بثينة وأخواتها في الخرطوم.. الجزيرة نت تروي قصص الموت جوعا والحياة وسط الرصاص والحصار وتكدس الجثث
تاريخ النشر: 24th, July 2023 GMT
الخرطوم- لم يكن بوسع بثينة آدم مغادرة مدينة بحري (شمالي العاصمة الخرطوم) عقب اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني والدعم السريع منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي، لتعيش مواجهة شح المؤن الغذائية، وانقطاع الكهرباء والمياه للشهر الثالث على التوالي.
وفي الوقت الذي آثر فيه بعض سكان الخرطوم البقاء في منازلهم، حالت الظروف الاقتصادية وارتفاع أسعار العقارات في الولايات دون خروج آخرين.
وأدت المعارك المستمرة بين الجيش والدعم السريع -خاصة في المناطق التي تشهد اشتباكات عنيفة بينهما- إلى إغلاق المحلات التجارية وصعوبة الحركة مع الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مناطق تقع تحت سيطرتها.
وتعد بعض مناطق شمالي وجنوبي ووسط الخرطوم وأحياء في مدينة أم درمان من أكثر المناطق التي تشهد معارك بين الطرفين.
ويُقر وزير التنمية الاجتماعية أحمد آدم بخيت بصعوبة إحصاء أعداد العالقين في الخرطوم، لعدم ثبات حركة النازحين منها عند احتدام المعارك.
فجوة غذائية وعقبات أمام المساعدات
وفي حديث للجزيرة نت، دعا أحمد آدم المانحين إلى مضاعفة الجهود لسد الفجوة في المساعدات الإنسانية والصحية، حيث وصل من المساعدات نحو 20 ألف طن من المواد الغذائية والصحية، بينما هناك حاجة لـ300 ألف طن، خاصة مع استحضار المتغيرات في الأشهر الستة المقبلة.
وتعد ولاية الخرطوم -حسب وزير التنمية الاجتماعية- من أكثر المناطق تضررًا بالحرب.
وقال الوزير آدم إن التحدي الأمني ظل يحول دون وصول المساعدات لمستحقيها وأحيانا يتم اعتراضها بواسطة من سماهم متمردي الدعم السريع، بينما تمثل قلة المساعدات تحديا آخر قياسا بالأعداد التي غادرت للولايات، وأعداد المتواجدين في العاصمة.
وأضاف "استطعنا بالتنسيق مع برنامج الغذاء العالمي والهلال الأحمر السوداني إرسال شحنات لمدينة أم درمان عبر حدودها الشمالية مع ولاية نهر النيل".
وعبر التنسيق مع اليونيسيف ولجان الأحياء، تمكنت الوزارة من إرسال مساعدات لمناطق جنوبي الخرطوم عبر حدودها مع ولاية النيل الأبيض.
الموت جوعامن جانبه، قال المتحدث باسم لجان مقاومة الخرطوم فضيل عمر إنهم رصدوا حالتي وفاة من الجوع لامرأتين في الخرطوم، مشيرًا إلى صعوبة الوصول إلى بعض المناطق بسبب المخاطر الأمنية التي قد تتطور لاغتيالات، خاصة بعد ظهور العصابات المسلحة.
وأضاف للجزيرة أن الخرطوم تشهد انعداما تدريجيا في السلع الاستهلاكية مع تضرر شبكات الاتصالات والمياه والكهرباء، كما يؤدي انقطاع الإمدادات الغذائية وعدم وجود ممرات آمنة إلى تفاقم الأوضاع، "وقد نشهد وفاة كثيرين بالجوع إذا استمر الوضع على هذا النحو".
أما منسق الإعلام بالهلال الأحمر هيثم إبراهيم فيصف الوضع بالصعب، في ظل توقف أعمال المواطنين وعدم وجود ممرات إنسانية آمنة واستمرار المعارك.
وقال هيثم -للجزيرة نت- إن جملة المواد الغذائية الموزعة بالخرطوم بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي بلغت حتى الآن 1300 طن، متوقعًا أن تُغطي خطة التوزيع خلال الفترة القادمة أكثر من 40 ألف أسرة.
وضع كارثي
وعن منطقة جنوب الحزام التي تقع تحت مرمى نيران الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع، قال المتحدث باسم غرفة طوارئ جنوب الحزام محمد كندشة إن الوضع الغذائي أشبه بالكارثي، حيث أغلقت معظم المتاجر أبوابها، ويعتمد بعض السكان على مواد تموينية متوفرة لديهم، وأخرى من السوق المركزي، ولا منفذ غذائيا آخر.
