أتصور أن غياب النخبة المثقفة عن المشهد السياسي أطلق العنان لفاعلين من خلف الستار لينفذوا أجندتهم. وأعتقد أنه قد آن الأوان للنخب المثقفة السودانية أن تتداعى بمختلف توجهاتها لانقاذ الوطن من كف العفريت.

الخبر السار أنه على الرغم من غياب السياسة مع الحضور الطاغي للبندقية فإن مستوى الوعي الشعبي سيجعل مهمة أصحاب المآرب من الفاعلين من خلف الستار شاقة إن لم تكن مستحيلة.

ذلك لأن اللعب من خلف الستار أصبح مكشوفاً مما فوت الفرصة على اللاعبين المحليين والإقليميين على حد سواء، وربما الدوليين أيضاً، للاستحواذ على المشهد وتوجيهه وفق رغباتهم. ولعل الحرب الدائرة في السودان نفسها واحدة من تجليات استعصاء المشهد على اللاعبين من خلف الستار.

أعتقد أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق النخبة المثقفة لأداء دور تنويري متقدم لفترة ما بعد الحرب. هناك مطلوبات ضرورية وملحة يجب التوافق حولها على مستوى النخبة المثقفة من مختلف التوجهات الفكرية، أبرزها:

1. إزالة آثار الغوغائية السياسية التي وسمت المرحلة الانتقالية من الاستقطاب السياسي والتنابز بالألقاب والتناحر على لا شيء.

2. إرساء أسس جديدة للممارسة السياسية تقوم على التنافس الحر وتقديم الأفضل المفضي في نهاية المطاف إلى التعاون والتكاتف، لا على التناحر والسعي للقضاء على الآخر.

3. تعزيز ثقافة الديمقراطية القائمة على أساس أن الرأي الآخر مكمل وليس خصماً، وأن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات وليس الانتماء الحزبي أو القبلي أو الجهوي، وأن المواطن في سياق الدولة قيمة مستقلة عن أي انتماء بخلاف الانتماء للوطن، وتزداد هذه القيمة بقدر ما يكتسبه المواطن من قدرات ومهارات ومعارف للمساهمة في تقدم الدولة ورقيها.

4. صياغة مشروع وطني جامع يجد فيه المواطن نفسه بالأصالة، بمعزل عن أي انتماء إلا للوطن. يكون هذا المشروع شاملاً بحيث يجد فيه كل مواطن نفسه بصرف النظر عن مجال تخصصه واهتماماته، مشروع يفجر الطاقات ويستهدف استغلال ثروات البلاد لتحقيق رفاه المواطن مادياً وثقافياً.

5. بناء دولة القانون والمؤسسات التي لا مكان فيها للقرارات الفردية أو النخبوية أو الجهوية، دولة تقيم وزناً معتبراً للمؤسسات ويصبح الفرد فيها قابلاً للمساءلة مهما علا شأنه وارتفعت مكانته، دولة يكون فيها ماكنة خاصة للعلماء والخبراء. بناء دولة المؤسسات يعني وجود شفافية كاملة في إدارة الشأن العام من حيث التوظيف في المؤسسات العامة وشفافية في صناعة القرار في الدولة وإدارة المال العام.

6. إرساء أسس جديدة للتداول السلمي للسلطة وفق الأوزان السياسية للأحزاب وبرامجها التنموية، بعيداً عن أي شكل من أشكال التحايل السياسي أو الانقلابات العسكرية، مع التشديد على إبعاد الممارسة السياسية عن الاستقطاب وشيطنة الخصوم.

7. إعداد سياسة سكانية تضمن إدارة التنوع حتى يشعر المواطن في كل بقعة من الوطن بوجوده في الدولة بصرف النظر عن لون بشرته أو لكنته أو إثنيته، ترسيخاً للشعور بالانتماء. هذا الشعور بالانتماء هو الذي يمنع اندلاع حركات التمرد من وقت لآخر.

