لجريدة عمان:
2025-03-04@11:15:44 GMT

حضارات مجهولة تتوارى تحت ركام الحجر

تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT

حضارات مجهولة تتوارى تحت ركام الحجر

لا تنبت الأرض إلا بعد الحَرْث، ولا تنكشف الدفائن المطمورة إلا بعد أن تُزاح عنها أكداس التراب والرمال والحجارة، ففي الأرض عروق لحضارات مجهولة، تغوص في عمق الأرض، مندفنة بكل حمولاتها، بذاكرتها وذكرياتها، بترابها الذي وطأته الأقدام، حتى لا يبقى للأقدام أثر، بحصبائها حتى لا يتناثر العقيق، بكل ما تخبئه الأرض مما استعمله الإنسان، وحين يموت تموت أشياء كثيرة معه، وتتبعه مقتنياته وأدواته وأحلامه ولو بعد حين، ويبقى بعضها تذكِّر به، وقد لا يبقى شيئًا.

تحت الأرض، قريبًا من متناول أيادينا، وليس بعيدًا عن خطو أقدامنا، هناك تندفن شواهد لحضارات قديمة مجهولة، لا أحد يعرف عنها شيئًا، وليس مهمًّا أن نعرف عنها شيئًا، ولا تهم أحدًا، ولو عرفنا بها أو لم نعرف فالأمر سيَّان؛ لأنها أصبحت منطوية تحت الركام، وبعْثُها من تحت التراب اجترار الذكريات، نكتب عنها رثاءً، وتنبض أقلامنا بحبها؛ لأنها جزء من ذاكرة الأوائل، وكم مررنا بركام من التراب والرمال والحجارة، ولا نعرف أنه قبر مجهول لحضارة إنسانية غائبة، دفنتها الحياة ذات يوم، حتى غدت أطلالا أشبه بالأحلام.

في «قلهات» اللؤلؤة: ما كان أحد يتصور، ولا يخطر على بال، أن أسفل الأرض المطمورة بالتراب والحجارة، يتوارى جامعها الفخم الذي أحرقه البوكيرك عام 1508م، وبقي تحت الأرض خمسة قرون، يلامس البحر بمحرابه ومئذنته وأعمدته، ولم يتأمل أحد وصف «ابن بطوطة» له حين زار قلهات عام: 1331م، في كتابه «تحفة النظار»: (بها مسجد من أحسن المساجد، حيطانه من «القاشاني»، وهو شبه «الزلِّيج» -الطلاء- وهو مرتفع ينظر منه إلى البحر والمرسى)، الوصف يقول: إنه أكثر قربًا من البحر، وبقيت أعمدة الجامع تحت التراب خمسة قرون، حتى جاءت سيارة لفريق استكشافي فرنسي عام 2013م، فأرسلوا وارِدَهم لبئر تاريخ قلهات المجهول، وبعد دراسة وتنقيب قالوا: يا بشرى هنا موقع الجامع المذكور، والذي تباهى «البوكيرك» بحرقه وهدمه، وهذا الركام من الحجر يندفن أسفله محراب الجامع ومئذنته وأعمدته، أما فخامة الجامع فلا نتصورها كثيرًا من وصف ابن بطوطة له، حتى نُشِرت مذكرات البوكيرك، وورد فيها هذا الوصف الشعري للجامع: (وكان مبنى كبيرًا جدًا، به سبعة أروقة، تحفها ألواح مربَّعة، وثبِّتت على جدرانه كثير من أشغال الخزف، وعند مدخل بوابته رواق كبير مقنطر، وفوقه شرفة تطل على البحر).

الأرض تضم الكثير من الدفائن، وتحت الأرض حضارات مطمورة، قد تظهر يومًا فتعيد كتابة تاريخ المكان، ويستعيد أهميته، كما استعادت قلهات عام 2018م أهميتها ومكانتها، التي أصبحت باعتراف منظمة «اليونسكو» الموقع العماني الخامس في قائمة التراث العالمي الإنساني، وبعد الحفر والتنقيب انكشف تراث المكان، وعادت للأذهان صورة الجامع الكبير، الذي كان يطلُّ بمئذنته على البحر، ويلوِّح للقادمين من البحر كأنه فنار في منارة عالية، مؤذنا لهم بالسَّلام والاطمئنان، فهنا «قلهات»، الميناء التجاري العريق، الذي كانت تنطلق منه السفن التجارية باتجاه أعماق البحر، إلى مدن العالم البعيد حتى الصين.

