أزمة الحبوب ومخاطر عسكرة البحر الأسود
تاريخ النشر: 24th, July 2023 GMT
أعاد انهيار اتفاقية الحبوب بعد رفض روسيا تمديدها مرّة أخرى تأجيج المخاوف من ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية في العالم وحدوث مجاعات في الدول الفقيرة. لقد ساعدت الاتفاقية، منذ إبرامها بوساطة تركيا والأمم المتحدة وتمديدها 3 مرات متتالية، في خفض أسعار القمح والحبوب واستمرار وصوله إلى أسواق الدول الفقيرة في جنوب العالم، لكن تداعيات انهيارها لن تقتصر على تهديد الأمن الغذائي العالمي فحسب، بل تُهدد بتحويل البحر الأسود إلى منطقة صراع بين روسيا والغرب.
توعّدت موسكو بالفعل باستهداف أي سفن تُحاول الوصول إلى الموانئ الأوكرانية لمواصلة شحن الحبوب رغم انهيار الاتفاقية. كما أجرى الأسطول البحري الروسي في الأيام الأخيرة تدريبات على إطلاق صواريخ على أهداف عائمة واحتجاز السفن.
من غير المرجح أن تلقى دعوة زيلينسكي آذانا مصغية في الناتو لأن أولوية الحلف لا تزال تتركز على تجنب الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع روسيا
ينبغي أخذ التحذيرات الروسية على محمل الجد لأن موسكو لن تتسامح على الأرجح مع أي محاولة لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود رغما عنها. ليس لأن الرئيس فلاديمير بوتين سيعتبر ذلك تحديا له فقط، بل لأنه لن يتخلى ببساطة عن ورقة القوة التي يمتلكها في الصراع مع أوكرانيا والغرب، وهي حصار الموانئ الأوكرانية في الجنوب، كما لن يسمح للغرب بإيجاد موطئ قدم له في البحر الأسود من بوابة تأمين صادرات الحبوب.
رغم أن روسيا بررت رفضها تجديد الاتفاقية بعدم استجابة الغرب لمطالبها المتمثلة في إزالة القيود التي تواجهها في تصدير منتجاتها من الحبوب والأسمدة بموجب الاتفاقية الثانية التي أبرمتها مع تركيا والأمم المتحدة، فإن أحد الدوافع الرئيسية لدخول موسكو في الاتفاقية كان إيجاد طريقة لإدارة الوضع في منطقة البحر الأسود بالتعاون مع تركيا وإبقاء الناتو بعيدا عن المنطقة.
لا يزال هذا الدافع يُشكل الإستراتيجية الروسية في البحر الأسود. يُجادل بعض الغربيين بأن الطريقة المناسبة الآن لحرمان روسيا من ورقة تسليح إمدادات الغذاء الأساسية، هي تحدي موسكو في البحر الأسود والمرافقة العسكرية لسفن الشحن من أجل تأمينها. كما أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بدا مندفعا في هذا الاتجاه من خلال مطالبة حلف شمال الأطلسي بتأمين سفن شحن الحبوب بديلا عن الاتفاقية.
من غير المرجح أن تلقى دعوة زيلينسكي آذانا مصغية في الناتو، لأن أولوية الحلف لا تزال تتركز على تجنب الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع روسيا. كما أن هذه الدعوة تُثير انزعاجا لدى تركيا التي تعمل منذ اندلاع الحرب على الحد من النشاط العسكري في البحر الأسود وتسعى منذ سنوات لتقييد قدرة الناتو على تصعيد نشاطه في البحر الأسود لتجنب استفزاز روسيا.
في الواقع، يُفسر الاهتمام التركي باستقرار منطقة البحر الأسود إلى حد كبير أسباب مساعي أنقرة لإعادة العمل باتفاقية الحبوب. علاوة على أن أي مبادرات جديدة لتصدير الحبوب بمعزل عن روسيا لن تكون مُجدية وفعالة وتنطوي على الكثير من المخاطر على أمن الملاحة البحرية، فإن تركيا حريصة على قطع الطريق على سيناريوهات خطيرة تؤدي إلى عسكرة الوضع في البحر الأسود.
