عربي21:
2025-01-30@23:17:18 GMT

البرمجة الرمضانية أو انتصار المقاول على المقاوم

تاريخ النشر: 15th, March 2024 GMT

مثلما هو الشأن في كل رمضان، يتجه السجال العام في تونس إلى محتوى المنابر الإعلامية العمومية والخاصة. ورغم أن الجدل حول "المجاهرة بالإفطار" وفتح المقاهي والمطاعم -وما يرتبط بذلك من قضايا فكرية "مؤدلجة" و"مسيّسة" مثل حرية الاعتقاد والتعبير وعلمانية الدولة وحقوق الأقليات- قد أصبح كله جزءا من التاريخ السياسي والأيديولوجي بعد ذهاب أسبابه المباشرة (أي بعد خروج النهضة من الحكم وعودة المنظومة القديمة للحكم "القهري" عبر بوابة "تصحيح المسار")، فإننا نلاحظ استمرار الجدل حول الرسائل المباشرة والضمنية لوسائل الإعلام ودورها في تشكيل النماذج الفكرية والسلوكية لعموم التونسيين -خاصة المراهقين والشبان- كما نلاحظ استمرار الجدل حول دور بعض بارونات الإعلام الخاص في تجفيف منابع القيم وفي رسم صورة مشوّهة واختزالية للتونسيين؛ بدعوى الواقعية حينا، أو بدعوى عدم خضوع الفن لأية مرجعية أخلاقية متعالية أحيانا أخرى.

وهو جدل يتراوح بين العفوية والانطباعية (خاصة لدى عموم المواطنين)، وبين وجود بعض المقاربات النقدية العميقة سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو خارجها.

منذ حصول تونس على الاستقلال الصوري عن فرنسا، كان ما يسمى بـ"الإبداع" حكرا على نخبة وظيفية مثلت الذراع الأيديولوجي للنظام، رغم سعيها الكاذب أحيانا إلى عدم التماهي معه، وسعي النظام أيضا إلى عدم تدجينها بصورة مطلقة لما في ذلك من ضرب لهامش الحريات المطلوب دوليا من الأنظمة التابعة للغرب. لفهم المشهد الرمضاني في تونس، سيكون علينا أن نضع هذا المشهد في سياق أعم، أي سيكون علينا أن نقرأ المشهد الإعلامي من جهة توجهاته العامة وطبيعة علاقته بالدولة وبالنواة الصلبة للحكم منذ الثورة. فنحن نلاحظ نوعا من الانفصام أو الاستقلالية للمشهد الإعلامي عن مخرجات صناديق الاقتراع، أي عن الجهات الحاكمة بتفويض شعبي مباشروكان ذلك "الإبداع" المكتوب أو السمعي أو المرئي يتحرك في أفق "حداثي" أو "تنويري" هو في جوهره مجرد تَونسة مشوّهة لقيم الجمهورية الفرنسية وثورتها، حتى تحولت أغلب الأشكال الإبداعية إلى مجرد أدوات دعائية لخيارات النظام "التحديثية" على النمط اللاّئكي الفرنسي، خاصة فيما يتعلق بالمسألتين الثقافية والدينية.

منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية أو الدولة-الأمة، كان "الإبداع" الذي تهيمن عليه القوى اليسارية -أو حتى بعض القوى الليبرالية ذات الخلفية اللائكية المتطرفة- تجربةً معادية للدين وليس فقط للتدين، كما كان" الإبداع" في أغلبه مجرد إسقاط لمنظورات وقيم جمالية وأشكال إبداعية غربية على واقع تونس أو العرب والمسلمين بصفة عامة، سواء أكان مرجع المعنى الغربي في ذلك أو معيار الحكم والتصنيف هو باريس أم موسكو أم حتى تيرانا عاصمة ألبانيا "الخوجية".

