أشعل حروبا ودعم دكتاتوريات.. رحلة صعود بوتين من الاستخبارات إلى الكرملين
تاريخ النشر: 15th, March 2024 GMT
بدأ الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الروسية، في عملية تمتد 3 أيام، لكن النتيجة معروفة سلفا، فالرئيس فلاديمير بوتين، سيحسم الأمر لصالحه، في بلد لا مكان فيه للمعارضة، أو الانتخابات الحرة النزيهة.
من هو بوتين المتمسك بعرش البلاد؟في فيلا بيضاء بشارع أنجيليكا، المار بإحدى ضواحي مدينة دريسدن الألمانية المطلة على نهر إلبه، قضى بوتين 15 سنة من العمل في الجاسوسية الغامضة والمعقدة.
وهناك، شكلت أحداث ليلة درامية صدمة للرجل الذي دخل الكرملين، فغيّر كل شيء في البلاد، حتى الدستور، وقمع كل معارضيه.
يقول أستاذ السياسة في جامعة جورج مايسون الأميركية، مارك كاتز، إن بوتين ومنذ صغره "أحاط نفسه بأشخاص يشبهونه، فتعود على عدم سماع وجهات النظر المختلفة".
فلاديمير بوتينويضيف أن بوتين يفكر بالآخرين من منظور "المصلحة البحتة، فرؤيته للعالم نفعية، ما الذي يمكن أن يقدمه هذا الشخص لي؟ كيف يمكن أن استغل هذا الإنسان؟.. وهو الآن ينجح في ذلك إلى حد ما".
توصيف كاتز، قد يفسر سلوك كيريل الأول، بطريرك موسكو وسائر بلاد الروس، الذي قال في 2012، إن عهد بوتين "معجزة الله".. فلو قال عكس ذلك، لتشابه مصيره مع أليكسي نافالني، المعارض الذي فشل بوتين بتسميمه ذات مرة، فقتله في السجن.
رحلة، فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، الرئيس الروسي، بدأت من ممرات جهاز الـ"كي جي بي" الغامضة، إلى أعلى مستويات السلطة الروسية، وهي غنية بالمكائد والجدل والدم.
مهارات تجسس استثمرها في السياسةبدأت القصة في لينينغراد (سانت بطرسبرغ الآن)، حيث ولد بوتين عام 1952. وقد رسم طريقه إلى سجلات السلطة في وقت مبكر عندما انضم إلى وكالة الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي)، عام 1975.
تدرب بوتين على التجسس والاستخبارات، وتمركز عمله في ألمانيا الشرقية. هناك، وسط موجات الحرب الباردة، أتقن الرجل حرفة الاستخبارات، وهي مجموعة المهارات التي ستحدد أسلوب قيادته في السنوات التالية.
تظهر هذه الصورة فلاديمير بوتين في مقهى في دريسدن في العاشر من أكتوبر 2006بعد استقالته من كي جي بي برتبة عقيد، عام 1991، دخل بوتين السياسة في موطنه سانت بطرسبرغ.
بحلول عام 1996، انتقل إلى موسكو، وعُيّن نائبا لرئيس إدارة إدارة الممتلكات الرئاسية من قبل الرئيس، بوريس يلتسين.
في يوليو 1998، اقترب بوتين من الكرملين أكثر حين عين رئيسا لجهاز الأمن الفدرالي (FSB)، منظمة الاستخبارات والأمن الرئيسية في روسيا وخليفة الكي جي بي.
الصعود إلى الرئاسةفي أغسطس 1999، عين بوتين رئيسا لوزراء روسيا في عهد يلتسين. وبعد أشهر حدثت المفاجأة، حين أعلن يلتسن، في 31 ديسمبر من ذات العام، استقالته، ليصبح بوتين رئيسا بالوكالة.
في مارس 2000، فاز بوتين بانتخاباته الرئاسية الأولى، وأصبح رسميا رئيسا لروسيا. وأُعيد انتخابه لولاية ثانية في مارس 2004، مواصلا السياسات التي أدت إلى مركزية السلطة، وزيادة سيطرة الحكومة على الاقتصاد ووسائل الإعلام.
في مايو 2008، لم يتمكن بوتين من الترشح لولاية رئاسية ثالثة على التوالي، بسبب القيود الدستورية.
بوتين بقي زعيما لروسيا حتى عندما لم يكن رئيسا للبلاد بمساعدة حليفة ديمتري ميدفيدف. أرشيفيةوالتفافا على الدستور، تمكن بوتين من إيصال حليفه، دميتري ميدفيديف، للرئاسة، وتسلم هو رئاسة الحكومة مع احتفاظه بنفوذ كبير على السلطة، لحين مجيء فرصة العودة للكرملين.
نجحت خطة بوتين، وفي مارس 2012، أعيد انتخابه رئيسا بعد أن سمحت له التعديلات الدستورية بالترشح لولاية جديدة.
وفي انتخابات غير نزيهة، جرت في مارس 2018، ضمن بوتين ولايته الرابعة بعد تعديل دستوري عام 2012 مدد فترات الرئاسة من أربع إلى 6 سنوات.
كان بوتين حريصا على البقاء في السلطة، وفي عام 2020، وافق تصويت وطني على حزمة من التعديلات الدستورية التي يريدها رجل الكرملين القوي، بما في ذلك التعديل الذي يعيد ضبط عدد فترات ولاية بوتين الرئاسية، مما قد يسمح له بالبقاء في منصبه حتى عام 2036، إذا فاز في الانتخابات المستقبلية.
قبضة حديدية لا تسامح.. كيف يتعامل بوتين مع معارضيه؟ في مشهد السياسة الروسية، المصير المحفوف بالمخاطر ينتظر الذين يجرؤون على معارضة الرئيس، فلاديمير بوتين، وهذا هو سر قدرته على الفوز السهل في الانتخابات الرئاسية التي بدأ الاقتراع فيها، الجمعة، ويستمر ثلاثة أيام. سنوات الكي جي بيمن يريد أن يفهم بوتين اليوم، لابد أن يعرف ما حدث له في ليلة درامية في ألمانيا الشرقية، قبل ربع قرن من الزمن.
خدم بوتين 15 عاما كضابط مخابرات في كي جي بي، وكالة الاستخبارات الخارجية والأمن الداخلي للاتحاد السوفيتي، في رديسدن بين عامي 1985 و1990.
تركزت مهمة بوتين في البحث عن الألمان الشرقيين الذين لديهم أسباب منطقية للسفر إلى الخارج، فاستهدفهم بالتجنيد للمساعدة في التجسس على الغرب.
بوتين يقود روسيا من أواخر 1999.وفي الخامس من ديسمبر 1989، تحديدا في مدينة دريسدن، بعد أسابيع قليلة من سقوط جدار برلين. الشيوعية في ألمانيا الشرقية تنهار أمام قوة الشعب التي لا تقاوم.
واقتحمت حشود مقر دريسدن للشرطة السرية في ألمانيا الشرقية، المعروفة حينها باسم "ستاسي"، والتي رغم سمعتها السيئة وبطشها، بدت فجأة عاجزة عن حماية نفسها.
ارتفع مستوى التوتر، وقرر متظاهرون غاضبون التوجه إلى الفيلا البيضاء في شارع أنجيليكا، وهي مقر تابع لجهاز المخابرات السوفييتي، الكي جي بي.
حدث ارتباك داخل الفيلا البيضاء، وشعر الحراس بالخطر، وأن الأمر يخرج عن السيطرة.
حينها خرج الضابط بوتين، وقال للمتظاهرين: " لا تحاولوا الاقتحام بالقوة، رفاقي مسلحون، ولديهم الإذن بإطلاق النار واستخدام أسلحتهم في حالات الطوارئ".
بوتين لم يكن يشعر بالطمأنينة رغم انصياع المتظاهرين وتراجعهم، فاتصل بوحدة دبابات تابعة للجيش الأحمر لطلب الحماية.
فلاديمير بوتين في زي "كي. جي. بي"- الصورة من الكرملينكان الجواب الذي تلقاه بمثابة صدمة مدمرة غيرت حياته، "لا يمكننا أن نفعل أي شيء من دون أوامر من موسكو". "وموسكو صامتة".
ومنذ ذلك الحين ظلت عبارة "موسكو صامتة" تطارد هذا الرجل الذي لم ينس الخطر الذي عاشه، والشعور بالإذلال حينما رأى الشيوعية تنهار في ألمانيا الشرقية.
استُدعي بوتين إلى لينينغراد في عام 1990، حيث كان الاتحاد السوفييتي على وشك الانهيار.
انعكاسات التجربة القاسيةكانت تجارب بوتين في جهاز الكي جي بي صعبة، خاصة تلك الليلة الدرامية التي لم ينس أحداثها، مما انعكس على شخصيته حين أصبح رئيسا للبلاد.
عرف الرئيس بوتين بعدائه الشديد للغرب، واتسمت فترة ولايته بتدخلات عسكرية كبيرة وتحركات دولية تحمل مواقف عدوانية.
وهذه قائمة تلخص الصراعات الرئيسية والمناورات الدولية التي قادها بوتين:
التدخلات العسكرية والحروبلم يتوان بوتين عن الدخول في صراعات عسكرية رغم ما تعانيه بلاده من أزمات اقتصادية وحالة فقر ترهق حياة الروس. وفي كل كرة يقدم بوتين تبريرات فيما يتعلق بقراراته العسكرية.
حرب الشيشان الثانية (1999-2009)بعد وقت قصير من تولي بوتين منصب رئيس الوزراء، شنت روسيا حملة عسكرية في الشيشان، بهدف قمع الحركة الانفصالية الشيشانية. وأدى الصراع إلى سقوط عدد كبير من الضحايا واتسم بانتهاكات لحقوق الإنسان.
الحرب الروسية ضد الشيشان تسببت بسقوط عشرات الآلاف من القتلى حرب جورجيا (2008)انخرطت روسيا في صراع دام 5 أيام مع جورجيا حول المنطقتين الانفصاليتين في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، مما أدى إلى اعتراف روسيا باستقلال المنطقتين، وهو ما لم تعترف به جورجيا وأغلب المجتمع الدولي.
دخلت روسيا بالدبابات والقوات إلى جورجيا في 8 أغسطس 2008 بعد أن حاولت القوات الجورجية استعادة منطقة أوسيتيا الجنوبية ضم شبه جزيرة القرم (2014)في أعقاب الاضطرابات السياسية في أوكرانيا، ضمت القوات الروسية شبه جزيرة القرم بعد استفتاء متنازع عليه. وأدى هذا التحرك إلى إدانات دولية وعقوبات ضد روسيا.
سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم وقد أثار ذلك غضبا دوليا التدخل في شرق أوكرانيا (منذ 2014)تورطت روسيا في الصراع الدائر في شرق أوكرانيا، حيث دعمت المتمردين الانفصاليين في منطقتي دونيتسك ولوغانسك. وكانت المشاركة نقطة توتر كبيرة بين روسيا والدول الغربية.
تشهد دونيتسك اشتباكات عنيفة منذ التدخل الروسي فيها التدخل في سوريا (منذ 2015)بدأت روسيا حملة جوية في سوريا لدعم رئيس النظام بشار الأسد، ضد جماعات المعارضة المختلفة، مما أثر بشكل كبير على مسار الحرب الأهلية السورية.
وتسبب الجيش الروسي في دمار كبير للمدن السورية، وقتل آلاف المدنيين في الغارات التي شنها بعنف في مختلف أنحاء البلاد.
عدد كبير من القوات الروسية منتشرة في سوريا. غزو أوكرانيا (منذ 2022)وفي فبراير 2022، تحولت التدخلات الروسية في أوكرانيا إلى غزو شامل بهدف إسقاط نظام الحكم هناك، والسيطرة على البلاد.
لكن الجيش الروسي واجه مقاومة شرسة من الجيش الأوكراني المدعوم من الولايات المتحدة والغرب، مما شكل ورطة لبوتين، الذي لم يتوقع ذلك، حيث أنهكت الحرب بلاده ماليا وعسكريا.
كما تسبب الغزو في تشديد الحصار الدولي على موسكو، مما أفقد اقتصاد البلاد القدرة على النمو، وعاش الروس في عزلة اقتصادية وسياسية.
استهدف الجيش الروسي في غزوه لأوكرانيا المدن والبنى التحتيةوقتل عددا كبيرا من المدنيين إجراءات لزعزعة الاستقرار الدوليلم يكتف بوتين بالحروب والتدخلات العسكرية، بل عمد إلى إجراءات مختلفة محاولا زعزعة الأمن الدولي واستفزاز الغرب، خاصة الولايات المتحدة، ومن بينها:
العمليات السيبرانية والتدخل في الانتخاباتاتُهمت روسيا بشن هجمات إلكترونية وحملات تضليل للتأثير على الانتخابات والمشاعر السياسية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية ودول أخرى.
روسيا متهمة بالتدخل في الانتخابات الأميركية وخاصة عام 2016 التدريبات العسكرية ومواجهات الناتوأجرت روسيا مناورات عسكرية واسعة النطاق واقتربت من مواجهات مع قوات حلف شمال الأطلسي، مما أدى إلى زيادة التوترات وتسليط الضوء على العلاقات المتوترة بين روسيا والتحالف الغربي.
دعم الأنظمة الاستبداديةعرضت روسيا، في عهد بوتين، الدعم للقادة والأنظمة الاستبدادية، بما في ذلك نيكولاس مادورو في فنزويلا، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية. وكثيرا ما عارضت مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
بوتين دعم نظام مادورو الاستبدادي في فنزويلا الانسحاب من معاهدات دوليةانسحبت روسيا، في عهد بوتين، من معاهدات دولية أهمها الحد من الأسلحة، أو علقت مشاركتها فيها، بما في ذلك معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى مع الولايات المتحدة، بسبب "انتهاكات الأطراف الأخرى، ومخاوف تتعلق بالأمن القومي"، وفق زعم موسكو.
بوتين يتابع تدريبا لقوات الردع النووي الروسيةوتؤكد هذه التصرفات والتدخلات تركيز بوتين الاستراتيجي على استعادة وتعزيز نفوذ روسيا، وهو ما يتعارض في كثير من الأحيان مع المصالح الغربية والأعراف الدولية. لكن بوتين يصر على تحقيق أهدافه، ولو أدى ذلك إلى إراقة الدم في روسيا وخارجها.
المصدر: الحرة
إقرأ أيضاً:
ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.
ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.
هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.
فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.
لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.
أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.
وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟
في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.
إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.
لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري