بتجرد:
2025-02-12@08:03:25 GMT

The Zone Of Interest.. التاريخ لن يُنصف الوحوش

تاريخ النشر: 14th, March 2024 GMT

The Zone Of Interest.. التاريخ لن يُنصف الوحوش

متابعة بتجــرد: في نهاية فيلم The Zone Of Interest، وبينما يهبط المسؤول النازي “رودلف هوس” سلماً طويلاً كأنما يهبط على قبو التاريخ، تنتابه غصة عابرة، فيتوقف لوهلة ويشرد بعينيه، في لحظة تبصر دخيلة على عمى الضمير، الذي يرقد بين جنباته، فيري المتحف الذي أقيم بعد نصف قرن داخل معسكر الاعتقال النازي بأوشفيتز/بولندا والذي كان يديره لسنوات، ويقيم هو وأسرته في الفيلا الأنيقة المزدانة بالطبيعة، ورماد المحارق التي تبعث دخانها البشري ليل نهار.

اللقطات التي تبدو تسجيلية حية ودخيلة على روائية الفيلم وزمنه، تنتقل فيها الكاميرا بين ممرات المتحف حيث أفران الغاز وتلال الأحذية والأطراف الصناعة والعكاكيز والملابس الخاصة بالمعتقلين، الذي يقال أنهم شهدوا ساعاتهم الأخيرة في فوهة الجحيم النازية.

ثم يعود بنا السرد إلى “هوس” هابطاً الدرج نحو ظلمة الأسفل، وكأن ما رأه في لحظة التبصر لا يعنيه، وكأن الفيلم ينتقم منه بأن يجعله يرى بعينيه أن التاريخ سوف يمجد الضحايا ويخسف سير الجلاد، أصبحت المشنقة التي أعدم عليها هوس في أوشفيتز مزارا لكارهي النازية.

هذه اللقطات تحدد علاقة الفيلم بالحاضر بصورة قوية ومؤثرة، حتى ولو لم يقصدها صناع العمل، الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي هذا العام، فمن بين المنافسين الستة استطاع The Zone Of Interest تجاوزهم في تصويت أعضاء الاكاديمية، لأسباب قد تتأرجح ما بين كون الفيلم يتحدث عن الموضوع الأوربي والأميريكي المفضل (الهولوكوست)، خاصة في ظل حرب السابع من أكتوبر، وكأن المصوتين أرادوا أن يذكروا العالم بما يدعي اليهود أنهم تعرضوا له من (إبادة)، إبان الحرب العالمية وحكم النازي، وإما على النقيض تماماً؛ حيث يشعرنا الفيلم بمدى فداحة ما نعيشه من أهوال الإبادة الحقيقية، التي يتعرض لها شعب أعزل على يد أحفاد (الناجين من المحرقة).

يعيد الفيلم طرح السؤال الذي يراود كل من ترهقه مشاهد الحرب على غزة طوال الشهور الماضية، هل هؤلاء الذين يقدمون على حرق الأطفال وإذابة الأعضاء وإفناء اسر بأكملها هم بشر عاديون؟ يملكون قلوباً وضمائر وحد أدني من المشاعر الإنسانية؟.

هذا السؤال الذي طالما تاجر به اليهود واللوبيات الصهيونية، منذ منتصف الأربعينيات مع نهاية الحرب وحتى الآن، مستغلين دعاوى معسكرات الاعتقال،  وشهادات من يقال عنهم ناجين منها لاستدرار عطف العالم ومباركته، لما فعلوه بعد سنوات قليلة في فلسطين تحت دعاوى (التحرير) و(الوعد الإلهي).