لفهم المشهد الرمضاني في تونس، سيكون علينا أن نضع هذا المشهد في سياق أعم، أي سيكون علينا أن نقرأ المشهد الإعلامي من جهة توجهاته العامة وطبيعة علاقته بالدولة وبالنواة الصلبة للحكم منذ الثورة. فنحن نلاحظ نوعا من الانفصام أو الاستقلالية للمشهد الإعلامي عن مخرجات صناديق الاقتراع، أي عن الجهات الحاكمة بتفويض شعبي مباشر. فرغم كل التغييرات التي مسّت سطح المشهد (ظهور بعض المنابر الإعلامية الجديدة، بل الحديث المتواتر بين النخب عن "إعلام بديل")، استطاعت النواة الصلبة للمنظومة القديمة التحكم في المشهد عبر آليتي التمويل (تقوية بعض الواجهات الإعلامية القديمة ودعمها بواجهات جديدة) والتقنين (من خلال "كلاب الحراسة الأيديولوجية" المشرفين على تعديل المشهد الإعلامي بصورة تمنع المس من "الأساطير المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي").

ونحن هنا نتحدث عن قدرة الذراع الأيديولوجية للدولة العميقة على التمرد على سلطة الأطراف المنتخبة، وكذلك قدرتها على تسفيه الرأي العام إذا ما استدعت مصلحة الدولة العميقة ذلك، وهو أمر لم يسلم منه "تصحيح المسار" ذاته رغم القوة المفترضة للرئيس ولمشروعه السياسي "المحافظ".

يستطيع أي متابع للشأن الإعلامي في تونس أن يلاحظ هيمنة المنظومة القديمة على خطوطه التحريرية أو توجهاته العامة منذ هروب المخلوع. فرغم تغير الأطراف المشاركة في إدارة الدولة بفضل صناديق الاقتراع، فإن القطاعات التي تشكل الأذرع الأيديولوجية لأي نظام (الإعلام، الثقافة، التربية والتعليم) قد ظلت منفصلة عن السرديات الإصلاحية التي حكمت حينا من الديمقراطية، بل ظلت تتحرك ضد تلك السرديات بصورة نسقية. فلا "الانتقال الديمقراطي" في المستوى السياسي استطاع تغيير المعادلة الثقافية، مهما اختلفت مواقفنا من البرمجة الرمضانية للمنابر الإعلامية العمومية والخاصة في تونس، فإننا لن نختلف في أنها المقابل الموضوعي أو الضديد لكل المراجعات أو مشاريع النقد الذاتي التي يُفترض حصولها بعد طوفان الأقصى. إنها برمجة تضعنا أمام مفارقة أولى تتمثل في صلابة الخيارات الثقافية أو القيمية لمنظومة الاستعمار الداخلي في زمن "السيولة"، كما تضعنا أمام مفارقة ثانية هي هيمنة أصحاب "القضايا الصغرى" على المشهد الإعلامي والثقافي بصورة لا تخدم إلا قضية كبرى واحدة؛ ألا وهي القضية الصهيونيةولا النهضة استطاعت تغيير شيء في مستوى سوق الخيرات الروحية أو إنتاج الرموز رغم جعجعة "الإعلام البديل"، ولا "تصحيح المسار" يبدو قادرا على تغيير "الخطوط التحريرية" لإعلام التفاهة رغم قوة المراسيم وقابلية "التدجين" عند أصحاب "القضايا الصغرى" و"القضايا الكبرى" على حد سواء.

مهما اختلفت مواقفنا من البرمجة الرمضانية للمنابر الإعلامية العمومية والخاصة في تونس، فإننا لن نختلف في أنها المقابل الموضوعي أو الضديد لكل المراجعات أو مشاريع النقد الذاتي التي يُفترض حصولها بعد طوفان الأقصى. إنها برمجة تضعنا أمام مفارقة أولى تتمثل في صلابة الخيارات الثقافية أو القيمية لمنظومة الاستعمار الداخلي في زمن "السيولة"، كما تضعنا أمام مفارقة ثانية هي هيمنة أصحاب "القضايا الصغرى" على المشهد الإعلامي والثقافي بصورة لا تخدم إلا قضية كبرى واحدة؛ ألا وهي القضية الصهيونية وما يتفرع عنها من قضايا مشتقة كالتطبيع والإبراهيمية وشيطنة الحركات الإخوانية ومنع أي تقارب بين الإسلاميين والعلمانيين وتخريب المشاريع الديمقراطية.

إن عمليات تسطيح الوعي وتثمين التفاهة وافتعال القضايا الهوياتية وضرب المقدسات وتسفيه المرجعيات الأخلاقية وتعميم ثقافة عبادة الذات وترذيل كل مقولات التعالي ومعاني التضحية.. كل ذلك ليس مجرد سياسات عفوية أو من تصميم محلي، إنها عمليات تعكس مقدار اختراق الصهيونية عبر وكلائها المحليين لنسيج الثقافة والتعليم والتربية في تونس. وهو اختراق ضروري لتبرير عمليات النهب الاقتصادي ومظاهر التفاوت الطبقي والجهوي وحماية المستفيدين منها، بدعوى الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" ومقاومة الرجعية والظلامية ونشر الحداثة والأنوار وغير ذلك من الدعاوى التي لا محصول تحتها إلا تكريس التخلف والتبعية وما يصحبهما بالضرورة من فساد واستبداد.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه رمضان تونس الإعلامية تونس الإعلام رمضان طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المشهد الإعلامی فی تونس

إقرأ أيضاً:

قضية القضايا

ارتباط مصر بقضية فلسطين هو ارتباط دائم، ثابت تمليه اعتبارات الأمن القومى المصرى وروابط الجغرافيا والتاريخ والدم والقومية مع شعب فلسطين، لذلك لم يكن الموقف المصرى من قضية فلسطين فى أى مرحلة يخضع لحسابات مصالح آنية، ولم يكن أبداً ورقة لمساومات إقليمية أو دولية، لذلك لم يتأثر ارتباط مصر العضوى بقضية فلسطين بتغيير النظم والسياسات المصرية.

فقبل ثورة 23 يوليو 1951، كان ما يجرى فى فلسطين موضع اهتمام الحركة الوطنية المصرية، وكانت مصر طرفاً أساسياً فى الأحداث التى سبقت حرب عام 1948، وأعلن الملك فاروق عن مشاركة الجيش المصرى فى حرب عام 1948، لإنقاذ فلسطين. كما وضع الرئيس جمال عبدالناصر القضية الفلسطينية فى مقدمة اهتماماته، لذا كانت دعوته لعقد مؤتمر الخرطوم الذى رفع فيه شعار «لا اعتراف، لا صلح، لا تفاوض» مع إسرائيل والذى سمى بمؤتمر «اللاءات الثلاثة»، ولا يمكن أن نتجاهل مطالبات الرئيس السادات بحقوق الشعب الفلسطينى خلال خطابه الشهير فى الكنيست الإسرائيلى مطالباً بالعودة إلى حدود ما قبل عام 1967، خلال مؤتمر القمة العربى السابع الذى عقد فى نوفمبر 1973 فى الجزائر، وخلال فترة الرئيس مبارك شهدت القضية الفلسطينية تطورات كثيرة وحادة ونتيجة لذلك تطورت مواقف وأدوار مصر لتحقيق الاستقرار فى هذه المنطقة الملتهبة من حدود مصر الشرقية.

وبعد تولى الرئيس السيسى المسئولية رئيساً لمصر، ظلت القضية الفلسطينية قضية مركزية، وبذلت مصر العديد من الجهود لوقف إطلاق النار لتجنب المزيد من العنف وحقن دماء المدنيين والأبرياء من أبناء الشعب الفلسطينى، الذين يدفعون ثمن مواجهات عسكرية لا ذنب لهم فيها، فضلا عن الجهود الإنسانية التى قدمتها مصر وما زالت تقدمها من خلال فتح معبر رفح لاستقبال الجرحى والمصابين الفلسطينيين، وإرسال المساعدات الغذائية والدوائية للشعب الفلسطينى، ولعبت مصر منذ بداية اشتعال فتيل الحرب فى غزة دوراً كبيراً من أجل إعادة الاستقرار لقطاع غزة، وحتى التوصل إلى اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى ولعب الرئيس السيسى دوراً مهماً مع الأجهزة المعنية فى متابعة كافة المفاوضات التى تمت، والتحرك على كافة المستويات الخارجية.

