«بين سنار والخرطوم».. جدل الثقافة والهوية
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
محمد نجيب محمد علي
يظل سؤال الهوية في السودان شائكا ومعقدا وينطوي على معضلة مستعصية، إذ ساهمت ثنائية الهوية في تضعضع البنية السياسية والجغرافية، فقد غادر السودان زمن الوحدة ودخل أزمنة الانفصال وسؤال الهامش والمركز.
الكاتب (الراحل*) محمد عوض عبوش أعاد في كتابه «بين سنار والخرطوم» سؤال الهوية، مستمسكا بقراءة الثنائية بالعودة إلى جذور المجتمع وتركيبته العرقية والثقافية، وباعتبار المجتمع جسداً حيا بين الأجساد.
ويمضي المؤلف في التشريح متتبعا طريق سير الآباء الأوائل في كل الجغرافيا السودانية، وبعد قيام مملكة سنار في القرن السادس عشر، انتهى عهد الممالك النوبية الذي استمر لأكثر من أربعة آلاف عام في السودان، وبدأ عهد جديد في العصر الوسيط.
يقول المؤلف «إن من أهم سمات عصر سنار الذي شكل البداية الفعلية والحقيقية لسودان اليوم، هو انتشار الثقافة العربية والدين الإسلامي، وحدث في عصر سنار تحول غير مسبوق في اللغة والثقافة، وتمكن شيوخ الصوفية عبر «الخلاوي» والمدارس التي أقاموها من نشر الإسلام وتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن في مملكة سنار والممالك الإسلامية التي عاصرتها».
ويضيف في رسم ملامح المجتمع السناري أن «تواجد الصوفية بين عامة الناس ومشاركتهم لهم في حياتهم اليومية ومشاكلهم وإيجاد الحلول لهم، هو ما قربهم منهم وأدى إلى تغلغلهم في أوساطهم، حتى صاروا جزءا لا يتجزأ من واقعهم وتفكيرهم».
ويشير الكاتب إلى السمة الرابعة لعصر سنار بانتشار النظام القبلي في الشمال والشرق والغرب والوسط والجنوب، وأن الممالك التي نشأت في دارفور وتقلي والمسبعات في غرب السودان وممالك البجة في الشرق نشأت هي الأخرى على أساس قبلي، وكانت تخضع لها ممالك وسلطنات أقل شأنا، وإن اختلفت عن مملكة سنار بأنها لم تنشأ على تحالف بين قبائل عربية ومحلية كما حدث في سنار، وإنما كانت نشأتها على أساس محلي بحت استوعب عناصر عربية هاجرت إلى أرضها وتصاهرت مع ملوكها.
ويمضي في قراءة تأثير التكوين القبلي السلبي على تأسيس دولة سودانية متجانسة وقوية ومتماسكة في سنار مما سهل على الأتراك غزو البلاد واستعمارها، إذ يرى أن النظام القبلي لم يكن في إجماله سالبا. وقد رسخ هذا النظام في إنسان عصر سنار خصائص وقيما نادرة من البطولة والصبر على المكاره واحتمال الأذى، وهي ما ترسخت في الأجيال اللاحقة لعصر سنار في مجابهتها للغزو الأجنبي التركي والإنجليزي وفي الثورة المهدية.
يحدد المؤلف السمات التي أدت إلى تكوين عصر سنار والتحولات والتغييرات الكبرى وغير المسبوقة في تاريخ البلاد والتي نتج عنها بداية سودان اليوم، فالعرب الذين تدفقوا في موجات ضخمة واستقروا في البلاد واختلطوا وتمازجوا وتصاهروا مع العناصر السكانية الموجودة فيها، يمثلون التركيبة التي استقرت عليها الأوضاع السكانية في البلاد وكونت تراثها الثقافي والاجتماعي.
ويتطرق إلى اهتمام سلاطين سنار بإصلاح هياكل ومقومات أجهزة الحكم والاقتصاد وإدارة المرافق العامة والقضاء والأمن وتنظيم التجارة، وتضمين عقوبات رادعة لمن يعتدي على التجار الأجانب أربعة أمثال عقوبة الاعتداء على الفرد من الرعايا المحليين.
ويرى المؤلف أن أولى ملابسات الانتقال من عصر سنار الوسيط إلى عصر الخرطوم الجديد، هو أنه بدأ بواسطة حكم أجنبي وجاء من أعلى إلى أسفل، أي من قمة هرم السلطة إلى أدنى قواعد المجتمع، ولم ينبثق من داخل المجتمع ومن واقع تطوره الطبيعي والتدريجي الثقافي والحضاري والاقتصادي والسياسي، متهما الوطنيين الذين آلت إليهم السلطة بعد انتهاء الاستعمار بعدم إنجاز التحديث المطلوب.
ويتوقف عند حقيقة لا يتطرق إليها الكثير من الباحثين، «ولعل من نادوا من المثقفين عند استقلال البلاد بتغيير مسماها من السودان إلى سنار، كانوا من ذوي الرؤية والبصيرة النافذة والإدراك السليم لأهمية العودة إلى التراث السوداني في عصر سنار، والمزج بين التراث والتحديث في عملية نهضة وتقدم البلاد. وما يجدر ذكره هنا «أن وزير خارجية السودان الأسبق المثقف والدبلوماسي الراحل جمال محمد أحمد كان رائد الدعوة لإرجاع اسم سنار كبديل لاسم السودان الحالي».
ويشير عبوش إلى أن العودة إلى التراث تمثل العودة إلى مخزون ثقافات الجماعات السودانية التقليدية ومجتمعاتها في العصرين القديم والوسيط، وإلى إنتاجهم في مجالات الفكر والشعر والأمثال والقصص والأحاجي والفنون والعلوم والنظم الاجتماعية والاقتصادية، وأن ما تكوّن وتراكم من كل هذا الرصيد هو الذي شكل هوية وأصالة الإنسان السوداني، وما تفتق عنه عقل الإنسان السوداني وخياله ورؤاه وابتكاراته وإبداعاته.
فالإنسان السوداني – بحسب المؤلف- بأعراقه المختلطة والذي توطدت مكانته في عصر الخرطوم الحديث بعد أن نال قدراً من التعليم وبسط نفوذه السياسي والاقتصادي في البلاد، كان عليه أن يتحمل بجدية ومسؤولية عبء التحديث عند الاستقلال وأن يبدأ البداية الصحيحة لنهضة بلاده وتقدمها بالعودة إلى موروثه الثقافي وتراثه المنبثق من واقعه المحلي ومن التجربة التاريخية الذاتية لإنسان السودان، فهذه الصيغة المشتركة والجامعة كانت ستجنب البلاد ما آلت إليه أوضاعها اليوم من اختلاف واحتراب وصراع وتفكك.
*توفي الكاتب والباحث السوداني محمد عوض عبوش يوم الخميس 14 مارس 2024
الوسومالهوية السودانية سناؤ محمد عبوشالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الهوية السودانية سناؤ
إقرأ أيضاً:
عضو السيادي صلاح الدين آدم يشهد تأبين عمدة سواكن محمود الأمين أرتقا
قدم عضو مجلس السيادة الانتقالي صلاح الدين آدم تور واجب العزاء فى فقيد البلاد والإدارة الأهلية بشرق السودان وعموم قبائل الأرتيقة عمدة مدينة سواكن العمدة/محمود الأمين أرتقا.وأشار سيادته خلال مخاطبته العزاء بمدينة سواكن إلى مأثر الفقيد واصفاً اياه بأنه شمعه من الحكمة والدراية وموسوعة من العلم والمعرفة ، منوهاً إلى علاقاته الوطيدة و الواسعة في أفريقيا ومختلف بلدان العالم.وأضاف أن الفقيد العمدة محمود ارتقا كان رجلاً توافقياً يسعى إلى وحدة السودان وتعزيز ترابط أهله لمواجهة تحديات الحرب حتى تنعم البلاد بالأمن والسلام ، داعياً قبائل شرق السودان المحافظة على نهج الفقيد في جمع الصف الوطني وتوحيد الجهود لدعم القضايا الوطنية وتعزيز النسيج الاجتماعي.ونقل عضو السيادي تعازي السيد رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول الركن عبدالفتاح البرهان ونائبه وأعضاء المجلس إلى أسرة الفقيد سائلين الله له الرحمة والمغفرة بقدر ماقدم لأهله والسودان.سونا إنضم لقناة النيلين على واتساب