في ظل حالة عدم اليقين التي تسبب بها انهيار الاتفاقية، يتعين على الغرب الموازنة بدقة بين كيفية الضغط على روسيا لإعادة إحياء الاتفاقية وبين تجنب الإفراط في إظهار التحدي لموسكو، لأن استهدافا روسيا لسفن الشحن قد يؤدي ببساطة إلى عواقب وخيمة على أمن الملاحة في البحر الأسود. طالما أن روسيا أبقت الباب مفتوحا أمام إمكانية إعادة إحياء الاتفاقية في حال استجابة الغرب لمطالبها أو بعضها خصوصا تلك المتعلقة بإعادة البنك الزراعي الروسي إلى نظام سويفت العالمي للمبادلات المالية، فإن الأمل الوحيد في إعادة إحياء الاتفاقية يتوقف الآن على حنكة الرئيس رجب طيب أردوغان في إقناع بوتين بمزايا إعادة تجديد الاتفاقية وبمخاطر عدم تجديدها.
للوصول إلى حل مربح لكل الأطراف، سيتعين على الغرب تقديم شيء لروسيا يجعلها تشعر بأن اتفاقية الحبوب تعود بالنفع عليها بالقدر الذي كانت تتطلع إليه. اقترحت الأمم المتحدة مؤخرا إعادة ربط شركة مرتبطة بالبنك الزراعي الروسي بنظام سويفت، لكن موسكو رفضت هذا المقترح لأنها تريد الحصول على إعفاءات مغرية من العقوبات بما يُساعده على كسر نظام العقوبات الغربي. يُمكن لتركيا أن تلعب دورا رئيسيا في الضمانات الجديدة المحتملة لروسيا من خلال التعهد بالعمل المشترك معها لتسهيل صادرات روسيا من الحبوب والأسمدة عبر البحر الأسود، بالتوازي مع استئناف العمل بالاتفاقية الأصلية.
مثل هذه الضمانات قد تكون مقنعة لموسكو، لكن أنقرة بحاجة أيضا إلى ضوء أخضر غربي يُجنّبها خطر التعرض للعقوبات في حال التعاون مع روسيا في مجال التصدير. إن أولوية تركيا في الأزمة الراهنة تتمثل بالتركيز على إعادة إحياء الاتفاقية، لأنها السبيل الوحيد لضمان أمن وسلامة سفن الشحن في البحر الأسود.
عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية قبل أكثر من عام، سارعت أنقرة إلى تفعيل معاهدة مونترو وفرض قيود على نشاط السفن العسكرية التي تعبر المضائق التركية المتصلة بالبحر الأسود. وكان أحد دوافعها الحد من النشاط العسكري في البحر الأسود، وأظهرت حرب أوكرانيا الحالية وقبلها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وحربها على جورجيا في عام 2008 أن تركيا تواجه مأزقا في إحداث توازن للقوى مع روسيا في البحر الأسود.
لا تزال فإن أنقرة تُفضّل التركيز على جهودها الذاتية والتعاون مع دول حوض البحر الأسود من أجل الحفاظ على استقرار موازين القوى في المنطقة. لعبت تركيا دورا حيويا في إعادة بناء البحرية الأوكرانية بعد انهيارها في حرب شبه جزيرة القرم عام 2014، كما لا تزال ترفض الاعتراف بشرعية ضم روسيا للقرم. مع ذلك، فإن المخاطر المحيطة بانهيار اتفاقية الحبوب تضع إستراتيجية تركيا بشأن البحر الأسود في موقف صعب.
إذ إن أردوغان يُقيم علاقات عمل جيدة مع بوتين، وهو أحد قادة الناتو القلائل القادرين على التواصل السريع مع بوتين وزيلينسكي، فهو لا يزال يملك فرصة لإعادة إحياء الاتفاقية وتجنب مخاطر تأجيج التوتر في البحر الأسود، لكن جهوده بحاجة إلى دعم غربي أيضا.
قد تبدو روسيا في موقف تفاوضي أقوى بعد رفضها تجديد الاتفاقية، لكن إطالة أمد الأزمة لفترة طويلة لن يُؤثر سلبا على علاقاتها مع تركيا ودول جنوب العالم فحسب، بل يفاقم مخاطر عسكرة منطقة البحر الأسود.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی البحر الأسود مع روسیا لا تزال
إقرأ أيضاً:
بوتين يحذر الدول التي تزود أوكرانيا بالسلاح ضد روسيا
حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الخميس من أن موسكو لا تستبعد ضرب الدول التي تستخدم أوكرانيا أسلحتها ضد الأراضي الروسية، وذلك بعدما ضربت كييف العمق الروسي مستخدمة صواريخ أميركية وبريطانية.
وقال بوتين -في خطاب بثه التلفزيون العام- إن "الصراع بدأ يأخذ طابعا عالميا".
وأضاف "نعتبر أن من حقنا استخدام أسلحتنا ضد المنشآت العسكرية العائدة إلى دول تجيز استخدام أسلحتها ضد منشآتنا، وفي حال تصاعد الأفعال العدوانية سنرد بقوة موازية".
كما أكد أن الهجوم الذي شنته بلاده اليوم على أوكرانيا جاء رد فعل على الضربات الأوكرانية لأراض روسية بصواريخ أميركية وبريطانية في وقت سابق من الأسبوع الجاري.
وأعلن أن روسيا سوف توجه تحذيرات مسبقة إذا شنت مزيدا من الهجمات باستخدام مثل هذه الصواريخ ضد أوكرانيا كي تتيح للمدنيين الإجلاء إلى أماكن آمنة، محذرا من أن أنظمة الدفاع الجوي الأميركية لن تكون قادرة على اعتراض الصواريخ الروسية.
عابر للقاراتواتهمت كييف في وقت سابق اليوم الخميس روسيا بإطلاق صاروخ عابر للقارات قادر على حمل رأس نووي على أراضيها، وهو أول استخدام لهذا السلاح ويشكل تصعيدا غير مسبوق للنزاع والتوترات بين روسيا والغرب.
وقال سلاح الجو الأوكراني في بيان إن القوات الروسية استخدمت الصاروخ في هجوم في الصباح الباكر على مدينة دنيبرو (وسط) شمل أنواعا عدة من الصواريخ واستهدف منشآت حيوية.
وقال مسؤول أميركي كبير إن موسكو "تسعى الى ترهيب أوكرانيا والدول التي تدعمها عبر استخدام هذا السلاح أو إلى لفت الانتباه، لكن ذلك لا يبدل المعطيات في هذا النزاع".
ويأتي الهجوم في وقت بلغت التوترات أعلى مستوياتها بين موسكو والغرب، مع اقتراب عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني المقبل، والتي ينظر إليها على أنها نقطة تحول.
وعلى الطرف المقابل، استخدمت أوكرانيا قبل أيام صواريخ أتاكمز الأميركية التي يبلغ مداها 300 كيلومتر، وذلك لأول مرة ضد منشأة عسكرية في منطقة بريانسك الروسية بعد حصولها على إذن من واشنطن.
كما أكدت موسكو أن أنظمة الدفاع الجوي لديها أسقطت صاروخين من طراز "ستورم شادو" (ظل العاصفة) بريطانية الصنع، و6 صواريخ أميركية من طراز هيمارس، و67 طائرة مسيرة.
وزودت دول غربية عدة كييف بصواريخ بعيدة المدى، لكنها لم تسمح باستخدامها على الأراضي الروسية خوفا من رد فعل موسكو.
وعززت روسيا تحذيراتها النووية في الأيام الأخيرة، وفي عقيدتها الجديدة بشأن استخدام الأسلحة النووية -التي أصبحت رسمية أول أمس الثلاثاء- يمكن لروسيا الآن استخدامها عند وقوع هجوم "ضخم" من قبل دولة غير نووية ولكن مدعومة بقوة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة.