شهر الصيام بين الارتقاء الروحي والتهافت على الاستهلاك المفرط
تاريخ النشر: 15th, March 2024 GMT
بقلم .. أمل التازي
تختلف التصورات الخاصة من شخص لآخر حول شهر رمضان، فإذا كان الجانب الروحي سائدا إلى حد كبير عند استحضار شهر الصيام لدى كثيرين، فإن الجانب الاحتفالي يسود لدى شريحة أخرى.
وخلال هذا الشهر، يطغى لدى البعض هاجس البحث عن أحدث الصيحات في "تقاليد" الطبخ والملابس، أو أي شكل من أشكال الموضة السريعة التي تنتشر خلال هذه المناسبة، وهي سلوكيات مدفوعة كذلك بتأثير شبكات التواصل الاجتماعي، إذ لا يتوانى البعض عن الانغماس في السباق المحموم لتحضير "الشهيوات"، واقتناء الأزياء التقليدية، والانكباب على أنشطة الترفيه…، إلى حد الوقوع في فخ الاستهلاك المفرط بعيدا عن روح الاكتفاء والوسطية التي يتعين أن تميز هذا الشهر الفضيل.
وغني عن القول إنه لا شيء يفلت اليوم من تحولات المجتمع الاستهلاكي التي باتت تمس كل أنحاء المعمورة، وتؤثر على جميع جوانب الحياة اليومية، بما فيها الجانب الروحي والديني.
وخلال شهر رمضان، لا تنضب السوق الاستهلاكية بتعدد أوجه الاستهلاك، كالإفطارات الجماعية وأمسيات المديح ورحلات السفر المنظمة للعمرة، والاحتفالات بأول صيام للأطفال، وغيرها.
وتبلغ ذروة أوجه الاستهلاك هذه خلال ليلة القدر، التي أنزل فيها القرآن، والتي يتم الاحتفال بها تقليديا مساء يوم السادس والعشرين من رمضان، ولها مكانة خاصة في نفوس المغاربة، يتوجه خلالها العديد من المؤمنين إلى المساجد لأداء صلاة التراويح والتهجد، لكن دون أن ينعزلوا تماما عن الاحتفالات الليلة الموازية، وتعد هذه المناسبة فرصة للراغبين في أن يغنموا أقصى ما يمكنهم من فضل هذه الليلة التي تعد "خيرا من ألف شهر".
وفي مقابل هذا الوضع المتناقض، الذي بات مقلقا بشكل متزايد، هناك من يحاول، بطريقة أو بأخرى، إيجاد التوازن الصحيح بين الروحي والمادي، والتوفيق بين السعي إلى مستوى عال من التقوى في ارتباطه مع الركن الرابع للاسلام، ومتطلبات الحياة الحديثة، بين الالتزامات المهنية والتحديات المجتمعية.
وعن سبل تحقيق هذا التوازن، تجيب بشرى، وهي مديرة مركز للتدريب، بعبارة واحدة هي: "اعتماد أسلوب حياة"، وتدافع، من خلال نشاطها المهني الذي يركز على إدارة التوتر النفسي، على أهمية اتباع أسلوب حياة صحي خلال شهر رمضان وخارجه، وذلك من أجل تجنب الإفراط.
وتوضح أن الأمر يتعلق "بتناول أكل متوازن" من أجل الحفاظ على الصحة، وتجنب الأطباق التي تحتوى على كميات عالية من السكريات والتوابل، التي عادة ما تملأ الطاولات المغربية، منبهة إلى أهمية التمتع بحس "التنظيم" بشكل يسمح للمرء بالانغماس في الروحانيات دون أن يعيق إنجاز مهامه اليومية.
وعلى المستوى الشخصي، تقر بشرى أنها تستعد مقدما بشكل جيد لشهر رمضان، من أجل الاستمتاع بالأجواء والتقاليد المغربية الفريدة التي تتخلل الشهر الفضيل، "والتي تتيح الفرصة من أجل الارتقاء الروحي، وتقوية الإيمان والتقرب من الله".
وهو ما يسمح لهذه المختصة في التدريب بإدارة مواعيدها بشكل ناجع، وبمواصلة الوفاء بالتزاماتها المهنية، مع الحرص على تنظيم الدورات التدريبية التي تقدمها في الخارج، بإفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، خارج شهر رمضان، إذ تؤكد أنه من غير الوارد أن تبتعد عن المغرب وعن عائلتها خلال هذه المناسبة، فرمضان في نظرها رديف للبهجة والضيافة والمشاركة والتضامن.
وبدوره، يتفق فريد، وهو موظف بنكي "شديد القلق"، مع هذا النهج؛ إذ يحرص على ممارسة الرياضة من أجل الاسترخاء والصفاء الذهني بعد يوم من العمل المكثف. لكن المشكلة، بالنسبة لفريد، أن هذا النشاط البدني يفتح شهيته وقت الطعام، ويضعف قدرته على مقاومة جميع الأطباق الرمضانية الشهية التي تؤثث المائدة "من أجل متعة العين والمعدة!"، وهو ما يؤثر بشكل خاص على قدرته على أداء التراويح بانتظام.
ويؤكد فريد أنه عقد العزم هو وزوجته على تناول الطعام الصحي المتوازن من خلال بذل كل ما في وسعهما لتجنب التبذير، والهدف من كل هذا هو الانسجام التام مع روح رمضان.
وعلى هذا المنوال، يظهر العديد من المواطنين نفس العزم على الالتزام بالدينامية الإيجابية التي تنشأ في هذا الشهر الفضيل، على أمل استمرارها على مدار العام، من أجل حياة أفضل وناجحة اجتماعيا ومهنيا وروحيا.
المصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: من أجل
إقرأ أيضاً:
المجتمع يفقد بوصلته.. بين الاستهلاك المادي وضياع الأهداف!
في ظلّ التحولات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، باتت مجتمعات عديدة تواجه تحديًا وجوديًّا يتمثل في فقدان بوصلة التوجه والغاية. لقد أدركت بعض الأنظمة الحاكمة أن تفكيك المجتمع، وإلهاء أفراده بالماديات والملذات، يُعد وسيلة فعّالة للسيطرة عليهم وإبعادهم عن قضاياهم المصيرية؛ فكلما انشغل الأفراد بتحقيق رغباتهم الشخصية، وانجرفوا نحو نمط استهلاكي فارغ، تضاءل اهتمامهم بالشأن العام، وأصبح توجيههم أكثر سهولة وفقًا لمقتضيات السلطة.
لكن السؤال الجوهري هنا: هل يمكن تزييف الأولويات إلى الأبد دون أن يدفع المجتمع ثمنًا باهظًا؟
من تفكّك الأهداف إلى هشاشة المجتمع
إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في تفكيك المجتمع، وإنما في قلب المعادلة بين الوسائل والغايات.
حينما يتحوّل المال والمتعة من أدوات لتحقيق حياة كريمة إلى أهداف بحد ذاتها، يفقد الإنسان إدراكه قيمته كغاية في ذاته، ويتحول إلى مجرد وسيلة لخدمة مصالح ضيقة. وهذا التحول يفرز مجتمعا هشًّا، مجردًا من القيم التي تحميه والمبادئ التي تصونه، ما يجعله عرضة لأي قوة داخلية أو خارجية تسعى لاختراقه.
في المجتمعات التي تفتقد إلى رؤية واضحة لمستقبلها، يصبح الأفراد مأسورين للحياة الاستهلاكية، فتتراجع لديهم روح الابتكار والإنتاج، ويتلاشى الشعور بالمسؤولية الجماعية.
فحين يُختزل الطموح في تحقيق الملذات الآنية، تغيب الأهداف الشخصية، وتتفكك الأسر، ويضعف الانتماء الوطني والقومي. وهذا لا يؤدّي فقط إلى تدهور القيم الاجتماعية، بل يسهم أيضًا في خلق بيئة غير مستقرة، يكون ولاء الأفراد فيها هشًّا، ومبنيًّا على المصالح الآنية بدلًا من المبادئ الراسخة.
الإلهاء الجماعي: دور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي
لقد ساهم التطور التقني والتكنولوجي في تسريع وتيرة هذا التحول، حيث أصبح الإنسان منشغلًا بشكل غير مسبوق بوسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى الترفيهي المستمر، ما أدّى إلى تآكل الوقت المتاح للتفكير العميق أو العمل الجاد على تحقيق الأهداف الشخصية والوطنية.
في هذا السياق، تتحول وسائل الإعلام الرقمية إلى أدوات لإعادة تشكيل الأولويات وتوجيه الرأي العام وفقًا لمصالح القوى المهيمنة، ما يجعل الأفراد عرضة للتلاعب دون وعي.
إن الاستخدام المفرط لهذه الوسائل لم يعد مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبح عنصرًا رئيسيًّا في إعادة برمجة العقول، حيث يحل محل الطموحات الكبرى محتوى سريع الاستهلاك، يرسخ قيم الفردية والانعزال عن قضايا المجتمع.
وبدلًا من أن تكون التكنولوجيا أداة لتوسيع المدارك وتحقيق التنمية، تحولت إلى وسيلة لصرف الانتباه عن المشكلات الحقيقية، ما أدى إلى تفاقم الشعور بالضياع وغياب الأهداف.
عواقب المجتمع المفكّك على استقرار الدولة
إن المجتمع الذي يُعاد تشكيله وفق نمط استهلاكي فارغ سرعان ما ينقلب ضد السلطة عند أول أزمة، لأنه لا يحمل ولاء حقيقيًّا، بل تحركه المصالح الآنية.
وهكذا، فإن الحاكم، الذي اعتقد أنه عزز سيطرته، يجد نفسه في مواجهة مجتمع مفكك، غير قادر على التماسك وقت الحاجة. فحين ينهار العقد الاجتماعي المبني على المبادئ والقيم المشتركة، يصبح الاستقرار السياسي مهددًا، ويتراجع الإحساس بالمسؤولية الجماعية تجاه الدولة، ما يفتح الباب أمام الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إن فطرة الإنسان تدفعه بطبيعته نحو الإنجاز والتأثير في محيطه، فهو ليس كائنًا استهلاكيًّا محضًا، بل يسعى دائمًا إلى تحقيق معنى في حياته. لكن، حين تنجح السلطة أو القوى المهيمنة في تحويل أحلامه إلى مجرد تحقيق اللذات الآنية، فإنه يفقد هويته ويصبح أداة طيعة في يد من يتحكم بمصادر الترفيه والتكنولوجيا.
وهنا تتجلّى خطورة فقدان الهدف الشخصي، إذ إن غياب الطموح الفردي يؤدي إلى تفكك الأسرة، وغياب الرؤية الوطنية، وضعف الانتماء القومي، ما يضعف المجتمع بأسره ويجعله غير قادر على مواجهة التحديات الكبرى.
استعادة البوصلة: ضرورة بناء مجتمع قائم على القيم والمبادئ
إنّ بناء مجتمع متماسك يرتكز على القيم والمبادئ ليس ترفًا، بل هو ضرورة لضمان استقرار الدولة على المدى الطويل. فالمجتمعات التي تمتلك وعيًا جماعيًّا بأولوياتها، وتعتمد على ثقافة المشاركة والمسؤولية، تصبح أكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمات.
أما سياسة الإلهاء وتحويل الإنسان إلى مستهلك للملذات دون هدف، فهي مجرد وهم زائل، قد يبدو فعالًا على المدى القصير، لكنه حتمًا سينهار أمام أول اختبار حقيقي.
ولذلك، فإن الحلّ لا يكمن فقط في مقاومة التلاعب الإعلامي أو التقني، بل في إعادة بناء منظومة القيم التي تحفّز الأفراد على التفكير النقدي، وتحقيق التوازن بين الطموح الشخصي والهدف الأسري، وبين الانتماء الوطني والمسؤولية القومية.
فالمجتمع الذي يمتلك رؤية واضحة لمستقبله، ويؤمن بضرورة تحقيق الإنجاز والتقدم، هو المجتمع الذي يمكنه مواجهة تحديات العصر، والحفاظ على استقراره، واستعادة بوصلته التي تحدد مساره نحو مستقبل أكثر ازدهارًا.
*نشر أولاً في مدونة الجزيرة
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقفرسالة المعلم أهم شيئ بنسبة لهم ، أما الجانب المادي يزعمون بإ...
يلعن اب#وكم يا ولاد ال&كلب يا مناف&قين...
نقدرعملكم الاعلامي في توخي الصدق والامانه في نقل الكلمه الصا...
نشكركم على اخباركم الطيبه والصحيحه وارجو المصداقيه في مهنتكم...
التغيرات المناخية اصبحت القاتل الخفي ، الذي من المهم جدا وضع...