وفي حديث للجزيرة نت، أشار كندشة إلى انعدام الحياة في الأحياء الشرقية والغربية في الأزهري، حيث احتلتها قوات الدعم السريع.
ويقول كندشة إن مناطق جنوب الحزام تشهد نقصًا حادا في المواد الغذائية، محذرًا من حدوث مجاعة في المنطقة إذا استمرت هذه الأوضاع شهرًا آخر.
وألقت الحرب بظلالها على القطاع الصحي؛ مما أدى إلى خروج المستشفيات في الخرطوم عن الخدمة، باستثناء 5 مستشفيات تقدم خدمات جراحية.
ويقول سكرتير نقابة أطباء السودان عطية عبد الله إن الإمداد الدوائي انقطع عن المستشفيات وتسرب للسوق السوداء.
وكشف عطية عن تكدس الجثث في المشارح مع انقطاع التيار الكهربائي أياما، وأخرى ما زالت على قارعة الطريق.
وحول إحصاءات أعداد القتلى والمصابين في الخرطوم منذُ بدء الحرب يقول عطية إنه من دون ممرات آمنة لا توجد إحصاءات حقيقية.
العودة للمنازلورغم الأوضاع الأمنية والإنسانية غير المستقرة التي تشهدها بعض مناطق العاصمة، يسود الاستقرار مناطق أخرى، وسط دعوات غير رسمية للمواطنين للعودة إلى أحيائهم.
وقال المتحدث الرسمي باسم الجيش السوداني العميد نبيل عبد الله إن القوات المسلحة لم تطلق دعوات لعودة المواطنين للأحياء "بل هي نداءات في الوسائط من قِبل مجموعات شعبية، وهو أمر جيد لجهة أن التمرد سعى لتهجير المواطنين من أحيائهم وحولها لقواعد عسكرية، كما اتبع سياسة وضع اليد على الممتلكات الخاصة للمواطنين".
وفي حديث للجزيرة نت، يرى عبد الله أن عودة المواطنين تقطع الطريق أمام المتمردين للسيطرة على المنازل ومحاولة التهجير قسرًا.
وتابع "هناك مناطق خالية من المتمردين، في شمالي أم درمان ومحلية كرري، والخرطوم وبحري، وبالتالي ليس هناك مبرر لخروج أصحابها منها".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: للجزیرة نت فی الخرطوم
إقرأ أيضاً:
العمدة صالح كوري: احرص على الموت توهب لك الحياة
العمدة صالح كوري:
احرص على الموت توهب لك الحياة
كتب – عثمان أبوزيد
حدثني الطيب الأمين من ولاية سنار عن مواقف إقدام وثبات لسكان بعض القرى حاربوا بالسهام وقليل من السلاح فاستطاعوا حماية أنفسهم وأموالهم من الجنجويد.
ذلك ما فعله مستنفرون شباب من قبائل الامبررو في جنوب الدندر وجنوب القضارف وجنوب النيل الأزرق، كان لهم دور بطولي في دحر وصد المليشيا المتمردة من الجنجويد والمتعاونين معهم بأسلحة بسيطة ومنها الأسلحة التقليدية الفتاكة.
يقول الطيب:
أذكر كنت في سفر بين الدمازين والكرمك والوقت في بداية الخريف والطرق شبه رملية، يعني العربات يمكنها السير ببطء وكنا من وقت لآخر ننزل من العربة ونمشي محاذين لها على الأقدام. في أثناء سيرنا وبعد منطقة باو وجدنا مجموعة من أبناء الامبررو يلعبون ويتبارون في إطلاق النشاب (السهام) على أشجار مستقيمة يسمونها (الطارايه) شبيهة بأشجار البان في وسط وشمال السودان، ولا تخطئ هذه السهام الأشجار لدقة التصويب فوقفت معهم مداعبا وقللت لهم من شأن هذه السهام، ولكن أحدهم حاول إقناعي بأن هذا السهم يقتل الفيل وقال لي: لو ما مصدق خذ رأس هذا السهم وضعه في لسانك ولم أفهم كلامه في البداية ولكني شاهدت أن هذه السهام موضوعة في جراب مكور وقيل لي إن به مادة قاتلة، ويمكن للسهم أن يقتل الفيل وهنا ضحكوا قليلا وتركتهم. ولحقت بعربتنا التي تترنح بين أشجار الطارايه وأنا أحدث نفسي أن هؤلاء قد حصنوا أنفسهم وأنعامهم من الحرامية والهمباتة.
