لجريدة عمان:
2024-11-24@09:23:54 GMT

كتاب الدعائم.. فاتحة كتب النظم العلمي

تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT

كتاب الدعائم.. فاتحة كتب النظم العلمي

اشتهر الفقهاء العمانيون بالنظم العلمي، وهو نظم الفنون العلمية في قالب الشعر، وترجع بدايات النظم العلمي إلى القرن الثالث الهجري، إذ نُقِلت آثار منظومة لأبي جابر محمد بن جعفر الإزكوي، وأبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي، وثمة منظومات لعلماء من القرن الرابع الهجري منها منظومة لمحمد بن روح بن عربي (حي:320هـ)، وأخرى لأبي سعيد محمد بن سعيد الكُدَمي (حي:361هـ)، ولم يقتصر النظم على علوم الشريعة الإسلامية بل نظم العمانيون في اللغة والتاريخ والطب والفلك والكيمياء وغيرها.

غير أن النظم العلمي قد ارتقى إلى التأليف الشامل لأبواب التوحيد والفقه أول مرة بظهور كتاب (الدعائم) لأبي بكر أحمد بن النضر السمائلي (ق5هـ)، ذلك لأن الكتاب جاء مبوبا في منظومات متعددة ببحور شعرية مختلفة بدأت بالاعتقاد ثم الفقه. وقد اشتهر كتاب الدعائم واعتنى به أهل عمان حتى أنه يُعَدُّ من بين أكثر الكتب العمانية من حيث عدد النُّسَخ المخطوطة، كما تغنى العمانيون بمنظوماته وحفظوها وقُرِئت في مجالسهم. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى ما نقله العالم المغربي أبو القاسم البرادي (ت: نحو810هـ) عن أحد أهل عمان في زمانه بأن عدد منظومات كتاب الدعائم واحد وأربعون منظومة، بينما الموجود الآن في الكتاب المتداول ثمان وعشرون. على أن الكتاب قد حظي بعناية واسعة فتعددت شروحه المشرقية والمغربية، ولعل أبرزها شرح محمد بن وصاف النزوي (ق6هـ) المسمى (الحل والإصابة)

وبمنأى عن الجدل الدائر حول زمان ابن النضر ومعاصريه وحقيقة ترجمته التي ظهرت في أول طبعة له في القرن الرابع عشر الهجري، فإن المتأمل في منظومات الدعائم يتلمس نَفَس الشاعر والفقيه في آن واحد، إذ تفتقت شاعرية ابن النظر عن براعة استهلال وجزالة ألفاظ وعبارات في غالب منظومات الكتاب، حتى أنها أُطلِق عليها (منظومات) تارة و(قصائد) تارة أخرى. ولعل بعض منظومات الدعائم حفظ منها بعض العامة الاستهلالات التي يشبه بعضها المقدمات الطللية التي يتغنى فيها الشاعر بالأطلال والدمن، أو يستهل بغزل رمزي، أو بالتوجع والشوق، وفي المقابل استهل ابن النظر في جملة من منظوماته بالوعظ أو بالحكمة مباشرة دون التقديم بأغراض أخرى. ومن أكثر المنظومات ترديدا في مجالس الأدب منظومته الأولى في التوحيد ومطلعها:

تأوبني داء دخيلٌ فلم أَنَمْ وبِتُّ سميرًا للهموم وللهِمَمْ

وما بيَ عشقٌ للذين تحملوا ولا جزع من بينهم لا ولا سقمْ

كما أن من جاء من بعده من الفقهاء استشهدوا كثيرًا بأبيات منظوماته ومنها هذه المنظومة، بل إن بعض أبيات الدعائم يُستَشهد بها كما يُستشهَد بأمثال العرب وشعرهم في الحكمة، ومن بين الشواهد من تلك المنظومة مثلا قوله:

فَلَم يَبْقَ منهم غير نشر حديثهم وما اكتسبوا من فعل مَحْمَدَة وذمّْ

وقد جاءت بعض منظومات الدعائم ببحور شعرية سهلة التناول خفيفة الأوزان كما هو الحال في منظومة الزكاة ووجوبها، ومطلعها:

ما هاجني رسم ولا مربعُ ولا شجاني طَلَلٌ بلقَعُ

ولا حمام الأيكِ راد الضحى على الأفانين إذا يسجعُ

ثم ما لبث أن تخلص إلى الموضوع فقال:

لكن شَجاني زمنٌ فادحٌ وحادث من خطبه أشنعُ

ومن زكاةٍ فرضها واجبٌ على أولي الأموال لِم تُمنعُ

ومع أنه تخلص إلى موضوع الزكاة لكنه صدّره بالوعظ وتذكير جامع المال بأنه سيتركه وبذكر الوعيد الذي جاء في مانع الزكاة، ثم انتهى إلى الموضوع ومسائله، وهكذا الشأن في عدد من المنظومات.

ومن طريف الاستهلال في شعر ابن النضر ما جاء في إحدى منظوماته من مديح لها في عبارات جزلة بديعة من الوافر يقول فيها:

أَتَتْكَ مطيعة غررُ القصيدِ تلوح كأنها سمط الفريدِ

يَهُشُّ السامعون لها إذا ما شداها ماهرٌ حسن النشيدِ

أرعتَ إليَّ سمعك مستفيدًا ولم تَكُ قبل ذاك بمستفيدِ

فخذها سهلةً تلهي وتنفي جوى البُرَحا عن الرجل الحريدِ

وتارة نرى ابن النضر قد استهلّ بعض المنظومات بالوعظ وحده، كما في منظومته من الوافر أيضًا، يقول في أولها:

أَفِقْ قبل التأوُّه والفهاقِ وقبل نشوب روحك في التَّراقِ

وقبل صبيحة ما من مساءٍ لطلعتها عليه ولا فَواقِ

وقبل وداع أهلك بافتراقٍ وشحط لا يؤول إلى تلاقِ

وهكذا جاءت أغلب منظومات كتاب الدعائم ببدائع من المقدمات الشعرية المتعددة الأغراض، وقد تجلّت فيها براعة الاستهلال وحسن التخلص عند ابن النضر، بل إن بعضها يودُّ المطالِع المتذوق لو أنها طالت قبل أن يتخلص الشاعر إلى موضوعه، أو لو أن لابن النضر ديوان شعر آخر غير كتاب الدعائم الذي عُرِف أيضًا بـ«ديوان الدعائم»، ولعل بلاغة شعره جعلت منه ديوانًا كما هو كتاب في الفقه.

محمد بن عامر العيسري / باحث في التراث العماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: النظم العلمی محمد بن

إقرأ أيضاً:

القرصنة من العمل اللصوصي إلى التوظيف السياسي والحربي.. قراءة في كتاب

الكتاب: تاريخ القرصنة في العالم
الكاتب: ياتسيك ماخوفسكي، ترجمة أنور إبراهيم
الناشر: مؤسسة هنداوي عام 2022
عدد الصفحات:  278 صفحة

ـ 1 ـ


يعود الكاتب ياتسيك ماخوفسكي في أثره " تاريخ القرصنة في العالم" إلى أزمنة الإغريق والرومان والقرطاجنيين في حوض البحر الأبيض المتوسط ما قبل الميلاد. فيعرض بداية ظهور أعمال القرصنة. ثم يتدرج  من القرون الوسطى  إلى العصور الوسطى والحديثة في البحر الكاريبي  وبحار أمريكا الشمالية والمحيط الهادي وبحار الجنوب. ويبحث في مدى إسهام القراصنة في تشكيل التحالفات بين الدّول بعد أن أصبحوا يشكلون جيوشا غير نظامية. ويحاول من وراء ذلك أن يسد فراغا في المكتبة الروسية، اللغة الأصلية للكتاب، وفق مؤلفه. فيردّ نشأة هذه الظاهرة إلى الفينيقيين أولا ثم لجأ إليها الإغريق لاحقا، خاصّة قبائلهم المقيمة على السواحل. وإليها يرد الفضل في ظهور الملاحة البحرية.

ـ 2 ـ

ورغم قيام القرصنة على النهب والاستيلاء على أملاك الغير، عدّت عند الإغريق حرفةً رفيعة المنزلة. فتغنوا بها في ملاحمهم. فأخيل بطل حرب طروادة مثلا، يعترف بفخر في الإلياذة بأنَّه احترف القرصنة. أما بوليكراتس طاغية ساموس في أواخر القرن السادس ق م، الذي اشتهر بإحسانه للمواطنين الفقراء، ورعايته للفنون والعلوم وتقريب أبرز الشعراء والمعماريين والأطباء إليه، فقد بنى مجده من القرصنة ومن سيطرة أسطوله الضخم على بحر إيجه. وبعد أن استولى على ساموس بمساعدة إخويه، قتل أولهما (بانتاجنوت)، ونفى أخاه الآخر (سيلوزدن)، ليستأثر بالسلطة كلّها وليضاعف ثرواته من الإتاوات الضخمة التي كان يفرضها على قباطنة السفن.

تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية يمكن للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة وينتهي إلى نتائج جديدةيفسر الباحث تحويل الإغريق للقرصنة إلى قيمة ايجابية، رغم ثقافتهم الروحية الرفيعة إلى فقرهم المادي مقارنة بجيرانهم الفينيقيين. "وهكذا فكلما سار تطور التجارة إلى الأفضل بالنسبة للفينيقيين، وازدادت الثروات المنقولة على مراكبهم، اشتدت عملية السطو في بحر إيجه" وكان على الفينيقيين أن يدفعوا الأموال للصوص البحر في هيئة فدية وتعويضات سخية.

ـ 3 ـ

أصبح القراصنة لاحقا من القوة والتنظيم ما خوّل لهم إنشاء دويلات ومكّنهم من عقد الاتفاقيات مع الدّول الكبيرة. وكانوا يعوّلون على الهجومات المباغتة ليلا بعد أعمال تجسس دقيقة فيسرقون الحلي الثمينة والمشغولات الفضية والذهبية، وينهبون المعابد ويختطفون النساء والأطفال، لبيعهم بأسعارٍ باهظة في أسواق الرقيق المنتشرة في بلدان البحر الأبيض المتوسط. أو يحاصرون الجزر، ويجبرون السكان على دفع الإتاوات، وإبَّان رسو مراكبهم على الشواطئ يتحوّلون إلى قطاَع  طرق.

وعلى خلاف الإغريق كان الرومان أكثر صرامة مع القراصنة. يذكر الكاتب وفق سرد أدبي بيّن، تعرض يوليوس قيصر، الجنرال والقائد السياسي والكاتب الروماني وقائد الجيوش الرومانية في حروب الغال الأهلیة، لهجوم القراصنة لما نفاه لوسيوس كورنيليوس سولا القائد والديكتاتور (138 ق.م-78 ق.م) من روما، وانتقامه لاحقا بإعدام ثلاثمائة وخمسين منهم وصلب ثلاثين من قادتهم. وهذا ما خلّص شعوب البحر الأبيض المتوسط من خطرهم لزمن. ولكن بعد موته سنة 44 ق. م.  ستعود القرصنة من جديد. فقد كان بأسهم يشتدّ كلما كان الإمبراطور الجالس على العرش أضعف. واستمرّ الوضع حتى سقوط إمبراطوريتهم في القرن الخامس الميلادي.

ـ 4 ـ

لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر. فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم. فيقدّر أنهم  تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط بدءًا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها. فأمكن لحركة القرصنة هذه وفق الكاتب أن تستولي على معظم الموانئ الكبرى في شمال أفريقيا، شأن مواني طرابلس وتونس والجزائر. فمارسوا النهب البحري على نطاق واسع. ويردّ سطوتهم إلى إبرام محمد بن الحسن آخر حكام الدولة الحفصية،  معاهدة مع الأخوين بارباروس، فقد خوّل لهما الهيمنة على جزيرة جربة مقابل مبلغ من المال وقدر دائم من الغنائم.

ينتهي الكاتب إلى أن قراصنة البربر القادمين من جزيرة جربة كان، [يحدوهم الإحساس بارتباطهم الديني والاقتصادي بالأتراك، بالوقوف ضد أعدائهم مُغيرين على السواحل الجنوبية لكلٍّ من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، حيث كانوا يُعملون النهب في الموانئ المحلية الغنية، ويأسرون الآلاف من السكان. كان الأغنياء منهم يدفعون فديةً ضخمة، بينما كان الفقراء يبقون ليرزحوا في أغلال العبودية.

على هذا النحو تعاظمت القدرة الاقتصادية والسياسية للقراصنة البربر، وما هي إلا سنوات معدودة، حتى استولوا تقريبًا على الساحل الشمالي المطلِّ على البحر الأبيض المتوسط]. ويصف تنصيب عروج (1447- 1516) لنفسه سلطانًا على الجزائر باسم بارباروس الأول بظهور أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا. ورغم انتباهه إلى الصلات العميقة بين ازدهار عمل القرصنة في المتوسط ومحاولة الأسبان التوسع شرقا على حساب بلدان شمال أفريقيا.

ـ 5 ـ

يختتم الأثر بالبحث في القرصنة في العصر الحديث. فيؤكد تراجعها مع انتهاء القرن التاسع عشر، وعدم تمثيلها  خطرًا حقيقيًّا على الملاحة البحرية، مستثنيا بعض أعمال النهب البحري الفردية خاصةً في البحر الأحمر وفي البحار المتاخمة للصين. ومع ذلك يعرض تحول القرصنة في عشرينات القرن الماضي ثلاثيناته أشكالًا منظمة تجعلها شبيهة بالمؤسسات الرأسمالية، ممثلة في هيكل يستأجر بعض المرتزقة الذين يتولون  البحث عن الأهداف المفترض.

وفي فترة الحربين العالميتين وما بينهما، ظهرت قرصنة من نوع جديد. فقد قصف الألمان السفينة ـ المستشفى الإنجليزية "ليندوفيري كاسل" بقذائف الطوربيد قرب شواطئ أيرلندا، رغم بروز الإشارات التي تكشف طابعها السلمي،  ثم لاحقوا قوارب النجاة التي لجأ إليها الضحايا لطمس جريمتهم. وظهرت أعمال إجرامية تنفذها الأساطيل البحرية ضد السفن التجارية التابعة للدول المحايدة. وتعرضت السفينتان السوفيتيتان "تميريازيف" و"بلاجوييف"، اللتان كانتا تبحران عبر البحر المتوسط إلى  هجمات لم يتم تبنيها من قبل أي طرف. ولكن السوفييت احتجوا لدي  ايطاليا الفاشية واتهموها بالضلوع في الهجوم رفقة القوات الألمانية.

بالمقابل، قادت الدول البحرية الكبرى الجهود منذ نهاية القرن التاسع عشر وفي غير سياق الحرب، عمليات مشتركة، بهدف القضاء التام على النهب البحري. وتم ذلك وفق الباحث نتيجة للانتقال من الاقتصاد الإقطاعي إلى الاقتصاد الرأسمالي. فعندها بات ينظر إلى القراصنة باعتبارهم أفرادا خارجين على القانون. فصيغت مبادئ عامة، وقواعد قانونية، تدين القرصنة، وتحمي مبدأ حرية التجارة. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تقدّر عند العمل على وضع تشريع القانون الدولي في عام 1962 "أن القرصنة بهذا الشكل الذي يُعنى به القانون الدولي لم يعُد لها وجود تقريبًا؛ ولهذا فإن دراسة هذه المشكلة من وجهة نظر ضرورة معالجتها من خلال اتفاقية دولية، ليس لها في الوقت الحالي مغزًى كبيرٌ."

ولكن لم يتم القضاء عليها قضاء نهائيًّا، فبعض الأعمال لا تزال تجد اليوم هنا أو هناك. وفضلا عن ذلك ظهرت قرصنة جديد ة تُمارس بإيعازٍ من بعض الدول، فتصادر سفن بعض الدّول بطريقة  غير القانونية ويتم الاستيلاء على حمولتها أو إغراقها في عرض البحر بتعلة مقاومة الإرهاب أو منع الدول المحاصرة من توريد السلع أو تصديرها. وهذا ما جعل فُقهاء القانون يعيدون تعريف القرصنة  فيؤكدون أنها تشمل كل الأعمال الإجرامية التي تهدد أمن الملاحة البحرية.

ـ 6 ـ

يعرض الكتاب تاريخ القرصنة في بقاع مختلفة من العالم على مدار تاريخ البشرية إذن. ولكن يعنينا منه خاصّة ما تعلّق بـ"ـقراصنة البربر". فقد بدا ملمّا بطبيعة الصدام بين الدولة العثمانية والأسبان غير المباشر في حوض المتوسط منذ بدايات حرب الاسترداد التي أفضت إلى سقوط الأندلس وشبه الجزيرة الإيبيرية مدركا أنّ قراصنة شمال أفريقيا كانوا يمثلون قوات غير نظامية تعمل على السيطرة على البحر الأبيض المتوسط وأنّ معظم عناصرها هم من أحفاد المسلمين الذين طردوا من إسبانيا، آخذا للبعد الديني لهذه المعارك بعين الاعتبار. فما كان يجدّ من الصدام هو في الأصل "حرب ضد قوات الهلال تحت القيادة الروحية للبابا" ممثل المعسكر المسيحي.

لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر. فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم. فيقدّر أنهم تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط بدءًا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها.ولكنه مع ذلك ينتهي إلى استنتاجات متسرعة غير منسجمة مع هذا التمشي التحليلي.  فالأسبان، عنده، اتجهوا إلى جربة ثم إلى الجزائر لا لبسط نفوذهم على العالم الإسلامي ضمن خططهم التوسعية وإنما " لما أصابهم الذعر من جراء النهب البحري الذي استشرى في البحر الأبيض المتوسط - بتنظيم حملة مسلحة شقَّت طريقها نحو شمال أفريقيا، واستهدفت القضاء على أوكار القرصنة فيه، على أنَّ التوفيق لم يحالفها في تدمير جربة، فيممت إلى الجزائر". والجزائر عنده تمثل "أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا".

ورغم إقراره بأن" المغاربة يقدرون أصحاب الحَرف والفنانين والأطباء تقديرا رفيعا، وكانوا كثيرا ما يُعيدون العبيد إلى حريتهم، وقد اختلط الكثير من هؤلاء بالسكان، وتزوجوا منهم، واعتنق بعضهم الإسلام، وارتدوا العمائم، وذهبوا للعمل كقراصنة"، فإنه لا يفهم من ذلك أنّ المسلمين كانوا يحسنون إلى الأسرى من منطلق قيمهم الدينية. فيرى أنهم يعاملونهم "في الغالب ببساطة كما يعاملون الماشية، معتبرين أنهم كلما أحسنوا تغذيتهم ومعاملتهم، كان هؤلاء أكثر إنتاجيةً لهم في العمل. كان هؤلاء المسلمون يتميزون كثيرا عن المسيحيين الذين كانوا يعاملون عبيدهم من المسلمين معاملتهم للمرتدين، أما ما كان يعنيه هذا الأمر إبان عصر التفتيش؛ فالأمر لا يحتاج إلى تفسير". فيؤكد ظاهرة تلازم  أغلب الغربيين كلّما فكروا في الحضارة العربية الإسلامية، هي عدم بذل الجهد لفهمها والاكتفاء برؤية تبسيطية متعالية.

ـ 7 ـ

تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية يمكن للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة وينتهي إلى نتائج جديدة، ومن هنا مأتى أهمية هذا الكتاب. ولكن للأسف غلب على الأثر الطابع التجميعي من المراجع المختلفة دون تحقيق وساد سرد التفاصيل بإسهاب أقرب إلى التخييل الأدبي منه إلى النقل التاريخي الرصين المتوخي للدّقة. فكان شديد الحساسية للمراجع التي يستند إليها. فتأثر بالملاحم بجلاء في حديثه عن القرصنة عند الإغريق قبل الميلاد. وتأثر بوجهة النظر المسيحية والاسبانية خاصّة عند الحديث عن قراصنة القرون الوسطى ثم تأثر بوجهة النظر السوفييتية عند عرض القرصنة الحربية في عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته.

مقالات مشابهة

  • إعادة كتاب بعد نصف قرن
  • من البيت الابيض إلى قادة العراق.. رسالة بشأن استهداف بغداد
  • من البيت الابيض إلى قادة العراق.. رسالة بشأن استهداف بغداد - عاجل
  • بعد تهديدات إسرائيلية.. رسالة برلمانية عاجلة للحكومة بشأن تأمين الأجواء
  • بعد تهديدات إسرائيلية.. رسالة برلمانية عاجلة للحكومة بشأن تأمين الأجواء - عاجل
  • القرصنة من العمل اللصوصي إلى التوظيف السياسي والحربي.. قراءة في كتاب
  • COP29 .. الإمارات تكشف عن استراتيجية 2031 لتحالف القرم من أجل المناخ
  • آمنة الضحاك تكشف النقاب عن استراتيجية 2031 لتحالف القرم من أجل المناخ
  • آمنة الضحاك تكشف النقاب عن استراتيجية 2031 لتحالف القرم من أجل المناخ في مؤتمر الأطراف COP29
  • أكاديمية البحث العلمي تطلق النسخة الثالثة من كتاب «التكنولوجيا الخضراء»