لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها.

.

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..

الفصل الثالث

ما طبيعة العاريات المزعومة التي نجدها في القرآن والتي لا أحد ينفي وجودها بحيث إن المشكل ليس فيه بل في منزلتها ودلالتها فيه؟ ما الدور الذي تؤديه في بعده النقدي والتفكيكي الذي يستعمله لعلاج ما يسميه القرآن تحريفا  في ممارسات الأديان السابقة ورؤاها للديني ووظائفه في تاريخ الإنسانية؟

للجواب عن هذه المسألة علي أن أبدأ فأعرف القرآن: "فالقرآن عمل ذاتي النوع يؤدي دور المؤسس لخمسة فنون دينية" ويمكن أن نسميه علما رئيسا ما بعد خلقي- Architectonique méta-éthique-وهو دور شبيه بالميتافيزيقا في الفنون الفلسفية. فالقرآن الذي هو متعدد الأبعاد ومتراكمها في عمقه يبدو في ظاهره عديم النظام ومن ثم فقد لا يتبين قارئه بنيته العميقة.

وسأكتفي ببعدين من أبعاده لتعريف طبيعة "جنسه الأدبي" واستخراج بنيته العميقة للكشف عن طبيعة جوهر رسالته. وهذان البعدان يبدوان لي كافيين ليس لدحض هذه القراءة المزعومة حديثا فحسب بل كذلك للبرهان على أن القرآن يعد خطة أولية لفلسفة  في الدين في علاقة بفلسفة التاريخ ومن ثم  فخطابه هو في آن خطابا ما بعد ديني وما بعد تاريخي (3):

1 ـ  فالبعد  الأول من النص القرآني يحدد طبيعة تلك العاريات الشهيرة ومنزلتها التي نجدها في كل سورة والتي ليست هي في الحقيقة إلا "منتخبات" أو "شواهد" يحللها ويعلق عليها في "تاريخه" النقدي للظاهرة الدينية. وبالتالي فليس قصدي التشكيك في وجود هذه الشواهد بل بالأولى سأحاول بيان طبيعتها ووظيفتها في خطابه. فهو يثبت بعض هذه الشواهد ويدحض بعضها الآخر. وتلك التي يثبتها تثمل الأفكار والقيم التي يعتبرها تراثا مشترك للأديان الكتابية أو هي بالأحرى الديني في كل دين متعين في تاريخ الأديان. أما التي يدحضها فهو يعدها ممثلة لما يسميه تحريفا. وذلك هو بالذات ما يعنيه المفهوم المنهجي الذي يسميه القرآن منهج "التصديق والهيمنة" (4).

إن السلطتين الاستبداديتين تتقاسمان نية جعل الدين مجرد خطة لسلطان مسيطر بدلا من أن يكون بمتقضى طبيعته فضيلة خلقية وسياسية لتحرير الإنسان. لذلك فالقرآن يندد بالطبقة الوسيطة في الدين والطبقة السياسية المسؤولتين على إفساد الديني من حيث هو ديني وتطبيقه في المجال الخلقي والسياسي.فحضور هذه الشواهد في صوغه الأولي لفلسفة الدين وفي إصلاحه للعلاقة بين الديني والتاريخي عامة أمر لا غناء عنه إذ أن هذه الشواهد هي إما عناصر مشتركة لرسالة الأنبياء أو موضوع نقده للعلاقة بين هذه الرسالة المشتركة والمعوقات الاجتماعية الثقافية المسؤولة عن فشل الرسالات التاريخي.

2 ـ أما بعد النص القرآني الثاني فيهدف إلى تحديد مشروع أساسي غايته إصلاح هذه العلاقة بين الرسالة الدينية والشروط الأخلاقية السياسية لتحقيقه في التاريخ الإنساني.

وهذا الشروع الذي هو عين جوهر الرسالة القرآنية والذي يعد مشروعا كونيا ونهائيا يهدف إذن إلى تحقيق الشروط الفعلية لمجتمع إنساني متحرر من عبودية مزدوجة: متحرر من العبودية الروحية بفضل فلسفة في التربية دون وساطة رجال دين مستبدة (5) وتحرر من عبودية سياسية بفضل فلسفة سياسية تؤسس لحكومة لا وصاية فيها لطبقة سياسية مستبدة (6).

1 ـ والعبودية الأولى روحية وتتمثل في وساط سلطة روحية مستبدة تفسد التربية بالتوسط بين الإنسان ومصالحه الروحية أو سماوية (الكنسية المستبدة).

2 ـ والعبودية الثانية سياسية وهي وصاية سلطية سياسية مستدبة تفسد السياسة بالتوسط بين الإنسان ومصالحه السياسية أو الدنيوية (الدولة المستبدة).

إن السلطتين الاستبداديتين تتقاسمان نية جعل الدين مجرد خطة لسلطان مسيطر بدلا من أن يكون بمتقضى طبيعته فضيلة خلقية وسياسية لتحرير الإنسان. لذلك فالقرآن يندد بالطبقة الوسيطة في الدين والطبقة السياسية المسؤولتين على إفساد الديني من حيث هو ديني وتطبيقه في المجال الخلقي والسياسي.

وهكذا فما أعنيه بالبعد الأول هو النقد التفكيكي للتجارب التاريخية التي تقدم لنا أمثلة من فشل الرسالات الدينية المتوالية التي يقص القرآن تاريخها.

اما البعد الثاني فأعني به أولا المشروع البديل في مجال مصالح الإنسانية الروحية التي هي جوهر الديني  وثانيا الرهانات التاريخية التي هي جوهر الخلقي السياسي. ذلك هو ما يعالجه الإصلاح القرآني الهادف لتعرية هذه الإخفاقات وتقديم الإجراءات الضرورية لعلاجها.

وذلك هو ما يبدو لي محاولة أولية لوضع فلسفة الدين في علاقة بفلسفة التاريخ وكلتاهما فلسفة كونية شاملة لكل الإنسانية. وذلك هو الرسالة النسقية التي تغفلها القراءة السياقية باعتماد التاريخ الاجتماعي الثقافي الذي نشأت فيه الرسالة لجعلها مجرد انعكاس لهما  إما بعدم وعي أو بقصد فتجهل أو تتجاهل طبيعة المشروع القرآني وطبيعة حضور الشواهد من الأديان السابقة في نصه.

وهذا المشروع لا يستعمل في سعيه لإقناع مخاطبيه منهج المعجزات النبوية بل هو يستعمل نظام استدلال يناقش المعتقدات  والأخلاقيات الحاضرة في المؤسسات الدينية بالإحالة إلى الديني الذي يعرفه بكونه خاصية فطرية عند الإنسان حيث هو إنسان. وإذن فطريقة الرسالة هذه تستعمل الطريق المضاعفة  التي يتبعها الفكر الإنساني ليتحرر من السياق الاجتماعي والثقافي فلا يكون مجرد انعكاس لهما بل هو متعال عليهما بوصفهما موضوع نقده التفكيكي لما يمثلانه من معوقات لتحقيق المثل التي يقدمها للإنسانية.

والأمر يتعلق بالطريق المضاعفة التي تتبعها نظرية المعرفة ونظرية الجمال التي تقلب العلاقة بين بين ابداعات الفكر التي هي الرؤية التي تبدع  المنهج والموضوع في آن لئلا تكون مجرد انعكاس ما تسميه الفرضية التي أنوي نقضها "الواقع".

وفعلا فإن العلم والفن كلاهما يستعمل للبلوغ إلى الكلي الأبستمولوجي والكلي الجمالي استراتيجية النسق الذي يعبر إما عن الادراك العقلي أو عن الإدراك الذوقي أو أخيرا عنهما في آن كما تفعل رسالة القرآن.

وهذه الطريق المضاعفة تمكن الفكر الإنساني المبدع من التحرر من سيطرة "الواقع". فبدلا من الخضوع  له يبدع الفكر "أدوات"  الفكر النظري و"أدوات" الذوق الجمالي وهي أدوات تمكنهما من تأويل السياقات الاجتماعية والثقافية ومناقشة أنواع التناص بردها إلى حالات خاصة من عالم أسمى من عالم الطبيعة ومن عالم التاريخ لأنه عالم متعال على التعين الحسي  تعاليا يمكن من إدراك الحقيقة التي تعليل كونه على  ما هو عليه. فالفلسفة تعتقد أن العالم صنيعة قوانين الضرورة الطبيعية والدين يعتقد أنه صنيعة قوانين الإرادة الإلهية الحرة.

