د. قاسم بن محمد الصالحي

قبل أن ندخل في مضمون ما سأكتبه، وحتى تسير الأمور ببساطة وسلاسة للجميع، ينبغي أن ننتبه أن بداخلنا ميل إلى أن نفكّر دائمًا في غيرنا، وننسى ما يهمنا أو يخصنا، ولكن، هل يشكرنا الآخر على سلوكنا؟ وهل في وسعه ذلك؟، لا أحد يحبّ أن يكون شاكرًا لغيره، فالكل يودّ أن يُوجّه الشكر إليه، يحبّ أن يقول دائمًا: "هذا بفضلي، لا بفضل غيري"، على أي حال، بقدر ما نكتفي بالتفكير في شخصٍ ما، دون أن نكون قد ساعدناه مساعدةً فعلية، فنحن نتجاهل أنفسنا تجاهلًا سافرًا، ونحن نعلمُ بالطبع، لا أحد يحبّ مَنْ يتجاهلون أنفسهم.

فبينما كنتُ أشاهد وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات الإعلامية المختلفة ظهر لي خبر جندي القوات الجوية الأمريكية، "آرون بوشنل" سكب على نفسه مادة سريعة الاشتعال، أمام مبنى سفارة الكيان الصهيوني في واشنطن، وأشعل النيران بنفسه، وهو يصرخ "فلسطين حرة"، احتجاجا على الإبادة الجماعية في الفلسطينيين على أيدي الصهاينة المغتصبين، أظهرتُ اهتمامًا واضحًا بهذا الجندي لما أمعنتُ النظر إليه، قلت لنفسي، ما أشبه اليوم بالبارحة، ألا يستحق الإشادة؟، أليس ما فعله مطالبه بتحقيق العدل ورفع الظلم، أليس ما فعله هو ذاته الذي فعله "بوعزيزي"، الحقيقة أنني بينما كنتُ أشاهد ردات الفعل، الانقسام والاحتجاجات في أمريكا حول قصة "بوشنل" لم أشعر مطلقًا بأن الحادثة قد أثارت ردود أفعال داخلية أو دولية كانت قد أثارتها حادثة "بوعزيزي"، الذي كان يعمل بائعًا متجولاً بائساً يجوب الشوارع بعربة الخضار، للمساهمة في إعالة أسرته الصغيرة، لتنتهي مُعاناته بحرق نفسه، بل اقتصر التفاعل مع قصة "بوشنل" على دوامة الاحتجاجات بين جنود أمريكيين سابقين لامستهم قصة زميل لهم، فخرجوا ليعبروا عن غضبهم وتضامنهم معه عبر إحراق زيهم العسكري في شوارع الولايات المتحدة الأمريكية، والبعض حاول وضع قصة بوشنل واحتجاجه في خانة "معاداة السامية"، في حين لجأ الآخر إلى تقويل "بوشنل" ما لم يقله.

جاءت قصة "بوشنل" كحدث مفصلي يمكن اعتباره "ربيع" أسس لما بعده، كما أنه يمثل نقدا للعالم الغربي وديمقراطيته، التي يتبجح بها، وأيضًا لقوانينه المنحازة للصهاينة، التي حرمت الشعب الفلسطيني والشعوب المستضعفة من إنسانيتهم، وجعلتهم مجموعة من النسخ المكررة منعدمة الإحساس، مع بعد عدمي يتحول معه مصير كل شعب راغب في التحرر من هذه هيمنة الغرب، إلى الفناء الذي جسدته النهاية الماساوية للجندي الأمريكي.

كلاهما "بوعزيزي، وبوشنل" انتحرا لا لأنهما أرادا الموت، بل لأنهما عجزا عن الحياة، الأول أطلق شرارة ما سمي "ربيعا عربيا" من مدينة سيدي بوزيد التونسية، وسعت الهيمنة الغربية وقوى الاستكبار رقعة احتجاجاته وتأجيج غضبه، وبدا الرصاص يحصد الضحايا، وتحول بوعزيزي، إلى شعار لمفهومهم الذي روجوا له "شغل، حرية، كرامة وطنية"، لم يتوقف حريق "بوعزيزي" عند الحد الجغرافي الذي وقع فيه، بل امتد هذا الحريق إلى خارج تونس، وانتقل إلى دول الجوار، بدرجات متفاوته، فنجح البعض في الثبات، وانهار آخرون، وما يزال البعض يعاني، ثم انتشرت الاحتجاجات لتشمل جميع مدن الوطن العربي، وبصور مختلفه في عواصم عالمية، فأطلق البعض على حوادث حرق مشابعة حينها اسم " الظاهرة البوعزيزية".

لم يكن الفتى بوعزيزي ثائرا، ولا معارضا ساسيا ولا جنديا، ولم يكن يحلم بثورة في بلده، كان يرغب في تحصيل حقه كمواطن، أحرق نفسه في الساحة دون أن يدري أن وفاته ستفجر احتجاجات وتظاهرات وثورات، سميت لاحقا "الربيع العربي"، مات دون أن يعلم أنه بات موجة عاتية لهذا الربيع، ركبتها قوى عالمية، ظل قادتها يتفرجون على أمواج البشر وهي تسقط مدرجة بالوانها القانية، وانهيار مدن، وتدمير آثار حضارية في وطننا العربي، يرسمون خارطة جديدة للشرق الأوسط لأجل كيان مصطنع زرع في المنطقة، بعد 7 أكتوبر 2023م، خرجت حقيقة هذا الكيان المجرم، فعرفت الشعوب الحرة فداحة الجريمة التي يرتكبها في حق الفلسطينيين، انزعج الجندي الأمريكي من تأييد بلاده للإبادة الجماعية التي يرتكبها في غزة، فقرر حرق نفسه، لكن لم تخرج الاحتجاجات لاحتراق "بوشنل" ولم يصطدم أحد مع قوات الأمن الأمريكي، ولم تتوسع رقعة وقفة زملائه جغرافيًّا؛ بل ولم يقم أحد بزيارته في المستشفى قبل وفاته، ولم يعلن عمدة العاصمة الفرنسية باريس عن اقامة تمثال تذكاري تخليدا "للبوشنل" كما فعل مع "البوعزيزي"، ولم يطلق وعدا بتسمية أحد ميادين باريس باسمه، كما لم يختاره البرلمان الأوروبي للفوز بجائزة ساخاروف لحرية الفكر.

نعم يمكن القول إن "بوشنل" عنوان يأخذنا في رحلة تأمل عميقة نغوص من خلالها في تعامل عالم الغرب مع قضايا الشرق الأوسط، بالأخص قضية فلسطين، وهو "اضرام جندي امريكي النار في جسده"، احتج بسبب الابادة الجماعية في غزة، فنقل أحاسيسه ومشاعره اتجاه الشعب الفلسطيني، قد تكون نية فعله، أن يجعل جسده يشعل الشعب الأمريكي ضد الظلم والاستبداد، كما أشعل جسد "بوعزيزي" الوطن العربي؛ حيث قال في الفيديو "اسمي آرون بوشنل"، وأنا عضو نشط في القوات الجوية الأمريكية، ولن اكون مشاركًا بعد الآن في الإبادة الجماعية"، أليس ما قاله تأكيد بان قضية فلسطين لن يدافع عنها إلا إيمان أبنائها المرابطين، ووسائل التعبير من أحرار العالم حتى يزول الاحتلال ويرفع الظلم وتتحقق العدالة.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

هل يعود داود أوغلو إلى حزب العدالة والتنمية؟

أطلق رئيس حزب المستقبل، أحمد داود أوغلو، في الآونة الأخيرة، عدة تصريحات توحي بأنه يرغب في العودة إلى حزب العدالة والتنمية. وقال الأسبوع الماضي، خلال لقائه مع الصحفيين في مدينة قونيا، إنه "لم ينقطع عن روح حزب العدالة والتنمية"، مضيفا أنه جزء من الجماهير المؤيدة لهذا الأخير، وأن "حزب المستقبل لم يتأسس لمنافسة حزب العدالة والتنمية"، كما ذكر أن أبوابه مفتوحة لكل من يريد لقاءه، في إشارة إلى انتظاره دعوة من رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان للقائه.