في «بهلا» الساحرة: ركام من الحجر يلامس الطريق المؤدي إلى مدخل المدينة، أسنَّة حجرية ظهرت كأسس دائرية لموقع قديم، قال المستكشفون: إنه موقع يعود إلى إحدى ألفيات ما قبل الميلاد، وأنا لا أستبعد ذلك؛ فالحياة في كوكبنا القروي الصَّغير كانت أبعد من خيال المؤرخين والمستكشفين، لذلك أخذت طريقي إليه، ووقفت عند أكوام الحجارة تلك، فلامستها بحنان يدي، وكأني أمسح التراب عن وجه أحد الأجداد، ظهر فجأة بعد غياب طويل، يا للتاريخ العميق الذي انغرس في هذا المكان، وتوارى بتُرابه وتِبْره، وكل ما يحمله ويحويه، هنا قبر المكان الكائن، الأسس الحجرية ظهرت أشبه بأسنان عجوز نخرها سوس العمر، وبقيت أشجار السُّمر الخضراء نديمة الموقع الأثري، وحارسه الأمين.

يعد هذا الموقع بحسب تقارير البعثات الأثرية من أقدم المواقع في بهلا، ولكنه مجرد افتراض؛ لأن الموقع المكتشف أكوام من الحجارة، وهذه الجبال التي تحفه من اتجاهات مختلفة هي الأخرى أكوام، في سفوحها الموحشة محفوظات من القرون الأولى، من يدري.

في «سلوت» العظيمة: وكنت قد زرت الموقع منتصف التسعينيات الماضية، بصحبة الدكتور معاوية إبراهيم، الذي عمل في جامعة السلطان قابوس، مؤسسا لقسم الآثار فيها، وبرفقة مجموعة من الأصدقاء، وجدنا موقع سلُّوت أشبه بركام هائل من الرَّمل والحجارة، ولا يمكن تصوّر الخراب الذي كان عليه، موقع غامض لا نعرف عنه شيئا، سوى أساطير نسجها حوله المؤرِّخون، ولكن الأساطير لا تُفرَض فرْضًا، بل تتخلَّق في رحم يليق بها، والحقيقة أن موقع «سلوت» موحٍ جدا لكل ما يقال عنه؛ تاريخ غامض وغير معروف، طوته الأيام، ولفحته الرِّياح بالتراب، وبنت طيور التاريخ عليه أعشاشا، ونسج عنكبوت الزمان عليه شبكات من البيوت، فواراه عن العيون، حتى انكشف أخيرًا، وتم ترميم أجزاء منه، فظهر الحصن في أعلى قمة السَّفح، وظهرت الجدران الحجرية، وكشفت المعثورات النحاسية والحجرية والفخارية تاريخه العميق، وأنه إحدى لبنات الحضارة العُمانية، التي كانت متوارية تحت الرُّكام.

في «أدم» الجميلة: بين تلال الجبال، في صحراء تعيش فيها الظباء والأرانب، وترعى الإبل أشجارها الظليلة، ظهرت هناك حضارة قديمة، يعرفها المستكشفون باسم: «المضمار»، وفيه تم الكشف عن موقع مليء بتماثيل لثعابين جميلة تلسع القلب بمحبتها، ثعابين مسبوكة من معدن البرونز، وآلاف من رؤوس الرماح والأشكال الخزفية والفخارية وغيرها.

في رحلة صحفية، ذهبت إلى زيارة الموقع قبل سنوات، كنت أتحدث مع زملائي أننا ذاهبون إلى رحلة خارج الزمان، فبدت الجبال ضاحكة، وكأنها تستقبل مجيئنا بلطف وأناقة، وانكشف المكان عن حجارة مصفوفة بانتظام، وجدران حجرية كانت مطمورة تحت التراب، وبينها طلاب فرنسيون من جامعة السوربون، بذلوا جهدا في الكشف عنها، وكانت المفاجأة لهم أن الموقع مليء باللقى ورؤوس السهام، والمعبودات الصغيرة من الثعابين، أما بالنسبة لي فهناك مفاجأة أذهلتني، إذ كيف بهؤلاء الطلاب أن يتركوا باريس ويأتوا إلى هذا السيح المقفر، للكشف عن موقع مجهول، كمن يحفر قبورًا قديمة لمحاربين مجهولين، ما هذا الشغف الكبير بالكشف عن الآثار؟

حين خرجنا من الموقع بعد تصوير وتأمل وزيارة، لاحت لي الجبال بصورة أخرى، وكأنها تفضي بحديث هامس، أن في سفوحها الكثير من الكنوز، بحاجة إلى كشف وإماطة التراب عنها، فمتى يأتي ابن البلد للبحث عن تراث آبائه وحضارات أجداده المليئة بالكنوز!

