في ظلال #طوفان_الأقصى “52”
عودٌ بعد غياب واستئنافٌ على #أعتاب_النصر
بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي
مقالات ذات صلة المدنس والمقدس في القدس 2024/03/14مضى شهرٌ كاملٌ بالتمام والكمال، لم أكتب خلاله كلمةً واحدةً، ولم أنشر مقالاً أو أعقب على حدثٍ، ولم أشارك في برنامجٍ تلفزيوني أو إذاعي، ولم ألبِ أحداً لندوةٍ أو لقاء، اعتذرت عنها دون إبداء الأسباب، ولم أرد على كثيرٍ منها قصداً خشية الإحراج، إذ آثرت الصمت والعزوف، وفضلت العزلة والوحدة، والنأي بالنفس عن القريب والبعيد، والاكتفاء بالمتابعة ومشاهدة الأحداث، والتنقل بين المحطات الفضائية التي تنقل الصور والمشاهد، ومتابعة المواقع والمراكز التي تحلل وتناقش، وتتابع وترصد، وتتوقع وتتنبأ، رغم أن أغلب مشاهدها باتت متشابهة، وأحداثها متكررة، وما يحدث قد حدث مثله وجرى ما يشبهه، في المكان نفسه أو في أماكن أخرى كثيرة، والقاتل نفسه بسلاحه وسلاح غيره، والمقتول شعبي وأهلي، وبعض أهل بيتي أو جيراني.
شعرت خلال الشهر الذي انصرم بألمٍ ووجعٍ كبيرين، وبالكثير من الحزن والأسى، وبغير قليلٍ من العجز والضعف، الذي ربما ترك آثاره على الجسد والنفس معاً، علةً وحسرةً، ومرضاً ووهناً، واعتزالاً وانطواءً، وقد انتابتني خلاله موجاتٌ متباينة من المشاعر المختلطة، التي لم أعرف سبيلاً للخروج منها أو التعامل معها، فشعبي يقتل، وأهلي يشردون، وبيوتنا تدمر، ومعالم الحياة في أرضنا تعدم، وأطفالنا يموتون جوعاً وآباؤهم قهراً، حيث لا يجدون لقمةً تحفظ حياتهم، أو شربة ماء تروي ظمأهم، بينما يقتل يومياً المصطفون في الساحات العامة وهم ينتظرون المعونات والمساعدات، ولا أعرف ماذا أقدم لهم لأخفف عنهم وأساعدهم، أو أنقذهم وأحميهم، وأرد الموت عنهم أو أصد الجوع عن صغارهم.
لعلها المرة الأولى التي أتوقف فيها عن الكتابة واللقاءات الإعلامية منذ سنواتٍ طويلة، إذ اعتدت الكتابة يومياً، والمشاركة في مختلف البرامج السياسية المتعلقة بقضيتنا الفلسطينية، تعقيباً وتحليلاً وقراءة واستطلاعاً، وكنت لا أقصر ولا أتردد، ولا أمل ولا أتعب، ولا أقنط ولا أيأس، ولا أرد سائلاً ولا أعتذر عن برنامج، بل كنت أتهم دائماً أنني أُكثر وأسهب، وأفرط في التفاؤل وأستبشر، وامتدح من غيرهم بأنني غزير الكتابة سيال القلم، حاضر الفكرة جاهز الكلمة، التي أراها دوماً طلقةً سريعةً وقذيفةً مؤثرة، لا تقل عن سلاح الميدان أثراً وفعلاً، إلى جانب غيرها من مختلف الوسائل والأدوات التي تفضح جرائم العدو وتكشف طبيعته، وتظهر مظلومية شعبنا ومعاناته جراء الاحتلال وعدوانه.
لست يائساً ولا محبطاً، ولا أشعر بالعجز ولا بالهوان، ولا بالضعف أو الضعة، بل لعلني أنا المسكون يقيناً وأملاً، الواثق نصراً وعزةً، أرى تباشير النصر وأمارات الفتح، وأسمع أهازيج النصر وتكبيرات الفرح، رغم الجراح والآلام، وآلاف الضحايا والشهداء، ومشاهد الدمار والخراب، وتآمر العالم الحر ضدنا، وتكالب الحلفاء مع الكيان علينا، وتخاذل الأنظمة العربية وصمتها عن الجرائم التي يرتكبها العدو في حقنا، فهذه المحنة ستنتهي، وهذه الغمة وإن طالت فإنها ستزول، ومن بين الركام سيخرج شعبنا عملاقاً كالطود، ومن تحت الرماد ستتقد جمرتنا لاهبةً كقطعة نارٍ، وحينها سيعلم العدو ومن تحالف معه أو تآمر ضدنا، أي منقلبٍ ينقلبون.
