بوابة الوفد:
2024-11-08@14:33:20 GMT

لماذا نسلم عقولنا للسلف حتى لو كان صالحا؟

تاريخ النشر: 15th, March 2024 GMT

يبدو مُصطلح السلف، مُستحسنًا فى العقلية الجمعية لدى معظم المجتمعات العربية، إذ يُشير إلى السابقين الأوائل، الذين نظُن أنهم الأفهم والأعلم والأحكم، ثم بالضرورة الأصلح، ذلك لأنهم أقرب زمنا لعهد النبى محمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا لم يكن غريبا أن تُقرن كلمة «السلف» لدينا بـ»الصالح» عند الإشارة إلى أولئك الأولى بالاتباع، ولم يكن غريبا أن يندمج مفهوم السلفية بالاستمساك بالدين فى زماننا، وهو ما دفع العامة إلى إطلاقه على كل شخص مُتدين حتى لو كان تدينه تدينا شكلانيا فقط.


فى النصف الثانى من القرن الواحد والعشرين، ومع إرهاصات ما يُدعى بـ»الصحوة الإسلامية»، اتسعت مدلولات الكلمة، وكُتبت كُتب ودراسات، ونشأت جماعات، وأسست جمعيات، بل وقامت أحزاب تحت اسم السلفية، لتتكرر إشكالية استدعاء الماضى، ودمجه مع الحاضر، وتسليم عقول الناس لرجل ما ربما يكون صالحا وطيبا بمفهوم زمنه الذى قد يمتد لأكثر من ألف عام مضى ليقول لنا، وهو ميت ما ينبغى فعله وما لا ينبغى فعله وفقًا لما فهمه من الدين.
وكأن الدين، ذلك المعتقد الواضح، والمباشر المُرسخ للوحدانية، والمُعزز لتلك القيم الأخلاقية العظيمة، فهو فى حقيقة الأمر لغز مُحير، وسر مُعجز لا يستقيم فهمه إلا برده للمفسرين الأوائل، والفهقاء القدامى، وعلماء الدين فى القرون الأولى، الذين مع كل تقديرنا لهم لا يحملون أى قدسية حقيقية.
واللافت فى هذا الصدد أن الاتباع الصامت للبشر تلو البشر فى تصوراتهم وتفسيراتهم للدين دون تشغيل للعقل الآنى، كان أحد مآخذ القرآن الكريم على أولئك الذين لا يتفكرون ولا يتدبرون من المشركين وعباد الأصنام لسبب وحيد هو أنهم كانوا يرفعون دائمًا فى وجه التساؤل المنطقى العقلانى بعبادة الأوثان، عبارة وحيدة تقول إنهم وجدوا آباءهم لها عابدين.
فما الفارق إذن بين هذه الفلسفة المُبررة لعبادة الأوثان، وبين قيامنا الآن برد الأمور جميعها إلى السلف وقبول فهمهم بزمانهم، وحُكمهم وفق بيئاتهم، وتصور أنها هى الدين فى ذاتها؟
أولسنا مُطالبين بعدم قبول الموروث كما هو، وتشغيل العقول فيه والحكم على كل أمر وفقًا لما نفهمه بزماننا، لا بزمان السلف حتى لو كان صالحًا؟
إنه من المؤسف أن نقرأ الآن، ونحن فى الألفية الثالثة رأى الإمام مالك فى كذا، ورأى الإمام أبى حنيفة فى كذا، وما قاله ابن تيمية عن أمر ما، وما قرره ابن حزم، وما أفتى به ابن القيم الجوزية أو ما حكم به ابن عبدالوهاب، رغم أن المكان الطبيعى والمنطقى لكل هذا التراث هو المتحف فقط. ولاشك أننا عندما نقول ذلك لا نزدرى أو نُهين أو نسب أولئك الفقهاء السالفين أو نتهمهم بأى شيء، معاذ الله، وإنما نحن نرفض بكل هدوء الخضوع لفهمهم الذى تشكل وفق معطيات زمانهم، ونرفض تجميد العقل الذى صار آفة «المسلم الحزين فى القرن العشرين» بتعبير المفكر الراحل حسين أحمد أمين.
ويبقى السؤال المُلح: ما الضرر فى استنباط فهم جديد، عصرى، مواكب، ومُعاصر لعوالم تتشكل من جديد ومجتمعات تنشأ وتتطور، وآفاق تكبر، ومفاهيم تختلف؟ 
إذن ما المانع أن ينفتح باب الاجتهاد فى الدين مرة أخرى بعد إغلاقه بقرار سلطوى بشرى سياسى صدر فى القرن الخامس الهجرى على يد الخليفة القادر بالله، تحت زعم مغلوط بإغلاق باب الفرقة والانقسام؟
إن أحد أخطر ما نواجهه من إرهاب، وعنف، وتعصب، وذكورية، وجمود فكرى، ونفور من العلوم التجريبية، وقعود عن التطور، وابتعاد عن التعددية، وخضوع للظلم والبطش مرده فى النهاية مجموعة من مقولات وأفكار وفتاوى وأحكام قدمها علماء الدين باعتبارها هى الدين، وفى الحقيقة لم تكن سوى فهمهم هُم للدين بمعايير زمانهم ومعارفهم وبيئاتهم.
وهؤلاء القروسطيون مازالوا يحكموننا من قبورهم، لا لشيء سوى لأننا نؤمن أن الإيمان يعنى التسليم بكل ما يصل إلينا دون تمحيص أو تفكير، وكأن العقول التى منحنا الله إياها ممنوعة عن التفكر والتدبر، ومجبولة على السمع والطاعة للسلف.
إن كل حديث مستغرب، وكل جديد يتصوره العقل الجامد بدعة، وضلالة، وعلينا أن نتذكر جيدا ما فعله علماء المسلمين عندما سئلوا عن حكم الطباعة فحرموها لأن ماكينة الحبر قد تضرب خلال الطباعة آيات القرآن، وحرموا القهوة لأنهم تصوروا أنها لم تكن موجودة لدى السلف الصالح.
وإذا كانت هجمة الحداثة قد دفعت مفكرين عظاما مثل الإمام محمد عبده إلى الدعوة بشكل علنى إلى الإصلاح الدينى للتوفيق بين التطور الإنسانى الجارى وبين عقائد الإسلام وأوامره، فإن المُحزن فى الأمر أن مصطلح «الإصلاح الديني» خفت وانزوى تحت زحف الإسلام السياسى، والخطاب السلفى المستعاد، واضطرت المؤسسات الرسمية إلى تبديله بمصطلح سطحى خاوٍ هو «تجديد الخطاب الديني». 
ويقينا، فإننا لا نحتاج إلى تجديد للخطاب الدينى، وإنما إصلاح للدين نفسه، وهو لا يكون إلا بعصرنة فهمه واستيعابه بما أضافته الحداثة من إنجازات إلى البشرية.
إن العالم الآن ينظر إلى القادم، الغد، المستقبل، ويُفكر بما هو تالٍ ومتوقع، ويبحث فى فرضيات لم تأت بعد، ويعيد حساباته كلها بمنطق مهم هو منفعة البشر. 
وحسبنا أن نستعير هاهنا مقولة ابن سينا الشهيرة التى يقول فيها مادحا المستحدث والجديد وغير المألوف: «فمَن قرع سمعه خلاف ما عهده، فلا يبادرنا بالإنكار، فذلك طيش. فرُب شنعٌ حق، ومألوف محمود كاذب، والحق حق فى نفسه، لا لقول الناس له. وإذا تساوت الأذهان والهمم، فمتأخر كل صنعة خير من متقدمها».
والله أعلم
[email protected]
 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: والله أعلم مصطفى عبيد

