منذ خواتيم القرن الخامس عشر والغرب – ولمدة خمسة قرون – لم يتوقف عن إبادة من يرى لزوم إبادته، بدءًا من شعوب الأميركتين وأستراليا وأفريقيا وآسيا، ثم وصولًا إلى آخر حصون المقاومة الفلسطينية شتاء 2023 – 2024 م، فبعد مائة وستين يومًا من حرب صهيونية متواصلة على غزة، مدعومة بالسلاح والدبلوماسية والإعلام الغربي، تم إضعاف تأثير قوى المقاومة – وبالذات في شمال القطاع – فضلًا عن استشهاد عدة آلاف يقال إنهم ثلاثة عشر ألفًا من المقاتلين المدربين من جملة ثلاثين ألفًا هم حصيلة الشهداء في خمسة شهور من مقاتلين ومدنيين.
وإذا تمكّن العدوّ من الوصول إلى رفح في الجنوب، وإذا تركه العالم يفعل ما فعله في شمال القطاع، تكون الحرب قد وصلت إلى غايتها التي أرادها العدو والتي تواطأ معه عليها العالم كله، وسكتت عنها حكومات العرب والمسلمين إلا في استثناءات لا تكاد تؤثر على مسار العدوان في قليل أو كثير، بينما تقف غزة نفسها، بأهلها الذين يزيد عددهم على مليونين، شاهدةً على استعداد النظام الدولي بقيادة أميركا للتسامح مع إسرائيل ثم التعاطف مع إسرائيل، ثم تزويد إسرائيل بالسلاح والمشورة العسكرية والدعم الدبلوماسي والتغطية.
تضحيات ودروسالمقاومة قدمت الاثنين معًا: قدمت البطولات والتضحيات التي جددت الأمل في أنفس مناصريها في العالم كله، كما قدمت الدرس الأعمق، وهو كشف الغطاء عن عنصرية إسرائيل وأميركا والغرب، العنصرية التي تمنح الحق للحضارة البيضاء في إزالة من سواها إذا اعترض طريقها.
البروفيسور إيان لوو Ian Law الباحث في دراسات العنصرية والإبادة الجماعية ومؤسس ورئيس مركز دراسات العرقية والعنصرية في جامعة ليدز Leeds University في المملكة المتحدة، في ص 259 من الترجمة العربية لكتابه: " العنصرية والتعصب العرقي Racism and Ethnicity "، يقول: " العنصرية ضد الفلسطينيين هي أكثر حالات العنصرية قمعًا وإخضاعًا وإهانةً ودمويةً ". وهو يرى أن تأسيس إسرائيل – بصورة فعلية – بدأ على الأرض فور انسحاب العثمانيين من الشام، وانتهاء حكمهم له، مع هزيمتهم في أواخر الحرب العالمية الأولى في شتاء 1917م.
النظام الدولي المعاصر من تأسيس عصبة الأمم 10 يناير/كانون الثاني 1920م حتى تأسيس الأمم المتحدة أكتوبر/تشرين الأول 1945م حتى تواطؤ العالم على إبادة المقاومة 2024م، أكثر قليلًا من مائة عام تمثل النقيضين: تمثل ذروة الهيمنة الغربية – أوروبا ثم أميركا – على مقادير العالم، كما تمثل خلو العالم – لأول مرة – من أي تمثيل سياسي للمسلمين كأمة واحدة منذ تأسيس دولة المدينة في العام الهجري الأول 622 م.
تقريبًا مائة عام خالية من أي شكل للوحدة بين المسلمين، مع انزواء الخلافة العثمانية عن التاريخ، بعد صراع دامَ قرنَين كاملين مع الأمراض وأسباب السقوط. عصبة الأمم 1920م كانت عنوانًا على حقيقتين: الانتصار النهائي والحاسم للغرب على الإسلام، نظام دولي بلا إسلام، نظام دولي أوروبي، سقطت آخر أشكال التمثيل الإسلامي، وسقطت معها في الوقت ذاته وفي الحرب ذاتها إمبراطورية النمسا والمجر التي كانت حائط الصد الذي يقاوم التوغل العثماني في أوروبا، تم تفكيك الإمبرطوريتين معًا، كل منهما إلى عدة دول، مع فارق أن تاريخ الغرب بقي موصولًا دون انقطاع، تحل أمة مكان أمة، مع الإبقاء على التوجهات الكبرى لروح وجوهر وصميم وعقل وميراث أوروبا الحديثة.
