لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها.

.

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..

الفصل الثالث

ما طبيعة العاريات المزعومة التي نجدها في القرآن والتي لا أحد ينفي وجودها بحيث إن المشكل ليس فيه بل في منزلتها ودلالتها فيه؟ ما الدور الذي تؤديه في بعده النقدي والتفكيكي الذي يستعمله لعلاج ما يسميه القرآن تحريفا  في ممارسات الأديان السابقة ورؤاها للديني ووظائفه في تاريخ الإنسانية؟

للجواب عن هذه المسألة علي أن أبدأ فأعرف القرآن: "فالقرآن عمل ذاتي النوع يؤدي دور المؤسس لخمسة فنون دينية" ويمكن أن نسميه علما رئيسا ما بعد خلقي- Architectonique méta-éthique-وهو دور شبيه بالميتافيزيقا في الفنون الفلسفية. فالقرآن الذي هو متعدد الأبعاد ومتراكمها في عمقه يبدو في ظاهره عديم النظام ومن ثم فقد لا يتبين قارئه بنيته العميقة.

وسأكتفي ببعدين من أبعاده لتعريف طبيعة "جنسه الأدبي" واستخراج بنيته العميقة للكشف عن طبيعة جوهر رسالته. وهذان البعدان يبدوان لي كافيين ليس لدحض هذه القراءة المزعومة حديثا فحسب بل كذلك للبرهان على أن القرآن يعد خطة أولية لفلسفة  في الدين في علاقة بفلسفة التاريخ ومن ثم  فخطابه هو في آن خطابا ما بعد ديني وما بعد تاريخي (3):

1 ـ  فالبعد  الأول من النص القرآني يحدد طبيعة تلك العاريات الشهيرة ومنزلتها التي نجدها في كل سورة والتي ليست هي في الحقيقة إلا "منتخبات" أو "شواهد" يحللها ويعلق عليها في "تاريخه" النقدي للظاهرة الدينية. وبالتالي فليس قصدي التشكيك في وجود هذه الشواهد بل بالأولى سأحاول بيان طبيعتها ووظيفتها في خطابه. فهو يثبت بعض هذه الشواهد ويدحض بعضها الآخر. وتلك التي يثبتها تثمل الأفكار والقيم التي يعتبرها تراثا مشترك للأديان الكتابية أو هي بالأحرى الديني في كل دين متعين في تاريخ الأديان. أما التي يدحضها فهو يعدها ممثلة لما يسميه تحريفا. وذلك هو بالذات ما يعنيه المفهوم المنهجي الذي يسميه القرآن منهج "التصديق والهيمنة" (4).

إن السلطتين الاستبداديتين تتقاسمان نية جعل الدين مجرد خطة لسلطان مسيطر بدلا من أن يكون بمتقضى طبيعته فضيلة خلقية وسياسية لتحرير الإنسان. لذلك فالقرآن يندد بالطبقة الوسيطة في الدين والطبقة السياسية المسؤولتين على إفساد الديني من حيث هو ديني وتطبيقه في المجال الخلقي والسياسي.فحضور هذه الشواهد في صوغه الأولي لفلسفة الدين وفي إصلاحه للعلاقة بين الديني والتاريخي عامة أمر لا غناء عنه إذ أن هذه الشواهد هي إما عناصر مشتركة لرسالة الأنبياء أو موضوع نقده للعلاقة بين هذه الرسالة المشتركة والمعوقات الاجتماعية الثقافية المسؤولة عن فشل الرسالات التاريخي.

2 ـ أما بعد النص القرآني الثاني فيهدف إلى تحديد مشروع أساسي غايته إصلاح هذه العلاقة بين الرسالة الدينية والشروط الأخلاقية السياسية لتحقيقه في التاريخ الإنساني.