يبدأ The Zone Of Interest بشاشة سوداء تستمر لدقائق، بينما شريط الصوت يقدم لحنا جنائزياً معزوفاً على حناجر كورال حزين، ثم يفتتح الفيلم مشهده الأول بلقطة للجنة، حيث عائلة “آريه” أنيقة وسعيدة تقضي يوماً صيفياً جميلاً على ضفاف نهر ساحر في بقعة سخية الجمال، ثم تدريجياً نتعرف على تفاصيلهم اليومية، وتفاعلهم الأسري الممتع والحميمي في منزلهم الرائع الذي تغمره الشمس، وتقوم على نظافته عدة فتيات نحيلات يتقنّ كل شيء، قبل أن ندرك أننا في منزل الضابط النازي الشهير رودلف هوس وأسرته، وأننا على مشارف معتقل أوشفتيز (سيئ السمعة)، الذي يديره “هوس” ببراعة ملفتة لنظر قادته من كبار النازيين.

يلعب السيناريو على سؤال العادية بشكل ضاغط، متخذاً من الميلودراما الاجتماعية قناعاً له، فهوس يبدو مثل أي موظف يتولى منصباً إدارياً مرموقاً، يمنحه امتيازات مادية ومعنوية معتبرة، ولولا بذلته الرمادية، لما أدركنا أنه يدير واحد من أكثر الأماكن التي يلطخ الدم سيرتها الملتبسة.

حتى أن اجتماعه مع مجموعة العمل التي ترتيب لتفاصيل المحارق التقنية، وكيفية تبريد أفران الإبادة، يبدو وكأنه اجتماع لمدير في شركة تجارية مع مرؤوسيه حول مشروع جديد، وليس للموافقة على تصميم غرف تصلح لقتل آلاف البشر يوميا بصورة عاجلة.

يبدو “هوس” عادياً مع أسرته، أب محب وحنون وراق، وزوج لطيف ومداعب، يمنح زوجته الحرية في تنسيق البيت وزراعة الحديقة على ذوقها، موفراً لها السماد العضوي من (رماد المحرقة)، لتغذية الأرض بالمواد الغنية المطلوبة لنمو الأشجار وفيرة الظل والثمار، بل أنه في مقابل إشرافه اليومي على الجحيم الاصطناعي – كما نرى في لقطة واحدة عندما نسمع أصوات عذابات مرعبة بينما يقف “هوس” محاطاً بدخان كثيف من المفترض أنه من أثر حرق المعتقلين أحياء- في مقابل هذا التفاني في إحراق البشر، نراه يصدر مذكرة طويلة حول أهمية مراعاة الجنود لزهور الليلك، كي لا يفسدوا شجيراتها التي من المفترض أنها تزين فيلا القائد، وإلا تعرضوا للعقاب، فالزهور هشة وتحتاج إلى فهم حقيقي في التعامل معها كي لا تضيع وتسقط في النهر ميتة.

إلى جانب فوزه بجائزة أفضل فيلم أجنبي فاز The Zone Of Interest بأوسكار أفضل تصميم صوت، وهو التصميم المعتمد على ما يمكن أن نطلق عليه رعب الصوت، يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون أن الأذن أعمق تخيلاً من العين، فحين ترى قطاراً فأنت ترى قطاراً ولكن صفير قاطرة واحدة يستدعي إلى الذهن محطات بأكملها.

هكذا يراهن السرد على أن يقدم شريط الصوت جرعة الخوف والتوتر والشعور بالأهوال، التي يلاقيها المعتقلين خلف أسوار جهنم النازي، تصلنا الأصوات عبر مسامع الأسرة التي تعيش لصق المعتقل، لكنها تتعامل معها على اعتبار أنها جزء من البيئة الصوتية للمكان، مثل خرير الماء وزقزقة العصافير وحفيف الشجر ورقصات العشب.

حتى عندما يقترب الصوت حد أن نوشك على أن نرى ما يحدث، فإن أحد أبناء “هوس” يلقي نظرة سريعة من نافذته على المطاردة التي يسمعها والتي تنتهي بأن يتم إغراق الهارب، ثم يعود للعب وكأن ما رآه مسألة عادية، مما يعني أنه حين يكر سوف يصبح هو الآخر موظفاً كأبيه، يمارس فعل الإبادة كمهنة تقليدية لا تستدعي القلق أو الشعور بالذنب، الغريب أن هذا الشعور ورثه الصهاينة فيما بعد من النازيين ،رغم بكائهم على ضحايا المحرقة المزعومين الذين شكلوا نقطة انطلاقهم نحو احتلال فلسطين.