صدام تاريخيلقد تشكلت أوروبا الحديثة مع طلائع الحروب الصليبية عند خواتيم القرن الحادي عشر، تشكلت – في صميم شخصيتها – على مدى قرنين من الزمان من 1097م حتى 1291م، تاريخ متواصل خرجت فيه أوروبا – لأول مرة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية 476م – من قمقمها الذي تعفّنت في قهره القرون الطوال، خرجت وما زالت في خروج دائم وانتشار قائم حتى هذه اللحظة.
درْس قرنين من الحروب الصليبية هو: أوروبا يلزمها – كضرورة حياة وبقاء – أن تخرج من قوقعتها، ثم تنتشر إلى أبعد مكان في الكون، هذا هو نصف الدرس. أما نصفه الثاني فهو أن أوروبا يلزمها – كي تبقى – أن تكون قلعة حرب ومصنع سلاح وقوة استنزاف لطاقات غيرها وثرواتهم ودفعهم نحو الاستسلام لقيادتها.
هذا الدرس الأوروبي أعاد تأكيد نفسه ثلاث مرات: الأولى في قرنين من الكشف الجغرافي، والكشف الجغرافي هو الاسم المخادع للسطو المباغت على مقدرات الشعوب. والثانية في قرنين من الاستعمار الذي أذل أعرق شعوب الأرض، ثم الثالثة في القرن العشرين حيث تأكد مستجدان : تسلم أميركا دفة القيادة العالمية، وتأسيس إسرائيل .
مثلما تاريخ أوروبا الحديثة يبدأ من الحروب الصليبية، فكذلك تاريخ منطقتنا – الشرق الأوسط – يبدأ بالحروب الصليبية، فالصدام التاريخي الذي بدأ قبل أقل من ألف عام مازال يتجدد تحت أشكال مختلفة، لكن الجوهر قائم لا يتغير، وهو تأكيد هيمنة الغرب وتفوقه، وبالتالي تأكيد هوان الشرق الإسلامي وضعفه.
كانت الحروب الصليبية – رغم اندحارها – أول هزيمة بالمعنى التاريخي العميق لعالم الإسلام، هزيمة تُنهي قرون التفوق، وتبدأ قرون الصراع، ثم تحسم الصراع لصالح الغرب على حساب الشرق، كانت أول هزيمة على طريق طويل من الصراع، كما كانت أول انتصار يمنح الغرب الثقة في نفسه، في ذروة هذا الطريق تواجهنا ثلاث حقائق:
1 – المسلمون بلا تمثيل يوحّدهم أو يجمعهم أو يعبر عن أي لون من ألوان التناصر فيما بينهم، حتى لو كان مجرد إطعام الطعام وإغاثة الضعيف، لم يبقَ لضعفاء المسلمين غير الدعاء في الصلوات يسرفون فيه ويزيدون منه ويأملون من ورائه النصر الذي لم يعدّوا له عدته في قليل أو كثير.
2 – تجسيد قوة الغرب وتفوق غير مسبوق في إمبراطورية أميركية جمعت عنف كل ما سبقها من إمبراطوريات التاريخ تحت رداء الحضارة والديمقراطية والقيم العالمية.
ترجمة ألف عام من صليبية الغرب فيما استجد من تأسيس دولةٍ صهيونيةٍ – تحت اسم إسرائيل- مسموحٍ لها قبل أن تكون دولة ثم بعد أن صارت دولة أن تمارس – تحت ضمان الغرب ورعايته وكفالته – أسوأ أشكال الإبادة العنصرية ضد الشعب الفلسطيني.
