كتبت قبل قرابة العام مقالة في جريدة «$» بعنوان «رمنسة البؤس»، وصَّفت فيه ظاهرة بدت لي مريبة ومخيفة في آن؛ وهي ظاهرة الاكتئاب القهري التي يجلبها الإنسان على نفسه، أي أنه ليس مصابًا بمرض نفسي لا علاقة له به ولا يد له فيه، بل هو شيء منبعه التمارض واجتلاب المرض على النفس، وإظهاره بصورة رومانسية جميلة. ومما قلته في تلك المقالة «تتلخص ظاهرة رمنسة البؤس في كون فئة غير قليلة من الشباب ممن يُلصقون بأنفسهم أوهامًا وهلوسات عن كونهم مصابين بمرض نفسي يجعلهم مميزين عن غيرهم، كما أن الأمر ذاته ينطبق على من يُصاب بمصيبة يجعله يقتات عليها لأهداف قد تكون ظاهرة له، وأخرى تختلج في نفسه ولا تتكشف له جرّاء تلك الأوهام المغلوطة».
حسنا، ربما أخطأت في جانب آخر وهو الجانب العلاجي للمسألة؛ فإن افترضنا أن سبب «رمنسة البؤس» في الحقيقة هي الأفكار الكبيرة التي يقضم القارئ قطعة منها وينتقل إلى أخرى، حتى تتشكل عنده أسئلة كبيرة وشائكة ومعلَّقة في آن. وفي لحظة حرجة ما، تتفجر تلك الأسئلة مندفعة على شكل اضطراب نفسي أو اكتئاب أو تأثّر بقرينٍ ما، يظُنُّ المتأثِّرُ بأن تجربة ذلك القرينِ تجربتُهُ هُوَ!. فتختلط أوراقه ويغدو تائها، حتى يصير المُتَخَيَّلُ حقيقةً، ويصبح الواهم بأنه مكتئب؛ مكتئبا بالفعل!. فما العلاج؟
الإنسان مؤثر ومتأثر بالطبع وبالضرورة؛ وحيث إنه كذلك، فإن أكثر من يتأثر بهم هم أقرانه ومجايلوه. وقد نمت على مرّ السنين حالة من الترُّفع عند كثير من المثقفين، بوصفهم العارفين بالأشياء، فصارت الثقافة شيئا تتداوله «النخبة» و«الطغمة» منهم فحسب، غير آبهين بما للناس من هموم وآلام إلا بالقدر الذي يخدم الكتابة والإنتاج المعرفي، إلى أن وصل الأمر بأن تشعر هذه النخبة بأن المجتمع مجرد عبء لا يمثلها إلا بالقدر الذي يخدم مصلحتها. فكل ما يهم الناس وينجذبون إليه، إن هو إلا حماقة وسخافة تترفع عنها النخب، فيصبح مقياس فراغ الأشياء وضحالتها هو اهتمام الناس بالشيء وإقبالهم عليه؛ لا أن يتم انتقاد الظواهر وتحليلها لمعرفة أسبابها وبواعثها! وكي لا يُظَنَّ بأنني أعمم القول هنا، فإنني أؤكد بأن مقابل هذه الفئة ممن تعد نفسها من النخبة، هناك فئة أخرى همها الأبدي الناس والمجتمع صلاحه وإصلاحه، وهؤلاء دورهم مفصلي في قيام كل الحضارات السابقة واللاحقة، فهم من المجتمع وإليه، بعاداته وتقاليده وأعرافه التي لا تتعارض مع العقل والمنطق والأخلاق العامة. ومن هذه الظواهر التي تخلق ما يشبه العداوة المتخيلة بين الثقافة ونخبتها وبين العامة، الرياضة. فالرياضة عند كثير من الناس تشبه المأكل والمشرب في اهتمامهم بها وتأثرهم بها، بينما يقل هذا التأثر سواء بالفعل -أي ممارستها- أو الاهتمام -مشاهدتها ومتابعة أخبارها- عند الفئة الأكبر من المثقفين. وذلك لاعتبارات كثيرة ليس أقلها اقتناع فئة كبيرة من المثقفين بأن ما هو مشاع ويثير اهتمام أكبر عدد من البشر، هو تافه بالضرورة؛ أي من منظور فوقي متعالٍ.
إذا تحدثنا عن الرياضة بوصفها شيئا مختلفا، فإننا نظلمها حقها؛ فالرياضة كفَنٍّ قائم بذاته كانت بارزة عند الرومان، ولم يكن أجدادنا من العرب القدماء أم الأجداد قريبي العهد بمعزل عن الرياضة وممارستها. فسباقات الجري وركوب الخيل والجِمال كانت حاضرة وبقوة في حياتهم اليومية ومناسباتهم، ومما يؤكد ذلك قول العرب القدماء «أَعْدَى مِنَ الشَّنْفَرَى» كما في مجمع الأمثال، ويستحيل أن تصل سرعة الشنفرى إلى ما وصلت إليه دون أن يكون قد تدرب وتمرن كثيرا حتى أصبح مضرب المثل في سرعة الجري. ولكن الرياضة اليوم مطلب أشد ضرورة، فكل شيء تقريبا باتت المواد الكيميائية جزءا من تركيبته، لدرجة أن بعض الأطباء يقولون بأن التوقعات في عام 2050م بأن يكون نصف سكان الأرض مصابين بداء السُّكري!. ولأن الجسم يمتلئ بالسموم الداخلة إليه من الأطعمة خصوصا، فلا سبيل إلى إخراجها إلا بالرياضة. ولكن الأمر يتعدى الجسدية فحسب، فالدراسات الحديثة الجادة تشير إلى أن الرياضة أحد أهم الأسباب في رفع الصحة النفسية والصفاء الذهني؛ وكي لا يكون كلامي إنشائيا، فقد جربت الأمر بنفسي ورأيت آثاره المثمرة على أدائي في الحياة والعمل!. وهو منهج أدعو كل من يقرأ المقالة لأن يجربه بنفسه، أي اختبار الدراسات التي تتحدث عن التحسن لدى الإنسان بتجربتها تجربةً عملية. فهي إن لم تنفع، فلن تضر.
«التدافع سنة كونية في صالح البشرية»، تتكرر هذه العبارة دوما بمعانيها المتعددة، لكن ما ينبغي التنبه إليه أن التدافع المحمود هو ما يرتقي بنا كأفراد مكونين لهذا المجتمع البشري الكبير؛ أما «تكسير المجاديف» فليس من التدافع المحمود في شيء. وما دام شيء ما كالرياضة في المتناول المقدور عليه، حتى وإن كان المشي لساعة واحدة يوميا، فما المانع من تجربته؟. إن الإنسان الفطن يدرك بأن عمره المحدود على هذه الحياة لا يحتمل إضاعته فيما لا طائل فيه، وإذا كنا نملك الخيار في أن نكون النسخة الأفضل من أنفسنا، النسخة الخَيِّرة التي تفيد نفسها وعائلتها ومجتمعها ووطنها بأكمله؛ فلماذا نلتفت إلى كلام المثبطين؟ مثقفين كانوا أم غير مثقفين؟. من يجعل الخير نصب عينه، فلا يلتفت إن كان قائله من أعدائه أو من أصدقائه، وليس شيءٌ أبلغَ من حكمة المتنبي:
وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنالُكَ نَفعُهُ
وَمِنَ الصَداقَةِ ما يَضُرُّ وَيُؤلِمُ
وكما ذكرت في مقالتي السابقة لهذه المقالة والتي كانت بعنوان «لأجل ماذا؟»، فإن «الصوابية -أي فعل الصواب في كل حين- تجعل المرء يقترب من الخير الإنساني أكثر فأكثر، ولكنه لن يقوى على الاستمرار في طريق الصوابية دون معاونة رفاق له يتبنون الطريق والمسلك ذاته؛ فالصوابية في الحياة تعني أن تتخلى عن أمور يقدسها الكثيرون». واختيار فعل الصواب حين يكون الأمر متعلقا بنا أمام أنفسنا وأمام من نكترث لأمرهم ورأيهم -العائلة، الأصدقاء، الشلة الثقافية- هو الشجاعة بعينها. فأن تتبنى الفعل الصحيح مقابل مناوءة وسخرية من المحيطين بك، هو ما يستدعي رفع القبعة والتصفيق. أما أن يكون المرء تابعا؛ فهو شيء سهل يسير، ولكنه سيكتشف بأن ذاته ليست سوى مسخ من ذوات الآخرين. إذا كان الصواب أن تحمل نفسك على ممارسة الرياضة أو المشي لنصف ساعة قبل الإفطار أو بعده، هل ستفعلها؟ جرّب ولن تندم!.
علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
شرك أم زريدو
من أحاجي الحرب( ٨٩٢٥ ):
○ كتب: د. يونس محمود محمد بسم الله الرحمن الرحيم
□□ شرك أم زريدو
□ أم زريدو في الأصل هي عقدة حبل الرباط الذي تُربط به الدواب أو تُصطاد به الطرائد، ويُعقد بطريقةٍ تجعله مُحكم القبضة وتضيق هذه القبضة كلما حاول الحيوان او الطريدة المقاومة، خاصةً إذا كان نوع الحبل من خيوط العشميق المبتل بشئ من الندى، ومن تقع رجله في شرك أو عقدة ام زريدو لا فكاك إلا بقطع الحبل أو قطع الرجل، وتقابلها من الجانب الآخر ربطة أو عقدة ( أم فريطو ) وهي هينة وسهلة الفك وكنا نستخدمها في ربط أغنامنا في الرماش.
□ الدعامة فيهم حس ساخر جداً بقدر قسوتهم، فيميلون لصبغ أعمالهم وتحركاتهم بمسميات ومصطلحات محلية، وتتوفر قائمة بأسماء متحركاتهم، مرفعين كبس، عجوز سدت بيتها، مطر بدون براق، وهكذا، وقد أضاف إليهم ناس المشتركة إسم متحرك ( السروال ) سخرية بسخرية، حينما تجلّت عبقرية إحدى الحكامات لتستفز شجاعة قومها وتنفخ في مناخيرهم نفث الشيطان وحمية الجاهلية ليقبلوا على الموت بلا تردد، وإلا فلا عناق ولا نمارق وإن تدبروا نفارق فراق غير وامق كما قالت هند بنت عتبة على مشارف أُحد لقومها، ولذلك ًإشتهرت حكاية شرك أم زريدو لأن السيد القائد العام ذكرها مرة في حديثه وتوعدهم ( بكج ) ذات الشرك لهم، كج بمعنى وضعه وأخفاه وهيأه للعمل، الغريب في الأمر أن كل شروك الدعم تم تهبيرها بمعنى كشفها وقماحها بأنها لم تقبض على شيء، بينما شروك الجيش كانت واسعة العيون أي فسيحة الدوائر، يمرح فيها الدعامة غير عابئين ولا مكترثين، بينما تضيق بهم شيئاً فشيئاً حتى طب حبل العشميق المبتل على أرجلهم، ولات حين فكاك أو فزع، فالناظر لخريطة إنتشارهم في الجزيرة وسنار وتخوم النيل الأزرق والقضارف، يجده يشبه إنتشار أبقار النو في الأودية الأفريقية حين هجراتها الموسمية، فتقع فرائس بين أفكاك الضواري، الأسود والنمور والضباع والتماسيح بتنوع تخصصاتها، وهكذا كان حال ضواري القوات المسلحة ومجموعات قتالها المتعددة، يقطعون عليهم طريق العودة بالسيطرة على جبل موية، فيخرج ( البعاتي ) ليرد الأمر الى ( التيران ) المصري والإيراني، فيستمر القطيع في غوايته، ثم الجيش يقفل القوس من الشرق الدندر والسوكي، والدعامة روؤسهم داخل برمة العجين يأكلون ما للناس، الجيش يتقدم من منطقة النيل الأزرق العسكرية ويقفل الإتجاه الجنوبي، وشمالاً مايرنو وأم شوكة، وفجأة يحس الدعامة بأثر الحبل في أظلافهم، وتبدأ المقاومة اليائسة التي تُحكم قبضة