هذه التصريحات أثارت علامات استفهام وتكهنات حول مدى احتمال انضمام داود أوغلو مرة أخرى إلى حزب العدالة والتنمية الذي استقال منه في أيلول/ سبتمبر 2019. وفي حواره مع الإعلامية جانسو تشامليبال، ذكر داود أوغلو أن هناك حاجة ماسة إلى رص الصفوف، في ظل القلق الذي يشعر به مؤيدو حزب العدالة والتنمية من احتمال تولي حزب الشعب الجمهوري لحكم البلاد بعد انتهاء فترة رئاسة أردوغان، مضيفا أنه مستعد للمشاركة في جهود الوحدة سواء داخل حزب العدالة والتنمية أو خارجه.

المفهوم من تصريحات رئيس حزب المستقبل أنه يرغب بشدة في لعب دور فعال في الملف السوري، كما يرى نفسه ذاك الزعيم الذي يمكن أن يسد الفراغ في غياب أردوغان بعد انتهاء فترته الرئاسية الثانية، ويعتقد بأن الناخبين المؤيدين لحزب العدالة والتنمية القلقين من تولي حزب الشعب الجمهوري لحكم البلاد، سيتقبلونه ويحتضنونه برحابة الصدر. إلا أن هناك شكوكا حول صحة كل هذه التوقعات
المفهوم من تصريحات رئيس حزب المستقبل أنه يرغب بشدة في لعب دور فعال في الملف السوري، كما يرى نفسه ذاك الزعيم الذي يمكن أن يسد الفراغ في غياب أردوغان بعد انتهاء فترته الرئاسية الثانية، ويعتقد بأن الناخبين المؤيدين لحزب العدالة والتنمية القلقين من تولي حزب الشعب الجمهوري لحكم البلاد، سيتقبلونه ويحتضنونه برحابة الصدر. إلا أن هناك شكوكا حول صحة كل هذه التوقعات.

داود أوغلو أخطأ في حساباته حين أسس حزب المستقبل وظن أن نسبة كبيرة من أنصار حزب العدالة والتنمية ستؤيد الحزب الجديد. وحصل حزب المستقبل على 10 مقاعد في البرلمان بفضل تحالفه مع حزب الشعب الجمهوري، إلا أن شعبيته في الانتخابات المحلية التي خاضها وحده، لم تتجاوز 0.11 في المائة. ويبدو أنه يخطئ اليوم مرة أخرى في قراءته للمشهد السياسي التركي وميول الناخبين، حين يظن أنه يمكن أن يعود إلى حزب العدالة والتنمية أو أن يسد فراغ أردوغان بعد خروجه من القصر الرئاسي.

هناك تناقضات في تصريحات داود أوغلو حول علاقاته بحزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان. ويقول، على سبيل المثال، إنهم لم يؤسسوا حزب المستقبل لمنافسة حزب العدالة والتنمية، إلا أن الواقع الذي لا يجهله أحد، ينفي ذلك، ويعلم الجميع أن حزب المستقبل تحالف مع حزب الشعب الجمهوري المعارض ضد حزب العدالة والتنمية، وأن داود أوغلو ذاته سعى إلى إسقاط أردوغان وإيصال رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق، كمال كليتشدار أوغلو، إلى القصر الرئاسي. ويتحدث عن قلق المؤيدين لحزب العدالة والتنمية من فوز حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات القادمة، ويبدي استعداده لإزالة هذا القلق، بعد أن دعا الناخبين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة إلى التصويت لصالح حزب الشعب الجمهوري.

هناك تململ في صفوف حزب المستقبل، وانزعاج من تصريحات داود أوغلو، قد يؤدي إلى موجة استقالات في الأيام القادمة. ويرى المنزعجون من تلك التصريحات أنها إساءة إليهم وإلى جهودهم التي يبذلونها لنجاح الحزب، ويتساءلون: "لماذا نضيع أوقاتنا وأموالنا في سبيل نجاح حزب المستقبل، إن كان رئيس الحزب ذاته يقول إنه لم يقطع صلته بحزب العدالة والتنمية، ويرغب في العودة إليه؟".

داود أوغلو، كمؤيد للثورة السورية، يريد أن يلعب دورا في علاقات أنقرة مع دمشق، وبناء سوريا الجديدة. إلا أن محاولته الفاشلة لتمكين كليتشدار أوغلو من الفوز برئاسة الجمهورية، رغم علمه بأنه من أكبر المؤيدين للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد ونظامه الطائفي وأنه يتعهد بطرد اللاجئين السوريين في حال فاز في الانتخابات، تقلل من احتمال تقبل أي دور له من قبل الإدارة السورية الجديدة. كما أن تصريحاته الأخيرة التي ذكر فيها أنه لا داعي للخوف من النظام الفيدرالي في حال اتفق السوريون على تبنيه، وأنه يمكن أن تكون للتركمان منطقة حكم ذاتي على غرار منطقة الأكراد، تثير استياء الرافضين لمشاريع تقسيم سوريا، المدافعين عن وحدة ترابها.

حزب المستقبل يعاني حاليا من مشاكل عديدة لعدم نجاحه في الحصول على ثقة الناخبين، ويمكن اعتبار تصريحات داود أوغلو الأخيرة محاولة للخروج من هذا المأزق
حزب المستقبل يعاني حاليا من مشاكل عديدة لعدم نجاحه في الحصول على ثقة الناخبين، ويمكن اعتبار تصريحات داود أوغلو الأخيرة محاولة للخروج من هذا المأزق. وتحالف حزب المستقبل مع حزب السعادة لتشكيل كتلة برلمانية مشتركة إلا أن هناك خلافات كبيرة بين الحزبين في بعض القضايا الهامة، مثل الموقف من ثورة الشعب السوري التي يراها حزب السعادة "مؤامرة صهيونية"، تجعل ذاك التحالف مجرد اتفاق هش لمصلحة مؤقتة.

الكتلة البرلمانية التي شكلها حزب المستقبل مع حزب السعادة، سقطت الثلاثاء بعد تراجع عدد أعضائها إلى 19 بسبب استقالة النائب مصطفى نديم يامالي من حزب المستقبل، ويتوقع أن ينضم يامالي إلى حزب العدالة والتنمية. وقد يشهد حزب المستقبل استقالات جديدة في الأيام القادمة لينضم عدد من نوابه إلى حزب العدالة والتنمية، إلا أن عودة داود أوغلو نفسه إلى حزبه القديم في الظروف الراهنة شبه مستحيلة، في ظل رفض نسبة كبيرة من مؤيدي حزب العدالة والتنمية لمثل هذه العودة.

x.com/ismail_yasa

مقالات مشابهة

  • بعد غياب 3 شهور .. موعد مشاركة محمد هاني في تدريبات الأهلي الجماعية
  • فعاليات شعبية في مختلف محافظات المملكة تندد بحرب الإبادة الجماعية في غزة
  • شارك في التدريبات الجماعية.. قرار مهم في الأهلي بشأن علي معلول والصفقة المحتملة
  • رئيس مهرجان السينما الفرنكوفونية: استقبال طلبات التقدم لمسابقة «أفضل سيناريو» لإنتاج فيلم حول حرب الإبادة الجماعية حتى ٣١ يناير
  • محاكمة علي كوشيب: بارقة أمل لضحايا الإبادة الجماعية في دارفور
  • الدفاع المدني السوري للجزيرة: المقابر الجماعية ونزع الألغام أبرز تحدياتنا
  • هل يعود داود أوغلو إلى حزب العدالة والتنمية؟
  • رئيس مهرجان السينما الفرنكوفونية : استقبال طلبات التقدم لمسابقة "أفضل سيناريو" لإنتاج فيلم حول حرب الإبادة الجماعية حتى ٣١ يناير
  • تفاصيل جلسة جروس مع لاعبي الزمالك قبل انطلاق التدريبات الجماعية
  • تجديد اتفاقية العمل الجماعية للعاملين بمجموعة تيتان مصر للأسمنت