هذه النقاط السبع تمثل الدور المنوط بالنخبة المثقفة التي يجب أن تمثل مصلحة المواطن وليس مصلحة القوى السياسية المتصارعة على السلطة.

إن قيام النخبة المثقفة بدورها سيجعل مهمة اللاعبين من خلف الستار صعبة إن لم تكن مستحيلة. وأن الوعي الشعبي الذي ارتفع بفضل وسائل التواصل الاجتماعي سيجعل مهمة النخبة المثقفة سهلة وميسرة.

أرجو أن أؤكد على أهمية دور الطبقة المثقفة في المرحلة القادمة، مرحلة ما بعد الحرب. إن هذه الأهمية مؤكدة إستناداً إلى قناعة ترسخت من خلال المتابعة اللصيقة للخطاب المزدوج الصادر من الدول الغربية ومقارنته بالأفعال على الأرض.

والخلاصة هي أن الدول الغربية بقدر ما أنها تنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان إلا تمنع قيام الديمقراطية في بلاد المسلمين بصفة خاصة وخارج النطاق الغربي بصورة عامة، لما قد يترتب على ذلك من تحرر كامل واستقلال سياسي يؤدي بالضرورة إلى إحداث تنمية مستدامة قائمة على البحث العلمي والتصنيع مما يؤدي إلى بروز أنظمة سياسية تنافس الغرب وتمنع عنه المادة الخامة.

الديمقراطية الحقيقية تعني أن الشعب سيختار قيادته السياسية بكامل إرادته، ولن تكون هذه القيادة المنتخبة عميلة للغرب كما يحصل في حالة القيادات المنصوبة من قبل أجهزة الاتسخبارات الغربية. لذلك نشاهد أن الخطاب المزدوج للغرب يرتفع صوته منادياً بالديمقراطية وحقوق الإنسان من ناحية ويرعى أنظمة الاستبداد السياسي من ناحية أخرى نظراً للولائها الكامل للمصالح الغربية على حساب المصالح الوطنية.

النخبة السودانية المثقفة بحاجة إلى التأكيد على استقلال البلاد، وإبعاد التدخل الخارجي بأي شكل، ومنع الاستعانة بقوى خارجية ضد الخصوم المحليين. أنا هنا لا أدعو للخطاب المناهض للغرب ولا أدعمه، وهو خطاب شعبوي كثيراً ما اختبأ خلفها الانتهازيون، بقدر ما أدعو إلى تركيز الاهتمام على النقاط السبع التي أشرت إليها مع إمكنية التعاون مع الخارج على أساس مصلحة البلاد.

خلاصة القول أن غياب النخبة السودانية المثقفة عن الساحة السياسية أفسح مجالاً واسعاً للخطاب الشعبوي الغوغائي الاستقطابي الذي انتهى بالحرب الدائرة حالياً. وما لم يكن هناك تدخل من النخبة المثقفة لتغيير الخطاب إلى خطاب يحشد المجتمع في حراك فكري محموم من أجل بث قيم الوحدة الوطنية واستنهاض الهمم وبعث الأمل في مستقبل أفضل لنا جميعاً، فإنه من المرجح أن يبرز خطاب شعبوي جديد معاكس لنفس الخطاب الغوغائي السابق وسنظل نراوح مكاننا وسيكون للاعبين الخارجيين دور كبير في عرقلة أي توجه حقيقي للنهوض بالوطن سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

بقلم: رمضان أحمد

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

“مؤتمر القاهرة” يطالب بوقف الحرب فورا في السودان

أكد البيان الختامي لمؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية الذي استضافته القاهرة، يوم السبت، على ضرورة الوقف الفوري الحرب، ووقف العدائيات وضرورة الالتزام بإعلان جدة الموقع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

ودان البيان الانتهاكات التي ارتكبت في الحرب، ودعا النظر الي الوضع الإنساني ودعم جهود المجتمع الدولي والمحلي والالتزام بتعهداتهم

اقرأ أيضاًالعالمبايدن وزوجته يبحثان القرار المصيري في “معسكر مغلق”

نص البيان:

نحن القوى السياسية والمدنية السودانية التي توافقت على هذا البيان، اجتمعنا بدعوةٍ كريمةٍ من حكومة جمهورية مصر العربية الشقيقة بعاصمتها القاهرة تحت شعار (معاً من أجل وقف الحرب)، وتداولنا الرؤى ووجهات النظر، في لحظة حرجة من تاريخ بلادنا، تهدد استقرارها واستقلالها ووحدة أراضيها وهددت بقاءها كدولةٍ لشعبٍ له إرثه الحضاري الأصيل والمُشرف، وتسببت في كارثةٍ إنسانيةٍ مريعة، وعصفت بملايين الأسر إلى المجهول، وفى هذه الساعة التي نتداول فيها، يعانون من ويلات الحرب، ومآسي النزوح والتشرد واللجوء والموت جوعاً، والافتقار لأبسطِ مقومات الرعاية الطبية، وينتظرهم شبحِ الأميةِ المُتوحش ، تاركاً أمتنا فريسةً لأجيالٍ من ضياعِ العقول والجهلِ والتطرف.
لقد استجبنا للدعوة الكريمة التي بادرت بها جمهورية مصر العربية لجمع السودانيين، وبحُضورٍ مُقدرٍ من دول الجوار والمنظمات الإقليمية والدولية بغرض التشاور والاتفاق على الحدِ المطلوب للعمل المشترك من أجل وقف الحرب وإنهاء الأسباب التي أفضت إليها، والمسارعة لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة وعلى رأسها الغذاء والدواء والتعليم، أملاً في أن تتكلل هذه الجهود بإسكات صوت المدافع وتحقيق أمان المدنيين واخراس أصوات العنف والكراهية والدعاية السالبة، والسعي معاً من أجلِ إعادة الإعمار للمرافق الأساسية التي تجعل حياة السودانيين مُمكنة في بلادهم وتهيئة الدولة لضمانِ الأمنِ والسلام لعودتهم إلى بيوتهم ومُزاولةِ حياتهم الطبيعية.
لقد اتفق المؤتمرون على أن الحرب التي اجتاحت بلادنا وقتلت وشردت وأذلت شعبنا ومزقت نسيج بلادنا الاجتماعي، صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023، لا تمثل فقط علامةً فارقةً، ولكنها تاريخٍ جديدٍ يُلزم كل سوداني وسودانية بالنظرِ والمراجعةِ الدقيقةِ لمواقِفنا كافة. إننا ندين كل الانتهاكات التي ارتكبت في هذه الحرب، ونؤكد أنّ الحربَ مُؤشر حيوي للتفكير في إعادة التأسيس الشامل للدولة السودانية على أسس العدالة والحرية والسلام، وهو الأمر الذي يتطلب قناعة كل السودانيين به، ولهذا فإن اجتماعنا اليوم يتوجه تِلقاء المستقبل المُعافى ولأجيالنا المُقبلة في وطنٍ يكتنِفه السلام والعدالة والنهضة والحرية وسيادة حكم القانون، مستفيدين من تجاربنا وخبرات شعوب العالم في تجاوز الحرب وأهوالها نحو المصالحة الوطنية الشاملة والعدالة الانتقالية.
شمل النقاش والتداول ضرورة الوقف الفوري للحرب بما يشمل آليات وسبل ومراقبة الوقف الدائم لإطلاق النار ووقف العدائيات. كما أكد المؤتمرون ضرورةالالتزام بإعلان جدة والنظر في آليات تنفيذه وتطويره لمواكبة مستجدات الحرب. وتوجه المؤتمرون بالدعوة والمناشدة إلى الدول والجهات الداعمة لأطراف الحرب بأيٍ من أشكال الدعم المباشر وغير المباشر، للتوقف عن إشعال المزيد من نيران الحرب في السودان.