الشرك بقدر جهدها، ليظهر رجال الجيش ورفد المجاهدين، وشباب العمليات الخاصة، والشرطة، وحشود المستنفرين، ليضعوا أيديهم على الصيد الثمين، ترسانات من السلاح، وأرتال من العربات العسكرية والمدنية المغصوبة من أهلها، وهروب جماعي ( عريد عدييل ) إلى المجهول، مخلّفين وراءهم إدعاءات السيطرة والتحكم في المنطقة وفي رقاب المواطنين، وتاركين أسوأ أثر يمكن أن يتركة إعصار مدمر وليس مجرد بشر أمضوا فقط أربعة اشهر في هذه المنطقة التي دخلوها في شهر يونيو الماضي وهي آهلة بالسكان، تتوفر فيها كل الخدمات الحيوية والتكميلية، وبالأمس غادروها، والحيرة ترتسم في وجه كل من شاهد منزله أو مسجده، أو مشفاه أو مدرسته أو ناديه، أو الطرقات والمنظر العام أو أي مشهد كان في مخيلتك، ستجده بعد مرور عاصفة الدعامة وإعصارهم المدمر ( فلأياً عرفت الدار بعد توهم )
وشاعرنا زهير بن أبي سُلمى قد مرّ بعد عشرين حجة أي سنة فبالكاد عرف دار محبوبته، أما محبوبتنا سنجة فقد صعب التعرف على كثير من ملامحها فقط بعيد أربعة أشهر فقط، الأمر الذي يفيد بمستوى الحقد والكراهية التي انطوت عليها هذه المخلوقات، محطات المياه، محولات الكهرباء، مكاتب الحكومة، مخازن التجار، الأسواق، المدارس، المساجد، ( يا زول ) أمر لا يصدق والمجهود الذي بذلوه لإحداث هذا الكم والكيف من الدمار بالتأكيد كلفهم ساعات عمل إضافية ويمكن سهرات، والمشكلة اأنهم يعلنون بقاءهم في المنطقة للأبد، ويتغزلون في النيل والضفاف والخضرة والجناين، بإعتبارها حق بوضع اليد المسلحة بالبندقية، ولم يضعوا حساباً للجيش وقدراته، وبأس أفراده، وحنكة قياداته، وإلتزاماته الوطنية، ووقوف شعبه.
الدعامة أبداً لم يحسوا بانهم ممقوتون، مكروهون من كل انسان يستوفي هذا المعنى ( *إنسان* ) يهرب الناس من وجوههم فزعاً ورعباً وطلباً للسلامة من نيرهم وظلمهم وجبروتهم، بينما يشاهدون تلاحم المواطنين مع الجيش، ومقدار الفرح والإحساس بالأمان والطمأنينة في حضرته، ومبادلته المشاعر والأحضان والدموع والزغاريد، وزفة الفرح والحبور لمواكبه الميمونة.
هذا مما يلي دعامة سنار بكافة محلياتها ومدنها وقراها، فقد عادت بفضل الله ثم وفاء الرجال إلى أحضان أهلها البعزوها وبعرفوا مقاماتها.
أما عن شرك ام زريدو في الجزيرة فذلك شأن آخر
مفتول من عشميق حبل الوجج، كما غنى الكابلي رحمة الله عليه، فلينظر من يشاء إلى خريطة الإحاطة والتطويق للجزيرة وحاضرتها مدني، وسيعرف أنه الشرك قبض وأي مقاومة ستشد وتزرد.
يا أولاد *أم زردة* بدل ( *أم زقدة* )
والحمد لله رب العالمين على النصر العزيز.