الرق العسكري إبان عهد التركية (1820 – 1885م)
تاريخ النشر: 15th, March 2024 GMT
Military Slavery in the Sudan during the Turkiyya, 1820 - 1885
Gerard Prunier جيرارد برونييه
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لما جاء في فصل من كتاب صدر عام 1992م بعنوان: "The Human Commodity: Perspectives on the Trans-Saharan Slave Trade منظورات حول تجارة الرقيق عبر الصحراء الكبرى"، بقلم جيرارد برونير(1941-).
المترجم
**************** **************
كانت إحدى أهم الأسباب التي حفزت محمد علي باشا لغزو السودان هي الحصول على مسترقين سود لتجنيدهم في جيشه. وكتب لولده إسماعيل، سرعسكر (قائد) تلك الحملة ما يفيد بأن ليس هناك من غرض لإيفاده "لتك البلاد" أهم من "جمع الزنوج". ولما لمس من ولده بعض التجاهل حيال تلبية ذلك الغرض بعث له رسالة أخرى تفيد بما يلي:
"لعله من الواضح بالنسبة لك أن غرضنا الوحيد من إرسالك يا بني العزيز، وهو تنفيذ تلك المهمة العسيرة، التي اقتضت إرسال الكثير من الجنود، وإنفاق الكثير من الأموال، أن تجمع أكبر عدد ممكن من الزنوج. دعهم يرون حماستك وهمتك العالية ... لا تُخْشَ شيئاً، أذهب لكل مكان، هاجم بضراوة وأقبض عليهم".
وكان الغرض (النهائي) من القبض على أولئك المسترقين هو استخدامهم في بناء جيش جديد ومنظم ومدرب بطرق حديثة، على غرار "نظام الجديد NIZAM AL-JADID" (1)، الذي يقوم عليه جنود فرنسيون متقاعدون شاركوا من قبل في الحروب النابليونية. وكان هدف الخديوي هو استخدام ذلك الجيش في تنفيذ سياسته التوسعية. وكان الخديوي قد حاول من قبل استخدام المماليك في ذلك "النظام الجديد"، غير أنهم فشلوا مراراً وتكراراً في تنفيذ ما يريده منهم، بسبب عدم انضباطهم العسكري. وهذا ما جعله يجد في البحث عن مجندين زنوج من السودان.
أما بالنسبة للأشياء الكثيرة الأخرى في السودان، فقد كان تخليها أيسر من تنفيذها. فقد كانت هنالك تجارة تقليدية (قديمة) في الرقيق بين السودان ومصر؛ غير أن احتياجات الخديوي محمد علي باشا من المسترقين كانت تفوق عدداً ونوعاً ما كان بمقدور تجار الرقيق جلبه لمصر. وقُدرت أعداد المسترقين السودانيين الذين كانوا يدخلون مصر سنوياً ما بين 3,000 إلى 5,000. غير أن تلك الأعداد كانت تشمل الرجال والنساء والأطفال، بينما كان الخديوي يرغب تحديداً في جلب ذكور أقوياء في سن التجنيد، وبأعداد كبيرة. وكتب محمد علي باشا رسالة إلى إبراهيم باشا في 18 ديسمبر 1821م جاء فيها:
"عندما تصطاد الزنوج، يجب عليك فصل النساء والأطفال، والاحتفاظ بهم عندك. وعليك أن ترسل لنا الرجال الصالحين للتجنيد. وعندما يصلنا 10,000 من أولئك الرجال، عليك أن ترسل لنا النساء اللواتي اِحْتَجَزْتَهن عندك".
وفي الغارات الأولى لجيش محمد علي باشا، اُصْطِيدَتْ أعداد كبيرة جداً من النساء. أما الرقيق الذي كان يُقدم للحكام الجدد كضرائب، فقد كانوا جميعاً من الذكور. ولم يكن النظام الجديد (بحسب تعليمات محمد علي باشا لسر العسكر) يقبل بالمسترقات، إلا أن تكون هناك طريقة ما لاستبدالهن برجال مختطفين عند تجار الرقيق.