تكمن قوة The Zone Of Interest في اللعب الصريح على المتناقضات الظاهرة والمخفية، ففي خلفية الكثير من المشاهد المتخمة بالخضرة والفرح العائلي، ثمة مداخن الأفران العالية التي تنفث الدخان الصاعد من المحارق، وحين تغيب الصورة يحضر الصوت بقلقه المستمر وأصدائه المخيفة، وبينما يقرأ “هوس” لبناته من كتب حكايات ما قبل النوم بصوته الأبوي الرخيم، نرى حكاية مصورة كأنها معروضة على شريط نيجاتيف، حول فتاة من سكان المنطقة تقوم بإخفاء ثمار التفاح في طين الخنادق التي يحفرها المعتقلين، أو خلف المعاول التي يزيحون بها رماد زملائهم، عقب إفراغ الأفران كل ليلة، ونفهم منها أنها تهرب لهم الطعام لأنهم حسب الرواية اليهودية لم يكونوا يتناولون سوى الحساء الخفيف والخضار الفاسد حتى يموتوا جوعاً.

يشتغل السرد على رعب الصوت من ناحية، وعلى التناقض بين الصوت الصورة من ناحية أخرى، وذلك بميزان انفعالي منضبط، ودون ابتذال للأسلوب أو مبالغة تحيل السياق إلى حالة من التعود أو النمطية، بل يظل محافظاً على ظهور الصوت في أوقات بعينها، كي يحيل سمع المتلقي إلى الحالة الجهنمية التي يعيشها جيران العائلة المنمقة الجميلة.

يقدم لنا الفيلم في النهاية خلاصة الأزمة الوجودية، التي صارت شخصية “هوس” تعيشها دون أن يدري، ففي الحفل الفخم الذي يتم فيه إعلانه أنه ترقى وانتقل إلى منطقة عمل جديدة، نراه لا يفكر سوى بسؤال واحد يشاطره مع زوجته في مكالمتهم الهاتفية: كيف يمكن قتل كل من في بهو الحفل بالغاز مع وجود هذا السقف العالي الذي يمنع إتمام العملية على أكمل وجه؟

لقد تحول رأس هوس إلى غرفة غاز ضخمة، ترغب في إبادة الجميع أيا كانت هويتهم، وسواء كانوا أعداء أو قادة، لقد مات الإنسان في داخله ولم يبق سوى موظف القتل النشيط والفعال، هذا الوحش الذي يمارس الإبادة بهمة واتقان، تماما مثل كل الوحوش السابقين والحاليين، والذين سوف يهبطون ذات يوم إلى قبو التاريخ مثلما هبط “هوس” في النهاية تاركا بقايا ضحاياه محفوظة خلف فتارين الذاكرة. 

main 2024-03-14 Bitajarod

المصدر: بتجرد

كلمات دلالية: The Zone Of Interest

إقرأ أيضاً:

أريج التاريخ.. إلى عِبري

 

سالم بن محمد بن أحمد العبري

 

وتُلِحَّ الذكريات على نفسي، واستضوع العطر من أريج التاريخ الذي مضى بحلوه ومُرّه.. والآن أتذكّر ما فعله الشيخ الشاعر الأمير صقر بن سلطان بن سالم القاسمي بالشارقة حين توفي والده الحاكم فقدَّم عمه الشيخ محمد سالم، وذهب إليه مؤكدا أحقيته في الحكم وإنه مؤل للأمر، وربَّما أخذه تصوَّره هذا لكونه قد تعلّم ونهل من معين المعرفة، وصار شاعرا مجيدا مُنذ شبابه، وهذا ما توكده قصائده الأولى، والتي نتذكر منها قصيدته التي ألقاها بين يدي والده وفي حضرة الشيخ سليمان بن حمير وعنوانها (وطن منبت الكرام)، وهي معارضة شعرية لسينيّة البحتري التي يستهلّها بقوله: (صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي/وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ)، ويبدو لي أن عمَّه كان من الزهد والترفع والتقدير ما جعله لا يَشقُّ الأمر في بيت مشيخة القواسم ويقوّض الإمارة. يقول الشيخ صقر القاسمي:

