حكايات رمضانية: تكايا ومطابخ الخرطوم
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
منصور الصويم
“بعد تحويل المبلغ المالي، تتالت الاتصالات الهاتفية ومراسلات الواتساب على الأستاذ “ح, م”، أكثرها كان مداره الشكر والامتنان لابن الحي الذي لم ينس أهله وتبرع لهم بالمال في وقت كانوا في أمس الحاجة فيه لمن يقف معهم، فالدنيا “حرابة”، وشبكات الإنترنت مقطوعة لقرابة الشهر مما أدخل لجنة الطوارئ في أزمة نفسية وأخلاقية ووجودية، فالكل أمام “التكية” يقف منتظرًا بعد أن صارت هي الخيار الأوحد لإقامة الاود.
إضاءة أولى
أحيا السودانيون خلال الحرب الدائرة في معظم أنحاء البلاد، تقليدًا صوفيًا ضاربًا في العمق المجتمعي، وهو ما يعرف بـ”التكية” أو مطابخ الطعام المجانية المفتوحة للجميع “غرف الطوارئ”. فقديمًا – ولأوقات قريبة – كان المسيد “مدرسة القرآن الأهلية”، يعتمد في إطعام الطلاب أو زوار الشيخ “مقرئ ومعلم القرآن وشيخ الطريقة الصوفية”؛ على العون الذاتي أو الدعم الأهلي للمجتمع المحلي، إذ توقد “نار التكية” لإطعام الجميع دون فرز لأحد، في وجبات طعام مستمرة طوال العام وبلا توقف لأي سبب كان. هذه “التكايا” – بفكرتها التقليدية – انتشرت في العاصمة الخرطوم بالتحديد بعد توغل الحرب في الزمن وتطاولها لأشهر دون أفق واضح للحل. أكثر من 300 مطبخ أهلي موزعة في مناطق وأحياء الخرطوم بمدنها الثلاثة. تدار من خلال التطوع والتبرعات الشخصية لأبناء المنطقة أو الحي المحدد. العامل الفاعل في هذه التبرعات هم أبناء هذه المناطق ممن يقيمون خارج السودان في دول المهجر والاغتراب، والوسيلة الأنجع لإيصال أموال التبرعات هي التطبيقات البنكية، وأشهرها تطبيق “بنكك” الذي يتندر السودانيون الآن إنه أكثر من “وقف معهم خلال الحرب”. أنقذت هذه |التكايا” سودانيي مناطق النزاع، لاسيما في الخرطوم، من التعرض للموت جوعًا بسبب نقص الغذاء وتبدد المدخرات وخلو الأسواق من المواد الغذائية، ولصعوبة إيصال المساعدات الدولية بسبب عنف الحرب (مناطق خطرة) والتعنت الغريب لطرفي النزاع في استلامها. بيد أن قطع الإنترنت والاتصالات خلال شهر فبراير الماضي بواسطة قوات الدعم السريع، كاد يعرض هذه المطابخ للتوقف وبالتالي تعريض حياة آلاف الأسر لخطر الجوع القاتل. في هذه الأماكن الخطرة من مناطق الصراع في الخرطوم وغيرها، تعمل “غرف الطوارئ” وتدير هذه التكايا والمطابخ التكافلية، ويقف على إدارتها وتنظيمها شباب شجاع وجسور، يتعرض للمخاطر دون وجل، بل إن بعضهم تعرض للموت قتلا أثناء تأديته مهامه الإنسانية.
