نزار سرطاوي: الرواية التاريخية: “خنجر سليمان” لصبحي فحماوي نموذجًا
تاريخ النشر: 24th, July 2023 GMT
نزار سرطاوي كان وهج النار المتدفق بلهب هادر يحرق يد سليمان الحلبي اليمنى المثبتة بجنزير نحاسي يُكبِّلها بعدّة لفّات على منصة حديدية ثقيلة تقف بارتفاع صاحبها، والنار تشوي لحمه الذي صار يَحْمَرُّ ويسوَدُّ وينقبض ويتلوّى متساقطًا عن بقايا أصابع يده البيضاء على شكل كُتلٍ صغيرة مُتْلَفة مُتفحِّمة، إلى أن سقطت كل هذه النُّتَفِ المحروقة على تراب تل العقارب، بينما يقف القُضاة وكبار الضباط الفرنسيين وضباط الأمن والحراس والعساكر ورجال الدين الأزهريون والمسيحيون والصحافيون، والمؤرخون، يتأملونه بعيون جاحظة، معظمها بشماتة الانتقام، وبعضها بالشفقة عليه.
. كانوا يتجمهرون حوله بأفواه مفتوحة وعيون مبحلقة، بينما هو يقف في وسطهم بأعصاب تغلي، رابط الجأش لا يبدي اهتزازًا، ونظراته تحدِجُهُم كخِنْجَرَين تخترقان أعينهم المجرمة. بهذا المشهد الوحشيّ المُروّع الطافح بالفظاعة والقسوة والألم يفتتح صبحي فحماوي روايته التاريخية خنجر سليمان، التي يقدم فيها تسجيلًا سرديًا روائيًا لحدث تاريخي هام شهدته منطقتنا، أثناء الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام في أواخر القرن الثامن عشر (1798) بقيادة نابوليون بونابارت. كان نابوليون يهدف إلى تأسيس مستعمرة فرنسية كبرى في المنطقة. وقد كان لقيام الشاب السوري سليمان الحلبي باغتيال الجنرال كْلِبير في 14 حزيران عام 1800 تأثيرًا بالغًا على الحملة ساهم في رحيل القوات الفرنسية عام 1801. ليست “خنجر سليمان” الرواية التاريخية الأولى التي خطها قلم صبحي فحماوي. فقد سبقتها على سبيل المثال رواية ” قصة عشق كنعانية” (2009)، ورواية” أخناتون ونفرتيتي الكنعانية” (2020)، ورواية “هاني بعل الكنعاني” (2022). ولعل القاسم المشترك بين هذه الروايات جميعًا هو أنها تتناول حُقَبًا من تاريخ أمتنا واجهت خلالها تحدياتٍ جسامًا لم تكن تهدف إلى ضعضعتها ونهب خيراتها فحسب، بل سعت إلى طمسِ هويتها العربية، أو بالأحرى، القضاءِ على كينونتها ووجودها، كما في هاني بعل على سبيل المثال. —————- لعل من المفيد، إذ نصنف “خنجر سليمان” روايةً تاريخية، أن نتحدث بإيجاز عن الرواية التاريخية تاريخًا وتكوينًا. يسجل االدارسون أن أول عمل روائي تاريخي هو رواية ويفرلي للأديب السكوتلندي السير والتر سْكوت، عام 1814. وبعد صدورها، بدأ العديد من الكُتّاب الغربيين يقبلون على كتابتها. ولعل أكثر الروايات التاريخية شهرةً لدى القارئ العربي الحرب والسلام (1814) للكاتب الروسي ليو تولستوي، البؤساء(1862) للكاتب الفرنسي فكتور هوجو، ذهب مع الريح (1936) للكاتبة الأميركية مارغريت ميتشل، و مائة عام من العزلة (1967) للكاتب الكولمبي غابرييل غارسيا مركيز. أما في الأدب العربي فيعتبر الكاتب اللبناني جُرجي زيدان صاحب سلسلة روايات تاريخ الإسلام أبا الرواية التاريخية العربية، وكانت رواية المملوك الشارد (1891) الأولى في هذه السلسلة. وفي مطلع القرن العشرين اقتحم العديد من الكتاب العرب