إقرأ أيضاً:

حكم المصافحة بين المصلين بعد انتهاء الصلاة

قالت دار الإفتاء إن المصافحة عقب الصلاة بين المصلين جائزةٌ شرعًا ولا حرج فيها، مع ملاحظة عدم الاعتقاد بأنها من تمام الصلاة أو من سُنَنِها التي نُقِل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المداومةُ عليها.

ما حكم المصافحة بين المصلين عقب الصلاة

وأوضحت الإفتاء أن المقصود بعبارة "حرمًا" بعد الصلاة، هي دعاءٌ بأن يرزق الله المصلي الصلاةَ في الحرم، والرد بعبارة "جمعًا" معناه الدعاء للداعي أن يرزقه الله تعالى مثل ما دعا به، أو أن يجمع الله الداعيَيْن في الحرم.

وأضافت الإفتاء أن المصافحة عقب الصلاة من العادات الطيبة التي درج عليها كثير من المسلمين في كثير من الأعصار، وهي من السلوكيات الحسنة التي تبعث الألفة بين الناس، وتقوي أواصر المودة بينهم، كما أنها ترجمة عملية للتسليم من الصلاة، ومن مقاصد الشريعة الإسلامية أن تترجم العبادة إلى سلوك وممارسة وحسن معاملة.

وأكدت الإفتاء على أن المصافحة نص جماعة من العلماء على استحبابها، مستشهدين بما رواه الإمام البخـاري في صحيحه عن أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنـه قَـالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ". قَالَ أبو جحيفة: "فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ".

قال الإمام المحب الطبري [ت694هـ]: "ويُسْتَأْنَسُ بذلك لما تطابق عليه الناس من المصافحة بعد الصلوات في الجماعات، لا سيَّما في العصر والمغرب، إذا اقترن به قصدٌ صالحٌ؛ من تبركٍ أو تودُّدٍ أو نحوه" اهـ.

واختار الإمام النووي [ت676هـ] في "المجموع" أن مصافحة من كان معه قبل الصلاة مباحة، ومصافحة من لم يكن معه قبل الصلاة سُنَّة، وقال في "الأذكار": "واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاءٍ، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به؛ فإن أصل المصافحة سُنَّةٌ، وكونُهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرَّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يُخْرِجُ ذلك البعضَ عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها" اهـ. ثم نقل عن الإمام العز بن عبد السلام [ت660هـ] أن المصافحة عَقِيبَ الصبح والعصر من البدع المباحة.

مقالات مشابهة

  • ناصر الدين ابن الفريق علي عامر في ذمة الله
  • حائل.. انطلاق مهرجان وادي السلف في محمية الملك سلمان
  • "بين السطور".. إصدار جديد للكاتب عصام الدين جاد
  • حكم المصافحة بين المصلين بعد انتهاء الصلاة
  • السني مديراً للموارد البشرية في جامعة الإمام
  • انطلاق فعاليات مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان الملكية.. غداً في حائل
  • رئيس الوزراء: مستوى الدين الخارجي والاجمالي لمصر انخفض لـ 89٪
  • مدبولي: مصر نجحت بأن يكون لديها سوق صرف مرن مع انخفاض الدين والتضخم
  • أزمة بين المزارعين والبنك الزراعى.. بسبب السلفة الزراعية
  • الحياة لمن عاشها بعقل