ويروي حليم عباس قصة العمدة صالح كوري الرجل الذي واجه الدعامة عندما أوغلوا في المنطقة على متن عرباتهم القتالية المدججة بالدوشكا، فأتاهم الموت من حيث لم يحتسبوا… يأتي سهم في عنق سائق التاتشر فيرديه قتيلا دون أن يعرف من أين جاء وكيف؟ فهذا الشيء الذي ينغرز في العنق أو العين أو الرأس ما هو إلا قشة قاتلة.
بعد اجتياح مدينة سنجة ثم الدندر انتشر الجنجويد جنوبا وشرقا وبدأوا في نهب القرى في مناطق الدندر والرهد حتى تخوم ولاية النيل الأزرق دون أن يواجهوا أي قوة عسكرية. منطقة واسعة مفتوحة جنوب وشرق الدندر وعبر الجزء الجنوبي من ولاية القضارف إلى الحدود الأثيوبية. هناك حيث يستطيع الجنجويد أن يعيثوا فسادا دون أن يسمع بهم أحد. ولكن مقاومة العمدة صالح كوري غيرت المعادلة في تلك المنطقة. وجد الجنجويد أنفسهم أمام قوة ربما لم يتوقعوها، تفزع وتهجم وتتسلل وتطارد، وفي النهاية تم طردهم وتطهير المنطقة وتأمينها.
حلة إسمها “دبركي”، دخلها الجنجويد صباحا ونهبوها، بضائع السوق وسوق البهائهم؛ جمعوا البضائع بمهلة واطمئنان في كشك في السوق، وذهبوا إلى جزار وأخذوا منه بهيمة وأتوا بها إلى امرأة لتشويها لهم، فأكلوا ثم طلبوا منها أن تعمل لهم القهوة ولكن أحد المواطنين كان قد اتصل بالعمدة صالح، أفزعنا!
وصلت قوة صغيرة من قوات العمدة وانضم لها مواطنون مسلحين من الحلة وقع اشتباك وشهداء من المواطنين ولكن لم يخرج من الدعامة سوى ثلاثة لاذوا بالفرار.
أخبرني محدثي – والحديث ما يزال لحليم عباس – بأنه في تلك الأيام التي أعقبت سقوط سنجة والسوكي والدندر وقد نزح الآلاف، ومن لم ينزحوا في مناطق الرهد والحواتة بالذات كانوا قد حزموا أمتعتهم استعدادا للنزوح، وكلهم تقريبا نقلوا أموالهم وأسرهم وعرباتهم إلى مناطق أبعد، اتصل عليه أحدهم ليخبره: يازول ود عمكم دا قاطع ماش أم بقرة (يقصد قاطع نهر الرهد بالمركب). فسأله باستغراب واستنكار: ماش أم بقرة يا؛زول ماله ومال أم بقرة عمدة صالح؟ عنده نعجة هناك؟ عنده بقرة؟ عنده بيت؟ عنده شنو؟ قاطع بي جيش؟ قاطع بشنو؟
أجاب الرجل: والله قاطع معاه وليدات كدي ساي وماش.
قال محدثي: اتصلت عليه، عمدة صالح ياخ ما تكمل القبيلة. الناس ديل (يقصد الجنجويد) بتمشي بتهبشهم والله بجو يكملو القبيلة دي. يقصد مهاجمة الجنجويد ستجر الويلات على القبيلة كلها. (خوف منطقي في تلك اللحظات).
رد عمدة صالح: القبيلة خليها تكمل!
بقوة صغيرة راجلة، ثلاثة بنادق والباقي نشابات عبر العمدة صالح نهر الرهد إلى الضفة الأخرى. بلا سيارات وبذخيرة محدودة. في الضفة الأخرى توجد عربات لمواطنين هربوا من الدندر وتركوها لأنهم وجدوا النهر ممتلئا ونجوا بأنفسهم. جاء الدعامة لأخذ العربات ولكنهم وجدوا الموت في انتظارهم، وأنقذت العربات.
هكذا بدأت رحلة مقاومة طويلة للجنجويد من مناطق نائية بعيدة معزولة بظروف الطبيعية والخريف والأمطار والخيران انتهت بمطاردة الجنجويد حتى الدندر وما تزال مستمرة. معارك عديدة دارت في قرى غير معروفة مثل “دبركي”، “أم بقرة”، “عبدالبنات”، “الدليبة”، “منوفلي”، “حلة بلة” وغيرها، وصولا إلى كامراب قرية الجنجويد التي اشتهرت مؤخرا، ليتم تطهير القرية التي أصبحت جنجويدا بأكملها. في كامراب تم قتل وأسر العديد وهرب من هرب.