إن العلم والفن كلاهما يستعمل للبلوغ إلى الكلي الأبستمولوجي والكلي الجمالي استراتيجية النسق الذي يعبر إما عن الادراك العقلي أو عن الإدراك الذوقي أو أخيرا عنهما في آن كما تفعل رسالة القرآن.وهكذا فإنه يمكنني القول إن ما يدور حوله الكلام بوصفه السياق الاجتماعي الثقافي وتناصا القرآن لا يستعملهما بوصفهما تمثيلا تجريبيا للأفكار التي يعالجها فحسب، بل هو يجعلها موضوع نقده الذي ليس هو إلا أحد أبعاده كما سنبين. فهو يختارها بصورة قصدية وهو يضربها أمثلة يجلعها موضوع "تفكييك" بغاية التمييز بين ما يعده دينيا وما يعده تحريفا مفسدا للديني فسادا حل بالمؤسسات الدينية التي وظفت الديني لكن الديني يبقى سليما وهو ما يريد تحريره من التحريف.

ويمكن أن نقارن هذه الطريقة بالطريقة التي استعملها أرسطو في مقالة الألف الكبرى وكذلك في المقالات الثلاث عشرة الباقية في الميتافيزيقا. ولكن مع وجود فرقين أساسيين بين الميتافيزيقا التي من المعلوم أنها سميت " إلهيات في التلقي الإسلامي" وهو من اسمائها الارسطية (العلم الإلهي والعلم الرئيس والحكمة). ولهذه العلة بينت الفرقين عندما اطلقت على القرآن اسم الارشيتاكتونيك ما بعد الخلقي أو العلم الرئيس ما بعد الخلقي أو الأخلاق الإلهية:

1 ـ فالفرق الأول ينبع من طبيعة موضوع النقد. فالرسالات الديينية التي يأتي بها الأنبياء ذات مصدر إلهي ومن ثم فالقرآن لا يمكن أن يجعلها موضوع نقده كما فعل أرسطو مع نقد أفكار القدامى. فالخطأ لا يتعلق بالرسالة الدينية بل بما صارت عليه في المؤسسات الدينية الوضعية التي أفسدت طبيعتها ووظيفتها بتواطؤ صريح بين رجال الدين والحكام (آل عمران).

2 ـ لكن الفرق الثاني هو الأكثر أهمية لبحثنا في المنهج الذي نرفضه إذ هو الذي يتعلق بأساس النقد الأبستمولوجي والوجودي في استعمال النص القرآني.

فلعلتين يرفض القرآن ابستمولوجية المطابقة الأرسطية التي نكصت إليها الهيغلية والماركسية اللتين ترفضان النقد الكنطي  واللتين تبناهما الإسلامولوجيون بوعيأو بغير وعي:

أ ـ فالقرآن يؤكد أن العلم المحيط لا يمكن أن يكون إلا علم الله والإنسان لا يمكن أبدا أن يحوزه لأن وجود الغيب يعد في الدين من جنس "الشيء في ذاته" عند كنط.

بـ ـ والقرآن يؤكد أن العالم ليس واحدا وكل عالم له ما بعده الذي لا يمكن أن يرد إليه لعجزنا عن الولوج إلى ما يتعالى على المحسوس من العالم الشاهد.

وبصورة عامة فإن الوضعيات النموذجية للعلاقة بين الديني والتاريخي مع كونها تمثل اللحظات الأساسية في التاريخ الكوني تتخذ شكل مقاومة ما هو اجتماعي ثقافي لما هو مضمون الرسالات النبوية كما يتبين ذلك في الوضعية التاريخية التي تتميز بيها حقبة من حقب التاريخ وهي تعرف بمن يصادم الرسالة النبوية ذات الصلة بالحقبة المعنية.

الهوامش:
 3 ـ أاعني بما بعد الديني كون القرآن لا يقتصر على تبليغ رسالته الدينية بل هو يدرس طبيعة دور الرسالة الينية المتقدمة عليه ويحال تعليل فشلها التاريخي. إنه في آن رسالة دينية ودراسة نقدية للرسالات السابقة لتتطهيرها مما طرأ عليها من تحريف. واعني بما بعد التاريخ كون القرآن لا يكتفي بقص تواريخ الشعوب الذين تلقوا تلك الرسالة النبوية بل هو يجعلها موضوع فحص نقدي كذلك ليعلل فشل الرسالات.
4 سورة المائدة 48
5 سورة الحديد 27
6 الشورى 38

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير رأي القرآن الكريم نص تاويلات أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القرآن لا فی الدین یمکن أن لا یمکن ما بعد

إقرأ أيضاً:

شواطئ.. الرواية الرسائلية والرسالة الروائية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

شهدت الرواية منذ فجر ميلادها حتى وقتنا الراهن تطورًا عبر مراحها المختلفة، وتنوعًا فى آليات الإبداع، وازدهارًا فى أنماط التناول، مما ساعد على وجود دراسات نقدية متعددة وفتح شهية النقاد لتناول بعض الظواهر الروائية التى لم تسبق دراستها، فقد حوت الرواية العديد من مظاهر الإبداع وتداخل الأجناس الأدبية بها، وكانت الرسالة من تقنيات السرد فى الإبداع الروائي، قديما وحديثا، فى الشرق كان أم فى الغرب. من هنا تأتى أهمية كتاب الباحث عزوز على إسماعيل بعنوان "الرواية الرسائلية والرسالة الروائية.. دراسة تحليلية" والصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. 

على سبيل المثال، رسائل دوستويفسكى من الأعمال الروائية الوثائقية، التى عدت من أعظم الأعمال فى الآداب العالمية؛ فقد مثلت حياة فيودر دوستويفسكى، من الميلاد حتى الممات، فمنذ أن كأن طفلا كان يكتب الرسائل، تلك الرسائل التى شكلت قدرته على السرد والحكى والتي، بلا شك، جعلت منه مبدعا كبيرا مع المكونات الثقافية الأخرى. وهذه الرسائل مرت فى حياته بأكثر من مرحلة، وكل مرحلة ولها سماتها التى تميزها عن المرحلة الأخرى. 

والمرحلة المبكرة فى حياته عندما كان طفلا، وكان وقتها يتعلم الكتابة السائلية، والتى شكلت ملامح كتاباته من خلال عنصر الإسهاب وكانت الرسائل الأكثر إلى أسرته والتى بدأها برسالة إلى أمه، وامتازت تلك الرسائل بذكر العشرات من رموز الأدب الروسى فى عصره الذهبى وأيضا الآداب الأخرى، وكذلك أهل الفن وكل من كانت له علاقة به خاصة تلك المجلات التى كانت تنشر له أعماله مثل مجلة "البشير الروسى". وكان دوستويفسكى البطل الرئيس لهذه الرسائل، والتى تشابكت مع أفراد أسرته: أخيه ميخائيل، فضلا عن زوجته الأولى (ماريا عيسافيا)، وزوجته الثانية (أناغريغوريتنا). وكانت رسائل دوستويفسكى قد اتسمت بعدد من السمات أولها: أنها تعتبر من آداب الاعتراف بمعنى أنها تمثل سيره ذاتية حقيقية للكتاب. 

وهنا نرى تعريفات عديدة لرواية السيرة الذاتية، ويتمحور مفهوم السيرة عند بعض الغربيين حول التجربة الذاتية فى الحياة كما قال باسكال: "هى تلك الرواية التى تتمركز حول التجارب التى تشكل الشخصيات وتبلورها وليست مجرد رواية تتخلق حول تجربة حقيقية متفردة بارزة". وهو ما رأيناه فى تلك الرسائل التى تعتبر رواية وثائقية بديعة حوت تجارب شكلت شخصية دوستويفسكى. ثانيها: أن تلك الرسائل تعليمية تثقيفية. فى المقام الأول، فهى تحوى العديد من نقاط لا غنى عن معرفتها فى السياق الثقافى الروسى آنذاك. ثالثها: أن هذا العمل رواية مكتملة الأركان ببطلها دوستويفسكى وشخصياتها التى تمثلت فى أسرته ورموز الأدب فى روسيا. فضلا عن الأحداث المختلفة هنا وهناك، والزمان والمكان، والتى جميعها كونت عملًا أدبيا رفيعا، يخضع لأدب الاعتراف أو أدب السيرة الذاتية. رابعها: أكدت تلك الرسائل المعاناة التى كانت يعانيها الكاتب مثله فى ذلك مثل الأدباء الآخرين الذين يموتون ولم يجدوا ثمنا للدواء. 

