فوز فرنسيس: قراءة في رواية “العائد إلى سيرته” للكاتب باسل عبد العال
تاريخ النشر: 24th, July 2023 GMT
فوز فرنسيس بداية أنوّه أني لست ناقدة ولا باحثة وعليه جاءت قراءتي بناءً على ما استخلصته مما قرأت. يبدو لنا من هذا عنوان الرواية “العائد إلى سيرته”، أن شخصا ما كان قد أغفل سيرته أو أنه وضعها جانبا مدة ما، ثمّ عاد إليها لاحقا، والسيرة هي الهيئة أو الحالة التي يكون عليها الانسان، سلوكه وتصرفه، وأما السيرة في الأدب فهي تدوين تفاصيل الحياة والأعمال.
على رسمة الغلاف، نرى رسمة أوجه لثلاثة رجال على فروع شجرة ملتصقين ببعضهم البعض غير واضحة معالمهم جيدا، تبدو هذه الأوجه لرجل مسنّ حيث نميّز ذلك من الذقن والأنف وتساقط شعر الرأس الذي جاء على شكل أغصان جافة عارية من الأوراق، الأوسط رجل بالغ ويشبه الشخصية الأولى ووراءه يظهر وجه شاب وعلى رأس الشاب تظهر بعض أوراق الشجر، وكأن ذلك يشير إلى تعاقب أجيال ثلاثة. الشجرة صامدة بجذعها متمسكة بتربتها غير خائفة من جرف البحر لها مع أن بعض أغصانها قد أجتثّ. هناك أمل ما فوجهةُ جميع الرجال صوب البحر والفضاء الأزرق الذي طغى على لون الغلاف واحتل كل مساحته، أضف إلى شجرتين خضراوين صغيرتين في الخلف تؤكدان على الحياة والأمل. جاء في الصفحة الأولى تحت العنوان “العائد إلى سيرته”، أنها رواية واقعية، ممّا يعني أن علينا الأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر، فنسأل ترى هل هي سيرة أحد الشخوص الثلاثة التي جاءت في رسمة الغلاف؟ أم أنها سيرة الكاتب الذاتية بما أن ضمير الأنا هو المتحدث في الرواية؟ هذه التساؤلات لأني عرفت كاتبنا وشاعرنا باسل عبد العال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وأنه يعيش في مخيم نهر البارد شمال لبنان، وترجع أصوله إلى قرية الغابسيّة المهجرة في قضاء عكا. تقع هذه الرواية الصادرة عن دار “الأهلية” في 102 صفحة، رواية مكثّفة عميقة بطرحها وموضوعها، مليئة بالرموز والدلالات التي يمكنك فكّ بعضها بسهولة وبعضها يصعب عليك حلّ شيفراتها ومدلولاتها. كتبت بلغة شاعرية وتخلّلها أيضا بعض قصائد للشاعر، واستخدم فيها التناصّ إن كان في إرفاق بيت شعر لامرئ القيس: على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي // أوجّهها يمينا أو شمالا (ص 27)، أو أمثالا شعبية “سيرة عن سيرة بتفرق مثل خيمة عن خيمة بتفرق” (ص20) الذي يذكرنا بقول الأديب غسان كنفاني، وأيضا “اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب” (ص57)، وهو أيضا يورد أسماء الريح حسب قاموس المعاني وشرح كل اسم واسم، ” لبليل، الجنوب، الحاصبة، الحنون والمهداج، الراعفة، رياح الصّبا، اللواقح، العقيم، النسيم” وغيرها كثير (ص21-22) قسّم الكاتب عمله إلى تسعة فصول سمّى كل فصل بكلمة “النّطق”، فجاء النطق الأول والثاني وأما الأخير فأطلق عليه عنوان “النطق الأخير”، وأتساءل هل لهذا العدد رمز ما أيضا؟ فالرواية مليئة بالأسئلة المطروحة والبحث والدلالات، وعامود الخيمة يتوفى وهو في عمر الثمانين، فهل يجوز أن نعتبر كلّ نطق هو عقد من الحياة التي عاشها، أم أنها تشير إلى كاتم الصوت والذي بدأ نطقه يتحسن في النطق الثالث أي في سنّ الثلاثين؟ الرواية هي رحلة عودة إلى الجذور وغوص في الذاكرة كي لا تضيع وتُنسى، هذه الذاكرة تمحورت حولها الرواية لتكوّن الموضوع الأساس، حيث نرى أن كاتبنا على امتداد الرواية يخشى أن تضيع الذاكرة يوما فينسى أبناء الشعب الفلسطيني وجهة الإياب وينسون الوطن الذي هُجّروا منه، فنراه يصف الذاكرة بالخبز “الذاكرة هي خبز الجميع” (ص60)، أما النسيان “الزهايمر ̓ المُستحدَث من ضربات الريح ̓ تحت مسمَّى ” النسيان الخبيث”، هدفه الوحيد تدمير ذاكرتي الأولى كي أعجز عن التذكر والبحث عن الأثر المذكور، وبناء كياني من جديد بشخص جديد لا يتذكر شيئا”، ويرى أن سلاحه الوحيد هو التذكر