سعى العمدة نحو الجنجويد بنفسه بقدميه في البداية ثم على ظهر جمل وقاتلهم من على ظهر “تركتر زراعي”. رجل بسيط نحيف البنية يقود مجموعة شباب من أهله بإمكانيات قليلة ليطارد الجنجويد في مناطق لا يملك فيها لا مال ولا بيوت وليس لديه فيها عشيرة. ولم يستنفره أحد؛ مجرد غريزة فطرية ضد ظلم وإجرام الجنجويد. لذلك حظي بشعبية كبيرة في مناطق الرهد والدندر.
بدأ اسمه في الظهور في لحظة بلغ فيها الجنجويد أوج تمددهم بعد جبل مويا ثم سنجة والدندر وبدا أنهم سيزحفون نحو النيل الأزرق وربما القضارف. لحظة وصلت فيها الروح المعنوية للناس في مناطق الرهد والدندر إلى الحضيض؛ هزائم عسكرية ونزوح جماعي هربا من الجنجويد الذين ينتشرون مثل الطاعون، في تلك اللحظات بدأ الناس يسمعون أن رجلا اسمه صالح كوري قاتل الجنجويد في قرية تسمى أم بقرة واستطاع أن يسترد منهم تراكتورات زراعية كانوا قد نهبوها. خبر واحد جيد وسط المآسي والإحباط والخوف، فكرة مقاومة الجنجويد بواسطة مواطنين حتى لو كانوا مسلحين كانت تبدو غير منطقية مع الهزائم التي تعرض لها الجيش. من هنا بدأت قصة العمدة صالح كوري بالنسبة لأهل المنطقة.
في مناطق نفوذه دعا المزارعين للاستمرار في زراعتهم وطلب من سكان القرى عدم النزوح وتعهد بحمايتهم.
كانت تلك هي البداية، بعدها طلب العمدة الفزع بالذخيرة والرجال. طلب المساعدة من أهله ثم من الحكومة في لحظة كان يُمكن للدعم السريع أن يمده بما يريد من سلاح وعتاد وعربات، لو انضم لهم وهم حاولوا معه.
ولكن العمدة مقاتل قديم منذ التسعينيات. وعلاقة العمدة صالح مع الجيش تجددت مرة أخرى تقريبا في العام 2017 للمساعدة في تأمين الشريط الحدودي مع أثيوبيا من جنوب ولاية القضارف إلى النيل الأزرق حيث تنتشر قبائل الفلاتة الرعاة الذين يشكلون حائط صد طبيعي ضد (المليشيات الأثيوبية) الذين يعبرون الحدود في تلك المناطق ليحتلوا المشاريع الزراعية وينهبوا القرى المتاخمة للحدود ويشردوا أهلها. ويبدو أن هناك اتفاق ضمني يسمح الجيش بموجبه للمليشيات التابعة لعمدة صالح بحمل السلاح لتسرح وتمرح في المنطقة في مقابل تأمين الحدود من الأحباش.
استطاع العمدة صالح تكوين قوات هجومية تقدر ببضعة آلاف استطاعت التصدي لإجرام الجنجويد في مناطق واسعة بين الدندر وجنوب ولاية القضارف والنيل الأزرق. خاضت قواته معارك شرسة وكبدت الجنجويد خسائر واحتسبت شهداء. تطورت قواته لتضم قبائل أخرى من العرب الكنانة والمساليت وأولاد الصعيد وغيرهم، ليهبوا لحماية مناطقهم ويتقدموا إلى الدندر وقريبا سنجة ثم ضمن الزحف الكبير لجيوش سنار نحو الجزيرة ومدني.
قوات العمدة صالح حاليا تعمل كقوات عمل خاص تابعة للجيش وتحت إمرته تقاتل بوعي وطني ضمن ملحمة الكرامة التي تجري على امتداد التراب السوداني المترامي الأطراف، وفي كل جزء منه بطولات وتضحيات كلها تؤكد صلابة عود هذه الدولة وأنها لن تنكسر ولن تُهزم.
قصة تستحق التسجيل، فيها العبرة والفكرة لمن يتقاعسون أو ينكصون عن حماية أرضهم وعرضهم.
وقديما قال سيدنا أبوبكر الصديق لخالد بن الوليد رضي الله عنهم: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وقال شاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما…