محمد نجيب محمد علي

 

يظل سؤال الهوية في السودان شائكا ومعقدا وينطوي على معضلة مستعصية، إذ ساهمت ثنائية الهوية في تضعضع البنية السياسية والجغرافية، فقد غادر السودان زمن الوحدة ودخل أزمنة الانفصال وسؤال الهامش والمركز.

الكاتب (الراحل*) محمد عوض عبوش أعاد في كتابه «بين سنار والخرطوم» سؤال الهوية، مستمسكا بقراءة الثنائية بالعودة إلى جذور المجتمع وتركيبته العرقية والثقافية، وباعتبار المجتمع جسداً حيا بين الأجساد.

ويمضي المؤلف في التشريح متتبعا طريق سير الآباء الأوائل في كل الجغرافيا السودانية، وبعد قيام مملكة سنار في القرن السادس عشر، انتهى عهد الممالك النوبية الذي استمر لأكثر من أربعة آلاف عام في السودان، وبدأ عهد جديد في العصر الوسيط.

يقول المؤلف «إن من أهم سمات عصر سنار الذي شكل البداية الفعلية والحقيقية لسودان اليوم، هو انتشار الثقافة العربية والدين الإسلامي، وحدث في عصر سنار تحول غير مسبوق في اللغة والثقافة، وتمكن شيوخ الصوفية عبر «الخلاوي» والمدارس التي أقاموها من نشر الإسلام وتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن في مملكة سنار والممالك الإسلامية التي عاصرتها».

ويضيف في رسم ملامح المجتمع السناري أن «تواجد الصوفية بين عامة الناس ومشاركتهم لهم في حياتهم اليومية ومشاكلهم وإيجاد الحلول لهم، هو ما قربهم منهم وأدى إلى تغلغلهم في أوساطهم، حتى صاروا جزءا لا يتجزأ من واقعهم وتفكيرهم».

ويشير الكاتب إلى السمة الرابعة لعصر سنار بانتشار النظام القبلي في الشمال والشرق والغرب والوسط والجنوب، وأن الممالك التي نشأت في دارفور وتقلي والمسبعات في غرب السودان وممالك البجة في الشرق نشأت هي الأخرى على أساس قبلي، وكانت تخضع لها ممالك وسلطنات أقل شأنا، وإن اختلفت عن مملكة سنار بأنها لم تنشأ على تحالف بين قبائل عربية ومحلية كما حدث في سنار، وإنما كانت نشأتها على أساس محلي بحت استوعب عناصر عربية هاجرت إلى أرضها وتصاهرت مع ملوكها.

ويمضي في قراءة تأثير التكوين القبلي السلبي على تأسيس دولة سودانية متجانسة وقوية ومتماسكة في سنار مما سهل على الأتراك غزو البلاد واستعمارها، إذ يرى أن النظام القبلي لم يكن في إجماله سالبا. وقد رسخ هذا النظام في إنسان عصر سنار خصائص وقيما نادرة من البطولة والصبر على المكاره واحتمال الأذى، وهي ما ترسخت في الأجيال اللاحقة لعصر سنار في مجابهتها للغزو الأجنبي التركي والإنجليزي وفي الثورة المهدية.

يحدد المؤلف السمات التي أدت إلى تكوين عصر سنار والتحولات والتغييرات الكبرى وغير المسبوقة في تاريخ البلاد والتي نتج عنها بداية سودان اليوم، فالعرب الذين تدفقوا في موجات ضخمة واستقروا في البلاد واختلطوا وتمازجوا وتصاهروا مع العناصر السكانية الموجودة فيها، يمثلون التركيبة التي استقرت عليها الأوضاع السكانية في البلاد وكونت تراثها الثقافي والاجتماعي.

ويتطرق إلى اهتمام سلاطين سنار بإصلاح هياكل ومقومات أجهزة الحكم والاقتصاد وإدارة المرافق العامة والقضاء والأمن وتنظيم التجارة، وتضمين عقوبات رادعة لمن يعتدي على التجار الأجانب أربعة أمثال عقوبة الاعتداء على الفرد من الرعايا المحليين.

ويرى المؤلف أن أولى ملابسات الانتقال من عصر سنار الوسيط إلى عصر الخرطوم الجديد، هو أنه بدأ بواسطة حكم أجنبي وجاء من أعلى إلى أسفل، أي من قمة هرم السلطة إلى أدنى قواعد المجتمع، ولم ينبثق من داخل المجتمع ومن واقع تطوره الطبيعي والتدريجي الثقافي والحضاري والاقتصادي والسياسي، متهما الوطنيين الذين آلت إليهم السلطة بعد انتهاء الاستعمار بعدم إنجاز التحديث المطلوب.

ويتوقف عند حقيقة لا يتطرق إليها الكثير من الباحثين، «ولعل من نادوا من المثقفين عند استقلال البلاد بتغيير مسماها من السودان إلى سنار، كانوا من ذوي الرؤية والبصيرة النافذة والإدراك السليم لأهمية العودة إلى التراث السوداني في عصر سنار، والمزج بين التراث والتحديث في عملية نهضة وتقدم البلاد. وما يجدر ذكره هنا «أن وزير خارجية السودان الأسبق المثقف والدبلوماسي الراحل جمال محمد أحمد كان رائد الدعوة لإرجاع اسم سنار كبديل لاسم السودان الحالي».

ويشير عبوش إلى أن العودة إلى التراث تمثل العودة إلى مخزون ثقافات الجماعات السودانية التقليدية ومجتمعاتها في العصرين القديم والوسيط، وإلى إنتاجهم في مجالات الفكر والشعر والأمثال والقصص والأحاجي والفنون والعلوم والنظم الاجتماعية والاقتصادية، وأن ما تكوّن وتراكم من كل هذا الرصيد هو الذي شكل هوية وأصالة الإنسان السوداني، وما تفتق عنه عقل الإنسان السوداني وخياله ورؤاه وابتكاراته وإبداعاته.

فالإنسان السوداني – بحسب المؤلف- بأعراقه المختلطة والذي توطدت مكانته في عصر الخرطوم الحديث بعد أن نال قدراً من التعليم وبسط نفوذه السياسي والاقتصادي في البلاد، كان عليه أن يتحمل بجدية ومسؤولية عبء التحديث عند الاستقلال وأن يبدأ البداية  الصحيحة لنهضة بلاده وتقدمها بالعودة إلى موروثه الثقافي وتراثه المنبثق من واقعه المحلي ومن التجربة التاريخية الذاتية لإنسان السودان، فهذه الصيغة المشتركة والجامعة كانت ستجنب البلاد ما آلت إليه أوضاعها اليوم من اختلاف واحتراب وصراع وتفكك.

*توفي الكاتب والباحث السوداني محمد عوض عبوش يوم الخميس 14 مارس 2024

الوسومالهوية السودانية سناؤ محمد عبوش

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الهوية السودانية سناؤ

إقرأ أيضاً:

بعد نقل العاصمة السودانية لها.. ماذا تعرف عن منطقة عطبرة؟

 

خلال الساعات القليلة الماضية خرج مجلس السيادة السوداني يعلن عن نقل العاصمة السودانية من بورتسودان إلى عطبرة بشكل مؤقت.
لذلك بدأ المواطنين يتساءلون ما هي الأهمية الاستراتيجية إلى تلك المدنية التي جعلها مجلس السيادة السوداني العاصمة.


ما هي مدنية عطبرة؟


تُعد مدينة عطبرة واحدة من أبرز المدن السودانية، وتقع في شمال البلاد على تقاطع نهر النيل ونهر عطبرة، مما يجعلها نقطة التقاء جغرافية هامة. تأسست المدينة في نهاية القرن التاسع عشر وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بصناعة السكك الحديدية في السودان، الأمر الذي أكسبها لقب "مدينة الحديد والنار".

عطبرة والسكك الحديدية عرفت عطبرة بأنها "عاصمة السكك الحديدية" في السودان، حيث كانت مقرًا رئيسيًا للسكة الحديدية التي لعبت دورًا كبيرًا في ربط أجزاء السودان المختلفة. هذه الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية جعلت من عطبرة نقطة محورية لنقل البضائع والركاب بين شمال السودان وجنوبه وشرقه وغربه. كما شكلت السكك الحديدية قلبًا نابضًا للحركة الاقتصادية في البلاد، وعملت على تحفيز النمو الصناعي والتجاري في المدينة.

تاريخ نضالي عريق إلى جانب شهرتها الاقتصادية، كانت عطبرة مسرحًا لأحداث سياسية هامة في تاريخ السودان. شهدت المدينة العديد من الاحتجاجات والمظاهرات العمالية التي شكلت ركيزة هامة في نضالات الحركة العمالية السودانية، وخاصة في فترة الاستعمار البريطاني. عُرفت بنضالها من أجل حقوق العمال وحقوق الشعب السوداني بشكل عام، وكانت مركزًا للحركات المناهضة للاستعمار.

البيئة والطبيعة تقع عطبرة في منطقة تتميز بمناخ شبه صحراوي، حيث تتميز بصيف شديد الحرارة وشتاء معتدل. ويعد نهر عطبرة الذي يلتقي بنهر النيل في المدينة من أهم معالمها الطبيعية، حيث يضفي جمالًا وسحرًا على المدينة ويعد مصدرًا هامًا لري الأراضي الزراعية المحيطة.

الثقافة والمجتمع يتسم المجتمع في عطبرة بالتنوع والتماسك، حيث يعيش في المدينة سكان من مختلف القبائل والمناطق السودانية. هذا التنوع أثرى ثقافة المدينة وجعلها نموذجًا للتعايش السلمي بين مختلف المكونات الاجتماعية. إلى جانب ذلك، تتمتع عطبرة بتاريخ ثقافي حافل يمتد عبر الفنون والموسيقى والأدب، حيث كانت مركزًا لنشاطات ثقافية وفكرية متعددة.

 


الأهمية الاستراتيجية لمدينة عطبرة

تتمتع مدينة عطبرة بأهمية استراتيجية كبرى على عدة مستويات، سواء من الناحية الجغرافية أو الاقتصادية أو التاريخية. هذه الأهمية جعلتها تلعب دورًا محوريًا في تطور السودان وربطه بمحيطه الإقليمي، إضافة إلى دورها في تشكيل الوعي السياسي والعمالي.

1. الموقع الجغرافي المحوري: تقع عطبرة في شمال السودان عند ملتقى نهر عطبرة مع نهر النيل، مما يمنحها موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا يجمع بين سهولة الوصول إلى المناطق الشمالية والوسطى من السودان. هذا الموقع يجعلها نقطة عبور أساسية للطرق البرية والنهرية، مما يسهل حركة التجارة والنقل في مختلف أنحاء البلاد. ويعتبر نهر عطبرة مصدرًا هامًا للري والزراعة في المنطقة، مما يعزز أهمية المدينة من ناحية الموارد المائية والزراعية.

2. مركز السكك الحديدية: تعتبر عطبرة عاصمة السكك الحديدية في السودان، حيث لعبت دورًا مركزيًا في حركة البضائع والركاب. شبكة السكك الحديدية كانت، وما زالت، وسيلة حيوية لربط السودان داخليًا وخارجيًا. بفضل هذه الشبكة، أصبحت عطبرة مركزًا صناعيًا هامًا، إذ أنشئت فيها ورش الصيانة والتصنيع، ما وفر فرص عمل كثيرة وأسهم في تطوير الاقتصاد المحلي.


3. الدور الاقتصادي والتجاري: تاريخيًا، ساعدت عطبرة في تسهيل حركة البضائع بين مناطق السودان المختلفة، إذ كانت مركزًا للنقل والتجارة. استغلال موارد المدينة الطبيعية، خاصة في الزراعة بفضل نهر عطبرة، جعلها ذات دور اقتصادي حيوي في توفير الغذاء وتوزيعه إلى مختلف أنحاء البلاد. كما أن قربها من مناطق التعدين جعلها مركزًا للتجارة في الموارد المعدنية.

4. الأهمية السياسية: إلى جانب دورها الاقتصادي، كانت عطبرة نقطة انطلاق للحركات العمالية والسياسية. نظرًا لكونها مقرًا لعدد كبير من عمال السكك الحديدية، كانت المدينة شاهدة على العديد من الإضرابات والمظاهرات التي طالبت بحقوق العمال وتحسين ظروفهم المعيشية. هذا التاريخ النضالي جعل من عطبرة رمزًا سياسيًا للعمال والكادحين في السودان، ولعبت دورًا كبيرًا في الحركات المناهضة للاستعمار البريطاني.


5. التأثير الثقافي والاجتماعي: بفضل دورها الصناعي وموقعها الجغرافي، أصبحت عطبرة مركزًا للتنوع الثقافي والاجتماعي. قدم إليها سكان من مختلف أنحاء السودان بحثًا عن فرص العمل والاستقرار، مما جعلها مدينة متعددة الثقافات والقبائل. هذا التنوع عزز من مكانتها كمدينة استراتيجية تساهم في وحدة البلاد من خلال جمع مختلف الثقافات السودانية في مكان واحد.

ف النهاية  تظل عطبرة مدينة ذات أهمية استراتيجية كبرى، تجمع بين الموقع الجغرافي الحيوي والدور الاقتصادي والسياسي الفاعل. هذا الدور الاستراتيجي يجعلها محطة مهمة في تاريخ السودان ومركزًا أساسيًا لتحقيق التنمية والتقدم في البلاد.

مقالات مشابهة

  • المنتخب السوداني يستعد لمباريتين حاسمتين في مواجهة غانا
  • المنتخب السوداني يستعد لمباريات حاسمة في مواجهة غانا
  • الحرب والوطنية وضياع المصالح
  • الجيش السوداني يتقدم في الخرطوم.. والمعارك تحتدم في ولاية سنار
  • بعد نقل العاصمة السودانية لها.. ماذا تعرف عن منطقة عطبرة؟
  • بعد سيطرة الجيش السوداني عليه.. ماذا تعرف عن جبل مويه بولاية سنار؟
  • الجيش السوداني يتقدم وسط الخرطوم وقوات متحالفة معه تحقق انتصارات بدارفور
  • وزير الصحة السوداني: 555 حالة وفاة بالكوليرا وإصابة الآلاف
  • وزير الصحة السوداني يكشف للجزيرة نت حجم تفشي الكوليرا
  • حلفاء للجيش السوداني يعلنون تحقيق انتصار ساحق على قوات الدعم السريع