لماذا نسلم عقولنا للسلف حتى لو كان صالحا؟
تاريخ النشر: 15th, March 2024 GMT
يبدو مُصطلح السلف، مُستحسنًا فى العقلية الجمعية لدى معظم المجتمعات العربية، إذ يُشير إلى السابقين الأوائل، الذين نظُن أنهم الأفهم والأعلم والأحكم، ثم بالضرورة الأصلح، ذلك لأنهم أقرب زمنا لعهد النبى محمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا لم يكن غريبا أن تُقرن كلمة «السلف» لدينا بـ»الصالح» عند الإشارة إلى أولئك الأولى بالاتباع، ولم يكن غريبا أن يندمج مفهوم السلفية بالاستمساك بالدين فى زماننا، وهو ما دفع العامة إلى إطلاقه على كل شخص مُتدين حتى لو كان تدينه تدينا شكلانيا فقط.
فى النصف الثانى من القرن الواحد والعشرين، ومع إرهاصات ما يُدعى بـ»الصحوة الإسلامية»، اتسعت مدلولات الكلمة، وكُتبت كُتب ودراسات، ونشأت جماعات، وأسست جمعيات، بل وقامت أحزاب تحت اسم السلفية، لتتكرر إشكالية استدعاء الماضى، ودمجه مع الحاضر، وتسليم عقول الناس لرجل ما ربما يكون صالحا وطيبا بمفهوم زمنه الذى قد يمتد لأكثر من ألف عام مضى ليقول لنا، وهو ميت ما ينبغى فعله وما لا ينبغى فعله وفقًا لما فهمه من الدين.
وكأن الدين، ذلك المعتقد الواضح، والمباشر المُرسخ للوحدانية، والمُعزز لتلك القيم الأخلاقية العظيمة، فهو فى حقيقة الأمر لغز مُحير، وسر مُعجز لا يستقيم فهمه إلا برده للمفسرين الأوائل، والفهقاء القدامى، وعلماء الدين فى القرون الأولى، الذين مع كل تقديرنا لهم لا يحملون أى قدسية حقيقية.
واللافت فى هذا الصدد أن الاتباع الصامت للبشر تلو البشر فى تصوراتهم وتفسيراتهم للدين دون تشغيل للعقل الآنى، كان أحد مآخذ القرآن الكريم على أولئك الذين لا يتفكرون ولا يتدبرون من المشركين وعباد الأصنام لسبب وحيد هو أنهم كانوا يرفعون دائمًا فى وجه التساؤل المنطقى العقلانى بعبادة الأوثان، عبارة وحيدة تقول إنهم وجدوا آباءهم لها عابدين.
فما الفارق إذن بين هذه الفلسفة المُبررة لعبادة الأوثان، وبين قيامنا الآن برد الأمور جميعها إلى السلف وقبول فهمهم بزمانهم، وحُكمهم وفق بيئاتهم، وتصور أنها هى الدين فى ذاتها؟
أولسنا مُطالبين بعدم قبول الموروث كما هو، وتشغيل العقول فيه والحكم على كل أمر وفقًا لما نفهمه بزماننا، لا بزمان السلف حتى لو كان صالحًا؟
إنه من المؤسف أن نقرأ الآن، ونحن فى الألفية الثالثة رأى الإمام مالك فى كذا، ورأى الإمام أبى حنيفة فى كذا، وما قاله ابن تيمية عن أمر ما، وما قرره ابن حزم، وما أفتى به ابن القيم الجوزية أو ما حكم به ابن عبدالوهاب، رغم أن المكان الطبيعى والمنطقى لكل هذا التراث هو المتحف فقط. ولاشك أننا عندما نقول ذلك لا نزدرى أو نُهين أو نسب أولئك الفقهاء السالفين أو نتهمهم بأى شيء، معاذ الله، وإنما نحن نرفض بكل هدوء الخضوع لفهمهم الذى تشكل وفق معطيات زمانهم، ونرفض تجميد العقل الذى صار آفة «المسلم الحزين فى القرن العشرين» بتعبير المفكر الراحل حسين أحمد أمين.
ويبقى السؤال المُلح: ما الضرر فى استنباط فهم جديد، عصرى، مواكب، ومُعاصر لعوالم تتشكل من جديد ومجتمعات تنشأ وتتطور، وآفاق تكبر، ومفاهيم تختلف؟
إذن ما المانع أن ينفتح باب الاجتهاد فى الدين مرة أخرى بعد إغلاقه بقرار سلطوى بشرى سياسى صدر فى القرن الخامس الهجرى على يد الخليفة القادر بالله، تحت زعم مغلوط بإغلاق باب الفرقة والانقسام؟
إن أحد أخطر ما نواجهه من إرهاب، وعنف، وتعصب، وذكورية، وجمود فكرى، ونفور من العلوم التجريبية، وقعود عن التطور، وابتعاد عن التعددية، وخضوع للظلم والبطش مرده فى النهاية مجموعة من مقولات وأفكار وفتاوى وأحكام قدمها علماء الدين باعتبارها هى الدين، وفى الحقيقة لم تكن سوى فهمهم هُم للدين بمعايير زمانهم ومعارفهم وبيئاتهم.
وهؤلاء القروسطيون مازالوا يحكموننا من قبورهم، لا لشيء سوى لأننا نؤمن أن الإيمان يعنى التسليم بكل ما يصل إلينا دون تمحيص أو تفكير، وكأن العقول التى منحنا الله إياها ممنوعة عن التفكر والتدبر، ومجبولة على السمع والطاعة للسلف.
إن كل حديث مستغرب، وكل جديد يتصوره العقل الجامد بدعة، وضلالة، وعلينا أن نتذكر جيدا ما فعله علماء المسلمين عندما سئلوا عن حكم الطباعة فحرموها لأن ماكينة الحبر قد تضرب خلال الطباعة آيات القرآن، وحرموا القهوة لأنهم تصوروا أنها لم تكن موجودة لدى السلف الصالح.
وإذا كانت هجمة الحداثة قد دفعت مفكرين عظاما مثل الإمام محمد عبده إلى الدعوة بشكل علنى إلى الإصلاح الدينى للتوفيق بين التطور الإنسانى الجارى وبين عقائد الإسلام وأوامره، فإن المُحزن فى الأمر أن مصطلح «الإصلاح الديني» خفت وانزوى تحت زحف الإسلام السياسى، والخطاب السلفى المستعاد، واضطرت المؤسسات الرسمية إلى تبديله بمصطلح سطحى خاوٍ هو «تجديد الخطاب الديني».
ويقينا، فإننا لا نحتاج إلى تجديد للخطاب الدينى، وإنما إصلاح للدين نفسه، وهو لا يكون إلا بعصرنة فهمه واستيعابه بما أضافته الحداثة من إنجازات إلى البشرية.
إن العالم الآن ينظر إلى القادم، الغد، المستقبل، ويُفكر بما هو تالٍ ومتوقع، ويبحث فى فرضيات لم تأت بعد، ويعيد حساباته كلها بمنطق مهم هو منفعة البشر.
وحسبنا أن نستعير هاهنا مقولة ابن سينا الشهيرة التى يقول فيها مادحا المستحدث والجديد وغير المألوف: «فمَن قرع سمعه خلاف ما عهده، فلا يبادرنا بالإنكار، فذلك طيش. فرُب شنعٌ حق، ومألوف محمود كاذب، والحق حق فى نفسه، لا لقول الناس له. وإذا تساوت الأذهان والهمم، فمتأخر كل صنعة خير من متقدمها».
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: والله أعلم مصطفى عبيد
إقرأ أيضاً:
في مثل هذا اليوم.. 37 عاما على رحيل مخرج الروائع حسن الإمام
تحل اليوم الذكري الـ 37 لرحيل مخرج الروائع حسن الإمام، ويعتبر من أفضل المخرجين في تاريخ السينما المصريه.. اخرج للسينما اكثر من 100فيلم.
اطلق عليه مخرج الروائع حيث أبدع في إخراج مجموعه كبيره من الأفلام المتميزه، التي تعتبر جواهر في تاريخ السينما المصريه نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر، اليتيمتين، قلوب الناس، الخطايا، الثلاثيه الرابعه، بين القصرين، قصر الشوق، السكريه زقاق المدق، خلي بالك من زوزو، أميره حبي أنا، حب وكبرياء، السقا مات، حكايتي مع الزمان، سلطانه الطرب.. اخر أفلامه بكره أحلى من النهارده.
أخرج للمسرح مسرحيه واحدة : " ياحلوه ماتلعبيش بالكبريت، واخرج للتليفزيون مسلسل صاحب الجلالة الحب.. المخرج الراحل استطاع ترك بصمه كبيره في تاريخ السينما المصريه، ومازالت أعماله موضع اعجاب الملايين رحل عن دنيانا يوم 29 يناير 1988 عن عمر ناهز 69عام.
يذكر أن حسن الإمام بدأ حياته الفنية في أربعينيات القرن الماضي، وعمل مساعد مخرج في عدد من الأفلام مثل «شارع محمد علي»، و«حسن وحسن»، و«الآنسة بوسة».
جاءته الفرصة الأولي في الإخراج عام 1946 مع أول أفلامه «ملائكة في جهنم»، و في العام الثاني أخرج أفلام «الستات عفاريت»، و«الصيت ولا الغنى» لتأتي انطلاقته الحقيقية في بداية خمسينات القرن الماضي مع فيلم «اليتيمتين» ثم أفلام «ظلمونى الناس»، و«أنا بنت ناس»، و«زمن العجائب»، و«لن أبكي أبدا».
حققت أفلامه إيرادات خيالية جعلته يستحق أن يكون مخرج الروائع في السينما المصرية. وفي ستينات القرن الماضي قدم أفلام «الخطايا»، و«زقاق المدق»، والثلاثية الخالدة للكاتب نجيب محفوظ: «بين القصرين – قصر الشوق – السكرية»، كما قدَّم: «حب حتي العبادة»، و«إني أتهم»، و«مال ونساء»، و«الخرساء»، و«التلميذة»، و«المعجزة»، و«شفيقة القبطية»، و«الراهبة» وغيرها من الأفلام. وفى سبعينيات القرن الماضي قدَّم الإمام «حب وكبرياء»، وتخلي قليلاً عن أفلام الميلودراما ليقدم ألواناً أخرى. بعد النجاح المدوى لفيلمه «خلى بالك من زوزو» واستمراره في دور العرض لما يقرب من عام، غلب على أفلامه الطابع الغنائى والاستعراضى في تلك الفترة. قدَّم الإمام تجارب مشابهة في أفلام مثل: «حكايتى مع الزمان»، و«أميرة حبى أنا» وغيرها من الأفلام.
أخرج الإمام عمل تلفزيوني واحد هو مسلسل «صاحب الجلالة الحب»، وأخرج للإذاعة مسلسلا عن حياة «بديعة مصابني». وأخرج للمسرح مسرحية واحدة لفرقة نجيب الريحانى بعنوان «يا حلوة ما تلعبيش بالكبريت». انفرد وتميز أسلوب حسن الإمام عن غيره من أبناء جيله وقدم في ثمانينيات القرن الماضي: «عصر الحب» للكاتب نجيب محفوظ، وكان آخر أفلامه عام 1986 هو «بكرة أحلى من النهاردة».