمي، وهو نظم الفنون العلمية في قالب الشعر، وترجع بدايات النظم العلمي إلى القرن الثالث الهجري، إذ نُقِلت آثار منظومة لأبي جابر محمد بن جعفر الإزكوي، وأبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي، وثمة منظومات لعلماء من القرن الرابع الهجري منها منظومة لمحمد بن روح بن عربي (حي:320هـ)، وأخرى لأبي سعيد محمد بن سعيد الكُدَمي (حي:361هـ)، ولم يقتصر النظم على علوم الشريعة الإسلامية بل نظم العمانيون في اللغة والتاريخ والطب والفلك والكيمياء وغيرها.
غير أن النظم العلمي قد ارتقى إلى التأليف الشامل لأبواب التوحيد والفقه أول مرة بظهور كتاب (الدعائم) لأبي بكر أحمد بن النضر السمائلي (ق5هـ)، ذلك لأن الكتاب جاء مبوبا في منظومات متعددة ببحور شعرية مختلفة بدأت بالاعتقاد ثم الفقه. وقد اشتهر كتاب الدعائم واعتنى به أهل عمان حتى أنه يُعَدُّ من بين أكثر الكتب العمانية من حيث عدد النُّسَخ المخطوطة، كما تغنى العمانيون بمنظوماته وحفظوها وقُرِئت في مجالسهم. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى ما نقله العالم المغربي أبو القاسم البرادي (ت: نحو810هـ) عن أحد أهل عمان في زمانه بأن عدد منظومات كتاب الدعائم واحد وأربعون منظومة، بينما الموجود الآن في الكتاب المتداول ثمان وعشرون. على أن الكتاب قد حظي بعناية واسعة فتعددت شروحه المشرقية والمغربية، ولعل أبرزها شرح محمد بن وصاف النزوي (ق6هـ) المسمى (الحل والإصابة)
وبمنأى عن الجدل الدائر حول زمان ابن النضر ومعاصريه وحقيقة ترجمته التي ظهرت في أول طبعة له في القرن الرابع عشر الهجري، فإن المتأمل في منظومات الدعائم يتلمس نَفَس الشاعر والفقيه في آن واحد، إذ تفتقت شاعرية ابن النظر عن براعة استهلال وجزالة ألفاظ وعبارات في غالب منظومات الكتاب، حتى أنها أُطلِق عليها (منظومات) تارة و(قصائد) تارة أخرى. ولعل بعض منظومات الدعائم حفظ منها بعض العامة الاستهلالات التي يشبه بعضها المقدمات الطللية التي يتغنى فيها الشاعر بالأطلال والدمن، أو يستهل بغزل رمزي، أو بالتوجع والشوق، وفي المقابل استهل ابن النظر في جملة من منظوماته بالوعظ أو بالحكمة مباشرة دون التقديم بأغراض أخرى. ومن أكثر المنظومات ترديدا في مجالس الأدب منظومته الأولى في التوحيد ومطلعها:
تأوبني داء دخيلٌ فلم أَنَمْ وبِتُّ سميرًا للهموم وللهِمَمْ
وما بيَ عشقٌ للذين تحملوا ولا جزع من بينهم لا ولا سقمْ
كما أن من جاء من بعده من الفقهاء استشهدوا كثيرًا بأبيات منظوماته ومنها هذه المنظومة، بل إن بعض أبيات الدعائم يُستَشهد بها كما يُستشهَد بأمثال العرب وشعرهم في الحكمة، ومن بين الشواهد من تلك المنظومة مثلا قوله:
فَلَم يَبْقَ منهم غير نشر حديثهم وما اكتسبوا من فعل مَحْمَدَة وذمّْ
وقد جاءت بعض منظومات الدعائم ببحور شعرية سهلة التناول خفيفة الأوزان كما هو الحال في منظومة الزكاة ووجوبها، ومطلعها:
ما هاجني رسم ولا مربعُ ولا شجاني طَلَلٌ بلقَعُ
ولا حمام الأيكِ راد الضحى على الأفانين إذا يسجعُ
ثم ما لبث أن تخلص إلى الموضوع فقال:
لكن شَجاني زمنٌ فادحٌ وحادث من خطبه أشنعُ
ومن زكاةٍ فرضها واجبٌ على أولي الأموال لِم تُمنعُ
ومع أنه تخلص إلى موضوع الزكاة لكنه صدّره بالوعظ وتذكير جامع المال بأنه سيتركه وبذكر الوعيد الذي جاء في مانع الزكاة، ثم انتهى إلى الموضوع ومسائله، وهكذا الشأن في عدد من المنظومات.
ومن طريف الاستهلال في شعر ابن النضر ما جاء في إحدى منظوماته من مديح لها في عبارات جزلة بديعة من الوافر يقول فيها:
أَتَتْكَ مطيعة غررُ القصيدِ تلوح كأنها سمط الفريدِ
يَهُشُّ السامعون لها إذا ما شداها ماهرٌ حسن النشيدِ
أرعتَ إليَّ سمعك مستفيدًا ولم تَكُ قبل ذاك بمستفيدِ
فخذها سهلةً تلهي وتنفي جوى البُرَحا عن الرجل الحريدِ
وتارة نرى ابن النضر قد استهلّ بعض المنظومات بالوعظ وحده، كما في منظومته من الوافر أيضًا، يقول في أولها:
أَفِقْ قبل التأوُّه والفهاقِ وقبل نشوب روحك في التَّراقِ
وقبل صبيحة ما من مساءٍ لطلعتها عليه ولا فَواقِ
وقبل وداع أهلك بافتراقٍ وشحط لا يؤول إلى تلاقِ
وهكذا جاءت أغلب منظومات كتاب الدعائم ببدائع من المقدمات الشعرية المتعددة الأغراض، وقد تجلّت فيها براعة الاستهلال وحسن التخلص عند ابن النضر، بل إن بعضها يودُّ المطالِع المتذوق لو أنها طالت قبل أن يتخلص الشاعر إلى موضوعه، أو لو أن لابن النضر ديوان شعر آخر غير كتاب الدعائم الذي عُرِف أيضًا بـ«ديوان الدعائم»، ولعل بلاغة شعره جعلت منه ديوانًا كما هو كتاب في الفقه.
