حرب دارفور الثانية.. هل يمكن تجنب الكارثة؟
تاريخ النشر: 24th, July 2023 GMT
أصبح من المألوف أن تشاهد رتلا من السيارات تتجه غربا محملة بما يعرف بالغنائم، وأغلب هذه الأموال والمقتنيات لا تعدو أن تكون معظمها سوى ممتلكات مواطنين أجبرتهم حرب المئة يوم الدائرة رحاها بالخرطوم على مغادرة بيوتهم فرارا منها.
هذه الأموال ستكون عاملا حاسما في الجولة الثانية من الحرب، ومن المتوقع بشكل كبير أن يكون مسرحها دارفور.
وحدها الحكومة من تدعو في سرها لا جهرها أن تنتقل يوميات الصراع إلى هناك بعيدا عن الخرطوم. اعتادت الخرطوم التعايش مع حركات التمرد الطرفية في السنوات التي تلت استقلال السودان في عام 1956، حيث لم تشكل أي من هذه الحركات تحديا وجوديا لحكومة الخرطوم في التعامل معها وضبطها في الوقت المناسب، ولذا فانتقال الصراع إلى هناك هو أمل الحكومة.
يجب أن نطرح السؤال المهم: ماذا لو خسر الدعم السريع معارك الخرطوم؟ هنا سينفرط عقد الضبط والربط عند هذه القوات وستتحول إلى مليشيات غاضبة.
تمارين بالذخيرة الحيةبانتقال الحرب إلى دارفور تنتقل الحرب إلى منطقة مختلفة تمامًا، منطقة الجزاء بلغة كرة القدم، أي خطأ تكلفته قاتلة. قوات الدعم السريع التي تقاتل ضد الجيش السوداني تتكون في أغلبها من قبائل عربية تمكّن قائد قوات الدعم السريع من حشدها في حرب بلا غبينة، بل اجتهد عرابو الدعم السريع في إيجاد إحداثيات جديدة لشرعنة هذه الحرب واستيلاد الدافع المعنوي الذي يمكّنهم من ذلك، تارة بترويج أنها حرب على فلول النظام السابق من الإسلاميين، رغم أن الفريق حميدتي في الأساس هو أحد منتوجات حكومة "الكيزان" (الإخوان)، إذ إن 9 من أصل 10 أنجم تزين كتف محمد حمدان حميدتي كانت منحة من الرئيس المعزول عمر البشير.
وعليه، فالحديث عن دولة ما بعد الاستقلال التي همشت الهامش لا يجد سوقًا بين القوة الاجتماعية المناصرة لحميدتي، فاحتكار السلطة أكثر بروزًا في قوات الدعم السريع.
دارفور أرض المعركة القادمةكل السيناريوهات تشير إلى أن الجولة الثانية من الحرب ستكون في دارفور، وإن لم ينتبه العالم أجمع ويوقف ذلك بأي شكل ستكون كارثة تفوق الوصف والتوقعات. إن انتصر الدعم السريع وتمكن من الاستيلاء على الدولة وما فيها سترتفع سقوف الأحلام بما يتجاوز أرض السودان. لكن قبل أن تصل رايات الدعم السريع إلى دول الجوار، بخاصة تشاد، سيكون عليه أن يخوض معارك ضد القبائل الأفريقية، حيث الثأر حاضر بين قبائل كثيرة اقتتلت في الماضي لأسباب لا تتجاوز العراك على شاحن أو هاتف أو سيارة، هناك حيث التنافس على الأرض بين المزارعين والتعالي العنصري بين الجميع، وكلٌّ يرى في الآخر كافة المناقص.
القبائل الأفريقية ترى في عرب البادية ضيفًا ثقيلًا عابرا من وراء الحدود يريد أن يشاركهم في الأراضي الزراعية المعروفة بالحواكير، بينما تظن القبائل العربية نفسها أنها تسمو بنسبها وأصلها العربي على ما سواها. هنا تتحول مكاسب الخرطوم في الحرب الجديدة القديمة في دارفور، وستتحرك المليشيات العربية مدفوعة بالزهو وآليات الدولة في معاركها الجديدة.
