حضارات مجهولة تتوارى تحت ركام الحجر
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
لا تنبت الأرض إلا بعد الحَرْث، ولا تنكشف الدفائن المطمورة إلا بعد أن تُزاح عنها أكداس التراب والرمال والحجارة، ففي الأرض عروق لحضارات مجهولة، تغوص في عمق الأرض، مندفنة بكل حمولاتها، بذاكرتها وذكرياتها، بترابها الذي وطأته الأقدام، حتى لا يبقى للأقدام أثر، بحصبائها حتى لا يتناثر العقيق، بكل ما تخبئه الأرض مما استعمله الإنسان، وحين يموت تموت أشياء كثيرة معه، وتتبعه مقتنياته وأدواته وأحلامه ولو بعد حين، ويبقى بعضها تذكِّر به، وقد لا يبقى شيئًا.
تحت الأرض، قريبًا من متناول أيادينا، وليس بعيدًا عن خطو أقدامنا، هناك تندفن شواهد لحضارات قديمة مجهولة، لا أحد يعرف عنها شيئًا، وليس مهمًّا أن نعرف عنها شيئًا، ولا تهم أحدًا، ولو عرفنا بها أو لم نعرف فالأمر سيَّان؛ لأنها أصبحت منطوية تحت الركام، وبعْثُها من تحت التراب اجترار الذكريات، نكتب عنها رثاءً، وتنبض أقلامنا بحبها؛ لأنها جزء من ذاكرة الأوائل، وكم مررنا بركام من التراب والرمال والحجارة، ولا نعرف أنه قبر مجهول لحضارة إنسانية غائبة، دفنتها الحياة ذات يوم، حتى غدت أطلالا أشبه بالأحلام.
في «قلهات» اللؤلؤة: ما كان أحد يتصور، ولا يخطر على بال، أن أسفل الأرض المطمورة بالتراب والحجارة، يتوارى جامعها الفخم الذي أحرقه البوكيرك عام 1508م، وبقي تحت الأرض خمسة قرون، يلامس البحر بمحرابه ومئذنته وأعمدته، ولم يتأمل أحد وصف «ابن بطوطة» له حين زار قلهات عام: 1331م، في كتابه «تحفة النظار»: (بها مسجد من أحسن المساجد، حيطانه من «القاشاني»، وهو شبه «الزلِّيج» -الطلاء- وهو مرتفع ينظر منه إلى البحر والمرسى)، الوصف يقول: إنه أكثر قربًا من البحر، وبقيت أعمدة الجامع تحت التراب خمسة قرون، حتى جاءت سيارة لفريق استكشافي فرنسي عام 2013م، فأرسلوا وارِدَهم لبئر تاريخ قلهات المجهول، وبعد دراسة وتنقيب قالوا: يا بشرى هنا موقع الجامع المذكور، والذي تباهى «البوكيرك» بحرقه وهدمه، وهذا الركام من الحجر يندفن أسفله محراب الجامع ومئذنته وأعمدته، أما فخامة الجامع فلا نتصورها كثيرًا من وصف ابن بطوطة له، حتى نُشِرت مذكرات البوكيرك، وورد فيها هذا الوصف الشعري للجامع: (وكان مبنى كبيرًا جدًا، به سبعة أروقة، تحفها ألواح مربَّعة، وثبِّتت على جدرانه كثير من أشغال الخزف، وعند مدخل بوابته رواق كبير مقنطر، وفوقه شرفة تطل على البحر).
الأرض تضم الكثير من الدفائن، وتحت الأرض حضارات مطمورة، قد تظهر يومًا فتعيد كتابة تاريخ المكان، ويستعيد أهميته، كما استعادت قلهات عام 2018م أهميتها ومكانتها، التي أصبحت باعتراف منظمة «اليونسكو» الموقع العماني الخامس في قائمة التراث العالمي الإنساني، وبعد الحفر والتنقيب انكشف تراث المكان، وعادت للأذهان صورة الجامع الكبير، الذي كان يطلُّ بمئذنته على البحر، ويلوِّح للقادمين من البحر كأنه فنار في منارة عالية، مؤذنا لهم بالسَّلام والاطمئنان، فهنا «قلهات»، الميناء التجاري العريق، الذي كانت تنطلق منه السفن التجارية باتجاه أعماق البحر، إلى مدن العالم البعيد حتى الصين.
في «بهلا» الساحرة: ركام من الحجر يلامس الطريق المؤدي إلى مدخل المدينة، أسنَّة حجرية ظهرت كأسس دائرية لموقع قديم، قال المستكشفون: إنه موقع يعود إلى إحدى ألفيات ما قبل الميلاد، وأنا لا أستبعد ذلك؛ فالحياة في كوكبنا القروي الصَّغير كانت أبعد من خيال المؤرخين والمستكشفين، لذلك أخذت طريقي إليه، ووقفت عند أكوام الحجارة تلك، فلامستها بحنان يدي، وكأني أمسح التراب عن وجه أحد الأجداد، ظهر فجأة بعد غياب طويل، يا للتاريخ العميق الذي انغرس في هذا المكان، وتوارى بتُرابه وتِبْره، وكل ما يحمله ويحويه، هنا قبر المكان الكائن، الأسس الحجرية ظهرت أشبه بأسنان عجوز نخرها سوس العمر، وبقيت أشجار السُّمر الخضراء نديمة الموقع الأثري، وحارسه الأمين.
يعد هذا الموقع بحسب تقارير البعثات الأثرية من أقدم المواقع في بهلا، ولكنه مجرد افتراض؛ لأن الموقع المكتشف أكوام من الحجارة، وهذه الجبال التي تحفه من اتجاهات مختلفة هي الأخرى أكوام، في سفوحها الموحشة محفوظات من القرون الأولى، من يدري.
في «سلوت» العظيمة: وكنت قد زرت الموقع منتصف التسعينيات الماضية، بصحبة الدكتور معاوية إبراهيم، الذي عمل في جامعة السلطان قابوس، مؤسسا لقسم الآثار فيها، وبرفقة مجموعة من الأصدقاء، وجدنا موقع سلُّوت أشبه بركام هائل من الرَّمل والحجارة، ولا يمكن تصوّر الخراب الذي كان عليه، موقع غامض لا نعرف عنه شيئا، سوى أساطير نسجها حوله المؤرِّخون، ولكن الأساطير لا تُفرَض فرْضًا، بل تتخلَّق في رحم يليق بها، والحقيقة أن موقع «سلوت» موحٍ جدا لكل ما يقال عنه؛ تاريخ غامض وغير معروف، طوته الأيام، ولفحته الرِّياح بالتراب، وبنت طيور التاريخ عليه أعشاشا، ونسج عنكبوت الزمان عليه شبكات من البيوت، فواراه عن العيون، حتى انكشف أخيرًا، وتم ترميم أجزاء منه، فظهر الحصن في أعلى قمة السَّفح، وظهرت الجدران الحجرية، وكشفت المعثورات النحاسية والحجرية والفخارية تاريخه العميق، وأنه إحدى لبنات الحضارة العُمانية، التي كانت متوارية تحت الرُّكام.
في «أدم» الجميلة: بين تلال الجبال، في صحراء تعيش فيها الظباء والأرانب، وترعى الإبل أشجارها الظليلة، ظهرت هناك حضارة قديمة، يعرفها المستكشفون باسم: «المضمار»، وفيه تم الكشف عن موقع مليء بتماثيل لثعابين جميلة تلسع القلب بمحبتها، ثعابين مسبوكة من معدن البرونز، وآلاف من رؤوس الرماح والأشكال الخزفية والفخارية وغيرها.
في رحلة صحفية، ذهبت إلى زيارة الموقع قبل سنوات، كنت أتحدث مع زملائي أننا ذاهبون إلى رحلة خارج الزمان، فبدت الجبال ضاحكة، وكأنها تستقبل مجيئنا بلطف وأناقة، وانكشف المكان عن حجارة مصفوفة بانتظام، وجدران حجرية كانت مطمورة تحت التراب، وبينها طلاب فرنسيون من جامعة السوربون، بذلوا جهدا في الكشف عنها، وكانت المفاجأة لهم أن الموقع مليء باللقى ورؤوس السهام، والمعبودات الصغيرة من الثعابين، أما بالنسبة لي فهناك مفاجأة أذهلتني، إذ كيف بهؤلاء الطلاب أن يتركوا باريس ويأتوا إلى هذا السيح المقفر، للكشف عن موقع مجهول، كمن يحفر قبورًا قديمة لمحاربين مجهولين، ما هذا الشغف الكبير بالكشف عن الآثار؟
حين خرجنا من الموقع بعد تصوير وتأمل وزيارة، لاحت لي الجبال بصورة أخرى، وكأنها تفضي بحديث هامس، أن في سفوحها الكثير من الكنوز، بحاجة إلى كشف وإماطة التراب عنها، فمتى يأتي ابن البلد للبحث عن تراث آبائه وحضارات أجداده المليئة بالكنوز!
في «منح»، منحة الحياة: تظهر في الجبل أعشاش حجرية، وقبور قديمة لإنسان ما قبل التاريخ، ورغم الأمطار، وتزحزح الحجر، والهزات العنيفة التي يتعرّض لها، وهو يمتخض ضحكا على الحياة، ما تزال تلك الأبراج الصغيرة باقية، بأسسها المستديرة، كعيون مفتوحة على المدى الأجدب، تتماسك كل حجرة بأخرى، هنا حضارة مجهولة، لا نعرف عنها شيئا، لا نعرف عن إنسان ذلك الزمان، كيف يعيش؟، ولماذا دفن موتاه في هذا السفح العالي؟!
وحيثما نولي بوجوهنا شطر الأرض العمانية، تظهر الكثير من الإشارات على الكنوز الدفينة لآثار الأولين، لقد رحل الأولون، وتركوا آثارهم وأدواتهم التي كانت عزيزة عليهم في حياتهم، وقد يضيع بعضها تحت الأرض، لتخرج يوما ما، لُقْيَة قيِّمَة لا تقدَّر بثمن، وكم عثر الباحثون على الآلاف منها، مطمورة تحت الأرض، تفصح عن حياة من سبقنا إلى هذه الحياة، ونثر لآلئ أحلامه في تراب الأرض، والحديث عن دفائن الحضارات القديمة لا ينتهي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تحت الأرض لا نعرف نعرف عن
إقرأ أيضاً:
عبدالله علي ابراهيم ، لمن يكتب هذا الرجل ؟
د.فراج الشيخ الفزاري
أثارني المقال الذي كتبه الأستاذ /زهير أبوالزهراء
عن هذا الرجل تحت عنوان[ حينما ينقلب الماركسي علي الحداثة...]
وحفزني للعودة لمقال كنت قد دونته في وقت سابق ردا علي الدكتور عبدالله عندما ثأر وازبد وهو يرد علي مداخلتي عبر تقنية الزووم في حلقة من حلقات المنتدي العربي للفكر والحوار،ومقره برلين..وكانت المداخلة قريبة جدا مما أثاره الاستاذ أبوالزهراء...في مقاله المشار اليه ، ومدي الحيرة في فهم ما يكتب هذا الرجل حيث العبارات المتقعرة والصياغات المبهمة.. وهذا كوم..أما الكوم الأخطر فهو التيه والتوهان الفكري واللعب علي كل الحبال..ثم العودة لتمزيقها ونكران الانتماء إليها ..ربما توجسا من عواقب الالتزام..وهذا ما قصدته في مقالي المحجوب الذي اعيد بعضا من فقراته:
المقال كان تحت عنوان[عودة الوعي بعد سن السبعين]..وفيه بحث عن ظاهرة تخلي بعض الكتاب والمفكرين، وحتي الفلاسفة ورجال الدين، عن أفكارهم التي كرسوا طيلة حياتهم في الدفاع عنها..وعندما يتقدم بهم العمر يتخلون عنها بكل البساطة والمجانية بعد أن يكونوا قد ورطوا الآلاف من الناس خاصة الشباب بتلك الأفكار.
والظاهرة في حقيقتها..قديمة
وقد تناولها العديد من الكتاب نذكر منهم الكاتب الفرنسي جوليان بندا ، الذي سماها( ظاهرة خيانة المثقفين لأفكارهم)وادوارد سعيد...ومن
الفلاسفة الكبار،الذين تخلوا عن أفكارهم لعل أبرزهم الفيلسوف الألماني
مارتن هايدغر..الذي أصبح عضوا في الحزب النازي..ومن الفلاسفة والمفكرين الآخرين توماس هوبز وفواتير وديفيد هيوم
ونابليون بونابرت.
نعم من السهولة عند الكبر أو المرض أو الغرض أن تتنكر لأفكارك ..ولكن ليس من حقك أن تخضع المجتمع والأجيال الصاعدة واقناعها بالتخلص منها بهذه السهولة..فهنا تختلط الأمور وتختل الموازين
وتصبح القيم ومعان الالتزام في مهب الريح.
د.فراج الشيخ الفزاري