محمد بن عامر العيسري / باحث في التراث العماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النظم العلمی محمد بن
إقرأ أيضاً:
حلقة ٤ من كتاب .. عدسات على الطريق ..
بقلم : حسين الذكر ..
في مرآب صغير لسيارات الأجرة الخاصة والعامة وقفا معاً ، وبعد أن مد الشاب يده في جيبه واخرج مبلغاً من المال أعطاه للحزين .. بما يكفيه للوصول الى داره ،وقال له :
ــ ياعم سأ شرح لك بايجاز ، ما يتطلب منك عمله كإحدى أهم الخطوات اللازمة لمساعدتك على التغيير التي ارجو أن تتمكن من الالتزام والنهوض بها .
ــ إني مصغ اليك هاتِ ماعندك فقد اشتقت لسماع رأيك .
ــ أول ما تصل الى أهلك وتطمئن على عيالك ، حاول أن تنتزع منهم الموافقة على أي خطوة ستخطوها لاحقاً ، وضرورة إعلامهم أن كل ما تقوم به لأجلهم .
ــ اطمئن انهم لم يعارضونني ابداً .
ــ حسناً سأبدأ اذن معك الخطوة الاولى ، التي ستكون مقدمة لخطوة لاحقة اكبر ، لكن الثانية تتوقف على تنفيذ الأولى ، وعليك أن تبيع كل ما هو فائض لديك من أثاث أو أي أدوات منزلية غير ضرورية ، عليك أن تجمع أي مبالغ نقدية ، بع كل ما استطعت إليه سبيلا !
ــ اوووو – انك حقاً تفاجئني .. لم أتوقع منك طلباً كهذا ، ثم إنك تعلم نحن الفقراء لا يوجد لدينا فائض عن الحاجة ، وكل ممتلكاتنا عبارة عن الحد الادنى للمستلزمات والحاجيات الاساسية والضرورية لديمومة الحياة ولو بشكلها الصعب والمقدور عليه.
ــ إسمع يا عم .. التغيير ليس أغنية ترددها الشفاه ، ولا هو مثل يضرب متى ما نشاء ولمن نشاء ، ان التغيير فسلفة وعمل استراتيجي شاق وقد يتطلب التضحية والصبر على كثير مما لا نتحمله وذلك كله لاجل غاية أسمى نسعى اليها ، نحو مستقبل أفضل .. عليك أن تبيع كل ما تطاله يداك ، لا تبق إلا ما هو ضروري لممارسة أدنى متطلبات المعيشة والممارسات اليومية .
ــ هذا فضيع ويكاد ينفجر منه رأسي ، وأي عاقل لن يقبله مني!.
عندها قال الشاب بلهجة متصاعدة يشوبها الغضب والعصبية :
ــ إن الأمر في غاية البساطة ، وما هذا الذي تهذي به ، إلا ترسبات ميتة في داخلك وهي جزء أساس من كيانك الذي لا تستطيع على ما يبدو مغادرته مع انك تتبجح بالكثير من الجمل الإيمانية التي ستبقى فارغة المحتوى والمعنى ، إلا من الكلام الرنان . ثم عليك ان تخبرني بجواب قاطع ، لا يقبل القسمة على اثنين ، هل ترغب بالتغيير وهل تحب ان أبداً معك .. هل عندك الإستعداد الكامل للمواصلة وتحمل المسؤولية ام لا ؟
تنفس العم عميقاً ،اوثنى يديه على خاصرته ، ثم فاح منه زفيرا حارا كاد يحرقهما ، وقال :
ــ إني موافق وأمري الى الله وليقدم ما فيه الخير !
فرح الشاب كثيراً بهذه الموافقة وقبّل رأس العم ثم قال :
ــ عندما تصل الى البيت ، إبدأ العمل فوراً وانتزع موافقة عائلتك وانجز ما اتفقنا عليه ، وسأتصل بك غداً مساءا بالهاتف ،وابلغك الخطوة التالية التي ستكون مفاجأة سارة جدا لك ولعيالك وتمثل نقلة نوعية في حياتكم ، شريطة ان تكون قد انجزت الخطوة التي قبلها .
ــ إطمئن .
ــ سأكون عند حسن ظنك انشاء الله .
ــ حسناً وداعاً وأنا تواق لرؤياك ولقائك ثانية !
انهمرت دمعة من عين العجوز غطت تجاعيد وجهه ، ثم ودعه قائلا :
ــ وداعاً يا ولدي وسأنتظر اتصالك غداً على أحر من لهيب النار !
ــ صعد العجوز سيارة الأجرة ) التاكسي (التي أخذت تشق طريقها في الظلام ، فيما راح الشاب يتباعد بخطوات سريعة .