عربي21:
2024-12-23@05:47:20 GMT

البرمجة الرمضانية أو انتصار المقاول على المقاوم

تاريخ النشر: 15th, March 2024 GMT

مثلما هو الشأن في كل رمضان، يتجه السجال العام في تونس إلى محتوى المنابر الإعلامية العمومية والخاصة. ورغم أن الجدل حول "المجاهرة بالإفطار" وفتح المقاهي والمطاعم -وما يرتبط بذلك من قضايا فكرية "مؤدلجة" و"مسيّسة" مثل حرية الاعتقاد والتعبير وعلمانية الدولة وحقوق الأقليات- قد أصبح كله جزءا من التاريخ السياسي والأيديولوجي بعد ذهاب أسبابه المباشرة (أي بعد خروج النهضة من الحكم وعودة المنظومة القديمة للحكم "القهري" عبر بوابة "تصحيح المسار")، فإننا نلاحظ استمرار الجدل حول الرسائل المباشرة والضمنية لوسائل الإعلام ودورها في تشكيل النماذج الفكرية والسلوكية لعموم التونسيين -خاصة المراهقين والشبان- كما نلاحظ استمرار الجدل حول دور بعض بارونات الإعلام الخاص في تجفيف منابع القيم وفي رسم صورة مشوّهة واختزالية للتونسيين؛ بدعوى الواقعية حينا، أو بدعوى عدم خضوع الفن لأية مرجعية أخلاقية متعالية أحيانا أخرى.

وهو جدل يتراوح بين العفوية والانطباعية (خاصة لدى عموم المواطنين)، وبين وجود بعض المقاربات النقدية العميقة سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو خارجها.

منذ حصول تونس على الاستقلال الصوري عن فرنسا، كان ما يسمى بـ"الإبداع" حكرا على نخبة وظيفية مثلت الذراع الأيديولوجي للنظام، رغم سعيها الكاذب أحيانا إلى عدم التماهي معه، وسعي النظام أيضا إلى عدم تدجينها بصورة مطلقة لما في ذلك من ضرب لهامش الحريات المطلوب دوليا من الأنظمة التابعة للغرب. لفهم المشهد الرمضاني في تونس، سيكون علينا أن نضع هذا المشهد في سياق أعم، أي سيكون علينا أن نقرأ المشهد الإعلامي من جهة توجهاته العامة وطبيعة علاقته بالدولة وبالنواة الصلبة للحكم منذ الثورة. فنحن نلاحظ نوعا من الانفصام أو الاستقلالية للمشهد الإعلامي عن مخرجات صناديق الاقتراع، أي عن الجهات الحاكمة بتفويض شعبي مباشروكان ذلك "الإبداع" المكتوب أو السمعي أو المرئي يتحرك في أفق "حداثي" أو "تنويري" هو في جوهره مجرد تَونسة مشوّهة لقيم الجمهورية الفرنسية وثورتها، حتى تحولت أغلب الأشكال الإبداعية إلى مجرد أدوات دعائية لخيارات النظام "التحديثية" على النمط اللاّئكي الفرنسي، خاصة فيما يتعلق بالمسألتين الثقافية والدينية.

منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية أو الدولة-الأمة، كان "الإبداع" الذي تهيمن عليه القوى اليسارية -أو حتى بعض القوى الليبرالية ذات الخلفية اللائكية المتطرفة- تجربةً معادية للدين وليس فقط للتدين، كما كان" الإبداع" في أغلبه مجرد إسقاط لمنظورات وقيم جمالية وأشكال إبداعية غربية على واقع تونس أو العرب والمسلمين بصفة عامة، سواء أكان مرجع المعنى الغربي في ذلك أو معيار الحكم والتصنيف هو باريس أم موسكو أم حتى تيرانا عاصمة ألبانيا "الخوجية".