تاريخ استثنائيتود إسرائيل، ويود الغرب، وتود أميركا لو يأتي عليهم يوم يخلو فيه العالم تمامًا من آخر فلسطيني كان على قيد الحياة، وهذا ليس من باب الخيال، إنما هو حقيقة سبق تجريبها، فقد سبق أن احتفل المستعمرون الغربيون بوفاة آخر إنسان من أصحاب البلد الأصليين، فقد قتل المستعمرون الإنجليز آخر إنسان من أهالي جزيرة تسمانيا – في أستراليا – عام 1869. وقد استغرقت عمليات إبادة شعب الجزيرة خمسة وستين عامًا من 1804 – 1869م.
المقاومة الفلسطينية، هي آخر تجسيد لـ (نحن العربَ والمسلمين)، في مواجهة مزدوجة مع قيادة العالم التي هي أميركا، ومع ترسانة سلاح الإقليم وهي إسرائيل، وكل منهما تمتاز بحقيقة تاريخية استثنائية وهي أن وجودهما نتاج إبادة أهل البلاد الأصليين، أميركا نتاج إبادة متواصلة لشعوب الهنود الحمر، وإسرائيل نتاج إبادة متواصلة لقوى الشعب الفلسطيني.
لذا ينبغي إدراك أن الواجب الأول للمقاومة الفلسطينية – كافة أشكال المقاومة – ليس هزيمة إسرائيل في معركة أو حرب مسلحة، فموازين القوة بالغة الاختلال، إسرائيل تنصرها إمبراطورية عسكرية عظمى غير مسبوقة في التاريخ، ومعها عدة إمبراطوريات أوروبية كانت تحكم العالم حتى منتصف القرن العشرين.
وفي المقابل فإن المقاومة الفلسطينية انخلع عنها وانفصل أي دعم عربي أو إسلامي له مغزى. السلاح الفلسطيني أعزل في مواجهة سلاح حضارة الإبادة، لكن الحق الفلسطيني أقوى من خصومه في ضمائر الشعوب، الطبيعة العنصرية للسلاح الصهيوني – الأميركي تستهدف إبادة المقاومة لكنها – دون قصد منها بل وغصب عنها – تسببت في أكبر نصر معنوي وقيمي وأدبي وأخلاقي للمقاومة في ضمائر شعوب العالم كله.
هذا النصر الأخلاقي هو ما خرجت به المقاومة من حرب المائة والستين يومًا والثلاثين ألف شهيد والتدمير الوحشي الكامل لقطاع غزة، ومرافقه وبنيته التحتية، وكل مظاهر حضارته وثقافته.
وارد جدًا أن تسفر الحرب عن تثبيط الكفاح المسلح عند حدود العدم أو قريبًا منها، لكن الهدف من الحرب لم يتحقق، استئصال روح المقاومة لم يتحقق، إبادة الفلسطيني الأخير لم ولن تتحقق، جوهر الصراع له معنيان متلازمان: الأرض لمن، للمشروع الصهيوني أم لأهل البلاد؟ ثم المعنى الثاني: البقاء لمن؟
والمعنى الثاني أخطر من الأول وأعمق، فالشعب الفلسطيني هو من سيستردّ الأرض، لذا فسلامته وبقاؤه وديمومة تجدده رغم كل محاولات إفنائه هي الأولوية في هذه المرحلة من الصراع الذي بدأ قبل ألف عام وربما يستمر ألف عام أخرى. النصر هو عدم تمكين حضارة الإبادة الصليبية – الصهيونية من إفناء آخر فلسطيني.
تاريخ القضية الفلسطينية هو تاريخ استثنائي في مقاومة الإفناء والإبادة .
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات الحروب الصلیبیة قرنین من ألف عام
إقرأ أيضاً:
نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم
أثناء زيارتي للبرازيل للمشاركة في بعض الأنشطة العلمية، تعرفت على بعض جوانب الفكر السائد هنا والذي يعبر عن تيار معادٍ للمقاربات الكولونيالية الغربية، وذلك من أجل إعادة تشكيل عالم ما بعد الغرب. إنها صيحة من أجل صعود الجنوب العالمي والتي تعبر عنها بعض المؤشرات الجديدة مثل صعود الصين وتوسع مجموعة بريكس وانضمام الاتحاد الأفريقي لمجموعة العشرين وهلم جرا. وفي هذا السياق، جاءت رئاسة دونالد ترامب الثانية للولايات المتحدة، والتي بدأت في عام 2025، لتمثل أحد أعراض التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية العميقة. وربما يمثل هذا العصر الجديد ترسيخاً لإجماع واسع النطاق بين القوى الكبرى والقوى الصاعدة، حيث يعترف الجميع ضمناً أو صراحةً بأن عصر الأحادية القطبية الذي تشكل في أعقاب انهيار الإتحاد السوفيتي قد ولى وراح أوانه.
بيد أن المقلق حقاً أن بعض ملامح الفوضى في النظام الدولي ارتبطت بتراجع نفوذ الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب الثانية، وبدعم من كبار رجال الأعمال في شركات التكنولوجيا الكبرى والنظام المالي المهيمن. ينعكس ذلك في شعار “ماجا” أو “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” استناداً إلى الأسس الإمبريالية في القرن التاسع عشر التي طبقها عدد من رؤساء الولايات المتحدة آنذاك. وعليه، من أجل فهم سياسات إدارة ترامب الثانية ينبغي العودة إلى الوراء عند بداية تشكيل السياسات التوسعية الأمريكية.
استلهام العصر الذهبي للتعددية القطبية
من الواضح أن دونالد ترامب استلهم سياسات أربعة رؤساء أمريكيين من القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث دمج إرثهم في استراتيجيته السياسية. كان الأول هو جيمس مونرو (1817–1825)، الذي عُرف بـ”مبدأ مونرو” الرافض للتدخل الأوروبي في الأمريكتين، ولعل تأثيره واضح على سياسة ترامب الخارجية “أمريكا أولاً”، التي ركزت على السيادة الوطنية ومقاومة العولمة (الانعزالية الجديدة). أما الرئيس الثاني فهو أندرو جاكسون (1829–1837)، الزعيم الشعبوي المدافع عن “الرجل العادي”، والذي روّج لواحدة من أكبر عمليات الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية بإصداره قانون إبعاد الهنود عام 1830. لقد ألهم جاكسون خطاب ترامب المناهض للنخبة بحسبانه شخصية من خارج المؤسسة، وبسبب جاذبيته للناخبين من الطبقة العاملة.
ومن جهة ثالثة أصبح ويليام ماكينلي (1897–1901)، المُلقب بـ”رجل التعريفات” بسبب سياساته التجارية الحمائية نموذجاً لاستخدام ترامب العدواني للتعريفات الجمركية لحماية الصناعات الأمريكية. لقد صعد كل من ويليام ماكينلي ودونالد ترامب إلى الصدارة من خلال الدعوة إلى سياسات تجارية حمائية، حيث اشتهر ماكينلي بقوله أنه “رجل التعريفة الجمركية”. رأى كلا الرئيسين أن التعريفات الجمركية أداة لحماية الصناعات والوظائف الأمريكية من المنافسة الأجنبية. لقد فضل ماكينلي، مثل ترامب، في البداية تعريفات عالية على السلع، كما يتضح من قانون تعريفة ماكينلي في 1 أكتوبر 1890، الذي رفع متوسط الرسوم على الواردات إلى 49.5٪. ومع ذلك، تطور نهج ماكينلي عندما أدرك إمكانية المعاملة بالمثل التجارية وحاجة أمريكا إلى أن تصبح دولة تجارية. بحلول الوقت الذي أصبح فيه رئيساً في 1897، دافع ماكينلي عن خفض الحواجز التجارية من خلال اتفاقيات متبادلة، وفي خطابه الأخير في 5 سبتمبر 1901، أكد أن “الحروب التجارية غير مربحة”. من ناحية أخرى، تبنى ترامب موقفاً أكثر صدامية، عندما قرر في وقت سابق من هذا العام تطوير التعريفات الجمركية المتبادلة على الواردات إلى الولايات المتحدة، وذلك في إطار الوفاء بوعده الانتخابي “العين بالعين” بشأن مسائل التجارة العالمية. في حين أن كلا الرئيسين قد اشتركا في تركيز أوّلي على الحمائية، فإن تحول ماكينلي في النهاية نحو المعاملة بالمثل التجارية يقدم درساً مفيداً لترامب، لا سيما في مسالة المرونة والقدرة على التكيف في العلاقات المعقدة مع القوى الاقتصادية مثل الصين. ويقترح روبرت ميري، كاتب سيرة ماكينلي، أن ترامب يجب أن يفكر في تطور سياسات ماكينلي، مع الاعتراف بأنه في حين أن التعريفات يمكن أن تحمي العمال الأمريكيين في البداية، فإن اتباع مقاربة أكثر دقة في التجارة أمر ضروري لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام والتعاون الدولي.
