صحيفة التغيير السودانية:
2024-12-26@04:35:36 GMT

استعادة «صوت السودان»

تاريخ النشر: 14th, March 2024 GMT

استعادة «صوت السودان»

عثمان ميرغني

لم يكن غريباً أن تخرج مظاهرات شعبية عفوية في أمدرمان أو بورتسودان للاحتفال باستعادة الجيش لمقر الإذاعة والتلفزيون الذي سيطرت عليه قوات الدعم السريع 11 شهراً، فأسكتت صوت السودان الذي كان ينطلق من هناك عبر إذاعة أمدرمان وشاشة التلفزيون القومي. استعادة السيطرة على هذا المعلم المهم لم تكن مجرد استعادة مساحة من بضعة آلاف من الأمتار، ومبان ومعدات وأجهزة إرسال، بل كانت نصراً ذا دلالة رمزية كبيرة للغاية لما يمثله مبنى الإذاعة والتلفزيون في وجدان السودانيين وذاكرتهم.

كل من شاهد مقطع الفيديو القصير الذي جرى تداوله على نطاق واسع بين السودانيين، أول من أمس، ويصور مبنى مكتبة أرشيف الإذاعة والتلفزيون الذي لم تصبه أضرار تذكر، أعرب عن فرحة كبيرة ممزوجة بالارتياح بسبب القلق والمخاوف على ذاكرة السودانيين المخزونة في الكم الهائل من الأشرطة المسموعة والمرئية، والتراث الهائل، في هذا الأرشيف. والحديث هنا ليس فقط عن تسجيلات الأغاني، بل أيضاً عن مختلف البرامج والمقابلات على تنوعها، والتوثيق لأحداث ومحطات مهمة في حياة البلد والناس.

معركة استعادة مقر الإذاعة والتلفزيون لم تكن سهلة بأي مقياس، بل كثيرة التعقيدات. فلو أن الجيش استخدم القصف بالطيران والمدفعية الثقيلة لكان قد اتهم بتدمير المبنى بكل ما يحتويه من أرشيف يصعب تعويضه. كذلك كان هناك كلام لم يؤكد رسمياً عن أن قوات الدعم السريع احتفظت بعدد من المعتقلين من الفنيين والعاملين وغيرهم داخل المبنى بوصفهم رهائن، ومحاولة إنقاذهم أحياء لابد أن تكون هماً وهاجساً وعاملاً يؤخذ في الحسبان في أي هجوم على المبنى لتحريره. لهذا اعتمد الجيش سياسة النفس الطويل والحصار للمنطقة تدريجياً خوفاً من خسائر لا يريدها، وهي السياسة التي حققت نجاحاً مشهوداً عندما أجبرت قوات الدعم السريع المتحصنة بالمبنى على محاولة الهرب، فسهلت اصطيادها في كمين محكم أوقع فيها خسائر كبيرة للغاية وثقتها مقاطع الفيديو المنتشرة عن العملية.

خصوم الجيش حاولوا التقليل من أهمية هذا الانتصار بكل السبل، بل وسخروا منه من خلال ترديد كلام من شاكلة إن جيشاً عمره مائة عام يحتفل بتحرير بيت وشارع عرضه 40 متراً، أو بأسئلة من نوع: هل تعادل استعادة مقر الإذاعة والتلفزيون خسارة ولاية كاملة مثل الجزيرة؟

الحقيقة أن هؤلاء يديرون معركة سياسية وحرباً نفسية ولديهم أجندتهم وحساباتهم، وسيواصلون التقليل من أي تقدم يحققه الجيش، بل إنهم يتمنون هزيمته، وإن تظاهروا بغير ذلك.

الجيش كان عليه أن يقاتل لاستعادة مقر الإذاعة والتلفزيون، بينما قوات الدعم السريع لم تستول عليه بمعركة أو حتى بأدنى مستويات القتال. فهي أصلاً كانت موجودة في حراسة المبنى، وفي صبيحة الخامس عشر من أبريل (نيسان) الماضي غيرت فقط من طبيعة وجودها فيه من قوة حراسة إلى قوة احتلال للموقع، وهو ما حدث في العديد من المواقع والمنشآت الحيوية في العاصمة صبيحة ذلك اليوم.

معركة استعادة الإذاعة كانت معركة طويلة، مرت بمراحل مختلفة تطلبت أن يستعيد الجيش خلالها أحياء أمدرمان القديمة، ويؤمن طريق الوصول إلى مقر سلاح المهندسين الذي ظل محاصراً عدة أشهر. وعندما تحققت هذه الأهداف بدأت الخطوة الأخيرة لإحكام الطوق حول مبنى الإذاعة والتلفزيون تمهيداً لاقتحامه، أو إجبار المتحصنين داخله على الخروج منه. الغريب أن بعض الناس حاول الانتقاص من العملية العسكرية بقوله إن الجيش لم يستعد المبنى بالقتال المباشر، وإنما بالاعتماد أساساً على المسيّرات، وكأنما المسيّرات ليست جزءاً أساسياً في استراتيجيات الحروب الحديثة!