ومن المشاكل العويصة التي واجهت الجيش الغازي مشكلة موت أعداد كبيرة من المسترقين، إما بسبب إهمال رعايتهم ومعاملتهم بقسوة، أو بسبب وعثاء الطريق في رحلة الذهاب شمالاً. فقد ذُكِرَ أن الدفتردار كان قد أصطاد في حملته في جبال النوبة الجنوبية عام 1822م نحو 40,000 من المسترقين (وعدد قليل من المسترقات). غير أن الذين بلغوا مصر من ذلك العدد لم يتعد 5,000، وذلك بسبب تفشي الأمراض والمعاملة السيئة، والسير عبر الصحراء القاحلة.
ولتفادي مثل تلك الخسائر، حاول الخديوي نقل "الزنوج" بالمراكب إلى مصر عبر النيل. غير أن عمليات بناء القوارب استغرقت وقتا طويلا جدا. لذا أمر الخديوي بحفر آبار عديدة في مديرية الرباطاب "من أجل تأمين سلامة الزنوج"، أو كما قال. وعندما فشل جنوده في العثور على أي مياه في تلك المنطقة، نصح الخديوي بالبحث عن أماكن أخرى وطرق سير مختلفة تكون فيها المسافة بين الآبار أقل نسبياً. وجاء في إحدى الوثائق ما يفيد بأن:
"طريق دنقلا يمر بصحراء جرداء تنعدم فيها المياه تماماً، ويستغرق قطعها 80 ساعة؛ وفي هذا الطريق يموت نحو ثلث عدد الزنوج.... غير أن الطريق الذي يمر عبر قرى مثل "حلة بارا" و"حلة بير سرار" و"أم قناطير" و"الشِقيق"... يُمْكَن القافلة من الوصول للنيل الأبيض في 55 ساعة، ولا يموت فيه من الزنوج سوى عشرهم فقط".
وبالإضافة إلى ذلك الاستنزاف المثير للشفقة، كانت هناك عقبة أخرى تتمثل في طبيعة تلك التجارة التقليدية. فقد تعطلت تجارة الرقيق بشكل كبير إبان البحث المصري - التركي المحموم عن مسترقين سود ليجندوا في جيش الخديوي. وكان محمد علي باشا قد كتب رسالة بتاريخ 10 ديسمبر 1921م إلى سر عسكره (وكان يومها في كردفان) يحثه فيها على منع تجار الرقيق من ممارسة تلك التجارة، وأخبره بأنه أمر مدير مديرية دنقلا باعتقال أي تاجر رقيق يسير نحو مصر ومعه قافلة مسترقين، وأمر أيضا بمصادرة تلك "البضاعة البشرية".
غير أن أولئك التجار لم يكونوا يتعاملون في الإتجار بالرقيق فحسب، بل كانوا يتاجرون في مختلف أنواع السلع، فهم يشترون ويبيعون الصمغ العربي وريش النعام والعاج والأقمشة القطنية والبضائع المصنعة. وما أن مرت أشهر قليلة على قرار الوالي الذي قضى بحظر التجارة (بل وسمح للسلطات بنهب القوافل) حتى أفضى ذلك القرار لإيقاف كامل لنظام التجارة في البلاد. ونتيجةً لذلك، وجد الخديوي نفسه مجبراً على العدول عن قراره، إذ أن الأقمشة القطنية اختفت تماماً من الأسواق. وبالنظر إلى كل تلك التعقيدات المذكورة آنفاً، فمن الصعوبة تقدير أعداد المسترقين التي كان من المتوقع والمأمول جلبهم من السودان، وما تم اصطيادهم من هؤلاء، وأخيراً، تعذر معرفة الأعداد التي اُلْحِقَتْ بالفعل بالجيش. فكل تلك الأرقام تبدو متباينةً بشكل كبير في المصادر المختلفة. ولكن يبدو أنه في موسم كل "غزوة" يتم اصطياد ما بين 3,000 إلى 6,000 من المسترقين في سن التجنيد. ورغم أخذ كل الاحتياطات الواجبة، فإن الخسائر في الأرواح كانت كبيرة، فقد كانت أعداد من يبلغون مدينة أسوان تُعد بالمئات، وليس بالآلاف. وقد أشار محمد علي باشا في رسالة بعث بها لناظر أسوان وفرشوط (هي الآن مدينة في محافظة قنا. المترجم) إلى وصول 950 من الزنوج، وُجد أن 750 منهم فقط هم من يصلحون للتجنيد. وعزا الخديوي ذلك إلى هجمات البشاريين الرحل على قوافل المسترقين القادمة لمصر.