وعلى الرغم من أن الكاتب كان دائما يعلن أنه لا يجيد كتابه الرسائل إلا أن هذه الرسائل قد شكلت حياة الكاتب من أولها إلى آخرها بل أن كل رسالة من الرسائل الموجودة فى هذين المجلدين تعتبر قصة بمفردها حيث تكتمل فيها عناصر القص فى الحبكة والإشكالية والشخوص والزمان والمكان. نعم إنه الأديب والكاتب دوستويفسكى الذى عانى – كما قلت – كثيرا فى حياته خاصة فى أخرياتها. فقد بعث برسالته الأخيرة التى خطها لصحيفة "البشير الروسى" يطلب ما تبقى لديهم من أموال لتلبية احتياجاته الحياتية وهو الأمر الذى ظل عالقًا طويلا فى ذاكرة زوجته التى قالت له حين طلب ذلك، وهى تعلم أنه فى الأيام الأخيرة من حياته قالت مازحة لتخفيف آلامه بعد أن أصيب فى رئتيه وأصبح غير قادر على التنفس الطبيعي: "ستكتب (كارامازوف) أخرى وستطلب منهم مقدما مبالغ أخرى" وهنا نرى الزوجة ومدى تعاطفها مع زوجها المبدع، وهى تعلم أنه ينازع الموت. 

حياة الأدباء فى شقاء دائم وهو نوع من الألم، والذى قد يكون سببًا فى الإبداع، خاصة عند أولئك الكتاب أصحاب المواهب الحقيقية، وما رأيناه عند دوستويفسكى خير دليل على ذلك، فهو رجل عاش مبدعا وكاتبا ولاقت أعماله إعجاب ملايين حول العالم سواء الذين قرأوها باللغة الروسية أو ترجمتها إلى عدد كبير من اللغات الأخرى، وكانت رسائل دوستويفسكى دليلًا على إبداعه، فهى عبرت عن تلك الحياة التى عاشها من خلال الألم والآمال.   

وكما حملت رواية "زهرة العمر" (لتوفيق الحكيم) العديد من الرسائل بين الشرق والغرب، وحق لها أن تكون رسائل محبة وسلام وفكر، فتوفيق الحكيم كان قد ذكر صديقة (أندريه جيد) فى روايته "عصفور من الشرق"، حين كان يشاهد تمثال الشاعر الفرنسى (دى موسيه). وفى رسالة أخرى يتحاور فيها الحكيم مع صديقة أندريه جيد ويؤكد له أن صداقته لجرمين زوجته لا تستمد قوتها من صداقته له، بل لأنها إنسانة مثقفة من الفرنسيات المستنيرات، وهى تكن كل التقدير للشرقى مثل (الحكيم) والاعتزاز نابع من تقارب وجهات النظر بين الشرق والغرب وتقدير الشرقى للمرأة واحترامه لها. ويقول "فأنا لا أحب لجيرمين أن تفهم أنى موفد من قبلك لأخرجها للنزهة بين آن وآن، ولأنى أتكلف هذا قضاء لواجب من الواجبات على أنى قد ضحكت كثيرا وأنت تخبرنى فى خطابك أنها لن تنسى التفانى منى فى خدمتها وأنها لا تشكو إلا أمرًا واحدًا: وهو أنى لم أحاول قط مغازلتها! يا لظرف الباريسيات! أو كانت تظن أنى وأنا الشرقى أجرؤ على ذلك فى غيبتك". 

وحين يأتى ذكر كلمة الشرقي، فهو يؤكد على قيم الشرق الأخلاقية ويحاول تبيانها للغرب وبالتالى أصبح الحكيم رسول الشرق فى هذا التوقيت ويؤكد الحكيم إلى صديقة مدى الربح المعنوى العظيم من تلك العلاقات بقوله: إن الجلوس معها يفيده فكريا، وكذلك مع أيفان والشاعر البرناسى الهرم، ويؤكد أيضا ذلك فى الرسالة نفسها "لا تسخر ولا تتهمنى بالإسراف فى الخيال. كلا يا أندريه. غدا تزول الحاجات المادية ولن يبقى لنا غير ذلك الربح المعنوى الذى أكتسبه أحد بمعرفته الآخر".

تعد رواية "رسالة فى الصبابة والوجد" للكاتب جمال الغيطانى من أدب الرسائل، ولكنه ارتقى كثيرا فيها عما كان فى السابق من ناحية الشكل والمضمون، والشكل كما رأيناه عند عزالدين شكرى فشير، وكمال العيادي وغيرهما والارتقاء يكمن فى الأسلوب وتشرب فكرة التراث وتبيان جمال العربية فى امتشاقه لقلم حاد رصين بتعبيرات فيها الشفاء لعشاق اللغة العربية. لقد حملت رسالة الغطيانى وصية كبرى لأدباء وكتاب فى أن يتناولوا العلاقات بين الشعوب بشيء من الحذر وفى الوقت نفسه تبيان الإيجابى منها حتى يكون هناك تقارب وأن تكون هناك محاولات لترميم تلك الأفكار القديمة بشكل عصري، وكيف أن اللقاء والتقارب والتعايش بين الأمم هو الشيء الباقي، وإذا كان الغيطانى قد رصد فى رسالة البصائر فى المصائر الضمير الإنسانى وآلام الناس فى فترة السبعينيات وما حدث للمجتمع من تغيير وانفتاح وما أعقبة من تغيير فى الاقتصاد الاجتماعي.   

ويشير الباحث عزوز على إسماعيل بقوله: معظم حياة الأدباء فى شقاء دائم وكانت الرسالة المعبرة عن ذلك، فنجد أن محمد حسين هيكل رغم ثراء والده كان قد تألم وجاءت الرسالة فى روايته معبرة عن ذلك الألم. فبعد أن فشل البطل حامد فى حياته ولم يستطع أن يرتبط بزينب لأنها فقيرة، ولا حتى ابنة عمه الثرية ترك البلد وعاد إلى القاهرة وأرسل رسالة دامية إلى والدة أبكته وأبكت أسرته. وهنا يجب أن نعيد النظر ونقارن بين رسالة حامد إلى والدة ورسالة (فرانز كافكا) إلى والده فقد كان الاثنان فى رسالتيهما قد أكدا على فشلهما فى الحياة بسبب الوالد، وإذا كانت الرسالة عند كافكا اشد ألما فإن ذلك يعود إلى تلك التربية القاسية التى عاشها، حيث ذكر كثيرا من الآلام التى عاشها مع والدة. ويبدو أن الفارق بين الروايتين أن والد حامد قد قرأ الرسالة بينما والد فرانز كافكا لم يقرأ الرسالة الدامية. 

عبرت الرسائل عن الألم والوجع الإنسانى من خلال أدب الحرب والسجون فرواية (بريد الليل) لهدى بركات أحيت عهد البوسطجى من جديد، ولكن كان هناك انهزام وانكسار لأنثى، فرسالتها لم تصل أخيها المسجون، وأيضا عبرت الرسالة عن الوجع الإنسانى المتمثل فى الحروب التى دارت فى أرضنا العربية والفتنة الكبرى فى لبنان وما عرف بالحرب الأهلية والتى دامت لأكثر من خمسة عشر عامًا، وكيف أن الرسالة بينت أن ما حدث تفصيلا أى أن الرسالة فى الرواية كانت طريقة من طرق الكتابة للتعبير ذلك الألم والوجع الإنسانى. 

مقالات مشابهة

  • إحالة نقاش للمفتي لقتله طفل بعد خطفه بالقليوبية 
  • الجنين يتحكم في طبيعة المغذيات التي يحصل عليها من الأم
  • إحالة أوراق المتهم بإنهاء حياة طـ.ـفل بالقليوبية لفضيلة المفتي
  • إحالة أرواق نقاش لفضيلة المفتي لقتله طفلًا خنقًا بالخصوص بمحافظة القليوبية
  • جانب من سير عمل لجان التصحيح في الكنترول الأدبي والتعليم الديني
  • شواطئ.. الرواية الرسائلية والرسالة الروائية
  • استهداف سد مروي يكشف عن طبيعة الأهداف الخفية لحرب الميليشيا
  • محمد أبو بكر يشكر وزير الأوقاف ورئيس القطاع الديني لعودته للعمل بالوزارة
  • أمير سعودي يُعلق على دور بلاده المزعوم بتكليف نواف سلام تشكيل الحكومة في لبنان
  • «جحيم تارمب المزعوم».. صفقة غزة بين الاستعراض والطموح السياسي