في «منح»، منحة الحياة: تظهر في الجبل أعشاش حجرية، وقبور قديمة لإنسان ما قبل التاريخ، ورغم الأمطار، وتزحزح الحجر، والهزات العنيفة التي يتعرّض لها، وهو يمتخض ضحكا على الحياة، ما تزال تلك الأبراج الصغيرة باقية، بأسسها المستديرة، كعيون مفتوحة على المدى الأجدب، تتماسك كل حجرة بأخرى، هنا حضارة مجهولة، لا نعرف عنها شيئا، لا نعرف عن إنسان ذلك الزمان، كيف يعيش؟، ولماذا دفن موتاه في هذا السفح العالي؟!

وحيثما نولي بوجوهنا شطر الأرض العمانية، تظهر الكثير من الإشارات على الكنوز الدفينة لآثار الأولين، لقد رحل الأولون، وتركوا آثارهم وأدواتهم التي كانت عزيزة عليهم في حياتهم، وقد يضيع بعضها تحت الأرض، لتخرج يوما ما، لُقْيَة قيِّمَة لا تقدَّر بثمن، وكم عثر الباحثون على الآلاف منها، مطمورة تحت الأرض، تفصح عن حياة من سبقنا إلى هذه الحياة، ونثر لآلئ أحلامه في تراب الأرض، والحديث عن دفائن الحضارات القديمة لا ينتهي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تحت الأرض لا نعرف نعرف عن

إقرأ أيضاً:

بالفيديو.. عيترون الجنوبية تودع شهداءها بين ركام الحرب

جنوب لبنان- من داخل مقبرة عيترون، وقفت الحاجة أكرم منصور تحتضن صورة ابنها الشهيد حسين عواضة، الذي ظل جسده 40 يوما على الأرض قبل أن يُوارى الثرى.

بعينين مغرورقتين بالدموع وحزن ظاهر، نعت فلذة كبدها بصوت متهدج تخنقه العبرات، واستذكرت شبابه وأحلامه التي خبت قبل أوانها، ووصفته بالبطل.

وقفت الأم عاجزة أمام الوجع، وفي حديثها للجزيرة نت، لم تُخفِ الحسرة على الثمن الباهظ الذي دفعه الشباب بدمائهم، مؤكدة أن العودة إلى عيترون اليوم ما كانت لتتحقق لولا تضحيات الشهداء.

وعلى كرسيها المتحرك، تجلس خديجة السيد وتحمل في عينيها وجعا تعجز الكلمات عن وصفه، لم يكن هذا حالها دائما، لكن قذائف الاحتلال الإسرائيلي قلبت حياتها رأسا على عقب في بلدة عيترون، حيث كانت تعيش بأمان مع بناتها الخمس، قبل أن يسقط صاروخ غادر على منزلها، ويتركها بجراح لا تلتئم جسديا ولا نفسيا.

بصوت يختلط فيه الغضب بالحزن تقول للجزيرة نت "تعرضت للقصف أنا وبناتي الخمس، إسرائيل دولة عدوانية لا تستقوي إلا علينا".

لم تكن خديجة وحدها من دفع الثمن، فقد ودّعت عائلتها 5 شهداء، وفقدت إخوتها الذين سقطوا تحت نيران الاحتلال. ورغم الألم توجه رسالة لا تعرف الانكسار "وراء هؤلاء الشهداء الخمسة، هناك 50 شخصا سيأخذون بثأرهم".

بلدة عيترون شيعت 104 شهداء سقطوا خلال العدوان الإسرائيلي الأخير (الجزيرة) تكريم وتضامن

بالدموع والورود، ودعت بلدة عيترون الواقعة في قضاء بنت جبيل، الجمعة، 104 شهداء وشهيدات من أبنائها في موكب جنائزي مهيب جسد فداحة الخسارة.

إعلان

ونقلت الجثامين من مدافن "الوديعة" إلى مقبرة جماعية خصصت لشهداء العدوان الإسرائيلي الأخير الذي أسفر عن سقوط 123 شهيدا، وهو العدد الأكبر بين بلدات وقرى الجنوب اللبناني.

ومع ساعات الصباح الأولى، جمعت الجثامين في مقام النبي ساري في عدلون حيث انطلقت قافلة الشهداء موحدة باتجاه بلدة عيترون، وخلال مرور الموكب في عدد من البلدات الجنوبية أقيمت نقاط تكريمية لتقديم التحية الأخيرة لهؤلاء الشهداء.