وأنه على الجميع أن يكونوا حرّاس التذكر في دورة الزمن الزهايمري” (ص58-59)، وهو هنا يشير بوضوح إلى أن إسرائيل هي من أوجدت مصطلح النسيان الخبيث كي تقضي على الذاكرة لدى الفلسطيني. يستخدم الراوي الحلم والبحث ومعرفة الحقائق من خلال العودة إلى سير الآباء والأجداد التي رغم التهجير والتشرّد عن الوطن، لكنها ستبقى حيّة في النفوس جيلا بعد جيل. كل هذا يبدو لنا من أقوال جاءت على لسان بطل الرواية، فنراه يقول في مواقع عدة: “كبر المكان معنا.. العثور على التفاصيل يعني أن نخوض معركة الذاكرة والنسيان.. البحث مقاومة.. والبحث هو ذاكرة تقاوم النسيان” (ص42)، وهو يحذّر كثيرا في الرواية من وباء الزهايمر “النسيان الخبيث”، “هذا المرض حليف ضربات الريح والطائر الأسود البرّي” (ص43)، وقوله في موضع آخر “من ترك أثرا لا يمحوه الزمن بالنسيان” (ص53)، وأيضا “لأننا نعيش معركة سير، بل معركة ذاكرة ومعركة بحث، من يتذكر يعني أنه حيّ، ومن ينسى يجرفه طوفان الزهايمر”،(ص 57)، ثمّ أن أبناء “أهل الريح” أي الفلسطينيين اللاجئين لديهم نعمة التذكر بهدف الوصول إلى الطريق المقدس نحو الأثر، ويقصد بها طريق العودة إلى الوطن المهجّر فلسطين والقدس ويافا البرتقال وفي ذلك جاءت قصيدته: “بعيدا هناك على قلق من كلام الرعاة على ثقة من كلام الرسول ولو اقتربت هذه الأرض منّا قليلا لسِرنا إليها حفاة حفاة” …. (ص34) بعيدا إلى ما نحبّ بلادا وشمسًا على البرتقال (ص35) يرى الكاتب في الأحلام سبيلا لتحقيق هدفه، “الأحلام جزء من معركة الدفاع عن الغد… فالأحلام ذاكرة من نوع آخر.. وهذا ما نحتاج له كي نصل نقطة الضوء في آخر النفق” (ص 69). تدور أحداث الرواية في مخيم نهر البارد حيث يسكن الآلاف من الفلسطينيين اللاجئين، والكاتب يشير إلى اسم المكان “الشاطئ الشمالي البارد (ص36)، ونحن نعلم أن مخيم نهر البارد يقع شمال لبنان بالقرب من مدينة طرابلس. ومما يؤكد هذا أيضا قوله: “كم غيمة مرّت تحت سماء هذا المكان؟ ربما أربع وسبعون غيمة” (ص17) وهذا إشارة واضحة إلى سنوات النكبة، وأيضا “بعد أن نموت هنا من سيعرف أننا من هناك؟” (ص 23)، والمقصود بـِ “هناك” فلسطين. تتحدث الرواية باختصار عن عامود الخيمة ويظهر أنه من الجيل الأول للنكبة، وربما هو الشخص الأول الذي يظهر لنا على رسمة الغلاف، شيخ مسنّ وبوفاته عن عمر الثمانين سنة، تنتقل المسؤولية إلى كاتم الصوت الذي يبحث ويحلم دائما ويدرس لغة أهل الريح ويسأل الطبيب دائما عن كل ما يراه أو يطلّع عليه، وهدفه أن يعود إلى الوطن المهجّر، ابن الكاتم الذي ينام فترة شهر دون أن يستيقظ، وظهور أول إصابة لأحد التلاميذ في المدرسة بعدوى الزهايمر والخوف من انتشار العدوى حيث تبيّن لأستاذ التاريخ والجغرافيا أن الطالب لم يعد يتذكر الخريطة (ص88)، والمقصود هنا خريطة فلسطين، وعليه يتهمون المدرسة بأنها من أهملت سبل الوقاية والتوعية ضد انتشار الزهايمر، يضعون المصاب في حجر صحي، ويوصي الطبيب أن أكل الزعتر البلدي وأوراق الزيتون في الماء المغلي يبعد الزهايمر، ثم إصابة أخرى بعد أيام لشاب في العشرين من عمره “لا يتذكر شيئا عن البرتقال الآتي من الأثر المقدس، يقول له البائع: هذا برتقالنا يا غبي، ينظر الشاب بعينين حمراوين ولا ينطق” (ص92)، يدبّ الخوف في الناس ويسرع أهل الريح إلى مقبرة عامود الخيمة ليروا أن امرأة ركضت باتجاه التلة وليس الشاطئ بهدف قراءة السّير كي لا تصاب بالزهايمر (ص 98)، ومن ثم يتوافد الناس على المستشفى لفحص الزهايمر، ليتضح أن “الزهايمر لا يصيب الذين يبحثون عن الزهرة الحمراء ويقرأون حروف السير المعلقة على مقصلة الخيمة والمحفورة بالأحمر على ألواح السفن المتحجرة على الشاطئ الشمالي البارد” (ص 100). تنتهي الرواية باستيقاظ ابن الكاتم من سباته ليعلن “قد أصبحت باحثا يا أبي بعد أن تخرّجت من جامعة سرير العجوز عامود الخيمة” (ص 100)، وأنه لن يصاب