الحكاية 2
ما لم يكن يدركه من حاصروا الأستاذ “ح, م” بطلبات التحويلات الشخصية، أنه يحيا في ظروف قاسية في البلد الأفريقية التي لجأ إليها، فهناك تنعدم فرص العمل للمواطنين ناهيك عن الضيوف أو اللاجئين، فهو بعد أن قضى تمامًا على مدخراته التي خرج بها من السودان، صار مجازفًا بمعنى الكلمة لأجل “لقمة العيش” له ولأسرته الصغيرة، وبالكاد يستطيع توفير إيجار المنزل الصغير ومصروفات الشهر الأخرى، ولولا ذكائه الفطري لضاع تمامًا، فهو “ابن سوق” يعرف كيفية التواصل مع الآخرين والتوسط بينهم وتسهيل صفقاتهم، لاسيما كونه مجيد للغة الإنجليزية. قال “ح، م” لـ “ألترا سودان”: “المصادفة فقط جمعتني بجهة مهتمة بأمر السودانيين، والحرب الدائرة هناك، من ناحية إنسانية بحتة. قل إنها منظمة إنسانية غير ربحية إن شئت. سألوني إن كنت في حاجة إلى أي مساعدة، ففكرت سريعًا في مطبخ الطوارئ بحارتي الخرطومية، إذ كنت أدرك من خلال متابعتي في قروب الواتساب أنه على وشك التوقف بسبب انقطاع الإنترنت وللتراجع المستمر في عدد المتبرعين، وكان التبرع السخي”. سلمته المنظمة مبلغ 3 آلاف دولار، أي ما يعادل بالعملة السودانية نحو ثلاثة مليار جنيه سوداني، وهو مبلغ ليس بالقليل لإنعاش “تكية الطعام” وأطعام المئات من الناس.
إضاءة 2
اشتهر تطبيق بنكك للتحويلات المالية قبل حرب الـ 15 من أبريل بين الجيش السوداني والدعم السريع، فالتطبيق الذي يتبع لبنك الخرطوم، تزامن إطلاقه مع أكبر حالة كساد اقتصادي تواجه السودانيين، وذلك في أواخر سنوات حكم الرئيس المعزول عمر البشير، حاصر التصخم المالي، وارتفاع الأسعار، وشح فرص العمل السودانيين في كل مكان، ولم يعد بإمكان رب الأسرة الواحدة إعالتها دون معين، وهنا انبثق تطبيق “بنكك” مثل الحل السحري. كيف ذلك؟ الإجابة لا تخلو أسرة سودانية “ممتدة” من شخص أو اثنين مهاجرين أو مغتربين خارج السودان، كما لا تخلو ذات الأسرة، من قريب أو صديق ما لم تهزة زلزلة الاقتصاد الإنقاذي في سنواته الأخيرة، وظل لسبب “ما” محافظا على وضعه المالي المميز وبالتالي القدرة على دعم الآخرين ممن يلجأون إليها شهريًا أيًا كان عددهم. الآلاف إن لم يكن الملايين من السودانيين العمال والموظفين وحتى الطلاب ممن هم في دول الخليج أو دول الغرب وأمريكا ظلوا شهريًا يدعمون أسرهم عبر التطبيق الأشهر “بنكك”، مما حافظ وبقدر معقول على تماسك هذه الأسر وجعلها تحيا – وإن على الكفاف – مستورة الحال. ما حدث بعد الحرب معقد جدًا فيما يخص “تحويلات الخارج”، فالكل الآن داخل السودان بات في حاجة للمساعدة، والكل الآن ممن تمكن من الخروج من السودان أيضًا في حاجة للمساعدة، زاد الضغط على المغتربين والمهاجرين إلى الحد الذي هدد استقرارهم أنفسهم في بلاد المهجر والاغتراب، لكنهم لم يتوقفوا قط، وكانت وقفتهم الكبرى في دعم “تكايا الطعام”، التي لولاها لما استمرت حياة البشر في مدينة مثل الخرطوم، ورغمًا عن إن هذا العمل يتحقق في الحياد وخارج استقطابات الحرب الحادة إلا أن توقف الإنترنت عسكريًا، بفعل الدعم السريع، كاد يوقفه ويجفف منابع الحنان الممتدة من أقصى بلاد الدنيا إلى قلب السودان.
