يظن أغلب البشر أنه يدير دفة حياته بصورة سليمة.. إلى أن يفرض عليه الاختيار أو اتخاذ قرار بعينه.. فالقرار أو الاختيار.. هو أصعب ما يواجه البشر فى حياتهم.. وتتحدد درجة الصعوبة وفق أهمية القرار أو الاختيار المطروح أمام الإنسان.. فمصير الإنسان وحياته ما هى إلا محصلة قراراته واختياراته.. وعليه دفع ثمنها أو جنى ثمارها.
والاختيار هو ما يميز حياة إنسان عن آخر.. بل هو ما يميز شعوباً عن غيرها.. ويرسم ملامح حياتها وحاضرها ومستقبلها.. ويحدد صورتها الذهنية أمام الآخرين.
والقرار أو الاختيار السليم.. هو عملية عقلية محضة.. يديرها العقل بكل ما أوتى من خبرات وعلوم وتجارب.. وآفة القرار.. أن يتدخل القلب فى عمل العقل، ليشاركه الاختيار.. فيشوش المقاييس العقلية والحسابات الرياضية والمنطقية بخيالات هلامية بلا ملامح أو مقاييس.. أو يفرض عليه اختياره بعد تعطيل عمله كلياً.. ليخرج لنا فى النهاية بنتائج وخيارات غير منطقية.. وأوضاع لا مبرر لها مطلقاً غير الطريقة التى تم بها الاختيار!
وآفة الشعوب العربية.. أنها شعوب عاطفية بطبعها.. وصف يبدو مريحاً فى ظاهره.. وإن كان يحمل فى طياته الجحيم بعينه.. لأن من ينحى العقل جانباً.. لا يجنى إلا الجنون والخبل.. خبل الاختيار.. خبل القرار.. خبل النتائج.. ويأتى فى النهاية ليلوم أى شىء وكل شىء.. إلا اختياراته وقراراته وغياب العقل عنها.. ولأننا أصحاب «لغة الضاد». . ونكاية فى العقل والمنطق اللعين.. برعنا فى تجميل كل قبيح عبر لغتنا الجميلة.. فاشتققنا مسميات أكثر بريقاً وتخديراً من تلك التى تصف الواقع.. فالفشل سوء حظ.. والاستبعاد المبكر من المنافسات الرياضية تمثيل مشرف.. والهزيمة نكسة.. والعجز «ظروف غير مواتية». . وقصر النظر وضيق الأفق «ظروف خارجية».. فنحن لانخطئ.. ولا يمكن أن يكون مصيرنا حصاد ما زرعته أيدينا.. بل هو دوماً تحالف قوى الطبيعة ضدنا.. ومؤامرات كونية نسجتها كائنات خفية لتشوه نبوغنا وتسىء لعبقريتنا.
فعندنا لا عاشق ترفضه الحبيبة، لكن النساء خائنات.. ولا طالب يرسب لأنه مقصر، لكن المراقب سامحه الله.. وعندنا أيضاً لا يفصل فاشل من عمله، فهو مطيع، وأهون من أولئك الملاعين المغترين بتفوقهم.. أما الموظف الفاسد فينعم بيننا بفضيلة، قطع العيش حرام.. وما نعرفه أحسن من «اللى ما نعرفوش».. وليس فى الإمكان دوماً أبدع مما كان.. عشرات وعشرات المأثورات والأمثال الشعبية بررت ورسخت لكائنات عبثية الوجود واللا منطق فى حياتنا.
وعلى الجانب الآخر من ضفة الحياة.. بشر وضعوا القلب موضعه وقدموا العقل فى كل أمورهم.. رفضوا أن تسرق حياتهم بالعاطفة.. أو تخدر عقولهم بأوهام ولا منطق.. فأخذ كل شىء نصابه.. ووجد العالم مكانه ومنح الجاهل فرصة «على مقاسه» للحياة.. خشيهم الجميع وخاطبهم بلغة العقل والمنطق.. فانتظمت حياتهم.. تقدموا وانحدرنا.. تسيدوا واتبعنا.. رغم أننا لسنا أقل ذكاء منهم، لكنه القلب..«تبرير عربى أخير»!.
الواقع أن عودة العقل لمقدمة حياتنا فى كل أمورنا.. أصبح ضرورة قصوى، إن كان لنا حق فى هذه الحياة.. فالعاطفة نقطة ضعف مدمرة.. إن أعملت فى غير موضعها.
ولولا قوة العاطفة وتأثيرها على السلوك الإنسانى.. لما نبهنا الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام لذلك بالقول «إن الولد مبخلة مجبنة محزنة».. فالعاطفة وحدها قادرة على جعل الكريم بخيلاً.. والشجاع جباناً.. والراضى بحياته حزيناً مع تقلب أحوال ولده.
إنه العقل.. أغلى ما يملك الإنسان.. وأعز ما كرمنا به الله.. إن قدمناه تقدمنا.. وإن ضيعناه حق علينا ما نحن فيه.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: لوجه الله حياة إنسان إن کان
إقرأ أيضاً:
بردية إدوين سميث.. الجراحة بعين العقل في مصر القديمة
في سوق مصري مزدحم عام 1862، وقف تاجر الآثار الأميركي إدوين سميث يتأمل بردية مهترئة مكتوبة بالخط الهيراطيقي، وهو شكل من أشكال الكتابة المصرية القديمة. لم يكن يجيد فك رموزها، لكنه أدرك، بغريزة الباحث، أن ما بين يديه يحمل قيمة فريدة. اشتراها على الفور، ثم عاد لاحقًا ليجمع أجزاء أخرى تبيّن لاحقًا أنها استكمال لنفس النص.
وفي قلب الأكاديمية الطبية بنيويورك، ترقد بردية عمرها أكثر من 3600 عام، تُعدّ من أندر وأهم النصوص الطبية في تاريخ الإنسانية وتسمى "بردية إدوين سميث" وتعد أقدم وثيقة جراحية معروفة من التاريخ البشري القديم، وأول نص طبي يسجل وصفًا علميًا لسرطان الثدي، وأول دليل مكتوب يعكس ممارسة منهجية للجراحة والإسعافات الطبية بعيدًا عن الطقوس السحرية.
تعود البردية إلى الفترة الانتقالية الثانية في مصر القديمة (الأسرتين 16 و17، نحو 1600 قبل الميلاد)، ويعتقد أنها كانت بمثابة دليل للجراحين العسكريين. فهي تسرد 48 حالة إصابة، من الجروح والكسور والخلوع إلى الأورام، بأسلوب يشبه الفحوص الطبية الحديثة. تبدأ كل حالة بوصف الإصابة، ثم تليها خطوات الفحص السريري، فالتشخيص، وأخيرًا الخطة العلاجية التي تتضمن غرز الجروح، وتثبيت الكسور، والعلاج بالعسل، وحتى استخدام اللحم النيء لوقف النزيف.
إعلانيُرجَّح أن البردية استُخرجت من أحد مقابر طيبة، عاصمة مصر العليا القديمة. وهي مكتوبة بطريقة مرتبة، تبدأ من الرأس نزولًا بالجسد، بطريقة تشريحية أقرب إلى تصنيفاتنا الحديثة، مما يدل على منهجية علمية متقدمة في الملاحظة والتوثيق تضع الأسس الأولى للطب السريري وتؤكد أن الملاحظة والتجريب والعقل سابقة بكثير على العصور الوسطى والمعاصرة.
وتقدم هذه البردية دليلاً ملموساً على أن المصريين القدماء طوروا نهجاً عقلانياً ومنهجياً للطب قبل آلاف السنين، ويصف الباحثون النص بأنه "أول دليل جراحي منهجي في التاريخ"، حيث تبدأ كل حالة بعنوان يحدد طبيعة الإصابة، يتبعها فحص سريري، ثم تشخيص، وأخيرًا خطة علاج مفصلة. 3 نتائج محتملة كانت تُمنح لكل حالة: "مرض يمكن علاجه"، أو "مرض محل مراقبة"، أو "مرض لا يُرجى شفاؤه"، وهي مقاربة تُذكّرنا بتقييمات غرف الطوارئ في الطب الحديث وتُظهر وعيًا مبكرًا بقضايا التنبؤ بحالة المريض وحدود الطب.
على خلاف برديات طبية مصرية أخرى مثل بردية إيبرس وبردية لندن الطبية، التي يغلب عليها الطابع السحري، تمثل بردية إدوين سميث نقلة نوعية، إذ تُعلي من شأن المنهج العقلاني والعلمي في الطب، دون أن تُقصي السحر تمامًا. فهو حاضر فقط في حالات قليلة، ومنها حالة واحدة استخدم فيها تعويذة سحرية كحل أخير.
وتكمن الأهمية الكبرى للبردية أيضًا في توصيفها التشريحي، حيث تحتوي على أول توثيق معروف لمكونات الدماغ مثل السحايا، والسائل الدماغي النخاعي (الموجود في الدماغ والحبل الشوكي)، والجمجمة، إلى جانب فهم بدائيّ لآلية الشلل وعلاقة إصابات الدماغ بالأطراف. كما توثق وصفًا دقيقًا للقلب، والأوعية الدموية، والكلى، والمثانة، وطرائق تشخيص تعتمد على المشاهدة واللمس وحتى الشمّ.
إعلانمن أبرز الحالات في البردية، تلك التي تشرح كيفية إعادة فك مفصل الفك السفلي: "عليك أن تضع إبهامك على الجانبين الخلفيين من العظم المشقوق في الفك، من داخل الفم، واثنين من أصابعك أسفل الذقن، ثم تدفعها لتعود إلى مكانها." وهي تقنية لا تختلف كثيرًا عما يعتمده الأطباء اليوم في إعادة الفك المخلوعة.
وفي حالة أخرى، يوثّق النص إصابة في الجمجمة أدّت إلى كشف الدماغ، مع ملاحظات دقيقة عن الغشاء الدماغي والسائل الشوكي، الأمر الذي وصفه فورشاو بأنه "مذهل تاريخيًا". بل إن بعض الحالات يُنصح فيها بوضع المريض تحت الراحة التامة والمراقبة المستمرة، وهي دلالة على حس إنساني مبكر في التعامل مع الإصابات الخطيرة، حتى تلك التي تُعدّ غير قابلة للعلاج.
مقاطع ناقصةوتُعدّ البردية مرجعًا استثنائيًا لفهم الطب والجراحة في مصر القديمة، غير أن ما وصلنا منها يغطي فقط ثلث الجسم البشري. فالنص يتوقف فجأة عند الإصابات في الذراع والصدر، ويغيب فيه أي ذكر لأمراض أو إصابات البطن والأعضاء الداخلية، ويقول باحثون إن اكتشاف الأجزاء المفقودة من البردية سيكون إنجازا تاريخيا وأثريا هائلا لأنه قد يقدّم لنا فهمًا أوسع لرؤية المصريين القدامى للجسم البشري.
ورغم جهود الترجمة التي بدأت مع جيمس هنري بريستد عام 1930، فإن العلماء حتى اليوم يواجهون صعوبة في تفسير بعض المصطلحات الطبية القديمة المرتبطة بالعلاجات والعقاقير، ما يجعل عملية استعادة الطب المصري القديم مهمة مستمرة ومعقدة.
وتوثق البردية 48 حالة طبية، من بينها عدة حالات تتعلق بإصابات العمود الفقري والحبل الشوكي، وتشمل أعراضًا مثل فقدان الإحساس بالأطراف، والشلل، والقصور الوظيفي، وهي أول نص طبي يصف إصابات العمود الفقري بدقة سريرية لافتة، بحسب دراسة نشرتها المجلة الأوروبية للعمود الفقري (European Spine Journal, 2010).
إعلان من الأقصر إلى نيويوركاكتُشفت أهمية البردية في الأقصر عام 1862، على يد عالم المصريات الأميركي إدوين سميث، الذي اشتراها من تاجر آثار مصري. وكان سميث -الذي وُلد في العام نفسه الذي فك فيه شامبليون رموز الهيروغليفية- مولعًا بالمخطوطات، فاحتفظ بالبردية حتى وفاته عام 1906، قبل أن تهبها ابنته لجمعية نيويورك التاريخية.
لاحقًا، تعرفت الباحثة كارولين رانسوم ويليامز على أهمية البردية، وأرسلتها إلى المؤرخ الأميركي جيمس هنري بريستد، الذي نشر أول ترجمة علمية لها عام 1930، مستعينًا بطبيب جراح. كانت تلك الترجمة لحظة مفصلية في فهم تاريخ الطب المصري القديم، حيث أثبتت أن المصريين القدماء كانوا يمارسون الطب بطريقة تجريبية وعقلانية تفوق ما كان يُعتقد سابقًا.
وتختزل رحلة البردية الطبية مسار نهب الآثار المصرية في العصر الحديث؛ من أيدي المنقبين إلى التاجر والوسيط المصري مصطفى أغا، المنحدر من قرية القرنة، والذي عمل وكيلًا للقنصليات الأجنبية في الأقصر، ثم إلى هواة جمع التحف والآثار الأوروبيين، وصولًا إلى خزائن المؤسسات الغربية. وتروي قصة البردية التي سميت باسم التاجر الأجنبي مأساة التفاوت بين ما أنجزته الحضارة المصرية القديمة في مجالات الطب والعلم، وما آل إليه الواقع من غياب عن امتلاك هذا الإرث، والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: كيف لحضارة أرست أسس المنهج العلمي قبل آلاف السنين أن تصبح مجرّد متفرّج على إرثها، يُقرأ ويُدرّس في الخارج؟
بقايا عبقرية طبيةالبردية عبارة عن لفافة طولها نحو 4.7 أمتار، مكتوبة من اليمين إلى اليسار بالخط الهيراطيقي، باستخدام الحبرين الأسود (للنص الأساسي) والأحمر (للتعليقات والتوضيح). رغم أنها تنتهي بشكل مفاجئ في منتصف السطر، فإن محتواها لا يزال قائمًا ومُلهمًا حتى اليوم. على وجهها الأمامي، نجد الإصابات الـ48؛ أما ظهرها، فيحوي 8 تعاويذ سحرية (بحسب بعض المصادر العلمية) و5 وصفات طبية، في مزيج فريد يجمع بين العلم والأسطورة.
إعلانمن عام 1938 إلى 1948، كانت البردية معروضة في متحف بروكلين، قبل أن تُنقل إلى الأكاديمية الطبية بنيويورك، حيث لا تزال تُعرض حتى اليوم. كما ظهرت نسخة محدثة من ترجمتها قبل أعوام قليلة على يد جيمس ألين، أمين الفن المصري بمتحف المتروبوليتان، لتواكب التقدم في فهم الخطوط المصرية القديمة والتقنيات الطبية.
ورغم مرور أكثر من 3 آلاف عام، فإن الكثير من الإصابات والحالات المسجلة في بردية إدوين سميث لا تزال تشغل غرف الطوارئ الحديثة. يقول أحد الأطباء المعاصرين تعليقًا على البردية "حتى عبر آلاف السنين، نواجه التحديات ذاتها".