نَحِّ عني المدام تفديك نفسي

فمدامي أضحى عصارة حسي

///
وكسر الجام والدنان فإني

مفرغا حبها بآخر كأس

///
إن نفسي تعذبت في بقاها

أمن الحق أن تداوى برجس

///
يا ابن ودي دع عنك لومي فإني

مولع القلب يا ابن ودي فأسي

///
دهمتني حوادث الدهر حتى

لذ لي من عذابها سكن رمسي

///
يا لها من حوادث شيبتني

في شبابي وزعزعت ركن آنسي

///
والليالي مهما تكر ففيها

يا ابن ودي للمرء أعظم درس

إنّ موقف الشيخ صقر القاسمي يذكرني بما فعله حمد بن مهنا الذي استفز الداخل والخارج واستغل حوادث ليست بتلك الأمية، وليست مستعصية على الحل، ولم يكن العلامة شقيق الشيخ إبراهيم العبري في حكمة وشجاعة الشيخ القاسمي فيجمع أهله وكبار جماعته ويقول لهم هذا أخي حمد يطلب الأمر فقدموه وأنا أكون حكما ومرشدا وقاضيا.

لكن سبق السيف العدل، فقد تمكن المتقوِّلون والمنتفعون والقبائليون من إثارة الفتنة في محيط العبريين، ومحيط الإمام الخليلي ونزوى بل عُمان كلها ضد العلامة الشيخ إبراهيم بن سعيد بن محسن العبري يتقدمهم أخوه من أمه (حمد بن مهنا بن حمد بن محسن العبري)؛ فجمع الإمام الخليليّ أمره ونزل على رغبة كل أولئك، وجمَّعَ أفرادا من القبائل من داخلية عُمان والشرقية والظاهرة وربما من بعض الولايات التي تخضع لسلطنة مسقط الذين قد يتحركون بدوافع الشحن والتقوّل والنقل غير الفاهم والفاحص لما وراء الأكمة من خفايا ومتأثرين ببعض العبريين الذين يصطادون في الماء العكر أو تحركهم بعض المنافع والدوافع الخفيّة، ويركبون كل زفة، مستغلين غياب الحقائق عما جرى في (الحمراء)؛ فالعقلاء كثيرًا لا يجدون من يصغي لقولهم فتسود الرغبات الصغيرة والمنافع الضيقة ويتبعهم كل ناعق؛ لكن العبريين ربَّما لهم السبق في هكذا حالة فلم ينجُ فصل من فصول تاريخ أي فترة إلا وُجدت مثل هذه الحالة التي اُفْتُعِلَت أثناء ترأس العلامة الشيخ إبراهيم بن سعيد بن محسن العبري لزعامة قبيلة العبريين بعد وفاة ابن عمه الشيخ مهنا بن حمد بن محسن الذى كان له بمثابة أخ ومُربّ بعد وفاة أبويهما (حمد وسعيد) ابني محسن بن زهران في سنة ١٣١٧ بسبب مرض (الكوليرا)؛ فتزوج مهنا أم إبراهيم بن سعيد (موزة بنت حميد) فولدت له ولديه حمدا وعليا؛ وحمد هو من ترأس الفتنة والقائل بأنه الأحق بأن يرث زعامة أبيه وأنّ على العبريين إسناد الزعامة له حتى وإن لم يكن يقع عليه الاختيار. وفي هذا الحين كان في مطلع العشرين من شبابه، لكن سوّلت له نفسه اعتلاء مشيخة العبريين وتزعمهم.

لقد وضع الصراع على زعامة العبريين الإمام الخليلي تحت ضغط سياسيّ، وهو لم ينسى أن العلامة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري هو من مدّ يده بمبايعته إمامًا حين استقرّ رأي أهل الحلّ والعقد بجامع نزوى خلفا للإمام سالم بن راشد الخروصي (ت: 1338هـ) بُعيد اغتياله ليلا في منامه بـ(خضراء بني دفاع) على الطريق المؤدي بين (إزكي) و(المضيبي)؛ غير أنّ الإمام الخليل تحت ضغط الصراع توجّه إلى الحمراء وخلع العلامة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري من زعامة القبيلة، وقدّم قائد حركة التمّرد حمد بن مهنا بن حمد بن محسن العبري وذلك لتهدأ البلد والقبيلة لشهور ثم تبيّن لهم بعدها أنّهم استبدلوا الذي هو خير بالذي هو أدنى؛ فنسمع حمود بن سعيد العبري أحد حاملي مشاعل التمرد وصهر زعيم العبريين حمد بن مهنا، يقول: (زادنا حمد بن مهنا سُدس أرز فمشين معه، أمَّا العلامة إبراهيم بن سعيد فهو الشيخ والزعيم)، ونسمع أيضا ما قاله عم الزعيم الجديد الشيخ محمد بن حمد بن محسن، وقد استدعاه الإمام الخليليّ ليوليه زعامة العبريين بدلا من (حمد)؛ فيجيب (لا نخالف أمرك يا إمام، أمّا الشيخ والزعيم الأولى بالرئاسة فهو العلامة إبراهيم بن سعيد أمّا نحن فلا نكاد نكتب أسماءنا)، ولم يكد الشيخ محمد بن حمد يشرع في منصبه حتى استغل مشعلو الفتن حربا بـ(وادي السحتن) بدخولهم الخضراء والاستيلاء عليها لسوء فَهْمٍ يمكن حلُّه؛ ولكن جَدّي كان يكرر على مسامعنا (محل الحرب للنظارة)، ثم يأتي العلامة إبراهيم بن سعيد العبري من (صحار)؛ حيث كان قاضيا بها من قِبَل السلطان سعيد بن تيمور فينصح بردِّ (الخضراء) لأهلها امتثالا للحق ورد الجميل للجار؛ لكن مشعلو الفتن صار صوتهم أعلى من صوت العقل والعلم والإصلاح. يقول لي (حمدان بن حميد الخاطري): صلينا الفجر مع الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري فلما انتهى، شرع يصلي على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ثم دعا. قال اليوم (لبني غافر) فإن ظفروا كانت الحرب لهم وإن لم يكن فالأيام التالية ليست لهم. فلم تستكمل الشمس شروقها إلا وقد أخرجوا من الخضراء تحت وطأة شدة القتل لسبعين رجلا، كما يقال، وأصيب الشيخ المهزوم وتحولت الألسن الحِداد التي روَّجت للحرب تحمله المسؤولية فأصابه حزن شديد كان سببا في وفاته وتحمَّل أولاده حملا شديدا ما كانوا يوما سببًا فيه، وظلت الألسن ما تتذكّر اسمه إلا وقد سردوا تلك القصة.

فلمّا تقدم سعيد بن مهنا ولم يكد يتهيأ لأمره حتى انقلبوا عليه وخلعوه بعد ستة أشهر لسبب غير موضوعيّ رغم أنه قد يكون الأنسب، وظل المتابعون من الخارج يتمثلون بما يفعله العبريون ولم يفطنوا أن هذا الأمر (ظاهره الرحمة وباطنه العذاب).

ثم يرسل الإمام الخليلي حاجبيه العشماني والراشدي ليستجليا الأمر. وفي هذا يقول لي المكرم بدر بن سالم بن هلال العبري: كنتُ مرافقا لهما -للحاجبين- وكانت الحمراء خصبة جدا وكنا نذهب لفترة الراحة في أوقات خارج الجلسات المعتادة إلى (المطاريح) عند (النطالة) فكانا يذكران بالمدح من يضيفهم ويتبرمان ممن لا يقابلهما بالضيافة والكرم، فقدَّموا للمشيخة (علي بن مهنا)، وربما آبائي هم من تبرّموا منه، ومؤكدين أن سبب طلبهم لاستبداله كونه مشغولا بتجارته، وقد يبالغون في قولهم فيه ويصفون معاملاته بالربا وذلك تمهيدا لتزكية الوالد (عبد بن مهنا).