ويجب أن ندرك أيضاً أن أرقام المجندين في أسوان قد تشمل المسترقين الزنوج، وكذلك بعض رجال المماليك الذين كانوا لا يزالون يعملون بكل وحدات الجيش. لذا فإن التقدير الكلي لأعداد المجندين لا يزال غامضاً، وأغلب الظن أنه يتراوح بين 500 إلى 8,000. وعلى كل حال، بُدِئَ في تدريب جيش جديد. وكان المجندون ("حتى لو كانوا من الزنوج"، كما قيل) يحصلون على راتب شهري قدره 8 قروش (2).
واكتمل في عام 1823م بناء الهيكل الإداري لجيش الخديوي. فقد تم تقسيمه إلى أفواج (regimens) وكتائب (battalions) وسرايا (companies)، تقليداً لنموذج الجيش الفرنسي. وكانت رُتَب جيش الخديوي تماثل تقريبا الرُتَب في الجيش الفرنسي، رغم تسميتها بأسماء تركية مثل "أمباشي" التي تقابل رتبة caporal، و"بلوك باشي" التي تقابلchef caporal، وهكذا. ومثله مثل قائده العقيد الفرنسي سيفي Sève (سليمان باشا)، أحد قدامى المحاربين في الحروب النابليونية الذي كان يعيش في أسوان مع ثلاث محظيات إثيوبيات، كان الجيش خليطاً عامراً بالألوان، يجمع ما بين الدقة الفرنسية، والغرابة الشرقية المثيرة، وسياسة عدم التدخل (أو إطلاق الحرية laissez faire). وتمثلت الدقة الفرنسية في الأسلحة والنظم الصارمة، بينما تمثلت الغرابة الشرقية المثيرة في فنتازيا الأزياء التي كان الضباط يرتدونها عوضاً عن الزي العسكري المعتاد، وعن أن مرتبات الجنود لم تكن تُحسب أو تُعطى بصورة فردية، بل كان الجند يعطون مرتباتهم بصورة جماعية.
وكان جيش الخديوي مكوناً من ستة أفواج (بكل واحد منها 4,000 من الجنود). وقُسِمَت تلك الأفواج إلى خمس كتائب (بكل واحدة منها 5,000). وكانت الأفواج الكبيرة قد كونت بحيث يكون الواحد منها فيلق جيش صغير corps)) له مدفعيته الخاصة، وبمقدوره العمل منفرداً. وكانت الفكرة من وراء إنشاء مثل تلك الفيالق هي إمكانية استخدامها في القتال بعيداً عن مصر، حتى لفترات طويلة من الزمن.
ويبقى سؤال بدهي عن مستوى الروح المعنوية (morale) عند جنود غالبتهم من المسترقين. ويبدو أن مَعنَوِيّات أولئك الجنود كانت حسنة، إلا عندما لا تدفع لهم مرتباتهم في مواعيدها أو تتراكم لمدد طويلة. وقد يفضي ذلك التأخير إلى عصيان أو تمرد؛ وهو أمر ليس بالمستغرب عند النظر إلى الأمر في سياق الرق العسكري في بعض الدول الإسلامية. وظهرت تلك المَعنَوِيّات الحسنة جلياً حتى إبان أيام حصار الخرطوم، كما يتضح ذلك من "يوميات غوردون" التي أشار فيها إلى أن "الجهادية السود" (الجنود المسترقين) أظهروا ثابتاً أقوى من الفلاحين المصريين الذين كانوا قد جُندوا في جيشه. غير أن أولئك "الجهادية" كانوا على استعداد لتغيير ولاءتهم بسهولة، وخدمة أي دولة أو نظام يتولى السلطة. لذا فقد عمل أولئك "الجهادية" في غضون أواخر سنوات القرن التاسع عشر مع المصريين، ثم عملوا مع أنصار المهدي، وأخيراً مع البريطانيين، على التوالي (بعد عودة الجنود السودانيين من حربهم في المكسيك، انضم بعضهم لجيش غوردون، وأنضم البعض الآخر لجيش المهدي، بينما آثرت البقية الذهاب إلى جنوب السودان وأوغندا (3). المترجم) غير أنه كانت في ذلك الجيش الجديد الشجاع عِلَّة كبيرة ومهمة وهي أنه لم يكن من الممكن استخدامه في مصر، إذ أن رجاله كانوا يموتون بسهولة مفرطة (كالذباب، في النص الأصلي. المترجم). وفقد الخديوي الأمل فيهم بعد أن كان قد نظر لبعض الوقت في أمر استقدام أطباء من أمريكا، على أساس أنهم على معرفة وخبرة بمعالجة الزنوج في بلادهم. غير أنه عدل عن ذلك في النهاية وآثر البدء في تجنيد الفلاحين المصريين.
وبناءً على ما تقدم، بدأت مرحلة جديدة أُعِيدَ فيها "الجهادية السود" إلى السودان، حيث عملوا في حراسة الحاميات في بلادهم الأصلية. غير أنهم كانوا قد تغيروا شكلاً وموضوعاً، إذ أنهم لم يعودوا رجالاً أحرارا عراة الأجساد و"يعبدون الأوثان pagans"، بل صاروا جنودا عصريين (modernized) يدينون بالإسلام. وشكلوا فيما أقبل من سنوات نواةً لفئة اجتماعية صار أحفادها في غضون سنوات القرنين التاسع عشر والعشرين يؤدون دوراً مهما في السودان وأوغندا، حتى أيام الجنرال عيدي أمين دادا والحروب الأهلية التي اندلعت في ثمانينات القرن العشرين.
لقد كان بالسودان في السنوات الأخيرة من عهد محمد علي باشا، وغالب سنوات عباس حلمي الأول ومحمد سعيد باشا ما بين 5,000 و9,000 من أولئك الجنود في مختلف حاميات البلاد. غير أن تلك المصادر المكتوبة لا تعطينا فكرة واضحة عن التوزيع الحقيقي لتلك القوات أو عن استخدامها. غير أن هناك وثيقة مهمة لحكمدار السودان جعفر مظهر باشا (4) أورد فيها مسحاً للقوات المسلحة بالسودان بعد التمرد الذي وقع في كسلا عام 1865م (5).
ووردت بتلك الوثيقة تقديرات لأعداد الجنود في أربعة أفواج، بلغ عددهم جميعا 10,644 (ذكر الكاتب عدد الجنود في كل فوج من تلك الأفواج، وأورد أيضاً ما ذكره شخص – مجهول الهوية - عن أعداد أولئك الجنود وبعض التفاصيل عنهم، مثل أيهم أُعِيدَ لمصر، ومن منهم سُرِحَ من الخدمة أو مات الخ. وأشار لبعض الدلائل التي تشير إلى أن جيش عهد التركية بالسودان لم يكن يُدَارُ جيدا كآلة حربية، وأن الدولة كانت تسند للجيش أداء الكثير من المهام المدنية. ولاحظ أيضا أن الجيش كان يضع سرية واحدة في المديريات "الآمنة" بشمال البلاد، ونحو 3 – 4 سرايا في مديريات الشرق والغرب والوسط، بينما يضع 8 سرايا في المديريات "الخطرة" بجنوب البلاد. المترجم).
لقد كان ذلك الجيش، من ناحية مالية، يمثل حفرة لا قاع لها لإدارة حكومة السودان. فقد كانت ميزانية البلاد التي وضعها جعفر مظهر باشا تبلغ 1,115,678 قرشاً، كان نصيب الجيش منها مبلغ 623,155 قرشاً، أي ما يعادل 56.7% من كل الميزانية. وعلى الرغم من الانفاق الكبير على الجيش، الإ أن الحياة اليومية لأفراده كانت سيئة، بل بالغة التعاسة في كثير من الأحايين. وكانت إحدى أسباب ذلك الوضع هي الاختلاس والابتزاز المستمر الذي كان يمارسه الكل، من الحكمدار حتى أصغر ضابط في ذلك الجيش. وكان السبب الوحيد لتمرد الجند في كسلا في 1865م هو أنهم لم يستلموا مرتباتهم لمدة عام كامل. وتساءل القنصل الفرنسي بالخرطوم (بصورة بلاغية لا تتوقع إجابة) في أحد تقاريره: "وماذا عن الدخل الذي تجنيه الحكومة في مديرية التاكا، وهو قد بلغ 143,000 thalaris (أي ما يعادل 715,000 فرنكاً فرنسياً)، بل أكثر، إن لم يكن الجنود قد أعطوا مرتباتهم؟". لا ريب أن وضعية أولئك الجنود كمسترقين كانت إحدى العوامل التي أغرت السلطات الحكومية بالتعامل معهم بصورة متعالية ومستبدة. لقد كانت الحكومة تتوقع منهم الالتزام الكامل والإذعان التام. وانتهى تمرد 1865م بمذبحة قمعية رهيبة. وفي ذات الوقت كان الجيش يمثل لحكمدار الخرطوم صداعاً مستمراً، غير أن وجوده ظل ضرورةً مطلقة من أجل الحفاظ على شكل نسبي من القانون والنظام. وكان الجيش أيضاً مصدرا للإثراء الشخصي عبر سوء استخدام عائدات الضرائب. وقاد كل هذا لـ "دائرة مفرغة من الفساد"، إذ أن الحاجة لمزيد من القوات كانت ماسة، و"كان النظام الحاكم يصر على زيادة أعداد الجيش السوداني من أجل جَبْي المزيد من أموال الضرائب من السكان، ثم مضاعفة تلك الضرائب من أجل دفع مرتبات أفراد الجيش، وهكذا دواليك".
لقد كانت أحوال معيشة أولئك الجنود في الغالب غايةً في التخلف. وكان طعامهم رديئا، وأسلحتهم وأدواتهم الأخرى قديمة ولا تُصَانُ بصورة منتظمة. أما ثكناتهم ومبانيهم العسكرية الأخرى فقد كانت غالباً في حالة يرثى لها بسبب انعدام الترميم (ضرب الكاتب مثلاً بقلعة مصوع، التي كانت تُعد النقطة الأقوى لمصر في البحر الأحمر، وعدد عيوبها المعمارية والهندسية، لدرجة أن الجيش اضطر لوضع مدافعه خارجها. وانتقد أيضا قلعة Harkiku. المترجم).
وكان "الجهادية" يعانون من تردي أوضاع سكنهم وقلة مرتباتهم، وكانوا دوماً عرضة للإصابة بالأوبئة المميتة. وبذا صار معدل الاستنزاف في أوساط وحداتهم العسكرية عالياً جداً نتيجة للموت (طبيعياً أو بسبب الحوادث)، والفرار من الخدمة العسكرية، أو في أثناء القتال. واستلزم ذلك الوضع بذل جهد كبير من أجل سد النقص في أعداد الجنود بصورة عالية ومستمرة.
وكان التجنيد في أيام الاحتلال المصري - التركي الباكرة (أي عند نهايات حكم محمد علي باشا في 1849م) يتم عن طريقين أساسيين: الأول هو عن طريق القيام بغزوات منظمة لجلب المسترقين، والثاني هو دفع الضرائب عيناً وليس نقداً. وقد كتب الرحالة والدبلوماسيون وحتى كبار الموظفين المصريين العاملين بالخدمة المدنية الكثير عن الغزوات المنظمة في عهد محمد علي باشا. وكانت تلك الحملات تجلب ما بين بعض مئات من المسترقين في عملية واحدة إلى 4,000 إلى 6,000 في أي غزوة تُنْظَمُ مركزياً. وكان يقود مثل تلك الغزوات حكام المديريات (مثل مصطفى بيه في كردفان، والياس بيه في التاكا)، أو الحكمدار نفسه. وكان جزء ممن يُقبض عليهم من المسترقين يباعون فوراً بحسبانهم "دخلاً ضريبياً"، ويذهب جزء منهم لمصلحة قادة الغزوة، ويُذهب بالبقية للجيش، إما بصورة مباشرة (حيث يُؤْخَذُ الشباب للتجنيد في الجيش)، أو بصورة غير مباشرة (حين تستخدم النساء والأطفال باعتبارهم عملة نقدية لدفع مرتبات الجهادية). وكانت قيمة المسترقات اللواتي كن يُقدمن كرواتب (salary slave) تتراوح - بحسب الأسعار السائدة في السوق - من 300 قرش في أربعينيات القرن التاسع عشر، إلى 50 قرشاً في ستينيات القرن التاسع عشر (حين كُثرت أعداد المسترقات وقلت أسعارهن)، وارتفعت تلك الأسعار فبلغت 500 قرش عندما بدأت آثار منع تجارة الرقيق في البروز. وكانت أكثر الأماكن التي تعرضت لهجمات تجار الرقيق هي جبال النوبة بجنوب كردفان، وكل مناطق النيل الأزرق / دار فونج. ولم تكن "الغزوات" و"الضرائب" مسألة "إما /أو"، ولكنهما كانتا تعملان كطريقتين متكاملتين. فقد كان جبي الضرائب يستلزم القيام بغزوة صغيرة ينظمها شيوخ قبيلة ما من أجل الحصول على مسترقين ومسترقات من قبيلة مجاورة، لتقديمهم للسلطات نظير الضريبة التي عليهم. وحتى إن تمكنت قبيلة ما من دفع ما عليها من ضرائب، فقد يقوم رجال القبيلة بـ "غزو" القبيلة الأخرى من أجل الحصول على مسترقين ومسترقات يبيعونهم للحصول على أموال نقدية.
وتغير الوضع، بالطبع، بصورة كبيرة عندما غدا تحريم تجارة الرقيق سياسةً رسميةً للدولة عقب تعيين صمويل بيكر في عام 1869م (6). ولم يعد بمقدور الحكومة الحصول على مسترقين بصورة علنية، على الرغم من أن جنودها من الشايقية (الباشبوزق) كانوا يُعدون بصورة شبه تامة جيشاً من المسترقين (slave army). لذا كان على الحكومة أن تلجأ لوسائل غير مباشرة للتجنيد، بخلاف الطريقتين القديمتين: الغزوات والضرائب.
كانت الوسيلة الأولى تتلخص ببساطة في مصادرة شحنات المسترقين واعتقال تجار الرقيق، بأوامر من القاهرة. وورد في تقرير رسمي أنه تمت مصادرة أكثر من مئة قارب قادمة عبر النيل الأبيض وهي تحمل زنوجاً. وورد في ذلك التقرير أنه تمت مصادرة بنادق تجار الرقيق والتحفظ على 3,539 من أولئك الزنوج والحاقهم بخدمة الجيش، أو إرسالهم لبعض الأسر ريثما تتم إعادتهم لمناطقهم الأصلية. وسرعان ما اُعْتُمِدَتْ تلك الوسيلة سياسةً حكومية معلنة، إذ أصدر الخديوي الأوامر التالية:
"عليكم تحويل الأرقاء الأقوياء للعمل جنوداً في الجيش، ومنح البقية للمزارعين للعمل في الأشغال الزراعية. أما بالنسبة للنساء، فينبغي تزويج البالغات منهن لمن يرغب".
وكانت تلك السياسة تُمَارَسُ، ولكنها كانت في غالب الأحوال (على الأقل في المراسلات الرسمية) ترفق بتبريرات لا تخلو من بعض الشعور بالحرج. وخير مثال على ذلك هو بعض ما جاء في هذا التقرير:
"لقد أخذنا 1,600 من الرقيق في كاميا Kamiaببحر الغزال ... إضافة لـ 900 آخرين كنا قد صادرناهم (من تجار الرقيق). وإن أطلقنا سراحهم، فقد لا يصلون لقراهم الأصلية بسبب وجود البشاريين الآن في منطقة بحر الغزال. لذا من الأفضل إرسالهم للخرطوم وتعيينهم في الجيش عوضاً عن تركهم هنا، حيث يمكن أن يتم اصطيادهم رقيقاً مرة أخرى". وهذا يمثل رغبة الحكومة الجامحة في التجنيد للجيش، وهي رغبة لم تستثن أحداً، حتى سجناء الحرب، بل حتى المساجين الذين قضوا محكوميتهم خلف القضبان.