أخيراً، أثر الرئيس ثيودور روزفلت (1901–1909)، الذي ركز على القوة الوطنية والقيادة العالمية الحازمة، على خطاب ترامب حول استعادة الهيمنة الأمريكية، وإن كان ترامب قد ابتعد عن الإصلاحات التقدمية لروزفلت. ولاشك أن هذه الشخصيات التاريخية أسهمت في تشكيل التركيبة الشخصية المعقدة للرئيس ترامب والتي تجمع بين الشعبوية والحماية الاقتصادية والنزعة الوطنية، وذلك بما يتناسب مع التحديات السياسية والاقتصادية الحديثة.
نحو تعددية قطبية مغايرة
لقد برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى صاعدة خلال القرن التاسع عشر، حيث عززت هيمنتها الإقليمية في الأمريكتين عبر سردية “مبدأ مونرو”، بينما شرعت في الانغماس المتزايد بالشئون العالمية، متحديةً بذلك التقسيمات التقليدية لمناطق النفوذ في الصين التي رسمتها القوى الأوروبية. وفي هذا السياق، أعلنت واشنطن عن ضرورة منح جميع الدول حقوقاً متساوية في التجارة مع الصين، وهو الموقف الذي عُرف لاحقاً باسم سياسة “الباب المفتوح” أواخر القرن ذاته، بهدف إعادة توزيع مناطق النفوذ القائمة والحفاظ على امتيازات متكافئة للقوى الاستعمارية الغربية. وعلى الصعيد الأمريكي، ارتكز “مبدأ مونرو” على فكرة “مناطق النفوذ”، بالادعاء بأحقية الولايات المتحدة في اعتبار القارة الأمريكية بأكملها بمثابة “حديقة خلفية” لها، مع إصرارها على إبعاد القوى الأوروبية وغيرها خارج النصف الغربي من الكرة الأرضية، حيث مثلت أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي النطاق الجغرافي الطبيعي لهذه الهيمنة الصاعدة في إطار التشكيل الاجتماعي الرأسمالي الأمريكي.
ومن جهة ثانية، شكلت حقبة الحرب الباردة النموذج الأكثر وضوحاً لتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين الكتلة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة والكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، حيث تجسد هذا التقسيم عبر تحالفات عسكرية مثل حلف الناتو وحلف وارسو، مع تهديد دائم بالرعب النووي والدمار المتبادل. وقد خلّف هذا النظام الثنائي القطبية إرثاً من “الحروب بالوكالة” في العالم الثالث، التي تحولت إلى ساحات لتصفية حسابات القوى العظمى، فيما قاومت دول الجنوب هذا الترسيم عبر مبادرات مثل مؤتمر باندونج الأفروآسيوي (1955) وحركة عدم الانحياز، بالإضافة إلى مؤتمر بانكوك لحقوق الإنسان (1993) الذي دافع عن رؤية ثقافية نسبية لحقوق الإنسان مع التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية كشرط أساسي لها، مؤكداً على مبادئ السيادة الوطنية وعدم التدخل.
أما في الوقت الراهن وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يواجه دونالد ترامب في ولايته الثانية- سيناريو تعددية قطبية مختلفة جذرياً عن نموذج القرن التاسع عشر الإمبريالي، حيث تُعبّر التعددية الحالية عن “تعددية بعيدة عن المركزية الأوروبية” تبرز فيها مراكز قوى جديدة، خاصة في آسيا بقيادة الصين، كواقع تاريخي في ظل الفوضى النظامية العالمية. ولا يخفى أن الغرب يعيش في هذا الإطار أزمات اجتماعية وسياسية متصاعدة، بينما تتصاعد قوة الصين كتحدٍّ للنظام الرأسمالي الاستقطابي، في مشهد يعيد ترتيب التوقعات الجيوسياسية ويسلط الضوء على استحالة استعادة الهيمنة الأمريكية عبر النيوليبرالية. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تسعى إلى إحياء نموذج القرن التاسع عشر في تحديد مناطق النفوذ عبر اتفاقيات صريحة وضمنية مع القوى الكبرى، يظل التساؤل المركزي حول استعداد قوى مثل الصين وروسيا لتقاسم هذه الرؤية القائمة على التقسيم الإمبريالي الجديد.
مرحلة الفوضى أو النظام الذي لم يولد بعد؟
غالباً ما يتم تحليل مشهد النظام الدولي المتحول من خلال أطر مختلفة، مع وجود نموذجين بارزين هما النظام العالمي “جي -صفر” أو (G- 0) ومجلس القوى الجديد. ويتميز النظام العالمي “جي-صفر” الذي اقترحه ايان بريمر بغياب القيادة العالمية، مما يؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار وتوفير مزايا لجهات فاعلة معينة. ولاشك أن هذه البيئة تدعم صعود القوى الإقليمية وتشكل تحديات للتعاون الدولي، كما يتضح في الحالات التي تسعى فيها دول أو تكتلات منفردة إلى مصالحها دون وجود استراتيجية عالمية متماسكة. على سبيل المثال، توضح الاختلافات في مقاربات التخفيف من تغير المناخ بين الدول الكبرى هذا النقص في القيادة الموحدة. في المقابل، يتصور مجلس القوى الجديد مجموعة توجيهية تتكون من ستة فاعلين عالميين: ربما يمكن الحديث عن الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبي. وتهدف هذه المجموعة إلى التخفيف من حدة التنافس بين القوى الكبرى ومعالجة التهديدات العابرة للحدود الوطنية مع الحفاظ على القيم الأساسية مثل السيادة والسلامة الإقليمية. مثال على ذلك يمكن أن تكون الجهود المشتركة التي تبذلها هذه القوى لمكافحة الأوبئة العالمية أو لوضع معايير للأمن السيبراني، مما يعكس اتباع مقاربة موحدة بشان التنسيق لمواجهة التحديات المشتركة. وربما يعكس هذا النموذج مفهوم مجلس أوروبا في القرن التاسع عشر.
ختاماً، فإن صعود الجنوب العالمي في عصر الترامبية يعكس تحولاً جوهرياً في النظام العالمي، حيث تسعى الدول النامية إلى تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي وسط تراجع الهيمنة الغربية التقليدية. ولعل قيام البرازيل بإعادة فرض التأشيرات على مواطني الولايات المتحدة وكندا وأستراليا يقدم في دلالته الرمزية تعبيراً عن القدرة على الرد. وفي مواجهة السياسات الإمبريالية متعددة الأقطاب التي تتبناها إدارة ترامب، يقدم الجنوب العالمي نموذجاً بديلاً للتعاون الدولي يرتكز على مبادئ باندونج وعدم التدخل واحترام السيادة. وعليه، يصبح الجنوب العالمي مع تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى محوراً أساسياً في تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تلعب مبادرات مثل مجموعة بريكس ومبادرة الحزام والطريق دوراً محورياً في تعزيز التعاون بين دول الجنوب. ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يخلو من التحديات، إذ يتطلب ذلك تحقيق توازن دقيق بين القوى العالمية المتنافسة وتعزيز التعاون الإقليمي لضمان التنمية المستدامة والحوكمة العادلة.
أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن – بوابة الأهرام اليوم
أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة