الكتابة عن الأديب جمال أنعم تستدعي بدرجة رئيسة الوقوف على ما يمثله من قيم وما يمتلك من قدرات وملكات، تجعله يحتل مكانة سامية في مصاف الكتاب الكبار- الذين يجعلون للكتابة لوناً وروحاً تحلق في فضاء من السمو يكون خليقاً بها وتصير جديرة به.
منذ أكثر من 20 سنة كنت وغيري كثيرون – على امتداد اليمن الحبيب- ننتظر مقالة الأستاذ جمال في الصفحة الأخيرة من أسبوعية الصحوة، وكنا نرى فيه وفي مقاله ما لا نراه في غيره، رغم وجود عشرات الكتاب الذين يحظون بالتقدير والمتابعة، كانت كلمات جمال ذات وقع خاص، مثل حبات العقد لا تُرى إلا مجتمعة بالطريقة التي جمعها، ومنظومة بالترتيب الذي اختاره.
كان جمال يكتب في السياسة محلقاً في فضاءات الأدب، يناهض الظلم والفساد بعنفوان شاب وحكمة مجرّب، وقد كان- ولا يزال- لكتابته الأثيرة وقعها الخاص، ولا أخفيكم أن فكرة الكتابة عن جمال وأدبه ظل بالنسبة لي مشروعاً مؤجلاً بفعل عوامل كثيرة، حتى عادت الفكرة مجدداً مع رؤيته يطل – للعام الثاني على التوالي- في برنامج (إبحار) الذي تبثه فضائية يمن شباب، وفي إطلالته الجديدة – كما هو في كتاباته، يمتلك القدرة على التأثير بما للكمة من سحر وما للمعنى من قيمة، وما إن يبدأ في الإبحار حتى يجد الملتقي نفسه جزءاً أصيلاً في رحلة تتجاوز بدقائقها المعدودات أفياء بعيدة.
وباعتقادي أن أروع ما يتقنه الأديب جمال هو القدرة على الجمع بين ما تكتنزه ذاته من ذخائر الفكر والتاريخ والدين والأدب ثم بلورتها في قوالب خاصة، قدّها من يقين روحه المتقدة نوراً، وفاضت بها كأسه المترعة فكراً ناضجاً وأدباً سامياً يتجلى في روعة ما يكتب وما يقول.
إن في كتابات جمال إبحارٌ متواصل في فضاءات واسعة، يتتبع الينابيع بحثاً عن الروح والجذور، عن الامتداد والاعتداد، عن الكلمة والمعنى، في الرحلة بُعد صوفي لا يتغيا الوصول إلى نقطة محددة، بقدر ما يرى في السفر غاية بذاتها، ومن ثم فلا مناص من البدء في السفر والذهاب مع الريح، إلى حيث تسكن الروح.
ينطلق الكاتب/ المفكر حين يصوغ فرائده، من كون موضوع الروح موضوع ذو شجون، يستدعي حضوراً خالصاً، وطاقة حية قادرة على امتلاك النفس والإرادة في موكب الجمال والجلال، جمال الأدب وجلال الفكر، وفي كتابته تتجلى الفكرة الأصيلة في قالب جميل وجديد من الإبداع، حيث يستند على اطلاع واسع في كثير من مجالات المعرفة الإنسانية، كما يستمد من شاعريته العذبة التي تنساب ندية بين السطور.
يحلق الكاتب الكبير جمال أنعم بجناحي فكره وأدبه، ثقافته وإبداعه، جودة ما يقرأ وروعة ما يكتب، لتسري في إبداعه روحٌ آسرةٌ تملك قلب المتلقي وتأسر روحه فتسير مبحرةً في الدرب ذاته بحثاً عن ذاتها، وتجدّ – متعبةً- في طلب الراحة، كما يقول الشاعر البردوني:
ورحتَ من سفرٍ مضنٍ إلى سفرٍ
أضنى، لأن طريقَ الراحةِ التعبُ.
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: كتابات يمن مونيتور
إقرأ أيضاً:
عبد السلام فاروق يكتب: صراع العمالقة بين الإبرة والمطرقة
في عالم يبدو أنه تحول إلى ساحة معركة تجارية، تتصدر الصين وأمريكا المشهد كخصمين لا يعرفان التراجع، لكن هذه المعركة ليست بالضرورة معركة دبابات وصواريخ، بل هي معركة إبرة ومطرقة.
الصين، بإبرتها الدقيقة، تخيط اقتصاد العالم بسلع رخيصة تفتح شهية المستهلكين، بينما أمريكا، بمطرقتها الثقيلة، تحاول أن تدق أبواب الحماية التجارية بغضب.
والسؤال هو: من سينتصر في هذه المعركة؟ الإبرة التي تخيط بلا توقف أم المطرقة التي تدق بلا هوادة؟
الصين: الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس!
الصين بلا شك أصبحت "الماكينة" التي تدور حولها عجلة الاقتصاد العالمي.
بفضل قدرتها الإنتاجية الهائلة، تنتج الصين سلعا أكثر مما يحتاجه العالم وكأنها تقول: "إذا لم تشتر منا، فمن أين ستأتي بسلعك؟".
هذه الاستراتيجية، التي يسميها الاقتصاديون "فوق الطاقة الاستيعابية" (Overcapacity)، جعلت الصين تتحكم في أسواق العالم بسلاسة، فلماذا تنتج ألمانيا أو أمريكا سلعا بتكلفة عالية عندما يمكن للصين أن تقدمها بأسعار تكاد تكون مجانية؟
لكن هذه الإبرة الصينية ليست مجرد أداة للخياطة، بل هي سلاح فتاك. عندما تستورد الدول السلع الصينية بأسعار أقل من تكلفة إنتاجها المحلي، تبدأ الشركات المحلية في الانهيار واحدة تلو الأخرى.
والنتيجة؟ بطالة، انخفاض في مستوى المعيشة، واقتصادات محلية تتحول إلى أطلال.
الصين، بهذه الطريقة، لا تحتاج إلى غزو الدول بالدبابات، بل تغزوها بالسلع الرخيصة.
إنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لأن مصانعها تعمل 24 ساعة في اليوم، 7 أيام في الأسبوع.
أمريكا: المطرقة التي تدق على أبواب الحماية
أما أمريكا، فلها استراتيجية مختلفة، بدلًا من أن تنافس الصين في الإنتاج، قررت أن تلعب دور "الشرطي العالمي" في التجارة.
بقيادة دونالد ترامب، الذي يعتقد أن الجمارك هي الحل لكل مشكلة، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في فرض رسوم جمركية على السلع الصينية. وكأنها تقول: "إذا لم نستطع أن ننتج مثلهم، فلنمنعهم من بيع منتجاتهم هنا".
لكن هذه الاستراتيجية، التي تبدو كضربات مطرقة ثقيلة قد تكون ضربات في الهواء، فرغم أن الجمارك قد توفر حماية مؤقتة للصناعات المحلية إلا أنها لن توقف الصين عن التحكم في الاقتصاد العالمي.
الصين تعتمد على ميزة نسبية طورتها لتصبح ميزة تنافسية، وهي تعرف كيف تلعب هذه اللعبة ببراعة. أمريكا من ناحية أخرى تبدو كمن يحاول إصلاح ساعة باستخدام مطرقة.
الحرب التجارية: من يختار طريق الندامة؟
الحرب التجارية بين الصين وأمريكا ليست مجرد صراع بين دولتين، بل هي صراع بين نموذجين اقتصاديين.
الصين تعتمد على الإنتاج الضخم والأسعار المنخفضة، بينما أمريكا تحاول أن تحمي صناعاتها المحلية بفرض الجمارك، لكن السؤال الأهم هو: من يدفع ثمن هذه الحرب؟
الجواب بسيط: العالم كله. عندما تفرض أمريكا الجمارك على السلع الصينية، ترتفع الأسعار على المستهلكين، وعندما تخفض الصين أسعارها أكثر، تزداد البطالة في الدول الأخرى. إنها حلقة مفرغة من الصراع الذي لا يبدو أن له نهاية.
الإبرة أم المطرقة؟
في النهاية، يبدو أن الصين قد وجدت طريقة للتحكم في الاقتصاد العالمي دون أن تطلق رصاصة واحدة. بإبرتها الدقيقة تخيط العالم بسلع رخيصة تفتح شهية المستهلكين وتدمر الصناعات المحلية.
أمريكا، من ناحية أخرى، تحاول أن تدق أبواب الحماية التجارية بمطرقتها الثقيلة، لكنها قد تكتشف أن هذه الضربات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الخراب.
ربما يكون الحل في العودة إلى المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، حيث يمكن للدول أن تتفاوض على حلول عادلة. لكن حتى ذلك الحين، يبدو أن الصين ستستمر في حياكة اقتصاد العالم بإبرتها، بينما أمريكا ستستمر في دق أبواب الحماية بمطرقتها.
والسؤال الذي يبقى معلقا هو: من سينتصر في النهاية؟ الإبرة أم المطرقة؟ أم أن العالم سيكون هو الخاسر الأكبر في هذه المعركة؟
في النهاية قد نكتشف أن هذه الحرب التجارية ليست سوى فصل آخر من فصول صراع العمالقة، حيث الإبرة والمطرقة تلعبان دورا في مسرحية لا يعرف أحد كيف ستنتهي.