باب الرواية التاريخية. وقد قامت الباحثة الجزائرية سليمة بالنور في بحثها الموسوم “الرواية التاريخية: بين التأسيس والصيرورة” بتتبع تطور الرواية التاريخية العربية ورصد أعمال عشرات الروائيين الذين عنوا بكتابتها. ونكتفي منهم بذكر نجيب محفوظ في ثلاثيته التاريخية: رادوبيس (1934) و عبث الأقدار (1939) و كفاح طيبة (1944)، واسيني الأعرج في ذاكرة الماء (1997) و شرفات بحر الشمال (2001)، ورضوى عاشور في ثلاثية غرناطة (2001) و الطنطورية (2012). وبطبيعة الحال فإن عددًا لا بأس به من الروائيين الأردنيين كتبوا الرواية التاريخية. ونكتفي بذكر أربعةٍ منهم ورواية واحدة لكل منهم: هاشم غرايبة، (بترا، 2006)، إبراهيم نصر الله (قناديل ملك الجليل، 2012)، سميحة خريس (فستق عبيد،2017)،. أمّا ما يُميّز الرواية التاريخية عن سائر ضروب الرواية فهو، كما يشي اسمها، أنها تتناول أحداثًا تاريخية، فهي تماثل التاريخ من حيث أنه هو أيضًا عمل سردي يتناول أحداثًا تاريخية. غير أنها تختلف عن السرد التاريخي في أنها تتناول الأحداث تناولًا فنيًا تمتزج فيه الحقيقة بالخيال. وبمعنى آخر فإن السرد في الرواية هو إعادة صياغة للتاريخ من منظور روائي فنّي. ومن هنا فإن للرواية التاريخية خصائصَ تميزها عن أنواع الرواية الأخرى. فعلاوة على ما ذكرت حول عنصريِ الزمان والمكان وعن تناول أحداث تاريخية حقيقية، ومزج هذه الأحداث بالخيال من خلال السرد، فإن الرواية التاريخية تتيح لنا الإحساس بالزمان والمكان وتخوض في موضوعات ذات صلة بكل من الماضي والحاضر. كما أنها تمزج بين الشخصيات التاريخية والمتخيلة. لذا يتعين على كاتب الرواية إجراء بحث شامل ليكون دقيقًا في تصوير الفترة الزمنية التي تدور خلالها الأحداث، آخذًا بعين الاعتبار السياقَ الاجتماعي والثقافي للأحداث، وأحيانًا يلتزم باستخدام لغةٍ وحوارٍ مناسبين للفترة الزمنية. وربما يرتأى أن يؤكد على الإقرار بالبحث، فيأتي على ذكره المصادر التي استعان بها في كتابة روايته. من هذا المنطلق يمكننا أن نقرأ “خنجر سليمان” للروائي صبحي فحماوي باعتبارها تمثل الرواية تاريخية تمثيلًا صادقًا، ليس لأنها تغطي حقبة تاريخية بعينها فقط، بل لأن عناصر الرواية التاريخية تتمثل فيها تمثلًا إبداعيًا كما سنلاحظ تاليًا. تتلخص الرواية في أن سليمان محمد الأمين بطل الرواية، الذي شبَّ وترعرع في مدينة حلب، يسافر إلى مصر بهدف الدراسة في الأزهر. وبعد ثلاثة أعوامٍ من الدراسة يعود إلى حلب، لكنه لا يلبث أن يسافر إلى مصر ثانية، حيث ينجح في تنفيذ ما عقد عليه العزم، وهو قتل القائد الفرنسي، الجنرال كلِبير. وإثر ذلك يقبض عليه الفرنسيون ويحكمون عليه بالإعدام على الخازوق بعد إحراق يده اليمني. لقد اختار الروائي هذا الحدث الهامَّ من تاريخ أمتنا، الذي نعرفه جيدًا، فقد قرأنا هذه المعلومة في إطار دراستنا للتاريخ في المرحلة الثانوية. غير أن فحماوي حوّل هذا الحدث، الذي لم يستغرق سوى دقائقَ معدودةٍ، إلى نقطة ارتكاز في نسيجة الروائي، الذي يغطي نحو عقدين من الزمن. وبطبيعة الحال فإن هذا الامتداد الزماني واكبه امتداد مكاني. فاغتيال كليبر حدث في حديقة قصره في القاهرة. لكن أحداث الرواية غطت مساحةً جغرافيةً شاسعة امتدت من حلب إلى القاهرة، مرورًا بالعديد من المدن في بلاد الشام ومصر. وبذلك استكملت الرواية عنصرين هامين من عناصر الرواية. الأول هو تناول واقعةٍ تاريخية، والثاني هو الزمان والمكان اللذان جرت فيهما أحداث الرواية. وهنا يُسجّل للكاتب بَسْطُ احداث روايته على هذا الامتداد البانورامي زمانًا ومكانًا، ما أعطاها أبعادًا درامية تثير اهتمام القُرّاء والنقاد على حدٍ سواء. أما العنصر الثالث للرواية التاريخية فيتمثل في مزجها بين الحقيقة والخيال بصورةٍ احترافية. فالحقائق التاريخية معروفة وتبدأ من الفصل الأول، حيث نتعرف إلى الطفل سليمان محمد الأمين وهو لم يتجاوز الأربعة الأعوام. وفي هذه المعلومة دِقّة تاريخية واضحة. فالزمان هو العام 1781، وسليمان، كما تشير سيرته التاريخية من مواليد عام 1777. والفرق بينهما أربعة أعوم. أما المكان فهو حلب، وهذه أيضًا حقيقة، ومثلها أن والده كان يعمل في التجارة. لكن تفاصيل حياة هذا الشاب الذي كان مغمورًا قبل اغتياله للجنرال الفرنسي هي في غالبيتها من نسج خيال الكاتب. وقل الشيء نفسه عن تفاصيل رحلته من حلب إلى مصر التي رافق والده في جزء كبير منها. فثمة تفاصيل كثيرة عن العلاقات التي تربط والده بالكثير من تجار المدن التي يمرون بها. ولا بد أن تكون تفاصيل هذه العلاقات والمبادلات التجارية وما تشكله من سياق اجتماعي هي من اختلاق الكاتب. أما أسماء الأماكن والأسواق، كالمسجد الأموي وسوق مدحت باشا وسوق الخياطين في دمشق وقصر هشام في أريحا وغيرها من الأماكن التي ربما لا يزال معظمها باقيًا على حاله هذه الأيام، فهي أسماءُ حقيقية يعرفها الكاتب ويعرفها الكثير من القراء. هكذا فإن الأماكن والتواريخ الحقيقية تُشكّل هيكلًا عظميًا ينسج حوله الكاتب تفاصيلَ تتناسب معه لتُشَكِّلَ الملامح الخارجية، ما يجعل الرواية كيانًا عضويًا متكاملًا. الشخصيات بدورها تتصل اتصالًا وثيقًا بهذا المزج بين الحقيقة والخيال. فثمة شخصيات تاريخية حقيقية تتفاعل مع الشخصيات الروائية. فالجنرال كلِبير وأعوانه وسليمان الحلبي ووالده وزملاؤه الذين حُكِم عليهم بالإعدام وكأنهم شركاء في الجريمة، وغير هؤلاء كثيرون يضيق المجال عن ذكرهم، هم أناس حقيقيون مذكورون في كتب التاريخ. ومثل هؤلاء يضفون على الرواية صفة الأصالةً. أما الشخصيات الخيالية التي يخترعها المؤلف كتلك التي يتفاعل معها سليمان في حلب ومعظم الشخصيات التي يقابلها هو ووالده أثناء الرحلة من حلب إلى غزة، فتمثل الخبرات والنضالات ووجهات نظر الأشخاص الذين يعيشون في ذلك المكان وتلك الحقبة. وهكذا فإننا نحن القرّاءَ نصدق الرواية بكل تفاصيلها، دون الالتفات إلى ما هو حقيقي وما هو خيالي. ومثل هذا الانسجام مع أحداث الرواية هو أيضًا من خصائص الرواية التاريخية المصممة جيدًا. فهو يمنحنا إحساسًا قويًا بالزمان والمكان، وينقلنا إلى العصر التاريخي ويجعلنا نشعر بالانغماس في عالم الماضي، خصوصًا إذا جاءت الأحداث في إطار سياقها الاجتماعي والثقافي. ولا شكّ أن رواية خنجر سليمان تتعمق في الأعراف الاجتماعية والثقافية في ذلك الزمن، وتفسح لنا المجال لإلقاء نظرةً ثاقبةً على حياة الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية والخلفيات. وعلاوة على ذلك نتعرف من خلالها على جوانب مختلفة من السلوك البشري، والأعراف السائدة في الماضي. لكن هذا المزج بين الحقيقي والخيالي في خنجر سليمان لم يأتِ اعتباطًا. فقد استقى فحماوي الأحداثَ التاريخية من المراجع والمصادر الموثوقة أسوة بما يفعله كتاب الرواية التاريخية المحترفون. وقد حرص على ذكر ذلك صراحةً في الفصل الذي يحمل الرقم صفر في الصفحات الاولى من الرواية، حيث يقول: “وكان أول ما قرأت هو كتاب المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” إضافة إلى كتب أخرى كثيرة غير هذا الكتاب.. ورحت أُرتِّبُ الوقائع المذكورة، وأنسج عليها من مخيلتي الأدبية.” وفي أماكن لاحقة ذكر الكاتب مراجع أخرى. وعلى سبيل المثال أشار غير مرة إلى ما أوردته صحيفة الاحتلال الفرنسي “كورييه دي ليجيبت” حول مراسيم تشييع جثمان كلِبير. كما اتصل الكاتب ببعض الأكاديممين من حلب للحصول على معلومات حول سليمان الحلبي ومن القاهرة لمعرفة المزيدعن وقائع الاغتيال. كذلك فإن المؤلف تعرف على الكثير من الأماكن التي وردت في روايته خلال زياراته إلى سوريا وفرنسا وإقامته في مصر وزياراته المتكررة لها. ولا ريب أن المراجع التاريخية التي اطّلع عليها والأماكن التي زارها شحذت مخيلته وشكلت مصدر إلهام له ليضيف التفاصيل المناسبة لأحداث الرواية. السؤال الذي قد يطرحه القارئ الذي لا يجد في الرواية التاريخية ما يستحق الاهتمام: ما علاقتنا بأحداث طواها الزمن؟ وما الذي يمكن أن نخرج به من رواية مثل خنجر سليمان؟ والحقيقة أن ما يضفي أهمية خاصة على الرواية التاريخية هو انعكاس القضايا المعاصرة في مجملها كما في تفاصيلها. فهي تقارن بصورة ضمنية بين الأحداث التاريخية والقضايا المعاصرة. ولا يساورني أدنى شك في أن فحماوي كتب هذه الرواية وعينه على الواقع العربي. فهو من ناحية يتحدث عن الاستعمار الفرنسي وعدوانه الظالم على أجزاءَ من الوطن العربي. فهؤلاء الفرنسيون يمثلون المستعمرين كافة، الذين يدعّون أنهم يمثلون قمة الحضارة الإنسانية، ومع ذلك فإنهم يتعاملون مع الشعوب بمنتهى القسوة والوحشية والهمجية. كذلك فإن فحماوي يرى أن للماضي ارتباطًا وثيقًا بالحاضر وتأثيرًا كبيرًا عليه. فالاستعمار الفرنسي عاد للاعتداء على الشعوب العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وما زال الفرنسيون وسواهم من الدول الاستعمارية يحيكون المؤامرات ضد هذه الشعوب. وتأكيدًا لهذه النزعة الإجرامية يُذكرنا بأن فرنسا ما تزال تحتفظ في “متحف الإنسان” في بارس بجماجم الكثيرين ممن فتكت بهم جيوشها في الدول التي استعمرتها، ومن بينها جمجمة سليمان الحلبي، التي حصل فحماوي على صورةٍ لها، واستخدمها في غلاف روايته، وجعل في أسفلها صورةً للسكين التي غرزها سليمان في صدر كلِبير وأحاطهما بالسواد تذكيرًا للقارئ بالحقد الاستعماري العميق. وهذا يمثل انحياز فحماوي لقضايا الأمة. كما يؤكد فحماوي هذا الارتباط بين الماضي والحاضر في إشارات لاذعة يُلمّح من خلالها إلى أن التاريخ يعيد نفسه. فمثلًا يتحدث بسخرية مكشوفة عن “التنسيق الأمني” الذي يقوم به “أبو محمد” مختار إحد القرى (ص 99). ويستخدم العبارة نفسها في حديثه عن “أعضاء ديوان الأزهر” الذين يصفهم بالجواسيس وعملاء التنسيق الأمني مع الاحتلال (ص 270). وهو بذلك يذكرنا بالتنسيق الامني في فلسطين “مع قوات الاحتلال الصهيوني بأسلوب لا يخلو من سخرية مريرة، وكأنه ينبهنا إلى أن التاريخ يعيد نفسه. —————- “خنجر سليمان” إذن تحمل كل تلك الخصائص التي تجعل منها رواية تاريخية بامتياز – روايةً تتناول سيرةَ بطل ضحّى بحياته في سبيل حرية شعبه في تلك الحقبة الهامة من تاريخ شعبنا العربي. لقد رأى فحماوي في سليمان الحلبي بطلًا يكاد يكون أسطوريًا ناضل بطريقته الفريدة في سبيل حرية “شعبه”. ومن الواضح أن سليمان السوري الحلبي كان يرى أن أهل مصر هم شعبه أيضًا. وهذا يدل على أن النزعة القومية الضيقة السائدة في أيامنا هذه، والتي هي صناعة استعمارية بامتياز، لم تكن شائعة في تلك الحقبة. بل كانت الشعوب العربية ترى نفسها شعبًا واحدًا. من هنا فإن رواية “خنجر سليمان” بالنسبة لفحماوي هي بمثابة لبنة أخرى في مشروعه الإبداعي الذي ينصبُّ في مجمله على طرح قضايا الأمة.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
“لقاء الأربعاء”
العقل اللبناني عقلٌ مبهر، بالغ التعقيد ومفرط الذكاء، وبحسب هيكل فلبنان قطعةٌ من فسيفساء في الوطن العربي، وعلى صغر مساحته فلبنان يختزل المحكية، ويختزن الحضارة، ويدّخر في كلّ الوقت إدهاشًا يستعصي على التصديق.
حينما أخبرك بحصار بيروت 82م، وعلى هذا النحو، فأنا أخبرك بنصف القصة! ولو عاد بك الزمان لرأيت كيف كان الخذلان العربي، واليأس العربي، والعمالة العربية كما الآن تعيد ذاتها.
كان الفرق، فحسب، أن محور المقاومة لم يكن، لقد كان العالم العربيّ يشهد فراغًا محضًا، وكان الشعب العربيّ يتجرّع المرارات كاملة، وكان بشير الجِميّل يزهو برفقة شارون!
على أنه لن يخبرك، أحد، كيف انقلب المشهد! وكيف كعادته عبر التاريخ تعملق من بين الرماد طائر الفينيق! كيف من بين الموارنة تخلّق حبيب الشرتوني.. ويكأنه لم يكن شخصًا، ولربّما تجمّع الشرتوني من كافّة العروق! وبشكلٍ ما فقد كانت كل طائفةٍ من لبنان تطهر ذاتها، بيدها! وتغسل عارها بسكينها، هي!
وبشكلٍ ما فإنها تُسهم بدورها، في صناعة الإدهاش، وفي صياغة اللحظة اللبنانية، الحقيقية!
ودائمًا فيبقى لبنان محاطًا بغلالةٍ من سوء الفهم المُزمن، ومن سوء التقدير! دائمًا ثمّة كامنٍ في لبنان خفيٍّ وغير منظور! ودائمًا فأحداثه لا تقبل السرد في خطٍّ مستقيم، وإنه الحدث اللبناني دائمًا.. لوحةٌ متداخلة الأبعاد.
في كل تاريخه فإنك تجد من أمثال سمير جعجع، ورامي نعيم.. وحبيقة والجميل! هؤلاء البغاث يتحركون في تاريخه دائمًا على الهامش! وهو لبنان السّموح.. يسمح بالعيش حتى للبغاث! لكنه في لحظات الحقيقة يتجلّى؛ ويُرسل البغاث إلى حيث ألقت!
هكذا فقد كان حزب الله، مولود 82 الشرعيّ، فيما كان الفدائيون والفدائيات يتدفقون من كل منطقةٍ ومن كل طائفة! في يومٍ واحدٍ وجّه لبنان صفعةً لأمريكا، عبر عملية المارينز.. ولفرنسا في نفس اليوم، وللكيان المأزوم أيضًا، في وقتٍ والعالم العربيّ لم يستفق، بعد، من أجواء الصدمة!
هكذا ولد حزب الله مختلفًا.. عن جيوش الرخاوات العربيّة، من فقدت القدرة حتى على فهم وظيفتها!
لأن الفرق هائل بين سلاحٍ يدافع عن الأرض والشرف والكرامة والعرض!
وبين سلاحٍ لا يستخدم إطلاقًا.. في غير ساحات العروض!
ولهذا ففي حزب الله يصدق التعريف، والتسمية!
البدء إذ قال الله “كن”، والخاتمة!
وفيه الصفّ والصافّات والأنفال والقارعة!
أوّل النصر وترتيله.. لكيلا تكون للّقطاء الخوّارين حُجة!
وفيه جنود الله وأبابيله، ونار الله على ملعونيها موقدة!
وعلى يديه بإذن الله تُصنع الصورة إذ تعطيك مثالًا واضحًا، عمّا تعنيه الأحداث الصعبة!
على العدو الحقير!
وتبقى في الكفّ نون.. وحكّاءٌ أنت عمّن جرّعوا أعداء الله أصناف المنون؛تخبرهم كيف أن الأرض يا رجال الله تمورُ بوعد الله مورا، وكيف أن العاديات تلتهم العوادي بتقدير العزيز العليم!
أن المسافة بين الإبهام ووسطاها، أطول كثيرًا من المسافة بين دنيا الملعونين وأخراهم!
ومن إعجاز المشهد فإنه تبدّى كيف أنك ما رميتها أنت- يا عبدالله- إذ رميت؛
فسبحان الذي آزر وشدّ أوتارها وهيأ للنصر سواعدكم.. ورمى!
وعلى هذه الأرض من “عمادٍ” بإذن الله ألفا، تنسفُ أرذليها بحول الله نسفا، وتحيل ناطحاتها قاعًا منفوشًا عِهنًا صفصفًا، ومن الجنوب هذه رجال الله أوتادا، ثابتون وكلهم بحول الله عمادها، جبالٌ وإن ماد عليها غيرهم!
وغيرك يا ابن حزب الله.. محض غير! لا في صحبته نفعٌ ولا من خصومَتِه ضير!
.. ومثلك وأيمُ الله ما ماد! لا رقّ بينك وبين الله حبلٌ وإن اهتزت فيها أفئدةٌ كثيرةٌ وأكباد!
ولهذا فأنتم يا رجال الله نار الله الموقدة!
ما رفّ فيكم عرقٌ إلا للثأر، ولا ساعدٌ فيكُم لغير الحقّ رَمَش، ولا غَاش منكم قَطْرٌ في غير موضعه! وإن دنا فيها من دنا فرأسكم المرفوع مرفوعٌ أبدًا ما دنا، ولهذا فالرؤوس أمام سيوفكم تتدلى!
ولأنكم حزب الله، ولأنها رايتكُمُ الأعلى!
ولأنهم حزب الله فإنهم دائمًا.. هُمُ؛
وهُمُ.. بوعد الله وبميثاقهِ وأيمُ اللهِ المُفلحون!
وبكم يا رجال الله فإنه دائمًا لبنان الساموراي؛
وفي حروبه فإنّه بالغ المهارة!
ذلك الرشيق كما لو أنه راهب شاولين،
ويا لَه إذ يقتنصها دائمًا.. بحرفيّةٍ وهدوء!
إنه لبنان الصغير، تمامًا مثل موس حلاقةٍ يتخفى بقالب شوكولا!
وستعرف ما أعنيه، بالطبع؛ فيما لو حاولت ابتلاعه!
وفي صبيحة الأربعاء القادم، في الزاوية ذاتها بإذن الله.
يبقى لنا حديث.