وهذا الشروع الذي هو عين جوهر الرسالة القرآنية والذي يعد مشروعا كونيا ونهائيا يهدف إذن إلى تحقيق الشروط الفعلية لمجتمع إنساني متحرر من عبودية مزدوجة: متحرر من العبودية الروحية بفضل فلسفة في التربية دون وساطة رجال دين مستبدة (5) وتحرر من عبودية سياسية بفضل فلسفة سياسية تؤسس لحكومة لا وصاية فيها لطبقة سياسية مستبدة (6).

1 ـ والعبودية الأولى روحية وتتمثل في وساط سلطة روحية مستبدة تفسد التربية بالتوسط بين الإنسان ومصالحه الروحية أو سماوية (الكنسية المستبدة).

2 ـ والعبودية الثانية سياسية وهي وصاية سلطية سياسية مستدبة تفسد السياسة بالتوسط بين الإنسان ومصالحه السياسية أو الدنيوية (الدولة المستبدة).

إن السلطتين الاستبداديتين تتقاسمان نية جعل الدين مجرد خطة لسلطان مسيطر بدلا من أن يكون بمتقضى طبيعته فضيلة خلقية وسياسية لتحرير الإنسان. لذلك فالقرآن يندد بالطبقة الوسيطة في الدين والطبقة السياسية المسؤولتين على إفساد الديني من حيث هو ديني وتطبيقه في المجال الخلقي والسياسي.

وهكذا فما أعنيه بالبعد الأول هو النقد التفكيكي للتجارب التاريخية التي تقدم لنا أمثلة من فشل الرسالات الدينية المتوالية التي يقص القرآن تاريخها.

اما البعد الثاني فأعني به أولا المشروع البديل في مجال مصالح الإنسانية الروحية التي هي جوهر الديني  وثانيا الرهانات التاريخية التي هي جوهر الخلقي السياسي. ذلك هو ما يعالجه الإصلاح القرآني الهادف لتعرية هذه الإخفاقات وتقديم الإجراءات الضرورية لعلاجها.

وذلك هو ما يبدو لي محاولة أولية لوضع فلسفة الدين في علاقة بفلسفة التاريخ وكلتاهما فلسفة كونية شاملة لكل الإنسانية. وذلك هو الرسالة النسقية التي تغفلها القراءة السياقية باعتماد التاريخ الاجتماعي الثقافي الذي نشأت فيه الرسالة لجعلها مجرد انعكاس لهما  إما بعدم وعي أو بقصد فتجهل أو تتجاهل طبيعة المشروع القرآني وطبيعة حضور الشواهد من الأديان السابقة في نصه.

وهذا المشروع لا يستعمل في سعيه لإقناع مخاطبيه منهج المعجزات النبوية بل هو يستعمل نظام استدلال يناقش المعتقدات  والأخلاقيات الحاضرة في المؤسسات الدينية بالإحالة إلى الديني الذي يعرفه بكونه خاصية فطرية عند الإنسان حيث هو إنسان. وإذن فطريقة الرسالة هذه تستعمل الطريق المضاعفة  التي يتبعها الفكر الإنساني ليتحرر من السياق الاجتماعي والثقافي فلا يكون مجرد انعكاس لهما بل هو متعال عليهما بوصفهما موضوع نقده التفكيكي لما يمثلانه من معوقات لتحقيق المثل التي يقدمها للإنسانية.

والأمر يتعلق بالطريق المضاعفة التي تتبعها نظرية المعرفة ونظرية الجمال التي تقلب العلاقة بين بين ابداعات الفكر التي هي الرؤية التي تبدع  المنهج والموضوع في آن لئلا تكون مجرد انعكاس ما تسميه الفرضية التي أنوي نقضها "الواقع".

وفعلا فإن العلم والفن كلاهما يستعمل للبلوغ إلى الكلي الأبستمولوجي والكلي الجمالي استراتيجية النسق الذي يعبر إما عن الادراك العقلي أو عن الإدراك الذوقي أو أخيرا عنهما في آن كما تفعل رسالة القرآن.

وهذه الطريق المضاعفة تمكن الفكر الإنساني المبدع من التحرر من سيطرة "الواقع". فبدلا من الخضوع  له يبدع الفكر "أدوات"  الفكر النظري و"أدوات" الذوق الجمالي وهي أدوات تمكنهما من تأويل السياقات الاجتماعية والثقافية ومناقشة أنواع التناص بردها إلى حالات خاصة من عالم أسمى من عالم الطبيعة ومن عالم التاريخ لأنه عالم متعال على التعين الحسي  تعاليا يمكن من إدراك الحقيقة التي تعليل كونه على  ما هو عليه. فالفلسفة تعتقد أن العالم صنيعة قوانين الضرورة الطبيعية والدين يعتقد أنه صنيعة قوانين الإرادة الإلهية الحرة.

إن العلم والفن كلاهما يستعمل للبلوغ إلى الكلي الأبستمولوجي والكلي الجمالي استراتيجية النسق الذي يعبر إما عن الادراك العقلي أو عن الإدراك الذوقي أو أخيرا عنهما في آن كما تفعل رسالة القرآن.وهكذا فإنه يمكنني القول إن ما يدور حوله الكلام بوصفه السياق الاجتماعي الثقافي وتناصا القرآن لا يستعملهما بوصفهما تمثيلا تجريبيا للأفكار التي يعالجها فحسب، بل هو يجعلها موضوع نقده الذي ليس هو إلا أحد أبعاده كما سنبين. فهو يختارها بصورة قصدية وهو يضربها أمثلة يجلعها موضوع "تفكييك" بغاية التمييز بين ما يعده دينيا وما يعده تحريفا مفسدا للديني فسادا حل بالمؤسسات الدينية التي وظفت الديني لكن الديني يبقى سليما وهو ما يريد تحريره من التحريف.

ويمكن أن نقارن هذه الطريقة بالطريقة التي استعملها أرسطو في مقالة الألف الكبرى وكذلك في المقالات الثلاث عشرة الباقية في الميتافيزيقا. ولكن مع وجود فرقين أساسيين بين الميتافيزيقا التي من المعلوم أنها سميت " إلهيات في التلقي الإسلامي" وهو من اسمائها الارسطية (العلم الإلهي والعلم الرئيس والحكمة). ولهذه العلة بينت الفرقين عندما اطلقت على القرآن اسم الارشيتاكتونيك ما بعد الخلقي أو العلم الرئيس ما بعد الخلقي أو الأخلاق الإلهية:

1 ـ فالفرق الأول ينبع من طبيعة موضوع النقد. فالرسالات الديينية التي يأتي بها الأنبياء ذات مصدر إلهي ومن ثم فالقرآن لا يمكن أن يجعلها موضوع نقده كما فعل أرسطو مع نقد أفكار القدامى. فالخطأ لا يتعلق بالرسالة الدينية بل بما صارت عليه في المؤسسات الدينية الوضعية التي أفسدت طبيعتها ووظيفتها بتواطؤ صريح بين رجال الدين والحكام (آل عمران).

2 ـ لكن الفرق الثاني هو الأكثر أهمية لبحثنا في المنهج الذي نرفضه إذ هو الذي يتعلق بأساس النقد الأبستمولوجي والوجودي في استعمال النص القرآني.

فلعلتين يرفض القرآن ابستمولوجية المطابقة الأرسطية التي نكصت إليها الهيغلية والماركسية اللتين ترفضان النقد الكنطي  واللتين تبناهما الإسلامولوجيون بوعيأو بغير وعي:

أ ـ فالقرآن يؤكد أن العلم المحيط لا يمكن أن يكون إلا علم الله والإنسان لا يمكن أبدا أن يحوزه لأن وجود الغيب يعد في الدين من جنس "الشيء في ذاته" عند كنط.

بـ ـ والقرآن يؤكد أن العالم ليس واحدا وكل عالم له ما بعده الذي لا يمكن أن يرد إليه لعجزنا عن الولوج إلى ما يتعالى على المحسوس من العالم الشاهد.

وبصورة عامة فإن الوضعيات النموذجية للعلاقة بين الديني والتاريخي مع كونها تمثل اللحظات الأساسية في التاريخ الكوني تتخذ شكل مقاومة ما هو اجتماعي ثقافي لما هو مضمون الرسالات النبوية كما يتبين ذلك في الوضعية التاريخية التي تتميز بيها حقبة من حقب التاريخ وهي تعرف بمن يصادم الرسالة النبوية ذات الصلة بالحقبة المعنية.

الهوامش:
 3 ـ أاعني بما بعد الديني كون القرآن لا يقتصر على تبليغ رسالته الدينية بل هو يدرس طبيعة دور الرسالة الينية المتقدمة عليه ويحال تعليل فشلها التاريخي. إنه في آن رسالة دينية ودراسة نقدية للرسالات السابقة لتتطهيرها مما طرأ عليها من تحريف. واعني بما بعد التاريخ كون القرآن لا يكتفي بقص تواريخ الشعوب الذين تلقوا تلك الرسالة النبوية بل هو يجعلها موضوع فحص نقدي كذلك ليعلل فشل الرسالات.
4 سورة المائدة 48
5 سورة الحديد 27
6 الشورى 38

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير رأي القرآن الكريم نص تاويلات أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القرآن لا فی الدین یمکن أن لا یمکن ما بعد

إقرأ أيضاً:

بنات الموديلز في اليمن.. صدام مع المجتمع وقيود العادات والتشريع الديني (تقرير خاص)

بين قيود العادات والتشريع الديني، تواجه ما يسمى بـ "الموديلز" أو عارضات الأزياء في اليمن، صداما مع مجتمع لم يألف هذا النوع من المهن، ويوصف بالمحافظ، ويراها مخالفة للدين والشرع والأعراف والتقاليد.

 

رغم الرفض المجتمعي المطلق تحت مسمى الشرع والعادات والتقاليد لمثل هكذا مهنة، إلا أن هناك فتيات بعدد الأصابع بدأن بكسر تلك القيود في مزاولة تلك المهنة والظهور في جلسات تصوير محلية والعمل مع مصممي أزياء يمنيين، لكنهن وجدن أنفسهن في مواجهة المجتمع وقمع السلطات ففي مختلف المناطق اليمنية، كان آخرها "خلود باشراحيل" (20 عاما)، التي اعتقلتها السلطات الأمنية في حضرموت ثاني أيام عيد الأضحى بعد نشرها صورا لها بذكرى زفافها مع زوجها.

 

وظهرت باشراحيل معلنة رغبتها في التحول للعمل كموديل وعارضة أزياء، ونشرت عدة مقاطع فيديو مصورة تظهرها في جلسات تصوير، وهي بدون الحجاب، وتنتقد من يهاجمها، وتدعو إلى التحرر من الأفكار المتطرفة، كما وصفت المجتمع بالمتخلف والمنافق، قبل أن تعتقلها السلطات الأمنية.

 

انتصار الحمادي، مريم ناظم، سالي فؤاد، جور الشوافي، خلود باشراحيل، ديانا ضبعان، أريج السيد، هن أبرز عارضات الأزياء اليمنيات، بعضهن غادرن اليمن ويمارسن عملهن من الخارج خوفا من قيود المجتمع والسلطات، والبعض الأخر تعرضن للاعتقال والسجن وتخشى أخريات أن يكن مصيرهن مشابه لما سبقهن.

 

آخر فصول القمع ما تعرضت له الموديل "باشراحيل" في إحدى سجون مدينة المكلا التابعة للحكومة اليمنية، وقبلها ما حدث للموديلز "انتصار الحمادي" من انتهاكات من قبل جماعة الحوثي وصفتها منظمات حقوقية بالخطيرة.

 

كانت الشابة اليمنية انتصار تحلم بأن تصبح عارضة أزياء، لكنّها وجدت نفسها محتجزة في سجن في العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين، في بلد تعاني فيه المرأة من صعوبات جمة فاقمتها الحرب.

 

في شباط/فبراير 2021 اعتقلت السلطات الأمنية التابعة لجماعة الحوثي في صنعاء عارضة انتصار الحمادي، بتهمة ارتكابها فعل فاضح ومخالف للشريعة الإسلامية وأصدرت المحكمة الابتدائية التابعة للجماعة حكما بالسجن خمس سنوات.

 

أفكار طوباوية

 

الدكتور عبدالكريم غانم، الباحث في علم الاجتماع، يرى أن خلود باشراحيل وقبلها انتصار الحمادي، وغيرهن هن التعبير الواضح عن حال من الفئات الحداثية التي لديها أفكار طوباوية تتجاوز الواقع الذي لم يعترف بالحريات الاجتماعية والشخصية، في ظل ما هو سائد من تابوهات دينية وأخرى أخلاقية يتم تجسيدها من خلال النصوص القانونية.

 

 

في حديث لـ "الموقع بوست" يرى غانم أن باشراحيل والحمادي ليستا حالة فردية، بل ظاهرة اجتماعية عفوية عبرت عن نفسها بشكل واضح في الحراك الثوري الذي شهده اليمن منذ 2011 عبر تجليات مختلفة، منها ممارسة الحرية الشخصية وحرية المعتقد والحرية الجنسية وغيرها.

 

وأضاف "الأمن الذي يفترض أن يوجه لمنع وقوع جرائم من اختلاس ونهب المال العام قد يجد ضالته بالقبض على مشاهير السوشال ميديا، أو ملاحقة متبرجة، لأن مثل هذه القضية تسترعي اهتمام المجتمع التقليدي أكثر من اهتمامه بقضايا الفساد.

 

وعن الرفض المجتمع لمثل هذه الظاهرة، يقول غانم إن "المجتمع يغلب عليه الطابع التقليدي المحافظ ويعتقد أن هذه الظواهر الرافدة تشكل تهديدا لسلطته، لا سيما أن فرص تمكين المرأة اقتصاديا وسياسيا في ظل الحرب والحصار تبدوا ضئيلة ومن منظور مجتمعي لا جدوى من تقديم تنازلات كهذه دون تقاضي فوائد ملموسة".

 

وأكد الخبير في علم الاجتماع اليمني أن العوائق التي يمكنها أن تواجه تلك الفئات من النساء هو المزاج الشعبي الموغر بالأصولية.

 

ويرجع الباحث غانم أسباب نشاط هذه التوجهات حاليا إلى أن السلطات الحاكمة سواء في شمال البلاد أو جنوبه أخفقت في خدمة المجتمع وتحقيق التنمية والاستقرار وتقديم الرعاية الاجتماعية، الأمر الذي يتم تحديها عبر نوع من هذا التمرد، كظهور جماعات الموضة ومجتمع "الميم" وغيره.

 

وأفاد أن القوانين اليمنية تكفل بعض الحريات ولكن عندما يتعلق الأمر بجسد المرأة يتم لي نصوص القانون ليّاً وتفسيرها على هوى السلطات المعنية، مشيرا إلى أن الذي يحكم توجهات الناس هو العيب وليس الحرام، فالمجتمع لا يكترث من حرمان النساء من الميراث ويقيم الدنيا ولا يقعدها إذا خرجت خصلة شعر من الحجاب.

 

وأكد الباحث غانم أن السلطات (الحكومة وجماعة الحوثي) تعاملتا مع توجه الفتاتين باشراحيل والحمادي بما يمليه المزاج الشعبي الأصولي المتشدد، فالبلد في حالة حرب وسط الجماعات المتطرفة التي تستطيع الحشد لجبهات القتال تحت مسمى الجهاد هو المسموع. لافتاً إلى أن نظرة المنظمات الدولية لقضية "إنتصار الحمادي" بأنها عنف رسمي قائم على النوع الاجتماعي.

 

ولفت إلى أن علم الاجتماع ينظر إلى هذا السلوك أو الظاهرة من خلال ما يسمى الاحتكاك الثقافي وتأثيرات العولمة الثقافية التي جعلت الاتجاهات الاجتماعية للمجتمعات الإنسانية أكثر تقاربا، ومن هذه الاتجاهات الحريات الشخصية وحركات الموضة ومجتمع "الميم"، إلا أن الاختراق الثقافي للمجتمعات التقليدية المتدينة يبدوا أكثر صعوبة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمجتمع عربي مسلم مثل اليمن يدرك أن الدول التي تدعي أن مناصرة الحريات هي من تدعم جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.

 

وبشأن تناقض المجتمع بالتأييد والرفض لتوجه تلك الفتيات، يؤكد غانم أن هناك فئات حداثية وفئات تقليدية تعيشان صراعا أزليا ليس فقط في اليمن بل في مختلف دول العالم ومنها على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول.

 

وحول نتائج ومخاطرة الظهور بهذا الشكل، يقول إن "حركات التمرد النسوية وغيرها لا تخشى المجازفة، لأنها تعلم أنها تتحدى النظام القائم والمجتمع وإن كان في حالة مد أصولي كبير، لكنه يحمل في أحشائه جنينا متمردا سيولد ويمشي على قدمين عندما تصبح الفرصة سانحة".

 

قوانين مجحفة وقيم متشددة

 

المحامية والحقوقية، هدى الصراري، تقول إن الرفض المجتمعي لأي امرأة تمتهن عرض الأزياء او أن تكون موديلز لعمل الإعلانات والتصوير أو تعمل في الشأن الفني، ناتج عن خصوصية المجتمع اليمني الذكوري المحافظ الذي تقيده العادات والتقاليد والموروثات الثقافية اليمنية".

 

في حديثها مع "الموقع بوست" ترى الصراري أن "هذه المهن تعتبر جديدة على مجتمعنا وتواجه برفض وعدم تقبل لما للمهنة من تحرر مفرط لحساسية المجتمع القبلي اليمني الذي مازالت تحكمه عادات وتقاليد وقيم إسلامية نوعا ما متشددة، بالرغم من الانفتاح المهول حول اليمن، إلا أن الحرب في البلاد وانغلاق اليمنيين على أنفسهم حتى أولئك الذين خرجوا وشاهدوا التطور والتقدم وفي أدق تفاصيل الحياة والمهن ومواكبة التطور العالمي المحيط بنا، ومجرد رجوعه لليمن تعاوده تلك العادات والتقاليد والممارسات على بنات ونساء مجتمعه انطلاقا من التنشئة الأسرية والتعاليم الدينية والمجتمعية المتوارثة جيلا عن جيل".

 

وأفادت أن "تخلف التشريعات الوضعية عن غيرها من دول العالم والاقليم ساهم في وضع نصوص قانونية تتحكم بما يصدر من النساء من أقوال وأفعال وتكيفها حسب تلك المواد القانونية المجحفة، بينما هذه المواد لم تطبق أبدا على الرجال، لكن المرأة اليمنية عادة ما يكون وضعها المجتمعي والأسري والقانوني في اليمن ضعيف جدا".

 

تضيف المحامية القانونية "للأسف القوانين اليمنية لم تتواكب مع أي تغييرات، فما زالت هي تلك النصوص العامة الفضفاضة التي يستطيع المتصيد في المجتمع أو الأمن تكييفها طالما والضحية أنثى".

 

وتابعت أن "القوانين اليمنية لم تعطِ حق المرأة من الأساس، فتشريعاتنا الخاصة بالأحوال الشخصية، وهناك نصوص في قانون الجرائم والعقوبات والجنسية أهملت حقوق النساء واجحفت حقهن، فالمُشرّع رجل والقاضي رجل والأمن أغلبه رجال، ومجتمعنا الذكوري ينظر بازدراء إلى أي مهنة تعمل بها النساء منطلقا من قاعدة أن مكان المرأة بيتها، فما بالك بمهن تتعلق بالأزياء والتصوير والعروض".

 

وأردفت الصراري "ساهم في تردي حماية النساء أيضا اهمال الدولة بموائمة الاتفاقيات الدولية مع التشريعات الوطنية وعدم تخصيص قانون يجرم العنف ضد النساء، مع أن محيطنا الاقليمي من دول عربية عمدت على انشاء تشريعات قانونية خاصة تجرم أي عنف ضد النساء والفتيات، إلا اليمن، وزاد الوضع سوءا بعد الحرب حيث تراجعت حقوق النساء للوراء وانعدمت آليات حمايتهن وأصبحت مجردة من أي حماية أسرية ناتج عن عنف أسري وحماية مجتمعية وحماية مؤسسية".

 

بالنسبة لإجراءات السلطات الأمنية المتخذة بحق "الحمادي وباشراحيل" قالت المحامية الصراري إن "تلك التحركات جاءت وفق تحريض ممنهج سابق لشخوص الفتاتين، حتى أولئك الذين يعملون في الشأن العام والمجتمعي، وبالتالي تم تكييف مواد قانونية لإضفاء طابع الشرعية أثناء الاعتقال والتحقيق مع باشراحيل ومن ثم ابتزازهما لمحو كافة ما جاء في حساباتها من مقاطع مصورة وصور ومنشورات، ولربما سوف تمضي على تعهد لعدم العودة، هذا في أحسن الأحوال، أو سيتم احالتها للمحاكمة وإصدار حكم ضدها كما حدث مع انتصار الحمادي".

 

مجتمع ذكوري

 

الناشطة الحقوقية فاطمة الأغبري أرجعت الرفض المجتمعي لتوجه الموديلات وعارضات الأزياء في اليمن بسبب العقلية التي تربى عليها المجتمع، حيث يرون أن النساء اللاتي يحملن هذه التوجهات هن سيئات وقمن بخرق العادات والتقاليد والدين.

 

في حديثها لـ "الموقع بوست" تقول الأغبري إن المجتمع يريد من المرأة أن تكون فقط ربة بيت تعمل خلف جدران المنزل، وإذا أرادت العمل عليها الالتزام بالمعايير التي رسمها المجتمع، مالم ستحارب بشكل سيء جدًا".

 

وأكدت أن العوائق التي تواجه تلك الفتيات هي عقلية المجتمع ورجال الدين ومن تبعهم". مستدركة بالقول إن "القانون لم يحدد ما الذي يجب أن تعمله المرأة ومالا تعمله، وبالتالي من الصعب عليا أن أتعمق أكثر فيما يتعلق بالقانون كون القانون له ناسه".

 

وبشأن تعامل السلطات قالت الحقوقية الأغبري إن "السلطات زجت بكلاهما (باشراحيل والحمادي) في المعتقل، بحضرموت طلب منها حذف الصور التي نشرت مع جلسة مناصحة لها وتم الافراج عنها، ولكنهم في الوقت نفسه أحالوا ملفها إلى النيابة، وفي صنعاء بقت انتصار في المعتقل تقضي الخمس سنوات رغم الافراج عن بقية من اعتقلوهن في القضية ذاتها وتم اتهامها بالفعل الفاضح".

 

تضيف أن "السلطات يُسيّرها المتطرفون المتدينون، وما حدث هو انتهاك للحقوق، فعن أي فعل فاضح يتحدثون ونحن كنا قبل سنوات نرى على خشبة المسارح الراقصات الشعبيات وما من أحد قال إنهن يعملن فعل فاضح".

 

فيما يتعلق بتضامن البعض معهن وهجوم البعض، ترى الأغبري أن ما يحصل هو مواجهات بين المتشددين والوسطيين ولأن المرأة كانت ولا زالت هي محور هذه المواجهات بينهما وأكثر من يتعرض للانتهاكات".

 

واختتمت الحقوقية الأغبري حديثها بالقول إن "نتائج مثل هذا التوجه للنساء ومخاطرة الظهور بهذا الشكل واضحة وهي الصدام مع المجتمع وتحديدا من يزعجهم مثل هذا التوجه، على الرغم من أنه لا يضر أحداً وكل إنسان مسؤول عن نفسه، والمخاطر هو التحريض ضدهم ومحاربتهم واعتقالهم ومحاكمتهم بتهم جاهزة في أدراجهم".

 

موجات تغريب

 

الدكتور فضل مراد، أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة بجامعة قطر، قال إن "الموديلز أو عارضات الأزياء من القواطع الشرعية النهي عنه، لأنه تبرج لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، بل هي من المعلومات من الدين بالضرورة". واسترشد مراد بقول الله تعالى "ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما". وقوله تعالى أيضا "قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن".

 

في تصريح لـ "الموقع بوست" أضاف مراد أن "ما يسمى بالموديلز أو عارضات الأزياء فهي تظهر ما نهى الله سبحانه عن إظهاره إلا للزوج ومن ذكرهم في الآية من المحارم، مدللا بقول الله تعالى عن النساء الكبيرات في السن التي قد يئسن من النكاح "والقواعد من النساء اللاتي لا يردن نكاحا، فليس عليهن أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة"، وطبقا لمراد فإن هذا شرط بمعنى ألا تلبس الجلباب، فإذا كان المنهي عن المرأة الكبيرة في السن التي أجاز لها عدم لبس الجلباب بدون التبرج بالزينة فكيف بالشابة، حد قوله.

 

وبحسب أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة، فإن هذه نصوص واضحات صريحات ولا يختلف فيها أهل العلم، لا سلف الأمة من المتقدمين أو المتأخرين ولا من المعاصرين، وهذا من الأمور المعلومة عن كل مسلم بالضرورة، فلا يمكن لمسلم أو مسلمة أن يقول لك التبرج حلال أم حرام، لأنه معلوم بالضرورة لا يسأل عنه ولا يسأل إلا عما يجهل، ولا يمكن من يأتي ويسأل هل الربا حلال أم حرام، هل الظلم حلال أم حرام وغيرها، مؤكدا أن التبرج والتعري وإظهار المفاتن محرم.

 

  ويرى الشيخ مراد أن الرفض المجتمعي نابع من المعلوم بالدين بالضرورة، فالمجتمع اليمني مسلم، وكل المجتمعات المسلمة ليس في اليمن فقط ترفض هذا، مشيرا إلى أن للمجتمع اليمني خصوصية بأنه محافظ أيضا، وكذلك من العادات والتقاليد الأسرية والقبلية التي وافقت الدين وراعاها الدين، فكل عادة وافقت التشريع في الدين فهي عادة حسنة، ويقول الله تعالى "وأمر بالعرف" الذي وافق الشرع، فكل عادة حسنة توافق الشرع أو لا تخالف الشرع فهي مقرة شرعا، فلذلك المجتمع رفض مثل هذه الأشياء".

 

وختم أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة مراد بالقول "هناك موجات التغريب التي غزت العالم الإسلامي، وهناك مواجهة لها، بالإضافة إلى أن هناك نشاط من منظمات وجهات تدعم وتمول هذه التوجهات، لأن تقديم الشهوات والأهواء على الشريعة مذموم ذمه الله سبحانه وتعالى وحذر منه".


مقالات مشابهة

  • بنات الموديلز في اليمن.. صدام مع المجتمع وقيود العادات والتشريع الديني (تقرير خاص)
  • شيخ الأزهر يزور مؤسسة دار القرآن في العاصمة الماليزية
  • شيخ الأزهر يزور مؤسسة دار القرآن جاكيم في العاصمة الماليزية كوالالامبور
  • شيخ الأزهر: القرآن صنع أمة كبرى ونقلها ‏من المحليَّةِ إلى العالميَّةِ
  • شيخ الأزهر: القرآن نقل الأمة من حالة الضعف والبساطة إلى العالميَّةِ
  • شيخ الأزهر يزور مؤسسة دار القرآن جاكيم في العاصمة الماليزية كوالالمبور
  • حرية الإنسان بين هداية الرحمن وضلالة الشيطان.. في فهم سر الوجود
  • «A Quiet Place».. مكان هادئ
  • الدكتوراة للباحثة أميرة الحارثي من جامعة صنعاء
  • نصر الدين النابي يعلن رسميا رحيله عن الجيش الملكي