السيناريوهات الداميةيبقى أن نطرح السؤال المهم وهو: ماذا لو خسر الدعم السريع معارك الخرطوم؟ هنا سينفرط عقد الضبط والربط عند هذه القوات وستتحول إلى مليشيات غاضبة وتمتلك أدوات مادية أفضل بجانب تدريب ساخن، ويُسخّر كل ذلك في حرب جديدة وغير محسومة في دارفور.
الانسحاب نحو دارفور لن يكون نزهة، فمعظم الحركات المسلحة في دارفور لم تقابل العناصر المهزومة بالزهور وستخرج من حالة الحياد الكاذب في هذه الحرب.
والحقيقة المجردة أن حركة التحرير والعدل بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مني مناوي تناصران الجيش سرا، أما المجلس الانتقالي وحركة الطاهر حجر فتنسجان خيوطًا واهية من التواصل مع قوات الدعم السريع.
هذه الخطوط لن تصمد حين تُقرع طبول الحرب القبلية، فكل هذه الحركات تعدّ ممثلًا للقبائل الأفريقية أو تدّعي ذلك على وجه الدقة. وستحاول هذه الحركات أن تأخذ نصيبها من غنائم حرب الخرطوم كما ستعيد القبائل الأفريقية تموضعها لمواجهة جيش جرار ومفترس وقابل للاستفزاز إن لم تواجهه سيلتهمها بالكامل.
بوادر هذه المواجهة هو ما حدث في مدينة الجنينة من قتل جماعي لقبيلة المساليت قامت به المليشيات العربية المنتشية بما يحدث في الخرطوم، أو خطة المدافعة الحذرة التي يتبناها مني أركو مناوي في مدينة الفاشر والتي يمكن أن تكون شرارة الحرب القادمة.
الوحدة ضد المركزهناك سيناريو آخر ينظر إليه بعض قادة الدعم السريع يتوجس منه قادة الحركات المسلحة ومن ورائهم القبائل الأفريقية. بدأ هذا السيناريو باجتماعات عقدها نائب قائد قوات الدعم السريع مع قادة هذه الحركات في دولة تشاد برعاية بعض الدول الإقليمية وبتشجيع من الرئيس التشادي، والفكرة تكمن في توحد كل الدارفوريين ضد الخرطوم لانتزاع السلطة ثم الجلوس لاحقًا لاقتسامها.
قادة هذه الحركات معظمهم لم ينسوا أن الذي فرّق شملهم وأذاقهم الهزيمة في دارفور لم يكن سوء الدعم السريع، وأن حريق دارفور الأول صنعته أيادي الجنجويد، لذا لن ينجح لقاء دولة توغو في توحيد أهل دارفور خاصة حينما يتحول إلى خطة عمل في الميدان متجاوزًا الشعارات.
هناك لاعبون خارج الملعب يمكنهم أن يرموا الميدان بالحجارة مثل الشيخ موسى هلال شيخ عشيرة المحاميد والخصم اللدود لقائد قوات الدعم السريع. موسى الذي حبسه حميدتي أكثر من 6 سنوات انطلق عائدًا إلى دارفور مستغلًّا السحب الدخانية التي تحجب رؤية أهل دارفور مثل قادة قبلائل المساليت الذين لم يتمكنوا حتى الآن من مواراة جثث قتلاهم في مدينة الجنينة غربي السودان. مثل هؤلاء من الصعب أن يضعوا أيديهم مع من يعتقدون أنه سفك دماءهم وشرد أهلهم ونزع سلاحهم.
تحييد أصابع الشيطانالسيناريو الأفضل هو أن يتمكن العالم من احتواء حرب الخرطوم عبر التفاوض والتنازل من الجانبين، لكن حتى التسوية السياسية للكارثة القادمة لن تمنع تفاقم الأوضاع في دارفور إن لم ينتبه العالم إلى الكارثة القادمة. التسوية ستحافظ على مكاسب مقاتلي الدعم السريع وغنائمهم من حرب الخرطوم، لكنها لن تحسم الصراعات المستقبلية بين قبائل دارفور بالدراجات البخارية والحصين والأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
ذلك زمنٌ ولّى وحان وقت استخدام الأسلحة الثقيلة وسيارات الدفع الرباعي، كل هذه ستكون بعضًا من غنائم الخرطوم التي ستحسم معارك المستقبل القريب في دارفور.
التدخل الدولي المحتمل يجب أن يقوم في البداية بتحييد الحواضن الإقليمية في صراع القبائل المحتمل، فقد ثبت بالدليل أن هناك من يخوض مغامرة جديدة في الإقليم الملتهب عبر مناصرته ودعمه غير المحدود لقوات الدعم السريع، حتى تشاد التي تقوم الآن بدور الناصح الأمين ستجد نفسها في أتون معركة حينما يستنجد أبناء القبائل المشتركة بأبناء عمومتهم من الداخل التشادي.
إن نجح العالم في غلّ يد تشاد في معركة دارفور المقبلة، وتكبيل أيدي اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر ومنعه من إرسال المؤن والعتاد إلى حلفائه في دارفور، وقبل ذلك إقناع الدول الخليجية بأن هذه المغامرة الجديدة خاسرة وتكلفتها الدموية عالية، فكلها خطوات من شأنها أن تقلل من النزيف المتوقع حدوثه.
لكن هناك ما هو أهم؛ كيف السبيل إلى منع المركز من مناصرة طرف على آخر؟ جنرالات الخرطوم يناصرون هذه المرة القبائل الأفريقية لإضعاف حواضن الدعم السريع الاجتماعية حتى لا يعود في مرة جديدة ويقتلع سلطانهم. مهمة تنتظر العالم أن يجبروا قادة الجيش ألا يتورطوا في أزمة جديدة، ومن المفيد التلويح ببطاقة العدالة الدولية هذه المرة.
ثم قبل ذلك يحتاج العالم إلى وضع خطة دولية مسبقة للتعاطي مع أحداث الجولة الثانية من حرب الخرطوم التي ستدور رحاها في إقليم دارفور. رؤية تحدّ من تدهور الأحوال الإنسانية وتقلل من انتهاكات حقوق الإنسان، ثم تضع في المدى البعيد خطة تنموية شاملة تخرج دارفور من دائرة الفقر المفضي إلى الصراع.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع حرب الخرطوم فی دارفور
إقرأ أيضاً:
أين تقف .. مع مليشيات الجيش أم مليشيا الدعم السريع؟
طلعت محمد الطيب
رأينا ومنذ بدء هذه الحرب القذرة كيف ظل إعلام الفلول يثابر في إلصاق تهمة إنحياز تنسيقية تقدم إلي قوات الدعم السريع وإتهامها بأنها جناح سياسي له، ولكن دون تقديم حجج مقنعة.
الواقع ان تقدم وغيرها من قوي سياسية ومدنية وافراد ومنظمات تبذل ما تستطيع من جهد لوقف العدائيات وعودة الفريقين إلي طاولة المفاوضات. هذا المقال لا يهدف إلى مناقشة هذا الأمر، بل هو محاولة لتقديم رؤية أقرب لواقع الوجدان السوداني تجاه الفريقين المتحاربين وهي حرب نعلم جميعا إن الوطن والمواطن هو من يدفع تكلفتها الباهظة جدا ويسعى كل العقلاء إلى إيقافها، بل يتوق الناس إلى العودة لحياتهم الطبيعية قبل الحرب رغم ما كان بها من معاناة وشقاء.
حتي نفهم مشاعر الناس تجاه الفريقين المتقاتلين لا بد من الاستعانة بنظرية التطور والحداثة الثانية (استخدمها في مقابل الحداثة الاولي)، لأنها تبنت موقف يرتكز علي حقيقة أن المعرفة ثنائية وهي معرفة العقل مقابل الفطرة. والاستعانة بالتطور لا علاقة له بالقضايا الوجودية الكبري مثل الإيمان والإلحاد بل إنها استعانة ذات طابع معرفي أو ابستمولوجي ودليلي علي ذلك هو وقوف العديد من الدعاة الإسلاميين بحماس شديد مع نظرية التطور بحكم ان العلم الحديث والحفريات ظلت تؤكد صحتها في مجملها. هناك مثلا الشيخ عدنان ابراهيم في أوروبا وهناك عبد الصبور شاهين في مصر وهو للمفارقة كان ممن قدموا دعوة ضد الكاتب الراحل نصر حامد أبو زيد يكفره فيها ويؤيد ضرورة التفريق بينه وبين زوجته!.
بل حتي رموز الإسلام السياسى من أمثال القرضاوي كان قد صرح في لقاء تلفزيوني شهير فيما يتعلق بنظرية التطور، أنه علي إستعداد لإعادة تأويل النصوص الدينية لتستوعب نظرية التطور. وقبل ذلك كان الشهيد محمود محمد طه له موقف واضح مؤيد لنظرية تشارلز داروين بمعني أن أبو البشرية آدم كان له اب وام.
التطور يعني أن اسلاف الإنسان عاشوا ملايين السنين قبل ان يظهر الإنسان بشكله الحديث قبل عشرات الالاف إلي مائة الف سنة تقريبا. ومن المعروف أن غرائز الإنسان تطورت لتعزيز تناسله وتطوره وانطبعت تلك الغرائز في تلافيف الدماغ وهي قوية جدا لأنها ارتبطت ببقاء الإنسان. ومن المعروف ايضا أن الإنسان كان قد عاش آلاف السنين في مجموعات صغيرة ومن الغرائز القوية لديه هي غريزة الانتماء لمجموعته وحمايتها لأن في ذلك حماية لنفسه ولذلك أصبحت غريزة ( نحن) ضد ( الآخرين ) لحماية أنفسنا منهم ، قوية جدا ، بحيث لا يقل تاثيرها علي سلوك الإنسان عن غرائزه الجنسية والبيولوجية الأخري.
تطور العقل بمعني السببية والمنطق كان تطورا لاحقا وبطيئا في مقابل الفطرة intuition حتي ان أحدهم قال أن نمو ريش الطيور بعد أن تطورت من الزواحف كان بغرض التدفئة وليس الطيران وإن الطيران جاء عرضا. عقل الإنسان لانه مازال ضعيفا واسيرا لفطرته الحيوانيه يحتاج إلي روافع مثل المؤسسات والقيم وكل ما شانه تعزيز وترقية التفكير الجماعي. وقد شبه عالم النفس الامريكي الشهير جوناثان هيدت العقل براكب الفيل، والفيل في هذه الحالة هي الفطرة، وإنت لا تملك سوي توجيه ذلك الفيل الضخم إلي الوجهات الصحيحة ولا يمكنك تجاهله لانه سيكون من يقودك في هذه الحالة. مشكلة الحداثة الاولي إنها اعتقدت بقدرة العقل علي السيادة بل تحول دعاتها حتي إلي شئ شبيه ب " عبادة السبب" وهذا ما فعله الناس اثناء الثورة الفرنسية حينما دخلوا إحدى كاتدرائيات باريس وقاموا بتكسير تصاوير العذراء والسيد المسيح وكل الرموز الدينية واستبدلوها بشعارات تمجد السبب reason والعقل.
مع أن الواقع يقول أن القيم الدينية وكل القيم الإنسانية هي ضالة المجتمعات الإنسانية التي تسعى إلي الإستقرار والاحساس بالأمان والسعادة.
غريزة ( نحن) و( هم) هي المتحكمة بقوة الآن في الشهد السوداني، فهناك من يميل وجدانه إلى تأييد مليشيات الجيش لانه ينتمى إلي مجموعات وسط وشمال السودان المهدد ب ( الآخر) او حتي وهم إفتراض قومية الجيش رغم ان كل الدلائل تشير وبقوة الي غير ذلك. هناك من يقف مع قوات الدعم السريع ايضا بحكم الانتماء الجغرافي لغرب السودان وهناك من ينطلق من الانتماء إلي( قبيلته الايديولوجية ) في انحيازه إلي هذا الفريق أو ذاك .
ولذلك علينا أن نساعد عقلنا علي التحكم في ( فيل المعرفة الفطرية ) وتوجيهها إلي الطريق الصحيح ، طريق التفاوض من اجل السلام والامن والتفاهم والاستقرار.
talaat1706@gmail.com