غير أن محاولات التجنيد المتفرقة تلك لم تكن كافية. فقد تعاقدت السلطات من الباطن على شراء المسترقين لأغراض عسكرية مع نفس تجار الرقيق الذين كانت القاهرة تحاربهم عندما كانوا يتاجرون بالرقيق لمصلحتهم الخاصة. وكتب حكمدار السودان للحكومة في مصر التالي:
"نحن في حاجة ماسة إلى 3,500 رجل لرفع مستوى قوة كتائبنا للحد الأقصى. وكنا قد أبرمنا اتفاقاً مع محمد بيه الخابي el Khabi، كبير تجار دارفور بموجبه يبيع لنا ألفاً من الرجال بسعر قدره 1,000 قرش لكل رأس. وعليه أن يرسلهم من الفاشر مباشرةً إلى أسوان عبر الصحراء. وسيتولى هو دفع تكاليف إيصالهم لأسوان ... وعقدنا اتفاقاً آخر مع فضل المولى أفندي، كبير تجار "أم شانقة"، ليجلب لمقر مديرية كردفان 500 من الجنود، بسعر 500 قرش للرأس، شاملة لكل المصاريف. وقد بدأ الشخصان الموردان بالفعل في جلب الرجال المطلوبين ... وعندما تكتمل قوة كتائبنا، سنكون في وضع يمكننا من مهاجمة أي منطقة محروسة، وسنستطيع أن نجلب منها الرجال دون الحاجة لدفع أي مبلغ".
غير أن خيري باشا بدا قلقاً وهو يرد من القاهرة على رسالة حكمدار السودان:
"لا شك أنك تعلم أن المعاهدة التي أبرمناها مع إنجلترا تشترط علينا منع تجارة الرقيق ... لذا، ومنعاً لاتهام حكومتنا بالمتاجرة في الرقيق، نرى أن دفع المبلغ الذي اتفقتم عليه مع تاجر دارفور يجب ألا يتم في أسيوط، بل يجب عليكم أن تعطوا ذلك الرجل أمر دفع (payment order) صادر عن حكمدارية الخرطوم ليصُرف في أسيوط، ليبدو الأمر وكأنه صفقة تجارية عادية بينه وبين الحكمدارية. وبهذا يمكن تحاشي ذيوع الشائعات الضارة عن هذا الأمر".
وبعد خمسة أيام من تاريخ رسالة خيري باشا، وخوفاً من ألا يأخذ حكمدار السودان الأمر على محمل الجد، أرسل الخديوي نفسه رسالة تحذيرية إلى حكمدار الخرطوم جاء فيها التالي:
"كما أخبرناك سابقاً، فإن اتفاقنا مع الحكومة البريطانية يشترط علينا إيقاف تجارة الرقيق. ومن الجائز – بسبب مرور تلك الشحنات عبر بربر أو سواكن - أن يكون البعض قد اِشتمَّ رغبة الحكومة في العودة لتجارة الرقيق. فعليك بذل أقصى ما يمكنك من جهد في سبيل تحاشي مثل تلك الشكوك حول الحكومة، وأن تُظْهَرُ أن كل أولئك الرجال هم من جنود الجيش النظاميين".
ورد الحكمدار على رسالة الخديوي مطمئنا إياه:
"لقد تم تقسيم الألف رجل الذين سيرسلون للقاهرة إلى عشر سرايا. وعلى رأس كل سرية ضباط صف. وكلهم يرتدون الزي العسكري ويبدون في غاية الانضباط. وكل من يراهم سيصدق بأنهم بالفعل من ضمن الجنود النظاميين".
وإن لم تكن المصادرات، وتجنيد أسرى الحروب والمحكوم عليهم بالسجن من قبل، وإبرام الاتفاقيات مع تجار الرقيق كافيةً، فيمكن تنظيم غزوات "سرية" يتولى أمرها مديرو بعض المناطق، ويمكن أيضاً أن تنظم السلطات المركزية غزوة لجلب "الرجال" من غير إعلان أو ضجيج.
ووصل الحال بالعقيد غوردون، وهو أكثر السادة المسيحيين شهامةً (هكذا وصفه الكاتب. المترجم)، أن أسدى لإسماعيل باشا نصيحة قوية بالعمل على التستر بشكل أفضل، خاصة وأن رئيس أركان الجيش المصري آنذاك، الجنرال الأمريكي السابق ستون، كان يثبت كل مرة أنه صريح بشكل محرج. لقد كان غوردون قلقاً من تفاعل الرأي العام. وجاء في خطاب غوردون لإسماعيل باشا ما يلي:
"يا صاحب السعادة.
لي عظيم الشرف في أن أخبركم بأني قرأت المنشور الذي خطه الجنرال استون. لا علم بأي تعليمات كان قد تلقاها، غير أني اضطررت لشطب العديد من فقرات الجنرال استون المحرجة التي تتعلق بمسألة الرق ... لا يدرك عامة الناس ما تجابهه الحكومة من صعوبات إزاء هذه المشكلة ... أقترح على سعادتكم عدم نشر أي شيء متعلق بمسألة الرق".
وكانت تلك المسائل قد قادت في نهاية المطاف إلى التوقف عن تجنيد المسترقين السود في الجيش المصري، خاصة بعد عام 1885م عندما أغلقت الثورة المهدية طرق مرور أولئك المسترقين لمصر. غير أن تأثير وجودهم ظل باقياً لعدد من السنوات التي تلت تلك الأحداث، ليس في السودان فحسب، بل في الكثير من الدول المجاورة.
********** *********** ************
إحالات مرجعية
1/ للمزيد عن "النظام الجديد" انظر الرابط https://shorturl.at/gozV9
2/ في هذا الرابط بعض المعلومات عن "القرش المصري": https://shorturl.at/fGN89
3/ انظر المقال المترجم بعنوان "سودانيون في المكسيك" في هذا الرابط: https://shorturl.at/bnxBN
4/ هنا تجد مقالاً قصيرا عن حكمدار السودان جعفر مظهر باشا: https://shorturl.at/uFLTY
5/ للمزيد عن تمرد "الجهادية" في كسلا عام 1865م انظر: " ثورة الجهادية السود - مارس 1865م" في هذا الرابط: https://shorturl.at/bOS89 .
6/ بحسب ما جاء في موسوعة الويكيبديا فقد كان صمويل بيكر ( 1821 - 1893 م) رحالة وضابطا وكاتبا وخبيراً بالتاريخ الطبيعي ومن دعاة التحرير من العبودية. قاد حملة مصرية في عهد الخديوي إسماعيل لاكتشاف منابع النيل، وبسط نفوذ مصر على تلك الأصقاع وأقام مديرية جديدة لمصر هناك عرفت باسم مديرية خط الاستواء.
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: محمد علی باشا تجارة الرقیق التاسع عشر الکثیر من ذلک الجیش الجنود فی کان الجیش من الجنود ما جاء فی فی الجیش فقد کانت فقد کان ت أعداد لقد کان کانوا ی غیر أنه ما کان کانت ت غیر أن من أجل فی ذلک فی هذا لم یکن ما بین لم تکن
إقرأ أيضاً:
كيف كانت السينما في زمن وحيد حامد؟ (تقرير)
وحيد حامد هو أحد أبرز كتاب السيناريو في تاريخ السينما المصرية، وقد ترك بصمة واضحة في هذا المجال خلال فترة نشاطه. كانت السينما في عهده، خصوصًا في الثمانينيات والتسعينيات، تعكس الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية في مصر.
ويبرز الفجر الفني في هذا التقرير عن أبرز السمات الرئيسية للسينما في عهد وحيد حامد:
القضايا الاجتماعية: تناولت أعماله قضايا مهمة مثل الفساد، والتمييز الاجتماعي، والعنف، مما جعل أفلامه تتسم بالعمق والواقعية.
الشخصيات المعقدة: قدم وحيد حامد شخصيات متعددة الأبعاد، حيث كانت تتصارع مع مشاعرها وأخلاقياتها، مما أضفى طابعًا إنسانيًا على الأعمال.
التعاون مع مخرجين كبار: عمل مع مخرجين مشهورين مثل يوسف شاهين وعلي بدرخان، مما ساهم في تعزيز جودة الأفلام.
التغيير في الأسلوب: قدم أسلوبًا جديدًا في كتابة السيناريو، حيث مزج بين الكوميديا والدراما، مما جعل أفلامه جذابة لجمهور واسع.
الأفلام التي تركت أثرًا: من بين أشهر أعماله "النوم في العسل"، و"الإنسان والآلة"، و"أحلام هند وكاميليا"، والتي تناولت مواضيع جديدة وجريئة في ذلك الوقت.
التأثير الثقافي:ساهمت أفلام وحيد حامد في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي في مصر، حيث كانت تعكس التغييرات والتحولات التي شهدتها البلاد. استمر تأثيره حتى بعد رحيله، حيث لا يزال يُستشهد بأعماله كمرجع في السينما العربية.
بشكل عام، يُعتبر وحيد حامد جزءًا لا يتجزأ من تاريخ السينما المصرية، وقد ساهم بشكل كبير في تطويرها من خلال كتاباته المبتكرة.