وأعلنت مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية توصل طرفى النزاع فى غزة إلى اتفاق لتبادل الأسرى والمحتجزين والعودة إلى الهدوء المستدام بما يحقق وقفاً دائماً لإطلاق النار بين الطرفين.

هذا الاتفاق لم يكن ليتحقق لولا الدور الجوهرى والتاريخى الذى تضطلع به مصر فى الشرق الأوسط والتزامها بالدبلوماسية لحل النزاعات. كما أفشلت مصر بالتوازى مع الجهد الإنسانى بإصرارها وجديتها مخططات التهجير القسرى للفلسطينيين ووقفت كحائط صد ولم تسمح بإتمام هذا المخطط الشرير الذى كان فى جوهر سياسات الاحتلال وهدفا رئيسيا له.

إن مصر التى حملت القضية الفلسطينية على عاتقها منذ سبعة عقود بل ومنذ قدم التاريخ ستظل داعمة للسلام العادل ومدافعة عن حقوق الشعب الفلسطينى حتى يتحقق السلام المستدام من خلال حل الدولتين.

لم تغب مصر يوماً عن الأحداث الأليمة التى يمر بها الأشقاء فى قطاع غزة، منذ انطلاق الحرب المدمرة التى شنتها إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023، ولم تكن الهدنة ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى ترى النور لولا الدور التاريخى لمصر فى منطقة الشرق الأوسط، وهو الدور الذى لم يكن وليد اللحظة، ولكنه يرجع إلى الثوابت المصرية المعروفة تجاه القضية الفلسطينية.

وتتمثل ثوابت مصر فى الرفض القاطع لأى سيناريوهات تستهدف محاولات تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين ودعمهم فى إقامة دولتهم المستقلة على حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

القضية الفلسطينية بالنسبة لمصر هى قضية القضايا كما قال الرئيس السيسى، وترفض مصر تماماً أى حديث عن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى سيناء أو إلى أى مكان آخر منذ اللحظة الأولى للحروب الإسرائيلية على غزة، وفى نفس الوقت أيضا يعتبر اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة شاهداً حياً على الجهود الدؤوبة، والمساعى المستمرة التى تبذلها مصر إلى جانب شركائها فى هذا الشأن، وستدفع مصر بمنتهى القوة فى تنفيذ الاتفاق بالكامل، والبدء فى مساعى حل الدولتين ولن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية وتعتبرها خطاً أحمر.

مقالات مشابهة

  • الرئيس المقاول
  • "المسلسلات الرمضانية 2025".. منافسة قوية مع أعمال درامية متنوعة ونجوم بارزين
  • قضية القضايا
  • مع “إيثان آلن”.. ارتقوا بجلساتكم الرمضانية إلى عالمٍ من الأناقة
  • الزبيدي وأبو وردة أبرز المحررين في الدفعة الثالثة من صفقة طوفان الأحرار اليوم
  • إدانة جديدة لشقيق بودريقة في ملف الإستيلاء على ممتلكات عقارية
  • ما الذي يجعل DeepSeek أفضل من ChatGPT؟
  • المداح ولام شمسية .. يسرا اللوزي تكشف كواليس أعمالها الرمضانية
  • هوم بوكس تكشف عن مجموعتها الرمضانية: “إحياء التراث والاستمتاع بالأجواء الرمضانية في منزلك”
  • ميليشيا لواء /19 حشد شعبي:نرفض حل الحشد “المقاوم”وسلاحنا سيبقى بوجه أمريكا وإسرائيل!