بالزهايمر أبدا لأنه تخرّج ليحمي والده ويحمي الذاكرة من بعده. هنا كان لا بدّ لي من أن أعرّج بعض الشيء على مدلولات بعض الرموز والأمور التي وردت في الرواية وفق رؤيتي الخاصة: * “السِّير المعلّقة على مِقصلة الخيمة” والتي وردت عدة مرات في السياق، إشارة إلى سير وذاكرة الآباء والأجداد أبناء الشعب الفلسطيني، “مقصلة الخيمة” المقصلة هي آلة الإعدام وبهذا ربما إشارة إلى المأساة والتهجير والمذابح التي لحقت بأبناء الشعب الفلسطيني، وستبقى معلّقة عاليا كي يتذكرها الجميع. * “زهرة حمراء مبللة بالدم” قد تكون إشارة لدم الكثيرين ممّن استشهدوا، أو رمزا لزهرة الدحنون التي تشتهر بها فلسطين. * “الأثر المقدّس” و ” الطريق المقدس”، إشارة إلى فلسطين. * “السفينة المتحجرة عند الشاطئ”، تشير ربما إلى السفينة التي نقلت المهجرين من الوطن عند النكبة إلى لبنان. * “سرير عامود الخيمة”، قد يكون بهذا إشارة إلى غسان كنفاتي ومجموعته “موت سرير رقم 12″، وكأن الكاتب يريدنا أن نقرأ أدب الأديب غسان كنفاني في سبيل أن تبقى لنا الذاكرة حيّة. * الزهايمر ” النسيان الخبيث”، هو ما تزعمه إسرائيل من مرض يصيب أبناء الشعب الفلسطيني عندما يموت كبار السنّ أبناء الجيل الأول وينسى الأبناء والأحفاد قضيتهم. * “الشاطئ الشمالي البارد”، إشارة إلى مخيم نهر البارد الواقع شمال لبنان وحيث يعيش به الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني. * ” الزعتر البلدي وأوراق الزيتون” و”البرتقال” كلها نباتات تشتهر بها فلسطين ولا يمكن للاجئ أن ينساها. * “ضربات الريح والطائر الأسود البرّي”، إشارة إلى إسرائيل، ويذكر عدد ضرباتها للمخيم “تضرب الريح للمرة السادسة” (ص37). * “الصحراء”، هل المقصود بها الشتات والغربة، نستدلّ هذا من طعم رمل الصحراء والمحشوّ في فم كاتم الصوت الذي بدأ يزول مع كل فجر جديد. * “قلعة الحروف”، هي المعرفة والبحث والاطلاع على السيرة والذاكرة لأنها كما يقول الكاتب هي الباقية الصامدة وهو في هذا يكتب: “سنقرأُّ عمّا قليل، سنقرأُ فوق الجسد، نداءَ الحروف التي لا تُطيع غشاء الزبد سنقرأُ كي نظلَّ على قيد حلم ٍ طويل” (ص83) والكاتب بهذا يؤكد أن الكلمة هي السلاح الأقوى “أسلحتنا اليوم أقوى لأنني رأيت حروف السّيَر المعلقة بمنظار عالم الآثار / الطبيب” (ص83). شخصيات الرواية: تتمحور الرواية حول ثلاث شخصيات هامة تأتي هي أيضا بأسماء مستعارة؛ عامود الخيمة، كاتم الصوت، ابن الكاتم، إضافة إلى شخصيات أخرى مثل الطبيب/ عالم الآثار، أهل المخيم “أهل الريح” من طلاب ومعلمين ونساء. “عامود الخيمة” إشارة إلى شيخ أو كبير العائلة من الجيل الأول للنكبة، توفي فجأة عن عمر ثمانين سنة، وبموته تتغيّر أمور كثيرة على “أهل الريح”، هو العالم والحكيم بكثير من الأمور. بموت عامود الخيمة يطرح السؤال “هل مات البرهان في إثبات الحقيقة؟” (ص30).. أي هل بموته يموت الدليل الذي يثبت جذوره وأصله ووطنه، وكاتبنا دون شك يعلم بالمقولة “يموت الكبار وينسى الصغار قضيتهم” وهو يريد إثبات نقيض هذا القول في الرواية. “كاتم الصوت” وهو بطل الرواية، وهو الذي يحرّك أحداث الرواية ويرويها بضمير الأنا. فمه محشوّ بالرمل ولا يحسن النطق جيدا ومع التقدّم في الرواية وأحداثها، نرى أنه رويدا رويدا يسترجع النطق، قد يكون ضعيف الشخصية ولا يجرؤ على الكلام أو أنه كان جاهلا بالأمور في البداية وبعد كثرة البحث والدراسة والتعمق في السيرة والذكرى تمكن من النطق. ويمكن لنا أن نفسّر سبب حشو فمه بالرمل على النقيض مما ذكرت وربّما هذا تفسير أقوى برأيي، فمه محشو بالرمل لأنه مملوء بالذكريات عن فلسطين وخاصة عن قريته المهجرّة، ففي إحدى القصائد الرائعة التي جاءت في الرواية يذكر كم أحبّ جدّه الرمل الدافئ هناك والأرض التي تشتاق لها المعاول؛ “كانَ المكان وكان دفء الرّمل في يده يشدّ الرملَ كي يجد اليدا” (ص 59) وقد