الحكاية 3
كان بإمكان الأستاذ “ح، م”، أن يقتطع ولو مبلغًا صغيرًا من الدعم الذي وجده من تلك المنظمة التي جمعته بها ظروف طيبة، أو كان بإمكانه منذ البداية أن يحول الأمر إلى حالة شخصية، أن يطلب دعمًا ماليًا لأسرته الصغيرة، أن تسهم تلك الجهة المانحة في إيجاد بعض الحلول لأوضاعه الضاغطة، فيما يخص إيجار المنزل ورسوم المدارس وما إلى ذلك من شؤون شهرية، قد تحول حياته إلى جحيم في هذه البلاد الغريبة، وهو اللاجئ الغريب. في إفادته لـ ألترا سودان، قال “ح، م”: من الصعب أن تفكر في نفسك وأنت في وضعية الناجي، ومن تركتهم هناك يواجهون أقسى الأوضاع ويعيشون المأساة بمعنى الكلمة”. صمت لثوان وأضاف: “كثيرا ما أصاب بتأنيب الضمير إلى الحد الذي أفكر فيه بالعودة إلى السودان والتمترس مع أهلي ومواجهة ما يحدث ولأشاركهم المصير، يأكلني تأنيب الضمير من الداخل، يعذبني رغمًا عن وعيي بأن خروجي نفسه قد يكون خيرًا لهم مثلما حدث بشكل جماعي في مسألة دعم المطبخ الأهلي، ومثلما يحدث دائمًا بشكل أسري خاص. هذه الحرب تكاد تقضي علينا جميعًا من هم في الداخل ومن هم في الخارج.. بت أخاف على إنسانيتنا، وما تبقى من روح سمحة لدينا”. مضى “ح، ن” في طريقه إلى تجمعات السودانيين في قلب العاصمة الأفريقية، هناك ربما يصادف شخصًا بحاجة إلى من يساعده في استخراج أوراق رسمية، أو من يحتاج إلى مترجم يفك له شفرة وثيقة مهمة ويساعده في إنجاز معاملة مهمة، عليه أن يسرع ويمضي و”يكابس” لأجل الحياة.
إضاءة أخيرة
يواجه السودانيون في مناطق النزاع مقدمات مجاعة حقيقية، تقترب منهم رويدًا رويدًا مع دخول كل يوم جديد من أيام الحرب التي لا تبقي ولا تذر. الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية والصحية تقول إن “نحو 25 مليون سوداني، بحاجة إلى مساعدات عاجلة، وأن ثمانية ملايين سوداني فروا من منازلهم، فيما ينتشر الجوع في كافة ربوع البلاد”، بينما حذر برنامج الأغذية العالمي من “أن الحرب الدائرة في السودان منذ 11 شهرُا قد تخلف أكبر أزمة جوع في العالم في بلد يشهد أكبر أزمة نزوح على المستوى الدولي”. ليس هذا فقط بل تضيف ذات المنظمات الأممية إن “ما يقرب من 5 ملايين شخص في السودان باتوا يعيشون في مستويات الجوع الطارئة، وهذا هو أعلى رقم يُسَجَّل على مستوى العالم خلال موسم الحصاد”.. وأيُّ حصاد يجنيه السودانيون الآن، خارج حدود الدم والهلاك.
الوسومالتكايا الخرطوم حرب السودان غرف الطوارئ
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: التكايا الخرطوم حرب السودان غرف الطوارئ
إقرأ أيضاً:
ما لا يعرفه العرب عن صهر ترامب العربي الذي تزوج نجله بإبنة ترامب تيفاني ؟
قال بولس خلال الحملة الانتخابيّة، إنّه في حال فوز ترامب، فإنّه "سيعمل بشكل فوريّ على إنهاء الحرب في لبنان، ولن ينتظر حتّى يتمّ تنصيبه رئيسًا في كانون الثاني/ يناير...
خلال الأيّام الماضية، برز اسم رجل الأعمال اللبنانيّ - الأميركيّ مسعد بولس، صهر الرئيس الأميركيّ المنتخب دونالد ترامب، والذي كان جزءًا أساسيًّا من الحملة الانتخابيّة لإقناع الناخبين الأميركيّين العرب، خاصّة في ولاية ميشيغن المتأرجحة، في ظلّ حالة الإحباط؛ بسبب طريقة تعاطي الحزب الديمقراطيّ مع حرب الإبادة الجماعيّة التي تشنّها إسرائيل، بدعم أميركيّ، على قطاع غزّة ولبنان.
وبرز مسعد بولس كأحد المقرّبين من ترامب، وذلك بحكم زواج نجله مايكل بولس من ابنة الرئيس ترامب الصغرى، تيفاني ترامب.
وانتقل بولس من لبنان إلى تكساس في مرحلة مراهقته، ودرس القانون في جامعة "هيوستن"، وتولّى إدارة أعمال عائلته ليصبح المدير التنفيذيّ لشركة "SCOA Nigeria" التي تعمل في توزيع المركبات في غرب إفريقيا. وبحكم المصاهرة، دخل بولس غمار السياسة الأميركيّة، وكان حجر الزاوية في جمع أصوات الناخبين العرب الأميركيّين لصالح دونالد ترامب في ولاية ميشيغن، والتي تضمّ أعدادًا كبيرة من الجاليات العربيّة التي أصابها الإحباط من تعاطي الإدارة الأميركيّة الديمقراطيّة برئاسة جو بايدن، ونائبته كاملا هاريس، فيما يخصّ الحرب الإسرائيليّة على غزّة ولبنان.
وكان الرئيس الأميركيّ، دونالد ترامب، قد وعد الناخبين بألّا تمتدّ الحرب في الشرق الأوسط، وتعهّد بمزيد من الاستقرار.
وفاز ترامب في ولاية ميشيغن، والتي تضمّ نحو 400 ألف صوت من العرب، طبقًا للأرقام المعلنة قبل الانتخابات، فيما تبلغ أصوات المسلمين في الولاية، نحو 250 ألف صوت.
وفي مدينة ديربورن التي عادة ما توصف بأنّها قلب السكّان العرب الأميركيّين، حصل ترامب على 42.5٪ من الأصوات، في مقابل 36٪ لكاملا هاريس. وكان ترامب، قد توجّه إلى الجالية اليمنيّة في مدينة هامترامك، وتعهّد بوقف الحرب على غزّة.
وكان بولس قد ردّد الوعود نفسها، لإقناع الناخبين بأنّ ترامب سيعمل على إعطاء الأولويّة للاستقرار وتفادي اندلاع نزاعات جديدة في الشرق الأوسط، على الرغم من أنّ ولاية ترامب الأولى، شهدت دعمًا كاملًا وغير محدود لإسرائيل، إذ دعم الاستيطان الإسرائيليّ، بالإضافة إلى نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس المحتلّة، واعترافه بـ"السيادة الإسرائيليّة" على مرتفعات الجولان المحتلّ.
وفي تصريحات إعلاميّة سابقة، قال بولس خلال الحملة الانتخابيّة، إنّه في حال فوز ترامب، فإنّه "سيعمل بشكل فوريّ على إنهاء الحرب في لبنان، ولن ينتظر حتّى يتمّ تنصيبه رئيسًا في كانون الثاني/ يناير.
وفي 30 أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، كتب ترامب في منشور على حسابه بمنصّة "إكس": "سأحل المشكلات التي سببتها كامالا هاريس وجو بايدن، وأوقف المعاناة والدمار في لبنان"، مشيراً إلى أنه يودّ أن يعود الشرق الأوسط إلى "سلام حقيقي، سلام دائم، وسوف نحقق ذلك على الوجه الصحيح، حتى لا يتكرر الأمر كل خمس أو عشر سنوات".