ووفق ما أعلنت منصة "عيترون الإعلامية" فقد بلغ عدد الشهداء 78 مقاتلا من حزب الله، إضافة إلى 45 شهيدا مدنيا، بينهم 11 طفلا و20 امرأة، فضلا عن وجود عدد من المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم بعد.

وتعد عيترون الواقعة عند الحدود الجنوبية للبنان، من أكثر البلدات اللبنانية التي دفعت ثمنا باهظا في هذا العدوان، حيث شهدت أكبر حصيلة من الشهداء مقارنة بغيرها من قرى الجنوب.

ولم يقتصر تشييع شهداء بلدة عيترون على أهلها فقط، بل توافد عليها أبناء البلدات المجاورة والبعيدة ليشاركوا في موكب تشييع مهيب، تعبيرا عن تضامنهم مع أبناء البلدة.

وفي هذا السياق، قال غسان حجازي للجزيرة نت "لا تربطنا علاقة قرابة مع الشهداء لكنهم جميعا أبناء لنا، لقد دفعنا جميعا ثمنا باهظا بالدماء من أجل العودة إلى بلداتنا الجنوبية".

وأضاف "نحن في خندق واحد، وقد واجهنا العدو الإسرائيلي بكل شجاعة، واليوم نرفع رؤوسنا بفخر واعتزاز بشهدائنا الذين قدموا أرواحهم فداء لأرضنا".

بلدة عيترون سجلت 123 شهيدا خلال العدوان الإسرائيلي بالإضافة إلى مفقودين (الجزيرة) حجم الخسائر

يقول رئيس بلدية عيترون الجنوبية سليم مراد "بلدة عيترون، بلدة الشهداء، قدمت أغلى التضحيات حيث بلغ عدد شهدائها نحو 123 شهيدا، ونودّع اليوم 104 منهم على طريق الحرية".

ويضيف في حديثه للجزيرة نت "نحن نودّع شهداءنا اليوم وكلنا يقين بأن خيارنا هو المقاومة، فهذه الأرض لا تنحني بفضل تضحيات أبنائها ودمائهم الطاهرة، سنزرع أجسادهم ودماءهم لتزهر انتصارا حاضرا ومستقبليا وسنحمي أرضنا بدمائنا وشموخنا".

إعلان

ويشير رئيس البلدية إلى أن بلدة عيترون تعرضت للقصف والدمار الشديد، مما أدى إلى تدمير البنى التحتية والمنازل والممتلكات لتصبح شاهدة على إجرام العدو.

ويوضح أن الأضرار العامة في البلدة تتراوح بين 60% و65%، إضافة إلى الانهيار الكامل للحركة الاقتصادية. ويستدرك أن الدماء التي سالت تبقى هي الأثمن".

الجرافات الإسرائيلية توغلت في البلدة ودمرت العديد من المنازل التاريخية (الجزيرة)

وخلف العدوان الإسرائيلي دمارا واسعا في الأحياء القديمة، حيث توغلت الجرافات الإسرائيلية داخل البلدة، ودمرت عددا كبيرا من المنازل التاريخية التي يعود عمرها لعقود طويلة. وكانت غالبية البيوت مشيدة بحجارة صخرية صلبة تجسد تاريخ البلدة وإرثها العمراني.

وامتد الدمار ليصل ما يقارب ألف منزل من أصل آلاف المنازل المنتشرة في أرجاء البلدة، التي لا يزال جزء من محيطها محتلا حتى اليوم، ضمن 5 نقاط لا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي يحتفظ بها.

مقالات مشابهة

  • احذر أن تكون منهم.. 4 صفات للمنافقين كشف عنها القرآن
  • تحقيق : هكذا سيطرت كتائب القسام على موقع ناحل عوز
  • تونس.. مقتل طفلة أول أيام رمضان يثير غضب الشارع
  • المشدد 10 سنوات للمتهم بالشروع فى قتل سيدة بالشرقية
  • دار الكتب والوثائق تطلق موقعًا إلكترونيًا لحملة المحبة والسلام بالتعاون مع مجلة سماء الأمير
  • إنطلاق العمليات التضامنية الخاصة بالكشافة الإسلامية في رمضان
  • غزة.. إفطار جماعي بين ركام المنازل المدمرة / شاهد
  • هذه مظاهر رمضان في غزة.. إفطار بين ركام المنازل المدمرة (شاهد)
  • بالفيديو.. عيترون الجنوبية تودع شهداءها بين ركام الحرب
  • غزة.. أول سحور جماعي بين ركام الإبادة في خان يونس