عرّف البطل عن نفسه في بداية الرواية، ” لا تعريف يدلّ عليَ سوى الرمل، لا أعرف عني سوى أني من أهل الريح، ولدت بينهم، لكنني لم أمسك بدورة الزمن الذي رماني هنا” (ص 13)، وقد يكون الرمل هو ما دخل فمه أثناء الهجرة والمعاناة التي مرّ بها أثناء الرحلة في البحر إلى أن وصل إلى شواطئ لبنان، وتبقى هذه كلها تفسيرات وجهد ذاتي. كاتم الصوت يرى ما يصيب أهل المخيم من مصائب وضربات ولا يصيح، وهو أيضا كما يبدو لنا لا يقرّر أي شيء فهو دائم الاستعانة واستشارة الطبيب /عالم الآثار. يقول عن نفسه “أنا أبحث وأحلم ومنذور للسير.. وأدرس لغة أهل الريح والنطق الثالث وغارق في الحلم (ص30). وعن مهنته يقول “مهنتي أداة لانبعاث الأمل وليس لانبعاث الحزن واليأس” (ص56)، مما يؤكد أن مهنته هي البحث والكتابة ومعرفة الذاكرة جيدا وحفظها. يصف الطبيب له دواءً عبارة عن الزعتر البلدي وأوراق الزيتون(ص32)، أوليست هذه من رموز الوطن التي لا يمكن أن ينساها الفلسطيني وأنه بعثوره عليها ولمسها يُشفى من كل مرض. يقول في النطق الخامس “طعم الرمل يزول في كل فجر يحلّ علينا، وطعم الزيتون والزعتر ينتشر في فمي، هل ثمّة فجر؟” (ص53)، إشارة إلى بادرة أمل في قضية الوطن فلسطين. يصرّح لنا البطل في بداية النطق الرابع أنه بدأ يتعافى، “الكلام أصبح أقوى قليلا، واشتدت رؤيتي وفكرتي، تغيرت قليلا، التعمق في قضية أهل الريح يحيلني من باحث إلى مؤرخ” (ص41)، وهو في النطق الخامس وأمام قبر عامود الخيمة يشعر أنه فائض بالكلام، فيقول ” أن تنطق يعني أنت حي، ومعك التفاصيل كدواء يساعدك للشفاء من الزهايمر إذا أصابك..” (ص 61)، ويعود نطقه بشكل تام له في النطق الثامن من الرواية “عاد لي نطقي الحر، وكان شيئًا لم يكن، بحّة خفيفة في الحنجرة” (ص87) وهذا النطق جاء أيضا بعد وفاة عامود الخيمة أي أنه وريثه في نقل الذاكرة للأجيال القادمة والحفاظ عليها من الضياع والنسيان. ” ابن الكاتم”، وهو ابن كاتم الصوت، “ولد الصغير باحثا صغيرا، ما علاقته بالسِّير المعلقة في رواية أهل الريح؟” (ص70) وهو “يسأل أسئلة عميقة وبحثية” (ص71)، “لم يكن عنده تأخرا في النطق.. ولد في الصحراء.. وقذفته الريح معي.. لكن الرمل لم يكن محشوا في فمه مثلي، لأنه صغير وفمه لا يحتمل ولا يتسع” (ص73). ينصح الطبيب كاتم الصوت أن ينام الابن “ابن الكاتم” على سرير عامود الخيمة مدة شهر كامل دون أن يصحو، يصحو في نهاية الرواية متخرّجا من جامعة سرير عامود الخيمة باحثا ليحمي الذاكرة ويصونها. في نهاية كلمتي، أعترف أن الرواية جذبتني رغم الغموض الذي اكتنف بعض الرموز فيها، ووجدت من خلال كلمات الكاتب أن الذاكرة لا تزال حيّة ولا خوف عليها من الضياع وهذه المسؤولية تقع على عاتق كل جيل وجيل. عمل رائع يضاف إلى مكتبتنا العربية وخاصة الفلسطينية، مبارك وألف لكاتبنا باسل عبد العال مع تمنياتي له بمزيد من العطاء والألق.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي
يمانيون ـ كامل المعمري
بمراجعة الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة العربية على الأقل خلال العقود الأخيرة، وتحديدًا منذ الخمسينيات نجد أن مشروعًا واحدًا، بتفرده وبنائه العميق، قد خرج من الركام كحالة استثنائية، لا تشبه في تكوينها ولا في مسارها أي مشروع آخر، إنه المشروع الذي انطلق من أعماق جبال مرّان، في محافظة صعدة شمالي اليمن، لكن حاملًا رؤية قرآنية عادت من جديد، متجاوزةً للإطار التقليدي الذي حدّدته أيديولوجيات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
لقد كان العام 2003 نقطة تحول فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الهيمنة الأمريكية تخترق العالم العربي والإسلامي تحت مظلة “الحرب على الإرهاب”، خرج الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي برؤية قرآنية حادة الملامح وواضحة المقاصد، تقلب المعادلة.
رفع شعارًا أدهش الجميع بجرأته وبساطته في آن واحد: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، لم يكن هذا الشعار مُجَـرّد صياغة خطابية، بل كان إعلانًا عن مسار سياسي وثقافي جديد، يهدف إلى إعادة تشكيل وعي الإنسان اليمني وإحياء روحه النضالية المفقودة في ظل سنوات من التبعية والضياع السياسي.
مميزات المشروع القرآني:
ما يميِّزُ المشروعُ القرآني منذ انطلاقته، أنه لم يكن مُجَـرّد رد فعل محلي على أزمة سياسية أَو اجتماعية داخلية، بل كان جزءًا من رؤية أوسعَ تستهدف إعادة توجيه بُوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة: الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، كانت هذه الرؤية ضرورية في وقت اختلطت فيه الأوراق، وتداخلت فيه التحالفات بين أنظمة عربية خاضعة تمامًا للإملاءات الأمريكية وأُخرى غارقة في مستنقع التطبيع مع “إسرائيل”.
جاء المشروع القرآني ليعيد صياغة وعي الفرد والجماعة، متجاوزًا حدود الجغرافيا اليمنية، ليطرح نفسه كبديلٍ حضاري شامل للأُمَّـة العربية والإسلامية، هذه الرؤية لم تكن معزولةً عن الواقع، بل كانت استجابة واعية للمخاطر التي بدأت تلوح في الأفق مع احتلال العراق وتفكيك بنية الدولة الفلسطينية ومحاولة الهيمنة الكاملة على مقدرات المنطقة.
منذ البداية، أدرك أنصار هذا المشروعِ أن معركتهم ليست ظرفية، بل وجودية لذلك، كانت المواجهة مع النظام السابق تتجاوز البعد العسكري لتصل إلى حرب قيم ومعانٍ، فبينما كان النظامُ اليمني السابق يسعى بكل أدواته إلى إخضاع المشروع، مدفوعًا بإملاءات أمريكية وسعوديّة، كان هذا المشروع يزداد صلابة، مستمدًا قوته من رؤية إيمانية جعلت من التضحية عنوانًا للصمود.
لقد أرادت أمريكا أن تقضيَ على هذا المشروع في بداياته الأولى وذلك عبر دعم النظام الذي شن حربًا ظالمة عام 2004 انتهت تلك الحملات العسكرية الكبيرة باستشهاد القائد المؤسّس الشهيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي أراد أن يقدم للأُمَّـة تجربة يمنية في إطار المشروع القرآني، وباستشهاده ظلت فكرة المشروع حية في قلوب ثلة من المؤمنين الذين واصلوا تحمُّل المسؤولية تحت قيادة السيد العلم القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي “حفظه الله”.
لقد خاض النظام السابقُ سِتَّ حروب متتالية ضد هذا المشروع حتى نهاية عام2009، حَيثُ استُخدمت كُـلُّ أدوات القمع والتدمير لإخماد هذه الحركة في مهدها، لكن وكما يحدث دائمًا مع الحركات ذات الطابع القرآني، كانت كُـلّ ضربة توجّـه إليها سببًا في اتساعها وانتشارها.
الثورة التحرّرية تزيدُ قوة وصلابة التحَرّك:
جاءت ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014 كتتويج لمسار طويل من الصمود والمقاومة، ومثلت الثورة لحظة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، حَيثُ بدأت مرحلة الخروج من التبعية الكاملة للوصاية السعوديّة والأمريكية، حينها أدركت القوى الكبرى أن المشروع القرآني لم يعد مُجَـرّد تهديد سياسي أَو عسكري، بل تحول إلى نموذج يلهم الشعوب الأُخرى في المنطقة.
شن التحالف بقيادة السعوديّة، والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، وبمشاركة 17 دولة حربًا عدوانية على اليمن في مارس 2015، استهدفت كُـلّ مقومات الحياة تجاوزت الحرب 350 ألف غارة جوية، وخلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ناهيك عن الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي لم يشهد له اليمن مثيلًا في تاريخه الحديث وحصاراً خانقاً، لكن وعلى الرغم من وحشية العدوان، الذي استمر لقرابة عشر سنوات، خرج الشعب اليمني من هذه الحرب أكثر صلابة وإصراراً على التمسك بمشروعه.
كان سر هذا الصمود يكمن في قدرة المشروع القرآني على توظيف كُـلّ التحديات كأدَاة لبناء وعي جديد، يجعل من المعاناة وقودًا للصمود ومن التضحيات أَسَاسًا للنصر.
وما يجعل هذا المشروع حالة استثنائية هو شموليته، فهو ليس مشروعاً سياسيًّا محدودًا بظرف أَو مرحلة، بل هو رؤية حضارية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الواعي بمسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه وأمته.
كما أن الثقافة القرآنية التي يقوم عليها المشروع ليست مُجَـرّد شعارات أَو نصوص نظرية، بل هي أدَاة لإعادة تشكيل القيم والسلوكيات، بما يتناسب مع التحديات الراهنة.