ماذا بعد؟

عملية استعادة الإذاعة والتلفزيون على أهميتها لا تشكل سوى خطوة في طريق طويلة من المعارك لاستكمال القليل المتبقي من تحرير أمدرمان، ثم الانطلاق لاستعادة السيطرة على مدينتي الخرطوم وبحري اللتين تدور فيهما معارك يتوقع أن تشتد وتتوسع في قابل الأيام، بالتوازي مع معركة منتظرة أيضاً في إقليم الجزيرة الذي سيطرت عليه قوات الدعم السريع في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ومن يومها يشهد انتهاكات واسعة أقضت مضاجع السودانيين.

من المنظور العسكري فإن استعادة الإذاعة تعني إكمال سيطرة الجيش على المنطقة من قاعدة وادي سيدنا إلى سلاح المهندسين مروراً بأحياء أمدرمان القديمة ومحلية كرري وتأمين الطريق الممتدة على الشريط المتاخم لنهر النيل، ما يسهل حركة القوات ويؤمن طرق الإمداد. فمقر الإذاعة والتلفزيون كان يمثل قاعدة عسكرية مهمة لقوات الدعم السريع، ومستودعاً مهماً للأسلحة والعتاد، ومنه كانت تشن عمليات القصف المدفعي لكثير من أحياء أمدرمان، وبخسارته تكون قد فقدت شرياناً مهماً لعملياتها، وباتت الطريق مفتوحة أمام الجيش لكي ينطلق بهجمات عبر جسري النيل الأبيض والفتيحاب نحو الخرطوم التي ستكون الهدف المقبل مع مدينة بحري. فكل التصريحات والاستعدادات والتحركات تنبئ بأن هذه المعركة باتت وشيكة، وكذلك معركة ولاية الجزيرة.

استعادة مباني الإذاعة والتلفزيون التي تضم أيضاً المسرح القومي، إلى جانب رمزيتها في وجدان السودانيين فإنها تكمل أيضاً خطوات استعادة الحياة في منطقة أمدرمان التي شهدت أخيراً حملة لتنظيف سوقها القديمة وإصلاح خطوط الكهرباء تهيئة لعودة أهلها إليها. فعودة الناس إلى بيوتهم وأحيائهم هي المعنى الحقيقي لعودة الحياة إلى المدينة وإزالة الحزن الذي غلفها وكان بادياً في صمت كثير من الشوارع المهجورة، والبيوت المفتوحة على مصاريعها بعد أن استبيحت ونهبت. ومع هذه العودة سيعود أيضاً «صوت السودان» لينطلق مرة أخرى من مقره أو «الحوش» كما يحلو لمن عملوا فيه تسميته.

الوسومعثمان ميرغني

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: عثمان ميرغني مقر الإذاعة والتلفزیون قوات الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

كنداكة الثورة السودانية تتحدث عن الثورة والانقلاب وانتهاكات الدعم السريع

وتعود كلمة "كنداكة" إلى العهد الكوشي أو ما يعرف بالحضارة النوبية، وهي تعني الملكة أو السيدة الأولى، لكن آلاء صلاح، قالت لبودكاست "ملهمات" إن الكلمة تعني "المقاتلة" أو بمعنى آخر "الأيقونة".

ويمكن القول إن كنداكة الثورة السودانية ليست جديدة على النضال السياسي، فقد شاركت جدتها في حراك 1964، الذي أنهى حكم الفريق إبراهيم عبود، وشاركت والدتها في انتفاضة 1985، التي أطاح الجيش على إثرها بحكم جعفر النميري، فيما شاركت أختها في انتفاضة الطلاب عام 2013 التي خرجت ضد قرار رفع الدعم الحكومي عن الوقود.

وبسبب مشاركتها في الثورة على عمر البشير، فقدت آلاء دراستها بعدما تم فصلها من الجامعة، لكنها التحقت بإحدى الجامعات البريطانية بعد حرمانها من الالتحاق بجامعة محلية.

وظلت آلاء في السودان حتى انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، حيث غادرت خشية التعرض للاعتقال كما حدث لكثيرين ممن شاركوا في الثورة على البشير، وفق قولها.

وتعرضت لتهديد مباشر من قوات الدعم السريع، وتلقت اتصالا من مدير مكتب قائد هذه القوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي طلب منها لقاء سريًّا، لكنها رفضت ذلك بسبب مسؤوليته عن قتل الثوار في اعتصام القيادة العامة وحرقهم واغتصاب بعضهم، حسب قولها.

إعلان

السفر لبريطانيا

بعد ذلك، أصبح تهديد الدعم السريع للشابة صريحا، وقد ذهبوا إلى بيتها أكثر من مرة وحاولوا ترهيب عائلتها جراء رفضها مقابلة حميدتي، الذي قالت إنه كان يحاول الضغط على رموز الثورة لدعم انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، ووصفه بأنه "تصحيح للمسار".

وعندما توجهت قوات الدعم السريع لبيتها قبل انقلاب 2021 بـ3 أيام، قررت آلاء الاختباء عند بعض أقربائها حتى تمكنت من السفر إلى بريطانيا التي كانت ستسافر لها بعد أيام من الانقلاب على كل حال لإكمال دراستها، كما قالت.

وبعد 5 سنوات من الإطاحة بحكم عمر البشير، وما آلت إليه أوضاع السودان، لا تريد صلاح القول إنها تشعر بخيبة أمل، لأن هذا الأمل هو الذي ساعدهم على تحقيق بعض أهداف الثورة -كما تقول- لكنها تعترف بأنها ليست سعيدة بينما السودان يعيش حالة من القتل والاغتصاب والانتهاكات التي لا تتوقف، وفق تعبيرها.

وشاركت المرأة بشكل كبير بالثورة على نظام البشير في ديسمبر/كانون الأول 2018، رغم القيود الكبيرة التي كانت مفروضة عليها في ذلك الوقت، وكانت كل واحدة منهن تقوم بما تجيد القيام به سواء كان التصوير أو مخاطبة الجماهير أو الرأي العام أو إسعاف الجرحى أو إعداد الطعام والشراب، كما تقول صلاح.

وبعد أن كان السودانيون يحلمون بالديمقراطية وتداول السلطة، "أصبحوا اليوم يعيشون قمعا وتهجيرا وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان على يد قوات الدعم السريع التي تقاتل منذ عامين ضد قوات الجيش"، حسب كنداكة الثورة.

وإلى جانب الانتهاكات، يعيش السودانيون مجاعة فعلية وتراجعا حادا في الخدمات الصحية وقتلا خارج القانون فيما توزع "شباب الثورة" بين جائع ونازح وهارب، حسب وصف صلاح.

أما من نجحوا في الخروج إلى دول أكثر أمنا، تضيف صلاح، فيعملون على توثيق ما يتعرض له الناس من انتهاكات وجرائم وتعريف العالم بها من خلال مواقع التواصل، لكنّ مَن هم بالداخل يجدون صعوبة كبيرة في إيصال ما يتم توثيقه للخارج بسبب توقف الإنترنت.

إعلان

بيد أنه في ظل حالة الفقر المدقع والحاجة الشديدة وانهيار الخدمات وتفشي الخوف، أصبحت غالبية النشطاء مشغولين بعائلاتهم وجيرانهم وزملائهم أكثر من انشغالهم بمحاولة إحياء الثورة التي لم تعد سهلة أبدا في ظل ما وصلت إليه البلاد من استحكام للقوة، برأي صلاح.

ومع ذلك، فإن الشباب قادرون على إحداث التغيير لكنهم بحاجة للحد الأدنى من الظروف التي قد تساعد على تحويل مسار البلاد من الحرب إلى السلم الأهلي، وهو مسار تقول صلاح إنه "صعب جدا".

24/12/2024

مقالات مشابهة

  • تقدم الجيش السوداني في دارفور هل يغير معادلات الحرب في السودان؟ ؟
  • اشتباكات عنيفة بين الجيش والدعم السريع بالخرطوم ودارفور
  • الحركة الشعبية والدعم السريع- رؤى متضاربة وصراع المصير
  • الجيش السوداني والقوة المشتركة تستردان مناطق جديدة من الدعم السريع والإستيلاء على مخزون ذخائر وأسلحة ومركبات قتالية
  • كنداكة الثورة السودانية تتحدث عن الثورة والانقلاب وانتهاكات الدعم السريع
  • الجيش السوداني يعلن مقتل العشرات من «قوات الدعم السريع»
  • النائب العام : سنصدر أحكام غيابية لمتهمين يتبعون لمليشيا الدعم السريع متواجدين في ( 6) دول
  • البرهان يطالب الأمم المتحدة بموقف حاسم حيال الدول المساندة لـ الدعم السريع
  • السودان..« قوات الدعم السريع» تسيطر على قاعدة عسكرية في دارفور
  • استعادة الجيش قاعدة الزُرق بدارفور تحول إستراتيجي بالحرب