إذن.. وقد غصت طرقات الحمراء بالرجال الذين لم تألفهم من قبل، إنهم وجوه مثلت خلق الله وتصاويره وألوانه واحتبست النساء بالبيوت تشرف من نوافذها على الغادي والرائح والمبتسم والمقفهر وتذبح الذبائح احتفاء بالإمام وكان الحمراء مدينة عكا حل بها أغراب مستجلَبون، ولعلَّ نفر ممن كان في الجمع أحس بشبه المقارنة لكن دفع الناس بعضهم ببعض وضبط الأمر وأعاده لنصابه؛ فإذا بالشيخ الحميري ينزل ببيت الشيخ ناصر بن سالم بن بدر بن محمد بن زهران فحال عن هدمه كما تمنى البعض من داخل الحمراء والبعض ممن احتشدوا وأقسموا. وهل الشيخ سليمان فعل ذلك بفطنته ومراعاة وحفظ الجميل؟ أم مبارك بن بدر النبهاني جد الشيخ ناصر طلب منه ذلك التصرف الذي حول الدخول إلى مرور عابر والجيش آكل جله خبزا وتمرا وشربا من فلج الحمراء أول مرة، أما الإمام والمشايخ فقد ضيفوا من كل الأعيان حتى إن الوالد الشيخ محمد بن مهنا قد باع ربع أثر ماء من آثاره التي ورثها عن أبيه ليكون في مقدمة الكرماء بينما بعض الأغنياء في حينها بالحمراء أبوا أن يتقدّم للاستضافة كما فعل ابن مهنا رغم إصرار البعض من أولاده، ولم أتبين حينها إن كان جدي قد ضايفهم أم هم ظلوا في موقع المتربص ينظرون إلى أين ستمرُّ القاصمة التي هو في هوجها فالعلامة إبراهيم بن سعيد العبري انحاز لوادي السحتن، ثم إلى السلطان سعيد بن تيمور الذى وجد في أفعال نزوى كهذه فرصة لتأليف الرجال والقادة حوله فيحتضنهم.

أما مشايخ بني مهنا وعلى رأسهم الشيخ علي بن هلال فرأوا في فعل الشيخ سليمان تصرفا ضبطَ الأمر وأهجع فريق العبريين المناوئ للعلامة إبراهيم فأبوا من خشي بعض أموال أولاد محسن بن زهران وأبروا قسم الغلاة والمُصرّين بأن خشيت نخلة واحدة من قطعة نخيل بالنطالة كانت ملكا للوالد عبدالله بن مهنا.

وعاد الإمام وقد عمدت أرجل المارين والمتقاضين والمستأذنين إلى بيت الشريعة أي بيت الشيخ حمد بن مهنا وقد تحقق له ما طلب وسعى، لكن الأمر لم يعمر معه فما هي إلا شهور ويأتي راشد بن سليمان من نزوى حاملا أمتعة للسوق ويأتي ببروة لخلع حمد وتقديم عمه محمد كما أشرنا سابقا وصدقت نبوءة مرهون بن راشد الخاطري حين قال مازحا لشيخهم حمدا: (العلامة إبراهيم الذي أتت عُمان كلها لخلعه أما أنت فأنت ستأتي بروة مع رشود لخلعك)، فلما بلغته الرسالة قال لعن الله مرهون).

مقالات مشابهة

  • أريج التاريخ.. إلى عِبري
  • روبيو: الوحيد الذي قال إنه سيساعد غزة هو ترامب
  • (من الذي يطلق النار على اقدامه ؟)
  • في «البيت» الذي ينكأ الجراحات القديمة
  • فنوش: خلق سلطة مسؤولة أمر ضروري لمواجهة الفناء الذي ينتظرنا
  • ما الذي تغيّر بين الأمس واليوم؟
  • ما الذي دعا البرهان إلى بعث أسئلة السياسة والحرب قائمة؟
  • ‫بحة الصوت قد تنذر بهذه الأمراض
  • الكشف عن أبرز البنود التي تحوي المشروع الوطني الذي قدمته القوى السياسية
  • نتساريم.. محور الموت الذي خطف أرواح أهل غزة