في خطاب "حالة الاتحاد" أمام الكونغروس أعلن الرئيس بايدن أن الجيش الأميركي سينشئ ميناء على ساحل غزة لتلقّي المساعدات للسكان الذين يعانون من المجاعة. وبحسب ما نُشر في الإعلام فإن الميناء لن يتطلب دخول القوات الأميركية أرض غزة، وسيظل الألف جندي المكلفين بحراسته في سفن حربية قبالة الساحل، وهذا الميناء سيشمل رصيفاً يتصل باليابسة عبر جسر مؤقت، وسيوفر القدرة على استيعاب حمولات مئات الشاحنات من المساعدات يوميا، وسيستغرق إنشاؤه عدة أسابيع.
يبدأ الرصيف البحري من قبرص، وهي أقرب دولة في الاتحاد الأوروبي إلى غزة (تبعد عنها 370 كلم)، وتم تحديد ميناء "لارنكا" كنقطة انطلاق للسفن المحملة بالمساعدات الإنسانية إلى القطاع التي ستأتي من مختلف دول العالم، وبعد تجهيز السفن سيعمل مسؤولون أمنيون إسرائيليون على تفتيشها بميناء لارنكا، لتنطلق بعدها إلى غزة برفقة طائرات مسيرة وحماية أمنية توفرها الدول الشريكة والجيش الإسرائيلي.
مساحة الميناء ستكون 6 كيلومترات مربعة، وتبلغ كلفته الأولية نحو 35 مليون دولار ستدفعها الولايات المتحدة، وسيضم مستشفيات عائمة، ومطاعم ضخمة، وبيوت إيواء مخصصة للطاقم الطبي والجنود والجهات الأمنية.
رأى البعض أن فكرة الميناء "خطوة جريئة" بعد فشل كل مساعي إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة عبر المعابر الرسمية بسبب العراقيل الإسرائيلية، ومحاولة من بايدن لتحسين صورته أمام شعبه مع اقتراب المعركة الانتخابية. ولكنه في واقع الأمر من أكثر المخططات خطورة واعتداءً على سيادة قطاع غزة، وإعلان لبدء مرحلة إدخال قوات أجنبية للتحكم بمستقبل القطاع، بتعاون مريب مع إسرائيل، ويهدف المشروع للتغطية على المشكلة الحقيقية وهي حرب الإبادة، ومنح إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في عدوانها على القطاع وسكانه على قاعدة "أنتم اقتلوا ودمروا، ونحن سندخل المساعدات".
مع أن السلطة الوطنية لم تصدر تصريحاً واضحاً بشأن الموضوع، إلا أن قيادات في السلطة عبرت عن خشيتها من استغلال الميناء لتهجير الفلسطينيين من القطاع، وفي بيان لوزارة الخارجية الفلسطينية جاء : "إن تركيز إسرائيل على إعطاء الموافقات على فتح ممرات بحرية ومنع مرور المساعدات برياً عن طريق المعابر، هدفه تطبيق خطة الحكومة بتكريس الاحتلال والفصل بين الضفة الغربية والقطاع وتهجير الفلسطينيين، وأن الممر يترتب عليه مخاطر تستهدف الوضع الديموغرافي في القطاع، في ضوء عمليات القتل والتجويع والحصار". وأنه دليل إضافي على إحجام الإدارة الأميركية عن مواجهة إسرائيل بسبب عرقلتها إدخال مساعدات الإغاثة، أو استخدام نفوذها الاستثنائي على إسرائيل باعتبارها الداعم الرئيسي لها.
وبينما لم تعلق حركة حماس على "الميناء الأميركي" و"الممر القبرصي"، فإن القيادي محمد نزال رحب بالفكرة معتبراً أن أية خطوة من شأنها تخفيف حدة الجوع هي إيجابية.
لكن المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في الغذاء ندد بالفكرة، ووصفها بالخبيثة، مضيفا: الولايات المتحدة تقدم المساعدات وفي الوقت نفسه تعطي لإسرائيل ما تحتاجه من قنابل وذخائر ودعم مالي! أما منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية فقد رحبت بالخطة، لكنها قالت: "الجو والبحر ليسا بديلاً عن الأرض".
أما إسرائيل فأرادت التذاكي والادعاء بأنها تفاجأت بالمشروع، فرحبت به، وأكدت أنها ستنسق مع الولايات المتحدة لتطويره، وأنها ستدعمه بالكامل؛ علماً بأن المشروع فكرة إسرائيلية في الأساس، وسبق أن طرحته عام 2015.
ومع أن المشروع في بداياته، وما زالت الصورة غامضة، والظاهر منها هو البعد الإنساني، تحت عنوان إيصال المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة، وعلاج جرحى الحرب.. لكن هذا يستدعي العديد من الأسئلة؛ ألم يكن من الأولى الضغط على إسرائيل لإيقاف عدوانها، أو استصدار قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار؟ وإذا كانت أميركا تريد حقا إيصال المساعدات، فلماذا لا تستخدم معبر رفح؟ وإذا كانت مصر تعيق إدخالها كما تزعم إسرائيل، فلماذا لا تستخدم معبر إيرز؟ ولماذا صارت فجأة كل الدول تريد إيصال المساعدات عن طريق الإنزال الجوي؟ وهل عمليات الإنزال الجوي أتت استجابة لرغبة إسرائيل، وتمهيداً لإلغاء معبر رفح، وإيصال المساعدات مباشرة دون أي دور لوكالة الغوث؟ طبعاً لأن صفقة القرن تتضمن إلغاء الوكالة.
التخوف الأول من مشروع الميناء هو ارتباطه بتشجيع هجرة الفلسطينيين طوعاً إلى أوروبا، فإزاء تمسك مصر بموقفها الرافض للتهجير، فإن الميناء قد يوفر الدعم اللوجستي لتسهيل الهجرة، وقد يوفر بواخر نقل عملاقة (ألا تتضمن الحروب مفاجآت غير متوقعة). فقد أدى العدوان إلى تدمير شبه كامل للقطاع، واستشهاد وجرح أزيد من مائة ألف إنسان، ونزوح مليوني مواطن، ومع التجويع والحصار والدمار صار حلم كل مواطن مغادرة هذا الجحيم.
والتخوف الثاني فك ارتباط إسرائيل نهائياً مع غزة، ودفعها بعيداً، بعد أن فشلت في احتوائها أو إلقائها في حضن مصر، مع تعميق فصلها عن الضفة سياسيا، وإداريا، وجغرافيا، وكوحدة جمركية.
والتخوف الثالث إخراج معبر رفح عن الخدمة، لأن إسرائيل لا تثق به، وتعتبره المدخل الرئيسي لأسلحة "حماس"، حيث سيؤدي ذلك مع مرور الوقت وفرض حقائق جديدة إلى إلغاء المعبر أو تهميشه، وقطع كل صلة لغزة مع العمق العربي.
التخوف الرابع مرتبط ببعض المعطيات التي نجمت عن العدوان، والتي كانت سبباً لها؛ وإذا ربطنا تلك المعطيات ببعضها قد نتوصل إلى استنتاجات منطقية؛ فمثلا قامت إسرائيل بشق طريق عرضي يصل بين السياج الشرقي والبحر بثلاثة مسارب، تسمح للدبابات والآليات بقطع المسافة بحدود سبع دقائق، ما يعني فصل القطاع شماله عن جنوبه، وإطباق السيطرة الإسرائيلية الكاملة عليه. وهذا يعني أن احتلال القطاع سيدوم لفترات طويلة جداً، وحتى لو اضطرت إسرائيل للانسحاب سيظل الجيش قادراً على اجتياحه والعودة إليه مجدداً وفي أي وقت، وسيظل تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر. المهم أن هذا الطريق ومناطق تواجد الدبابات ستتصل بالميناء الأميركي، وقد صار واضحا أن هذا الميناء ليس لإيصال المساعدات، بقدر ما سيغدو قاعدة أميركية متقدمة، وموطئ قدم على شاطئ غزة، وتحديداً قبالة حقول الغاز، بما يضمن مستقبلاً تقاسم موارد حقول الغاز بين أميركا وإسرائيل مع أي سلطة ستنصبها في غزة.
من غير الواضح إلى متى سيظل هذا الميناء مؤقتا؟ وما هو مصيره بعد سنوات؟ وقد تعودنا من أميركا على المشاريع الفاشلة، فمثلاً شنّت حرباً على أفغانستان لطرد طالبان، وبعد عشرين سنة أعادتهم للسلطة!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ميناء غزة امريكا غزة ميناء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة: أصبح من المستحيل تقريبًا توصيل المساعدات إلى غزة
أوضح توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، إن غزة هي حاليا المكان الأخطر لتقديم الدعم الإنساني، في عام شهد مقتل أكبر عدد مسجل من العاملين في المجال الإنساني، ونتيجة لذلك "أصبح من المستحيل تقريبا توصيل حتى جزء بسيط من المساعدات المطلوبة" على الرغم من الاحتياجات الإنسانية الهائلة، وفقًا لما أوردته وكالة"وفا".
عودة شلل الأطفال إلى غزة بعد 25 عامًا من الغياب.. فيديو جيش الاحتلال يُعلن مقتل 3 جنود إسرائيليين شمال غزة
وفي بيان أصدره في أعقاب زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط بصفته منسق الإغاثة الطارئة للأمم المتحدة، قال فليتشر إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تواصل منع العاملين الإنسانيين من الوصول بشكل هادف إلى المحتاجين في القطاع، "حيث تم رفض أكثر من مائة طلب للوصول إلى شمال غزة منذ 6 تشرين الأول/أكتوبر".
وأشار فليتشر، إلى أن محكمة العدل الدولية أصدرت أول مجموعة من الأوامر المؤقتة في قضية تطبيق منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة منذ ما يقرب من عام، ومع ذلك فإن وتيرة العنف المستمرة "تعني أنه لا يوجد مكان آمن للمدنيين في غزة. لقد تحولت المدارس والمستشفيات والبنية التحتية المدنية إلى أنقاض".
وأضاف أن الحصار الإسرائيلي على شمال غزة - والذي استمر لأكثر من شهرين – "أثار شبح المجاعة"، في حين أن جنوب القطاع مكتظ للغاية، "مما يخلق ظروفا معيشية مروعة واحتياجات إنسانية أعظم مع حلول الشتاء".
وأضاف: "في جميع أنحاء غزة، تستمر الغارات الجوية الإسرائيلية على المناطق المكتظة بالسكان، بما في ذلك المناطق التي أمرت القوات الإسرائيلية الناس بالانتقال إليها، مما تسبب في الدمار والنزوح والموت".
وفي الوقت نفسه، قال وكيل الأمين العام إن الوضع في الضفة الغربية مستمر في التدهور، "وعدد القتلى هو الأعلى الذي سجلناه".
وقال إن "العمليات العسكرية الإسرائيلية في العام الماضي أسفرت عن تدمير البنية الأساسية مثل الطرق وشبكات المياه، وخاصة في مخيمات اللاجئين".
وأضاف أن عنف المستعمرين المتزايد وهدم المنازل أدى إلى زيادة النزوح والاحتياجات، وأن القيود الإسرائيلية المفروضة على الحركة تعيق سبل عيش المواطنين الفلسطينيين ووصولهم إلى الخدمات الأساسية - وخاصة الرعاية الصحية.
وأكد فليتشر أن "الأمم المتحدة والمجتمع الإنساني يواصلان محاولة البقاء وتقديم الخدمات في مواجهة هذه التحديات والصعوبات المتزايدة".
ودعا المجتمع الدولي إلى الدفاع عن القانون الإنساني الدولي، "والمطالبة بحماية جميع المدنيين، والإصرار على إطلاق سراح جميع الرهائن، والدفاع عن عمل وكالة الأونروا الحيوي، وكسر دائرة العنف".
وأشاد بالعاملين في المجال الإنساني الذين يعملون على إنقاذ أرواح المدنيين في هذه الظروف.