إن هذه الرؤية هي التي مكنت الشعب اليمني من تحويل الحرب إلى فرصة للنهوض، فبينما كان العالم يتوقع انهيار اليمن تحت وطأة الحصار والعدوان، ظهر الجيش اليمني كقوة تمتلك رؤية واستراتيجية، قادرةً على تغيير المعادلات، وكانت الرؤية القرآنية بمثابة خارطة طريق لإعادة توجيه بوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة، بعيدًا عن التبعية والانهزامية التي سيطرت على الكثير من الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية.
التجربة اليمنية في إطار المشروع القرآني:
وفي لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، حَيثُ الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على أوجها، وحيثُ الأنظمة العربية تتهاوى واحدة تلو الأُخرى في مستنقعات التطبيع أَو التبعية، كان المشروع القرآني كحالة استثنائية غير مؤطرة، هذا المشروع الذي تعرض حاملوه لأبشع أنواع الحروب في العصر الحديث حاضراً وبقوة في الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على غزة التي استمرت قرابة خمسة عشر شهرًا؛ ليخوض مواجهة مباشرة مع أعداء الأُمَّــة بدءًا من فرض الحظر البحري على الكيان الإسرائيلي؛ الأمر الذي أَدَّى إلى دخول اليمن في معركة بحرية استمرت قرابة العام في مواجهة البحرية الأمريكية والبريطانية التي حاولت حماية سفن العدوّ الإسرائيلي، حَيثُ تم شن عدوان جوي على اليمن إلَّا أن الجيش اليمني سجل موقفًا قويًّا وشجاعاً ليتفاجأ الأمريكي كيف يمكن لقوة صاعدة أن تعطل قدرات الأسطول البحري الأمريكي وتنتصر في معركة على قدرات دول كبرى عسكريًّا.
إلى جانب ذلك استطاعت اليمن إطلاق الصواريخ الفرط صوتية والمسيّرات على المدن الفلسطينية المحتلّة وهو ما أذهل الأعداء والعالم، ويكاد المرء لا يصدق أن شعباً يرزح تحت وطأة الحصار والحرب منذ ما يزيد عن عقد، يستطيع أن يقوم بكل ذلك بل والسؤال الأهم كيف يمكن لشعب فقير ومحاصر أن يصنع صواريخ فرط صوتية وبالستية تضرب أهدافاً متحَرّكة ومسيّرات متطورة، متناسين أن المشروع القرآني لا يقف عند حدود بل يتجاوز ذلك إلى التصنيع العسكري وبناء القدرات العسكرية وفي كُـلّ المجالات، وأنه مشروع إرادَة وإيمَـان.
لقد سجل الشعب اليمني حالة فريدة واستثنائية على مستوى العالم والمنطقة رغم إمْكَانياته البسيطة في إسناده لغزة بالموقف العسكري الذي كان غير مسبوق، سواءً في المعركة البحرية ضد العدوان الثلاثي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني، والهجمات البرية بالصواريخ والمسيّرات التي لم تتوقف طوال عام ونيف باتّجاه المدن الفلسطينية المحتلّة.
على الجانب الآخر نفير عسكري غير مسبوق، مسيرات راجله عسكرية، ودورات تأهيل وتدريب لمقاتلين جدد تجاوز عددهم قرابة 600 ألف مقاتل، ومئات المناورات العسكرية، وفي المسار الشعبي حشود مليونية أسبوعيه في كُـلّ المحافظات المحكومة من المجلس السياسي الأعلى وحكومة التغيير والبناء، ناهيك عن الوقفات والنكف القبلي الذي كان بشكل يومي، والتبرعات لغزة والفعاليات والندوات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وفي الجبهة الإعلامية حراك غير مسبوق، رافق انتصارات كبيرة في البحر والبر والجو، إضافة إنجازات تمثلت في إزاحة الستار عن أسلحة نوعية صاروخية ومسيّرات وغير ذلك.
هكذا هو المشروع القرآني يفرض على كُـلّ منتمٍ إليه التحَرّك الجاد والعمل والثقة بالله وعدم الاستكانة، وبهذا الوعي والنفير استطاع اليمن أن يبرز كقوة إقليمية مؤثرة وفاعلة لا يمكن تجاوزها، تفرض معادلات كبرى أمام أقوى جيوش العالم.
نجح اليمن انطلاقًا من المشروع القرآني في إيصال رسالة قوية مفادها أن الشعوب العربية قادرة على المواجهة رغم كُـلّ التحديات، وأن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية للأُمَّـة العربية والإسلامية، بل وأعاد تعريف دور الشعوب في الصراعات الكبرى.
وبكل هذه المعطيات، فَــإنَّ ما حدث في البحر الأحمر يعكس بوضوح كيف تحول المشروع القرآني إلى لاعب رئيسي في معادلات القوة الإقليمية، من هنا، من هذا الشريط المائي الاستراتيجي، تتحدى اليمن الهيمنة الأمريكية بشكل مباشر، وتعيد صياغة مفاهيم السيادة التي حاولت القوى الكبرى طمسها، إنهم يدركون في تل أبيب وواشنطن، أنهم لا يواجهون جيشًا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يواجهون حركة متكاملة، عمقها وعي شعبي يستمد جذوره من مشروع رسخ في أذهان الناس، وأن كرامتهم ليست قابلة للمساومة.
لقد فشلت محاولات احتواء هذا المشروع، ليس لأَنَّ القوة العسكرية عاجزة عن ذلك، بل لأَنَّهم يقفون أمام سد منيع من الوعي الذي لا يتزعزع، والصمود الذي لا ينكسر.
المشروعُ القرآني في اليمن حالة استثناء:
وما يثير الاهتمام أكثر هو هذه القدرة الفريدة للمشروع على الاستمرار والنمو وسط التحديات، فكل حرب شُنت عليه كانت بمثابة وقود جديد يدفعه إلى الأمام، وكلّ محاولة لإخماده لم تكن إلا خطوة جديدة في مسار ترسيخ حضوره، نحن أمام حالة استثنائية، حَيثُ يتحول القمع إلى سبب للاستمرار، والحصار إلى مصدر للقوة.
إن القوة التي تُهمل بناء الوعي، مهما عظمت أدواتها العسكرية والسياسية، تسقط أمام أول اختبار حقيقي، هذه العبارة التي تعكس جوهر الصراع بين المشاريع العربية التي تعثرت، والمشروع القرآني في اليمن الذي ظل شامخاً رغم كُـلّ الحروب والتحالفات الدولية.
إن التجارب العربية في مواجهة الهيمنة الغربية، بدءًا من القومية الناصرية مُرورًا بالاشتراكية البعثية وُصُـولًا إلى حركات الإسلام السياسي، تكشف عن نمط متكرّر من الإخفاقات، حَيثُ ظلت الشعارات تضج على السطح بينما كان الأَسَاس هشًّا لا يصمد أمام التحديات.
المشروع الناصري بقيادة جمال عبدالناصر كان رمزًا للتحرّر في الخمسينيات، لكنه اصطدم بواقعه في نكسة 1967، واعتمد على تحالفات خارجية مع الاتّحاد السوفيتي وأهمل بناءَ وعي شعبي مسلح بالحرية والمسؤولية.
النظام البعثي في العراق كذلك، رغم هيمنته على المشهد لعقود، انهار سريعًا في مواجهة الغزو الأمريكي عام 2003، إذ كان يعتمد على حزب أوحد منفصل عن تطلعات الجماهير.
حتى المشاريع الثورية التي ظهرت مع موجة التغييرات الحاصلة منذ مطلع العام 2011، مثل تجربة الإخوان المسلمين في مصر، تعاملت مع السلطة كغنيمة سياسية بدلًا من كونها أدَاة لتحرير الإرادَة الوطنية.
على النقيض، المشروع القرآني في اليمن يمثل استثناءً جذريًّا لهذه الحلقة من الإخفاقات، لقد أسس هذا المشروع دعائمه على منظومة إيمانية عميقة تستند إلى نصوص القرآن الكريم كمصدر للتشريع والحركة؛ مما جعله قويًّا لا يتأثر بأية مؤامرات، بينما كانت المشاريع العربية تستورد الأيديولوجيات من الخارج وتبني عليها سياساتها.
ولقد أعاد المشروع القرآني تعريف المقاومة كواجب ديني ووطني، واستحضر قوة الهوية في معادلة الصراع، فكان أحد أبرز عوامل نجاح المشروع القرآني هو رفضه التبعية لأية قوة خارجية.
لقد اعتمد المشروع القرآني على مبدأ الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي، فتبنى اقتصاد المقاومة من خلال التصنيع العسكري المحلي والاكتفاء الذاتي الزراعي، وهو ما حرّره من هيمنة البنك الدولي وشروط القوى الكبرى، هذا الاستقلال منح المشروع القرآني مرونة عالية في التعامل مع التحديات، حَيثُ لم يعد رهينة لقرارات اللاعبين الدوليين.
المشروع القرآني أَيْـضًا قلب معادلة الجيش والدولة، بينما انهارت جيوش عربية نظامية؛ لأَنَّها قاتلت كجيوش موظفين، نجح المشروع القرآني في تحويل الشعب اليمني إلى جيش شعبي مقاتل يدافع عن قضيته من منطلق عقائدي، والمسيرات المليونية في اليمن لم تكن مُجَـرّد استعراض للقوة، بل كانت مدرسة جماهيرية لصناعة وعي مقاوم يتحدى أدوات الاستعمار والعدوان.
الأهم من ذلك، كُـلّ المؤامرات التي استهدفت المشروع القرآني تحولت إلى وقود يزيد من قوته، اغتيال السيد حسين بدر الدين الحوثي في 2004 لم يكن نهاية المشروع، بل كان بدايةً لمرحلة أوسع، على عكس المشاريع العربية التي كانت تنهار بمقتل قادتها أَو بتغير الظروف الدولية، حَيثُ نجح المشروع القرآني في تحويل رموزه إلى أيقونات نضال تتجاوز الزمان والمكان.
اليوم، تعجز القوى الكبرى عن كسر المشروع القرآني؛ لأَنَّه لا يقبل التفاوض على ثوابته؛ لأَنَّ ما يميزه عن غيره هو فهمه العميق لمعركة الوعي، حَيثُ أدرك أن الصراع مع الهيمنة الغربية ليس على الأرض فقط، بل على شرعية الرواية الحضارية، فالغرب قدم نفسه كحضارة نهائية، والمشروع القرآني رد بإحياء نموذج ديني يثبت قدرة الأُمَّــة على إدارة دولتها بعيدًا عن التبعية، بينما حوَّلت الأنظمة العربية الدين إلى شعارات أَو طقوس فردية، أعاد المشروع القرآني القرآن إلى مركز الحياة كمنهج ودستور حركة.
مشروع لم يؤطر:
قبل عَقدَينِ من الزمن، لم يكن أحد يتوقع أن يقفَ مشروعٌ ناشئ في وجه منظومة دولية تملك أقوى أدوات القمع والسيطرة، ولكن المشروع القرآني، كما أثبتت التجربة، لا يقوم على حسابات القوة التقليدية بل يرتكز على بناء الإنسان الواعي، القادر على مواجهة التحديات بفكر ثاقب وإيمان صلب، لذلك فَــإنَّ أية محاولة لفهم هذا المشروع من خلال عدسات السياسة التقليدية ستخفق في إدراك عمقه وتأثيره.
المثير في تجربة المشروع القرآني هو أنه لم يأتِ من رحم الأنظمة، ولم يُؤطَّر ضمن الأيديولوجيات التقليدية التي أسقطتها الأحداث، إنه مشروع خرج من الناس وإليهم، يتغذى على احتياجاتهم، ويستمد قوته من إيمانهم، لذلك فشلت الولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل” في كسره؛ لأَنَّهم لا يواجهون جيشًا تقليديًّا أَو حركة سياسية عابرة، بل يواجهون حالةَ وعي جماعي راسخة وسدًّا منيعًا من الصمود والإرادَة.
إن هذا المشروع يقدم للأُمَّـة نموذجًا مختلفًا، ليس لأَنَّه تحدى القوى الكبرى فحسب، بل لأَنَّه أثبت أن النصر لا يتطلب أدوات القوة التقليدية، ويمكن لشعب محاصر أن يصنع معادلة جديدة، يمكن لوعي مستمد من القيم القرآنية أن يتحدى أعتى الإمبراطوريات.
اليوم، عندما ننظر إلى المشهد العربي، لا نجد مشروعاً آخر استطاع أن يصمد أمام الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية بهذا الشكل، فالأنظمة التقليدية إما انهارت أَو استسلمت، والمشاريع الأُخرى تلاشت في زحام المصالح الدولية، وحده المشروع القرآني الذي يحمله اليمنيون استطاع أن يقدّم نموذجًا متكاملًا، يجمع بين المقاومة الشعبيّة، والصمود العسكري، والوعي الثقافي.
إن هذا المشروع لم يظهر من فراغ؛ بل جاء لحكمة ربانية على يد شهيد وقائد ينتمي لمدرسة آل البيت كاستجابة تاريخية لواقع متراكم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الأُمَّــة الإسلامية.
والثقافة القرآنية كانت العمود الفقري الذي أسّس عليه هذا المشروع، حَيثُ عمل على بناء وعي جمعي قادر على مواجهة أعقد المعادلات الإقليمية والدولية وبالتالي تحول هذا الوعي من مُجَـرّد أدَاة دفاعية إلى حالة هجومية تسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الشعوب وقوى الاستكبار العالمي.
في النهاية، يمكن القول بثقة إن المشروع القرآني الذي يمثل تجربة فريدة لليمن، أثبت أنه أكثر من مُجَـرّد حركة مقاومة، إنه نموذج متكامل لإعادة بناء الأُمَّــة على أسس الوعي والإيمان، رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة لتضعَ أُسُساً جديدةً لبناء أُمَّـة إسلامية قوية، تمتلكُ استقلالية القرار، وتحملُ رسالةً إنسانية متجاوزة للهُويات الضيقة والانتماءات العابرة.
هذه الرسالة، المستمدة من القرآن الكريم، تعيد للإنسان مكانته المركزية كفاعل ومسؤول عن تغيير واقعه، وتحمل في طياتها قيم العدل والسلام التي غُيبت طويلًا في ظل الهيمنة الاستعمارية والتبعية.
إنه مشروع يتحدى الهيمنة ليس بالسلاح فقط، بل بفكرة، بفهم عميق لمعنى الحرية والكرامة، وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن للأُمَّـة أن تتعلمه من التجربة اليمنية، فالقوة الحقيقية ليست في السلاح، بل في الوعي والإرادَة والانطلاق من القرآن وما يجب أن يفهمه الجميع أنه ليس مشروعًا يمنيًّا بل قرآنيًّا جامعاً، خارطة طريق للأُمَّـة لمواجهة أعداء الإسلام والإنسانية.
ولا سبيل للأمتين العربية والإسلامية للخروج من حالة الانحطاط والذل والخضوع للهيمنة الأمريكية والصهيونية إلا بهذا المشروع القرآني الذي يواصل حمله السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في محاضراته وخطاباته للأُمَّـة، انطلاقاً من مسؤوليته الدينية، وسيأتي اليوم الذي تصدح فيه كُـلّ الأُمَّــة بالصرخة وتتبناها كشعار للمواجهة، فهذه الصرخة التي صدح بها القائد المؤسّس الشهيد حسين الحوثي، وأرادها لتكون مشروع كُـلّ الأُمَّــة وستكون كذلك.
المصدر: المسيرة