اليوم الخامس من شهر رمضان المعظم، الذي يصوم أيامه القاسية شعبنا الجائع في قطاع غزة، أعود فأستل قلمي من جديد، وأبريه وأحده، وأغمسه بمدادٍ من الدم، لأكتب به ما أستطيع دفاعاً عن شعبي، ومساهمةً في نضاله، وتخفيفاً من معاناته، وتسليطاً للضوء على تضحياته وعطاءاته، فشعبنا العظيم في قطاع غزة خاصةً، وفي القدس والضفة الغربية عموماً، يستحق منا أن ننصره دائماً، وأن نقف إلى جانبه، وأن نؤيده في نضاله ومقاومته، وأن نقوم بغاية ما نستطيع دفاعاً عنه، فقد أرانا من صبره وثباته، وتضحياته واحتسابه، وأظهر لنا من قدراته وإمكانياته واستبساله وعناده، ما جعلنا نفخر بالانتماء له والانتساب إليه، فاللهم وفقني وغيري في أن يكون لنا دورٌ وسهم، وأن ينالنا شرف المقاومة والعمل معها، وأن يظللنا نصرك الذي وعدت.
بيروت في 15/3/2024
moustafa.leddawi@gmail.com
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: طوفان الأقصى أعتاب النصر
إقرأ أيضاً:
طوفان الأقصى: السياسي والإيديولوجي
يمكننا، كما استخلصنا بعض السمات التي أفرزها طوفان الأقصى من جانب تعامل الطغمة الصهيونية والأمريكية معه، نريد التوقف على الجانب العربي بهدف النظر في كيفية تعاطيه مع القضية الفلسطينية عموما، وحدث 7 تشرين الأول/ أكتوبر بصفة خاصة.
لقد تصرف العرب عموما مع الحدث، وكأنه بعيد عن انشغالاتهم وهمومهم بالقدر الذي يتطلبه هذا الحدث العظيم. ولم يطرأ التغيير في مواقفهم منه إلا بعد أن طرح ترامب مسألة تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، حيث بدأت القضية لديهم تأخذ مسارا آخر. فكان الإجماع الذي افتقدته القضية منذ مدة طويلة.
قد تتعدد تفسيرات الواقع العربي، حكومات، وشعوبا، وأحزابا والتحولات التي أدت إلى المواقف من القضية الفلسطينية عكس ما وقع مثلا في 1973. لكني أريد الذهاب إلى البحث في الذهنية التي تتحكم في التصور العربي، ولا سيما لدى من ظلت القضية الفلسطينية تمثل لديهم أولوية في الصراع ضد الاستيطان، والهيمنة الأمريكية. وأقصد بصورة خاصة الأحزاب المعارضة، والنقابات، والمثقفين على اختلاف طوائفهم وألوانهم. وللقيام بذلك سأميز بين الإيديولوجيا والسياسة لأنني أرى هذا التمييز المدخل الطبيعي والضروري لفهم وتفسير ما جرى.
أعتبر السياسة فن إدارة وتدبير الوجود البشري لتحقيق المكاسب. أما الإيديولوجيا فنشر أفكار، والدفاع عنها باستماتة بهدف كسب الأنصار. إن الإيديولوجي الذي يمارس السياسة يعمل بدون وضع الزمن وتحولاته في نطاق ممارسته. إن ما يهمه بالدرجة الأولى هو تقديم تصوره الإيديولوجي الذي يتبناه ويظل يدافع عنه. والعرب لم يكونوا يمارسون السياسة ولكن الإيديولوجيا. إن الإيديولوجيا العربية، أيا كانت منطلقاتها ومقاصدها، هي ما يمارسه العرب في علاقتهم فيما بينهم، فتجد الفرقة بينهم تتخذ بعدا دينيا وطائفيا (سنة، شيعة)، وجغرافيا وحدوديا (شمال وجنوب، وغرب وشرق)، وسياسيا (حكومات وحركات). وكل منهم يرى أن إيديولوجيته هي التي تمتلك الحقيقة، والآخر ضال. وفي ضوء هذا التمايز تتخذ المواقف ضد أو مع ما يجري في الساحة العربية داخل كل قطر عربي، وبين الأقطار العربية. وهذه المواقف هي التي تتحدد في العلاقة مع الصهيونية وأمريكا خارجيا، حيث الرضوخ لهما بدعوى التحالف أو اتخاذ الحياد السلبي، أو التصريحات المجانية.
يبدو لنا ذلك بجلاء في المواقف الفلسطينية أولا من طوفان الأقصى. لقد اعتبرته السلطة الفلسطينية خطأ لأنه أعطى لإسرائيل الذريعة لتدمير غزة، وشاركتها الدول العربية الموقف عينه بصورة أو أخرى، وهو الموقف الذي اعتمده الغرب أيضا، وهو يصطف إلى جانب الأطروحة الصهيونية ــ الأمريكية. لقد تم التعامل مع الحدث على أنه عمل حركة إرهابية هي حماس ضد دولة معترف بها عالميا، ولم يكن التعامل معه باعتباره وليد صيرورة من الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي. وأنه لم يأت إلا ضد ما كانت تمارسه السلطات الصهيونية ومستوطنوها في القدس، وما ظلت تقوم به لتصفية القضية نهائيا، وخاصة منذ ولاية ترامب الأولى التي دعا فيها إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مدعيا جعلها عاصمة أبدية لإسرائيل، متنكرا بذلك لكل القرارات الأممية حول القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، وحل الدولتين.
أمام عدم انخراط الضفة الغربية في طوفان الأقصى، وهو ما كانت تخشاه إسرائيل، ملأت جبهات الإسناد الساحة، وقامت بدورها في دعم المقاومة في غزة، فبدا طوفان الأقصى وكأنه وليد إملاءات إيرانية، فاستغل هذا عالميا، وخاصة من لدن إسرائيل وأمريكا لتحوير الحرب الحقيقية من كونها قضية وطن إلى حرب بالوكالة لفائدة إيران التي صارت قطب «محور الشر». فكانت الاغتيالات لهنية في طهران، وبعد ذلك لرموز حزب الله وحركة حماس ليست نهاية لطوفان الأقصى بل لتأجيجه ودفعه في اتجاه مناقض لما كانت تحلم به إسرائيل التي توهمت أن القضية الفلسطينية ليس وراءها سوى إرهابيين يكفي القضاء عليهم لإنهاء القضية وإقبارها إلى الأبد.
لكن الصمود الوطني الأسطوري للمقاومة دفعها إلى القبول بوقف إطلاق النار في جنوب لبنان، وبعد ذلك في غزة. وخلال هدنة تبادل الأسرى والمختطفين تفرغت الآلة الجهنمية الصهيونية للضفة الغربية مستهدفة تهجير المواطنين وتدميرها كما فعلت في غزة. ومع التحول الذي عرفته سوريا، ونهاية «الممانعة» التي كانت تمنع من المواجهة مع العدو، ها هي إسرائيل تهدد أمن بلد خرج للتو من كابوس مرعب بدعوى السيمفونية النشاز: حماية أمنها القومي؟ إسرائيل شعب الله المختار عليه أن يحافظ على أمنه الذي عليه تكدير أمن «جيرانه» غير المحتملين، وتنغيص الحياة عليهم. هذه هي السياسة الصهيونية التي تنبني على إيديولوجية التسلط والهيمنة.
يبدو لنا ذلك بجلاء في المواقف الفلسطينية أولا من طوفان الأقصى. لقد اعتبرته السلطة الفلسطينية خطأ لأنه أعطى لإسرائيل الذريعة لتدمير غزة، وشاركتها الدول العربية الموقف عينه بصورة أو أخرى، وهو الموقف الذي اعتمده الغرب أيضا،
إن كل هذا نتيجة الخلاف الإيديولوجي بين مكونات المقاومة الفلسطينية الذي ظلت إسرائيل تغذيه وتفرضه طيلة كل عقود الصراع. ولا فرق في ذلك من يحمل السلاح لأنه إرهابي، ومن يخضع للهيمنة الصهيونية باسم سلطة لا حق لها في ممارستها. فكلاهما غير مرغوب فيه لأن إسرائيل للإسرائيليين وليست لأي عربي. هذا الدرس لم يفهمه بعض الفلسطينيين والعرب الذين اتخذوا مواقف مضادة من طوفان الأقصى. وهو الدرس الأكبر الذي يقدمه الطوفان لمن لم يريدوا فهم طبيعة الكيان الصهيوني وأسطورته الإسرائيلية، وهو ما يبدو حاليا بشكل أجلى منذ انتخاب ترامب في ولايته الثانية. وهو ما ظل يصرح به أبدا سموتريتش وبن غفير بوقاحة وجرأة وطغيان وعنصرية مقيتة.
يمارس الفلسطينيون بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم السياسة، ومعهم كل الأحزاب والمنظمات الحقوقية والأهلية العربية من منظور حركات التحرر العالمية في الستينيات، أي في ضوء تصورات إيديولوجية معينة. ومواقفهم من بعضهم البعض تتأسس على قاعدة: من ليس معي، فهو ضدي. إنها القاعدة التي لا يتولد منها سوى الحقد الإيديولوجي، والاقتتال الداخلي، والصراع المستدام. إنهم لا يميزون بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية. بل إن ما هو ثانوي يصبح لديهم أساسيا، وفي المستوى الأول، بينما التناقض الرئيسي يقبع في الخلفية. ولذلك نجدهم يُرهِّنون تناقضاتهم الداخلية الخاصة، وتحتل المكانة الكبرى أمام ما تمثله تناقضاتهم مع عدوهم الخارجي التي تصبح وكأنها غير موجودة. يغذي العدو هذه التناقضات، ومن مصلحته إدامتها لبسط هيمنته، وإدارته الصراع بما يخدم مصلحته.
تبدأ ممارسة السياسة لدى الفلسطينيين إذا ما جمدوا تناقضاتهم الداخلية، ووجهوا التناقض نحو العدو المشترك. في هذا التجميد يكمن الحس الوطني الحقيقي في بعده الديمقراطي والوحدوي الذي تهمه قضية الوطن عبر وضعها فوق أي اعتبار. أما تبادل الاتهامات وادعاءات تمثيل الشعب الفلسطيني فليس سوى خطابات جوفاء لا قيمة لها لأنها تعبير عن إيديولوجيا زائفة.
إن الدرس الأكبر الذي نستنتجه من الحدث الأكبر طوفان الأقصى، والذي هو في الحقيقة حلقة من حلقات ما يمكننا تعلمه من تاريخنا الحديث في صراعنا مع الآخر، أي من الاستعمار التقليدي إلى الجديد يدفعنا إلى تأكيد أن ما قلناه عن الفلسطينيين ينسحب على العرب حكومات وشعوبا وأحزابا ومنظمات مختلفة. إن التناقض الرئيسي ليس مع من يختلف معنا، ويعارضنا، إنه ضد التبعية، والتخلف، والتفرقة، والتأخر عن العصر الذي نعيش فيه. إنه ضد الآخر الذي يسعى لإدامة التفرقة بين الدول والشعوب، وإشاعة الفتنة، ونهب ثروات وخيرات البلاد العربية، والحيلولة دون تقدمها. إنه ضد الطائفية والعرقية والظلامية، ومع حرية المواطن وكرامته وعزته في وطنه، ووحدة الأوطان، وتعزيز التعاون والتقارب بينها لما فيه الخير للجميع.
إذا لم تكن السياسة فن إدارة التدبير من أجل الحياة الكريمة فإنها ليست سوى إيديولوجيا توليد التناقضات وتفريخ الصراعات، وإشعال النزعات وإشاعة النزاعات، ويكفي النظر إلى ما يمور به واقعنا لتأكيد أن الإيديولوجي مهيمن في حياتنا على السياسي.
لقد كشف طوفان الأقصى حقيقة واقعنا مع ذاتنا ومع الآخر. فإلى متى يظل يلدغ المؤمن من الجحر مرتين؟