لفهم المشهد الرمضاني في تونس، سيكون علينا أن نضع هذا المشهد في سياق أعم، أي سيكون علينا أن نقرأ المشهد الإعلامي من جهة توجهاته العامة وطبيعة علاقته بالدولة وبالنواة الصلبة للحكم منذ الثورة. فنحن نلاحظ نوعا من الانفصام أو الاستقلالية للمشهد الإعلامي عن مخرجات صناديق الاقتراع، أي عن الجهات الحاكمة بتفويض شعبي مباشر. فرغم كل التغييرات التي مسّت سطح المشهد (ظهور بعض المنابر الإعلامية الجديدة، بل الحديث المتواتر بين النخب عن "إعلام بديل")، استطاعت النواة الصلبة للمنظومة القديمة التحكم في المشهد عبر آليتي التمويل (تقوية بعض الواجهات الإعلامية القديمة ودعمها بواجهات جديدة) والتقنين (من خلال "كلاب الحراسة الأيديولوجية" المشرفين على تعديل المشهد الإعلامي بصورة تمنع المس من "الأساطير المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي").

ونحن هنا نتحدث عن قدرة الذراع الأيديولوجية للدولة العميقة على التمرد على سلطة الأطراف المنتخبة، وكذلك قدرتها على تسفيه الرأي العام إذا ما استدعت مصلحة الدولة العميقة ذلك، وهو أمر لم يسلم منه "تصحيح المسار" ذاته رغم القوة المفترضة للرئيس ولمشروعه السياسي "المحافظ".

يستطيع أي متابع للشأن الإعلامي في تونس أن يلاحظ هيمنة المنظومة القديمة على خطوطه التحريرية أو توجهاته العامة منذ هروب المخلوع. فرغم تغير الأطراف المشاركة في إدارة الدولة بفضل صناديق الاقتراع، فإن القطاعات التي تشكل الأذرع الأيديولوجية لأي نظام (الإعلام، الثقافة، التربية والتعليم) قد ظلت منفصلة عن السرديات الإصلاحية التي حكمت حينا من الديمقراطية، بل ظلت تتحرك ضد تلك السرديات بصورة نسقية. فلا "الانتقال الديمقراطي" في المستوى السياسي استطاع تغيير المعادلة الثقافية، مهما اختلفت مواقفنا من البرمجة الرمضانية للمنابر الإعلامية العمومية والخاصة في تونس، فإننا لن نختلف في أنها المقابل الموضوعي أو الضديد لكل المراجعات أو مشاريع النقد الذاتي التي يُفترض حصولها بعد طوفان الأقصى. إنها برمجة تضعنا أمام مفارقة أولى تتمثل في صلابة الخيارات الثقافية أو القيمية لمنظومة الاستعمار الداخلي في زمن "السيولة"، كما تضعنا أمام مفارقة ثانية هي هيمنة أصحاب "القضايا الصغرى" على المشهد الإعلامي والثقافي بصورة لا تخدم إلا قضية كبرى واحدة؛ ألا وهي القضية الصهيونيةولا النهضة استطاعت تغيير شيء في مستوى سوق الخيرات الروحية أو إنتاج الرموز رغم جعجعة "الإعلام البديل"، ولا "تصحيح المسار" يبدو قادرا على تغيير "الخطوط التحريرية" لإعلام التفاهة رغم قوة المراسيم وقابلية "التدجين" عند أصحاب "القضايا الصغرى" و"القضايا الكبرى" على حد سواء.

مهما اختلفت مواقفنا من البرمجة الرمضانية للمنابر الإعلامية العمومية والخاصة في تونس، فإننا لن نختلف في أنها المقابل الموضوعي أو الضديد لكل المراجعات أو مشاريع النقد الذاتي التي يُفترض حصولها بعد طوفان الأقصى. إنها برمجة تضعنا أمام مفارقة أولى تتمثل في صلابة الخيارات الثقافية أو القيمية لمنظومة الاستعمار الداخلي في زمن "السيولة"، كما تضعنا أمام مفارقة ثانية هي هيمنة أصحاب "القضايا الصغرى" على المشهد الإعلامي والثقافي بصورة لا تخدم إلا قضية كبرى واحدة؛ ألا وهي القضية الصهيونية وما يتفرع عنها من قضايا مشتقة كالتطبيع والإبراهيمية وشيطنة الحركات الإخوانية ومنع أي تقارب بين الإسلاميين والعلمانيين وتخريب المشاريع الديمقراطية.

إن عمليات تسطيح الوعي وتثمين التفاهة وافتعال القضايا الهوياتية وضرب المقدسات وتسفيه المرجعيات الأخلاقية وتعميم ثقافة عبادة الذات وترذيل كل مقولات التعالي ومعاني التضحية.. كل ذلك ليس مجرد سياسات عفوية أو من تصميم محلي، إنها عمليات تعكس مقدار اختراق الصهيونية عبر وكلائها المحليين لنسيج الثقافة والتعليم والتربية في تونس. وهو اختراق ضروري لتبرير عمليات النهب الاقتصادي ومظاهر التفاوت الطبقي والجهوي وحماية المستفيدين منها، بدعوى الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" ومقاومة الرجعية والظلامية ونشر الحداثة والأنوار وغير ذلك من الدعاوى التي لا محصول تحتها إلا تكريس التخلف والتبعية وما يصحبهما بالضرورة من فساد واستبداد.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه رمضان تونس الإعلامية تونس الإعلام رمضان طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المشهد الإعلامی فی تونس

إقرأ أيضاً:

«صُنّاع المحتوى الاقتصادي» يستعرض عوامل النجاح والانتشار الإعلامي

دبي (الاتحاد)

أخبار ذات صلة بعثة العمرة الرسمية لـ«إسلامية دبي» تعود إلى أرض الوطن قمة المليار متابع تعلن عن 10 مرشحين

اختتم نادي دبي للصحافة الأسبوع الأول من برنامج «صُنّاع المحتوى الاقتصادي» الذي يتم تنظيمه بدعم من وزارة الاقتصاد في مقر نادي دبي للصحافة، وبحضور مجموعة من المتخصصين في صناعة المحتوى الرقمي والصوتي المعني بالموضوعات الاقتصادية، حيث تضمّن البرنامج سلسلة من المحاضرات وورش العمل قدمتها نخبة من المحاضرين من الخبراء والإعلاميين ومسؤولي الشركات الإعلامية الرائدة في هذا المجال.
وقالت مريم الملا، مديرة نادي دبي للصحافة بالإنابة: «واصل نادي دبي للصحافة منذ تأسيسه تقديم المبادرات الهادفة لدفع مسيرة التميز الإعلامي، ومع ظهور القوالب الإعلامية الجديدة في ضوء التطور التقني الهائل الذي بدّل العديد من المعايير المهنية، وأحدث ثورة ضخمة في مجال المحتوى، حرص النادي على أن يكون مواكباً لتلك المتغيرات، ومساهماً في تعزيز قدرة الإعلاميين على الإلمام بعناصر التميز الإعلامي في عالم تشكل ملامحه التكنولوجيا، إذ بات المحتوى الرقمي هو سيد الموقف، والمساحة الأكثر جذباً للجمهور على كافة المستويات والقطاعات». وأضافت: «من هذا المنطلق، وحرصاً على ترسيخ الريادة الإعلامية لدبي، أطلق نادي دبي للصحافة برنامج (صُنّاع محتوى دبي) سعياً لتمكين المبدعين من صُنّاع المحتوى من الإلمام بكافة عناصر ومتطلبات التميز والنجاح والانتشار، من خلال الاهتمام بإنتاج محتوى نافع وهادف وبنّاء»، منوهةً بالتعاون النموذجي من قبل وزارة الاقتصاد في إطلاق النسخة الأولى من البرنامج التي ركزت بصفة حصرية على «المحتوى الاقتصادي»، لما لهذا المجال من أهمية خاصة، لافتةً إلى أن تدريب صناع المحتوى ليس مجرد خيار، بل هو استثمار في مستقبل الإعلام الاقتصادي، إذ يعزز من قدرة المجتمعات على اتخاذ قرارات مالية أكثر وعياً، ويسهم في بناء اقتصاد أكثر استدامة وشمولية.
وأشارت محفوظة عبدالله، اختصاصي تطوير البرامج الإعلامية بنادي دبي للصحافة، إلى أن البرنامج التدريبي يسهم في صقل مهارات صناع المحتوى فيما يتعلق بالتخصص المعرفي بإتاحة الفرصة لفهم أحدث التطورات الاقتصادية، وتحليل البيانات المالية، وتقديم تفسيرات دقيقة للمفاهيم الاقتصادية التي قد تبدو معقدة، وكذلك يساعد التدريب على توظيف أدوات وتقنيات متقدمة لجعل المحتوى أكثر تفاعلية وإبداعاً، بما يزيد من جذب الجمهور ويسهّل استيعاب الرسائل الرئيسية بما يسهم في بناء الثقة بين صناع المحتوى والجمهور.
وشملت أجندة الأسبوع الأول من برنامج صُنّاع المحتوى الاقتصادي، جلسة بعنوان «إدارة الاقتصاد: الأساطير والحقائق وكل ما بينهما»، وجاءت بالتعاون مع منصة «أرقام»، وتحدث خلالها ماهر الشميطلي، مدير تطوير المحتوى في أكاديمية المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام.
وركّزت الجلسة على عدة نقاط مهمة، شملت: السياسة المالية العامة والسياسة النقدية وعلاقتها بدور البنوك المركزية في التحكم في المعروض النقدي وأسعار الفائدة، وسبل تحفيز النمو الاقتصادي، بما في ذلك السياسات التي تدعم وتعزز النمو الاقتصادي المستدام، والسياسة المالية والتضخم من ناحية تأثير الإنفاق الحكومي وفرض الضرائب على مستويات التضخم، ودراسة تأثير الضرائب على التنمية الاقتصادية والنمو.
تقنيات الذكاء الاصطناعي
حضر المشاركون في برنامج «صُنّاع المحتوى الاقتصادي» جلسة بعنوان «تقنيات الذكاء الاصطناعي وصناعة المحتوى المرئي» بالتعاون مع مؤسسة صحافة الذكاء الاصطناعي للبحث والاستشراف (AIJRF) وتحدث خلالها د. محمد عبدالظاهر، الرئيس التنفيذي للمؤسسة، حيث تناول بالشرح والتوضيح 10 تطبيقات أساسية للذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى المصور سواء من الفيديو أو الصور الفوتوغرافية أو القوائم البيانية. كما تطرّق المحاضر إلى جملة من الموضوعات ذات الصلة، بما في ذلك إدارة المحتوى بالذكاء الاصطناعي، بدءاً من مرحلة صناعة الفكرة وانتهاءً بنشر المحتوى على المنصات الرقمية.
مبادئ الاقتصاد الأساسية
في إطار الحرص على إشراك المؤسسات الأكاديمية الرائدة في إثراء محتوى البرنامج، تضمنت الجلسات التدريبية لـ«صُنّاع المحتوى الاقتصادي» جلسة بعنوان «مبادئ الاقتصاد الأساسية»، وعُقدت بالتعاون مع جامعة موردوخ في دبي، واستعرضت خلالها د. رانيا عيتاني جملة من أهم المفاهيم الاقتصادية، والاقتصاد ما بين الندرة والاختيار وتكلفة الفرص ودورها في اتخاذ القرار، والأسس الديناميكية للأسواق ما بين قوى العرض والطلب. كما تطرقت الجلسة إلى المرونة السعرية، وكيفية استجابة الأسعار لتغيرات الأسواق، إضافة إلى مناقشة أسس فهم وتحليل المؤشرات الاقتصادية المتعلقة بالناتج المحلي الإجمالي للدول، والعلاقة بين التضخم والبطالة عالمياً وتأثيرها على الاقتصاد العالمي، وأخيراً هيكل السوق، وأنواع الأسواق وتأثير المنافسة فيها.

مقالات مشابهة

  • «صُنّاع المحتوى الاقتصادي» يستعرض عوامل النجاح والانتشار الإعلامي
  • من هي أبرز الشخصيات التي تدير المشهد في سوريا الجديدة؟.. وزراء ومحافظون
  • حماس تستفز نتنياهو بصورة لابنه "يائير في ميامي"
  • محافظ كفرالشيخ يكرم الفائزين بمسابقات الأسبوع العربي للبرمجة في دورته الرابعة
  • محافظ كفر الشيخ يُكرم الفائزين بمسابقة البرمجة ويشيد بإبداع الطلاب ذوي الهمم
  • اللافي: أثريّنا المشهد الإعلامي في ليبيا بمنتدى أيام طرابلس
  • سخر مقهاه لعقد إجتماعات قادة الثورة الجزائرية.. وفاة المقاوم التونسي مسعود بن جمعة
  • ابتكار خارق.. فحص جديد يكتشف السرطان المقاوم للأدوية قبل بدء العلاج
  • فحص جديد يكتشف السرطان المقاوم للأدوية قبل بدء العلاج
  • لا أحد يريد حسم اللقب في الدوريات الأوروبية الكُبرى!