وإذ تُمثل الازمةُ الإنسانية السودانية المأساة الأكبر في العالم، كما أنها تأتى في رأس الأولويات التي تستوجب التصدي لها من قبل السودانيين والقوى السياسية والمجتمع المدني والمنظمات الإنسانية، حيث إن وصولِ المساعدات هو أمر واجب لإنقاذ حياة ملايين السودانيين. وقد دعا المؤتمرون إلى حماية العاملين في المجال الإنساني وتجنيبهم التعرض للخطر والملاحقة والتعويق من قبل أطراف الحرب وفقاً للقانون الدولي والانساني، ومواصلة دعم جهود المجتمع المحلى والدولي للاستمرار في استقطاب الدعم من المانحين وضمان وصوله للمحتاجين. كما ناشد المؤتمرون المجتمع الاقليمي والدولي الايفاء بالتزاماتهم.
أما المسار السياسي لحل الأزمة فقد أجمع المؤتمرون على المحافظة على السودان وطناً موحداً، على أسس المواطنة والحقوق المتساوية والدولة المدنية الديمقراطية الفدرالية. ان اجتماع القاهرة يمثل فرصةً قيمةً إذ جمعت لأول مرة منذ الحرب الفرقاء المدنيين في الساحة السياسية، كما جمعت طيفاً مُقدراً من الشخصيات الوطنية وممثلي المجتمع المدني، توافقوا جميعاً على العمل لوقف الحرب باعتبار أن ذلك هو سؤال سائر السودانيين ومطلبهم الأساس. وأكدوا على تجنيب المرحلة التأسيسية لما بعد الحرب كل الاسباب التي ادت الي افشال الفترات الانتقالية السابقة، وصولاً الي تأسيس الدولة السودانية.
توافق المؤتمرون على تشكيل لجنة لتطوير النقاشات ومتابعة هذا المجهود من اجل الوصول الي سلام دائم.
في الختام نتوجه بالشكر لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي ولحكومة وشعب جمهورية مصر العربية الشقيقة. لوقفتهم إلى جانب الشعب السوداني في محنته الراهنة.
ودعت مصر إلى مؤتمر يجمع القوى السياسية السودانية بهدف “الوصول لتوافق حول سبل بناء السلام الشامل والدائم في السودان، عبر حوار وطني سوداني – سوداني يتأسس على رؤية سودانية خالصة”، وذلك “بالتعاون والتكامل مع جهود الشركاء الإقليميين والدولي”.
ويشهد السودان منذ أبريل 2023 حرباً داخلية بين الجيش وقوات الدعم السريع، راح ضحيتها آلاف المدنيين، ودفعت نحو 10 ملايين سوداني للفرار داخلياً وخارجياً لدول الجوار، حسب تقديرات الأمم المتحدة.

مقالات مشابهة

  • مؤتمر القاهرة.. اختراق إيجابي رغم الخلافات
  • سياط الفقراء.. إلى أين تمضي الديمقراطية الغربية؟
  • متى ينعتق السودان ونخبه السياسية عن الدوران في فلك الأنظمة المصرية؟
  • البيان الختامي لاجتماع القوى السودانية بالقاهرة
  • ننشر البيان الختامي لمؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية
  • «الجيل»: مصر تؤكد دورها القومي باستضافة مؤتمر القوى السياسية السودانية
  • السيسي: مصر تبذل أقصى الجهد لمواجهة تداعيات الأزمة السودانية
  • مؤتمر القاهرة وحالة التباعد بين السياسيين
  • “مؤتمر القاهرة” يطالب بوقف الحرب فورا في السودان
  • "مؤتمر القاهرة" يؤكد على ضرورة وقف الحرب فورا في السودان