لم تكن صناعة النفط أبدًا بمثل حجمها الكبير الحالي. فعندما تراجع الطلب أثناء جائحة كوفيد-19 كان البعض يأمل في ألا يعود أبدا إلى مستوياته المرتفعة السابقة. لكنه تجاوزها. ففي عام 2023 أنتج العالم 101.8 مليون برميل في اليوم، وفقا لوكالة الطاقة الدولية. وقُدِّرَت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من النفط في ذلك العام بحوالي 12.
في عام 1973 اتجهت بلدان الخليج في أوبك والتي أغضبها دعم واشنطن لإسرائيل في حرب العاشر من رمضان إلى فرض حظر على مبيعات النفط للولايات المتحدة وحليفاتها. قبل تلك المقاطعة في أكتوبر 1973 كان برميل النفط يكلف ما يزيد قليلا عن ثلاث دولارات. وفي مارس 1974 بلغت تكلفة البرميل 13 دولارًا. لقد كان سعر النفط قبل المقاطعة النفطية مستقرا لعقود. ومنذ عام 1973 ظل متقلبا باستمرار وأحيانا على نحو لافت. يقول جيسون بوردوف وهو خبير في سياسات الطاقة: حاصر الزبائن الغاضبون وقتها محطة البنزين التي يملكها والده في بروكلين "من الصعب المبالغة في الحديث عن الصدمة التي تعرضت لها البنية النفسية الأمريكية من ارتفاع الأسعار إلى عنان السماء بين ليلة وضحاها ونفاد الوقود والصفوف الطويلة في محطات البنزين". ولا يزال بوردوف الذي يرأس الآن مركز سياسات الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا مقتنعا بأن صدمة النفط في عام 1973 وتلك التي تلتها عقب الثورة الإيرانية عام 1979" أطَّرَت سياسة الطاقة على مدى نصف قرن".
كشفت سنوات السبعينيات طبيعة سلسلة الآثار الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية التي يمكن أن تترتب عن صدمات عرض النفط. ففي البلدان المتقدمة دفعت الزياداتُ في الأسعار وردودُ أفعالِ البنوك المركزية التضخمَ إلى أعلى وخنقت الاقتصاد. مهّد ذلك المشهد لبروز ساسة حرية السوق من أمثال رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر والرئيس الأمريكي رونالد ريجان في السنوات التي تلت ذلك. ولأن العديد من بلدان أوبك ليس لديها ما يذكر لكي تستثمر فيه داخل حدودها انتهى بها الأمر إلى استثمار "البترو دولارات" التي كدستها في البنوك العالمية. وهذا ما جعل البنوك حريصة على الإقراض. وشهدت البلدان النامية التي كانت بدورها حريصة على الاقتراض ديونَها وهي تتراكم بسرعة. يقدر صندوق النقد الدولي أن الديون الخارجية لحوالي 100 بلد نامٍ ارتفعت بنسبة 150% في الفترة بين عام 1973 وعام 1977. ثم دفعت صدمة عام 1979 بأسعار النفط إلى عنان السماء وفجرت أزمة مديونية العالم الثالث في سنوات الثمانينات. وهي الفترة التي تُسمّى أحيانا العصر الضائع للتنمية العالمية.
بعد انقضاء خمسين عاما، من الجيد أحيانا إلقاء نظرة إلى الخلف، وتأمل تغيير جذري حدث في المشهد. فهذه المدة الزمنية تناسب جدا عمر الإنسان. وهي تتيح لمن ولدوا بعد التغيير أن يفهموا على نحو أفضل ما هو خاص بالعالم الذي ظلوا يعرفونه دائما. ما هو ضروري وما هو طارئ. كما يمكن لأولئك الذين هم الآن في نهاية أعمارهم تقديم شهادات عن التغيير والأحداث التي أعقبته. ذلك سيكون سببا كافيا للقيام بعملية جرد للعالم الذي أوجدته صدمة النفط في عام 1973. لكن التحول الذي تم الإقرار به في مؤتمر "كوب 28" في ديسمبر الماضي يجعل المهمة أكثر إلحاحا. فالسوق النفطية في الفترة التي أعقبت صدمة عام 1973 شكلت دائما صراعا بين معدل نموِّ العرض (الذي تسعى أوبك بين فترة وأخرى إلى التنسيق بشأنه) ونموِّ الطلب. وفي عالم يواجه قيود أزمة المناخ يجب أن يتوقف ذلك النموُّ. يتخيل البعض أن نمو العرض والطلب في مستوى مستقر نسبيا. ويصر آخرون على وجوب أن يهبط كثيرا وبسرعة. إذا حدث ذلك وفي أثناء حدوثه ستزيد المخاوف الجديدة من تعقيد أسئلة الماضي. المخاوف الجديدة مثل: من سيوقف الإمداد؟وما الأثر الذي سيترتب عن ذلك؟ وأسئلة الماضي مثل (من أين ستأتي الإمدادات الجديدة؟ والى أي حد ستكون آمنة؟، وعندما يكون الطلب في ارتفاع يمكن أن تقود المبالغة في تقدير هذا الاتجاه الصعودي إلى الإفراط في الاستثمار. وعندما يكون الطلب في اتجاه هبوطي قد يشكل نقص الاستثمار خطرا أكبر.
الكاتب محرر الابتكار العالمي في مجالي النفط والمناخ بمجلة الإيكونومست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الوقود الأحفوری عام 1973 فی عام
إقرأ أيضاً:
توجه العراق نحو الليبرالية الجديدة – 3 – شكل الصراع القادم
كتب.. الدكتور بلال الخليفة
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخلال لقاءة مع مجموعة من طلبة المدارس في 1 أيلول سبتمبر عام 2017 (ان الدول الرائدة في الذكاء الصناعي هي من تحكم العالم) وقال ايلون ماسك في نفس الموضوع وفي معرض الرد عليه (ان المنافسة على الذكاء الصناعي هي التي ستكون سبب في اشتعال حرب عالمية ثالثة).
ان التنافس العالمي والى اليوم يتخذ شكل المنافسة من اجل السيطرة على مصدر الطاقة حتى قيل ان من يمتلك مصادر الطاقة يسيطر على العالم، لكن العالم الان اتخذ منحى اخر في التنافس الاقتصادي العالمي وهو التنافس فيمن يمتلك الذكاء الصناعي هو من يسيطر على العالم، ومن يمتلك صناعة الرقاقات (جبس) هو من يمتلك الذكاء الاصطناعي.
ظهرت أهمية برامج الذكاء الصناعي جليا بعد ان أعلنت الصين عن برنامجا للذكاء الصناعي (Deep seek) الذي كان موازي لبرنامج الذكاء الصناعي الأمريكي (ChatGPT) وحيث كانت الفروق كبيرة بين الاثنين وهما ان كلفة الأول 6 مليون دولار بينما كان الثاني 100 مليار دولار وان الأول ذو كفاءة عالية وهو أيضا مجاني.
ان الذكاء الصناعي ومن احدى ميزاته انه يختصر الزمن في حل كثير من المسائل التي تحتاج سنوات الى حلها في ساعات ومن الممكن أيضا ان يتم تسخيره في الصناعات الالكترونية والحربية وغيرها وكما قلنا سابقا ان امتلاك الذكاء الصناعي يحتاج الى الرقاقات المتطورة (المعالجات CPU) وان الدول التي تمتلك إمكانية صناعة تلك الرقاقات هي أمريكا وكوريا الجنوبية وتايوان فقط.
ومن هذا نعرف أهمية وخطورة التحرك الصيني من اجل إعادة تايوان الى الصين وخطر ذلك بالنسبة لأمريكا والعالم من الامر كونها تمتلك تلك التقنية.
ان صناعة تلك الرقاقات تكون عن طريق الات خاصة وتصنع في مكان ومعمل واحد في العالم وهو مصنع (ASML) الهولندي وان أمريكا هي من تتحكم بالمصنع ومن له الحق في شراء تلك الآلات لان امتلاك الات صنع الرقاقات يهدد امنها القومي مع العلم ان العالم كلة يوجد فيه 42 اله لصناعة الرقاقات فقط وان سعر الالة الواحدة بحدود 180 مليون دولار.
أمريكا تتحسس خطورة التقدم الصيني وخطورة ان تضم الصين تايوان الدولة المتقدمة في صناعة الرقاقات ولذلك أمريكا الان تحاول ان تجد بديل عن تايوان والبديل هو اليابان والتي أسست في عام 2023 شركة كبرى اسمها (RAPIDUS) لصناعة الرقاقات أي المعالجات ومن المخطط له ان يتم الانتهاء من انشاء المصنع والبدء بالعمل في أواسط عام 2025 والذي سيصنع اصغر رقاقة في العالم وبحجم 2 نانومتر مع العالم ان الشركات القديمة بحجم اكثر من 5 نانومتر .
واجهت اليابان تحدي وهو الموارد البشرية التي ستدير هذا المصنع المتخصص جدا بل المتفوق عالميا، ولهذا السبب ابتعثت شركة رابيدوس 150 مهندسا الى شركة IBM الامريكية للتدريب على تلك الآلات وعلى أبحاث الرقاقات أيضا.
للعلم كانت اليابان اكبر دولة مصنعة ومصدرة للرقاقات والتكنلوجيا سابقا وتمثلت في الشركتين اليابانيتين وهما HITACHI وشركة TOSHIBA من نهايات عام 1960 والى بدايات 2000 حيث كانت اليابان تمتلك نصف 50% من تجارة الرقاقات عالميا، بعد ذلك تدخلت السياسة الامريكية في صناعة الرقاقات من اجل افساح مجال امام الشركات الامريكية وبالفعل وبطلب امريكي تناقص حجم الإنتاج العالمي من النصف الى 9% من انتاج الرقاقات اليابانية.
ان العراقيل الامريكية لكل الدول ومنها الصين في سبيل منعها من امتلاك الذكاء الصناعي وكذلك صناعة الرقاقات وجعات الامر جزء من امنها القومي لذلك منعت أمريكا العديد من الدول من تصدير أي رقاقات متطورة أي أي شيء يتعلق بهذا الامر.
وخلاصة الامر ان أصحاب مراكز ومصانع الرقاقات وبرامج الذكاء الصناعي هم من يتحكمون بالحكومات وان ايلون ماسك وحكومة ترامب خير دليل حتى قيل ان الرئيس الفعلي لأمريكا هو ترامب.