الدكتور محمد فيصل محمد يكتب: آيات بيِّنات
تاريخ النشر: 14th, March 2024 GMT
خلق الله الإنسان لغاية عُظمى وهى معرفته سبحانه، ومن سُبل معرفة الخالق التفكرُ فى خلقه وإعمارُ أرضه. ولقد كلف الله الناس مخاطباً مجموعهم فى قوله: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها»، فالمؤمن بالله مكلَّف بأن يعمر الأرض، والأمر بذلك جلىٌّ فى قوله سبحانه: «واستعمركم» أى طلب منكم إعمارها، ومتى توجَّه الإنسان لإعمار الأرض منفرداً أضاع عمره هباء، ووجد جهده سراباً؛ إذ عملُ الطائفة والفريق هو الموصِّل للغاية من أقرب طريق، وهو الهدى الذى لأجله كان الاجتماع البشرى على أساس من القيم التى تزكيها بين الإنسان وأخيه رسالة السماء إلى أهل الأرض، «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ»، وكانت العرب تقول: «المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه»، فبهم يسعد قلبه ويشتد ساعده، ولقد لمح القرآن الكريم فى غير موضع إلى أن أمور دنيا الناس لا تستقيم بمعزل عن منهج الدين الحنيف، ولا سبيل إلى قيام الإنسان بأمر الله فى دينه بمعزل عن الدنيا؛ لذا كان منهج الإسلام الوسط فى تعليم الإنسان التوازن فى عمله بين الدنيا والآخرة، وقد جاء فى الأثر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، فإذا ما دعتك نفسك للعزلة عن الناس وترك العمل فى الدنيا انقطاعاً للآخرة فخاطبها بأن الله امتدح قوماً طلبوا حسنة الله فى الدنيا وحسنته فى الآخرة، وأن السعى فى الدنيا ما هو إلا طلب لرضا الله فى الآخرة، وإذا ما أخذك طلب المال والسعى والكد وشغَلك عن جانب من الدين فخُذ وقفة مع نفسك مخاطباً إياها بأنك قد تموت غداً فماذا أعددت لهذا الغد؟!
التوازن بين العمل فى الدنيا والآخرة منهج واضح فى وصية الذين أوتوا العلم لقارون الذى شغَله المال عن حق الله فيه من شكر نعمته ومعرفة عظيم فضله عز وجل، فيحكى لنا القرآن الكريم ذلك فى قوله سبحانه: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِى فِى سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاً
ثم قال له من يعظه: «وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ».
أى عليك أَنْ تَصْرِفَ الْمَالَ فيما يؤدى بك إلى الجنة، ويتجلى الأمر بالتوازن فى عمل المؤمن بين الدنيا والآخرة فى قولهم له بعد التنبيه على أمر الآخرة: «ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» أى أن الدين لا يمنع من التمتعِ بالمال فيما أحله الله كما يشجع على إنفاق المال فِى طَاعَةِ اللهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ نَصِيبُ الإنسان مِنَ الدُّنْيَا فوق الَّذِى يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ. ثم قَالَ: «وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ»، أى أن فعلك للإحسان ليس تفضلاً إنما هو شكر لله على إحسانه الأول. فلنتعلم من مدرسة القرآن الكريم الموازنة بين عملنا للدنيا وعملنا للآخرة ولنشكر الله على ما أنعم به علينا باستخدامه فيما يرضيه لعلنا نكون من المفلحين.
*عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الأحاديث النبوية الشريفة فى الدنیا الله ف
إقرأ أيضاً:
نقد لمقال فيصل محمد صالح بعنوان: “علامان من حرب السودان – لم ينجح أحد”
أول ما يلفت الانتباه في هذا المقال ليس عمق التحليل أو قوة المنطق، بل ما يختبئ خلف الكلمات من تحيّز فج وموقف ضبابي يتخفى خلف قناع “الحياد الزائف”. الكاتب، المعروف بانتمائه السابق لقوى الحرية والتغيير (قحت)، وهي ذات القوى التي تساهلت تاريخيًا مع تمدد المليشيات داخل الدولة، والتي وقعت معها الاتفاق الإطاري و اتفاق أديس ابابا و غيرها من التحالفات، يحاول في هذا المقال عبثًا أن يوهم القارئ بأنه يتناول الحرب من منظور إنساني عام، بينما في الواقع، يضرب على وتر خبيث وهو: تبرئة المليشيا وتجريم الحرب بحد ذاتها، دون تحميل المعتدي المسؤولية.
*أولاً: الخلط المقصود بين الجلاد والضحية*
الكاتب يزعم أن “الجميع خسر ولم ينجح أحد”، وهو تعميم رخيص وكسول. الحقيقة أن من بدأ الحرب هو المليشيا المتمردة، ومن ارتكب الجرائم الموثقة ضد المدنيين في الخرطوم، وود نورة، والتكينة، والفاشر، هم عناصر “قوات الدعم السريع”، باعتراف المنظمات الدولية. ومع ذلك، يصر الكاتب على مساواة الضحية بالجلاد. هذا ليس فقط تضليلاً إعلاميًا، بل هو تواطؤ أخلاقي فاضح.
*ثانياً: استراتيجية “التذاكي” لتبرئة المليشيا*
في الوقت الذي يعدد فيه الكاتب جرائم المليشيا من هجوم على معسكرات النازحين، إلى قصف الأحياء السكنية، نجده يختم كل فقرة بمراوغة: “الحرب هي السبب”، وكأن الحرب كائن نزل من السماء، لا طرف بدأها، ولا مجرم قادها. هذا أسلوب معروف، هدفه تبرئة الفاعل الحقيقي وطمس معالم الجريمة، بل وشرعنتها.
*ثالثاً: ادعاء حياد كاذب لتبييض صورة المليشيا*
القول بأن “الجيش السوداني أيضاً يرتكب جرائم مثل المليشيا” هو محاولة بائسة لتسويق مقولة مهترئة تجاوزها الوعي الجمعي للشعب السوداني. هذا التكتيك المفضوح أصبح اليوم سُبّة، ودليل دامغ ضد أي كاتب يستخدمه. الفارق بين جيش نظامي يحارب لحماية الدولة، وبين مليشيا نهب وقتل واغتصاب، لا يمكن محوه بعبارات صحفية متذاكية.
*رابعاً: التباكي على الرموز دون إدانة الفاعلين*
حتى حين يذكر مقتل الطبيبة هنادي النور، لا يجرأ الكاتب على تسمية القاتل الحقيقي بوضوح، ولا يحمّل المليشيا المسؤولية. بل يعيد الكرة مرة أخرى ويلجأ للعبارات العامة: “ضحية الحرب”، “الخسائر الإنسانية”، وكأن هنادي سقطت من السماء، لا برصاص معلوم المصدر والنية في جريمة حرب تحرمها القوانين الدولية.
*خامساً: التباكي المبتذل على “الانقسام المجتمعي”*
الكاتب يذرف دموع التماسيح على “تفكك المجتمع”، لكنه يتجاهل أن المليشيا هي من غذّت الخطاب القبلي، واستهدفت مجموعات بعينها بالتصفية والاغتصاب، وهي التي زعزعت أسس التعايش. من الغريب أن مقالاً بهذا الطول لا يحتوي إدانة صريحة لهذه الفظائع، بل يمر عليها بخفة مريبة، وكأنها تفاصيل جانبية.
*خلاصة القول:*
هذا المقال نموذج صريح للحياد الزائف، الذي يستخدم قناع “التحليل الإنساني” لتبييض صفحة المليشيا، وتشويه صورة الجيش السوداني، والتهرب من إدانة المعتدي. إنه خطاب مائع ومشبوه، يتبناه من لم يعد يجرؤ على الوقوف علنًا مع المليشيا، فيلجأ إلى التذاكي، والتعميم، والمراوغة. ومثل هذا الطرح، بعد عامين من المجازر، لم يعد فقط غير مقبول، بل أصبح دليلاً على التواطؤ الأخلاقي مع القتلة.
د. محمد عثمان عوض الله
إنضم لقناة النيلين على واتساب