عـوامـل تـعـاظـم الـدولة الحـديثـة
تاريخ النشر: 13th, March 2024 GMT
مـع أن الهنـدسـة السـياسيـة النـظريـة لنـموذج الـدولة الوطـنيـة وضـعت خطـوطـها العريضة، مثـلما وقـع الـتـأصيل الفـكري لها، في فلـسفـة العـقـد الاجـتماعـي، خلال القـرنيـن السابـع عشر والـثـامـن عشر، إلا أن هـذه الـدولة ظلـت تكـتـسب لنفسـها سمـات جـديـدة في سياق الـتـطـور التـاريـخي، وفي سياق تـراكم تجاربها، في الوقـت عيـنـه الذي كانت تـستـفيد فيه من أوضـاع جـديـدة ناشئـة، مـوضـوعيـة وذاتـيـة، مستـدخلة نتائجـها في جملة المـوارد التي تبـني بها نفسـها وتـعـظـم مكـتسباتها.
يـهـمنـا، هنـا، أن نـتنـاول -باقـتـضاب- مسائـل ثـلاثـا كان لها كبير أثـر في التـمكيـن لتـطـور نظـام الـدولة الوطـنيـة على نحـو من الانـتظام التـراكمـي، وهي تـتعلق باستـثمار نتائج انتهاء حرب الثـلاثيـن عامـا لانتـزاع الاعتـراف بسيادات الدول؛ وبتصويب بنيـة السـلطـة من طريق استحـداث نظـام لإعادة توزيعـها؛ ثـم تـتعلق بالطـاقة الهائلـة التي تـزودت بها الـدولة الوطـنيـة من نتائج عملـيـات التـوحيد القـومي التي كانت أوروبا مسرحـا لها.
حين انتهت حرب الثـلاثيـن عامـا (1618- 1648) -وهي آخر الحلقات الجحيـميـة من سلسلة الحـروب الـدينـيـة في أوروبا- بانعـقـاد مـؤتمـر صلـح والتـوافـق فيه على ما صار يـعـرف باسم «معاهـدة بنسلـفانيـا»، حصلت الدول على أثـمن ما كان أكثـرها يسعى إليه: الاعتـراف بـالسيادة الوطـنيـة لكـل منها. كان ذلك أعظـم الضمانات لديها لإحاطـة نفسها ووجودها بالحماية القانونيـة من المخاطر والتـهديدات المحـدقة؛ بمقـدار ما أتى ذلك يـؤذن -في الوقـت عيـنـه- بكـف طمـوحات الدول الكبـرى في ابتـلاع الأصغـر: كـلا أو جـزءا. ولا مـريـة في أن الـدولة الوطـنيـة أفادت من مبدأ السيادة الوطـنـيـة هذا عظيـم الإفـادة، خاصـة في لحظـة النـشأة؛ حيث حاجتـها إلى استـتباب أمـرها ماسـة وحيـويـة. وهكـذا فالـدولة الوطـنيـة التي بـدت شديدة الحرص على تحقيق السـلم المـدنيـة داخلها، شـرطا لاستقرارها، عثـرت على المناسبة الثـميـنة التي تستحـصل فيها هـدفـا، كان صعب المنـال على الـدولة الواحـدة، هو حيازة حقـها في أمنـها الخارجي (أو الأمن القـومي كما نقول اليوم). لقد أصبح مبـدأ السيادة الوطـنيـة -مثـلما كان ينبـغي أن يكون في نظـريـة الـدولة نفسها- مبـدأ مؤسـسـا لهـذه الـدولة، حتـى أنه من المعسور على وعي، تمـاما، أن يـدرك كـيف يمكـن لدولة أن تكون -حـقـا- دولـة وطنـيـة من دون أن تخـتار لنفسها ما بـه تكون كذلك: السيادة الوطـنيـة التي يستـقـل بها كيانـها ويحفـظ أمنـه.
على مثـال ما كـان الاعتـراف بالسيادة الوطـنيـة للدول توزيـعا لجـغرافـيات النـفوذ الذاتـي بينها، يسمح للواحـدة منها بحـيـز وطـني لممارسـة ذلك النـفوذ السـيادي، كذلك نشأت مع الوقـت حاجـة إلى إعادة توزيـع السـلطـة داخل الـدولة الوطـنيـة وبين مـراكزها الأساس، وشـرع في تحـقيقـها بدرجـات متـفـاوتـة بين الدول. ومع أن أكـثـر دول أوروبا الكـبرى لم تكن قـد أنجـزت فصـلا حقيـقـيا كـامـلا بين السلطـات فيها، حين نـظـر مونـتسكيـو لهذا الفصل في النـصف الأول من القـرن الثـامن عشر؛ ومع أنها درجت طـويلا على نمـط من النـظام السـياسي تـتمـركز السلطـات فيه في نصاب واحد، إلا أنها لم تكن تجـهل مبدأ الفصـل بين السـلط بمقـدار ما كانت القـوى الاجتماعيـة ذات المصلحة في إقـراره غـير قادرة على فـرضه. مع ذلك، نجحت الدول الوطـنيـة الأوروبيـة في أن تقطـع شـوطا في تحقيـق ذلك الفصل بـدا مـديـدا، ولكنـه متـدرج وتـراكمـي، فيما كان على بعض قـليل منها -أهـمـه فرنسا- أن يـفـتح الباب أمام هذا الهـدف من طريـق العنـف (= الثـورة السياسيـة) بعد أن عـز عليه سبيـل التـدرج أو امـتـنع. في الأحـوال جميـعها، ما كان يمكـن لنظـام الـدولة الوطـنيـة أن يترسـخ ويـتـقـدم إلا من طـريق إعماره بمبـدأ الـفـصل بين السلطـات. يكـفي أنه هـو المبـدأ الذي سمح العمـل به وإنفـاذ أحكامـه في الـدولة بفـتح الباب أمام إمكـان قيام النـظام الديـمـقراطـي؛ هذا الذي هـو، من غير جدل أظـهـر مكـتسبات الـدولة الوطـنيـة الحديثة وأعـلاها شـأنا.
مع أهـميـة العامـليـن السابقـيـن الفائـقـة في باب تـزويد الـدولة الوطـنيـة بأسباب قـوتها الداخليـة وشرعيـتها السـياسيـة (= إعـادة تـوزيع السـلطـة على قاعـدة التـمييـز والفصل)، وبأسباب مـنـعـتها واطمئـنانـها إلى أمنـها (= الاعتـراف بالسـيادات الوطنيـة)، يظـل لعامـل التـوحيـد القـومي الأثـر الأعظم في مصير كيـان الـدولة الوطـنيـة إلى التـعاظـم المطـرد. ولم يكـن شرطا أن لا يستـفيـد من عمـليـة التوحيـد إلا كيان الـدولة الأكـبر سـكـانـا وجغرافـيـة مثـل بريطانيـا، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، و -خاصـة- أمريكا الشـماليـة، بل ساغ حتى للدول الصـغرى التي من حجـم نيذرلاند، وبلجيكا، وسويسرا أن تضـخ نتائج وحـدتها في تعظيـم قـوتها مـثـل الدول الكـبرى. إن معـنى القـوة، هنـا، يتجـسـد في المـدى الكبيـر من المشروعيـة الذي تـكـتسبه الدولـة داخليـا كلما أصابت حظـها من النجـاح في مغالبة تجـزئتها الكيانيـة، والقضاء عليها نهائـيـا، وتوحيـد الأجـزاء والأشتات مـن إمارات ومقاطعـات ومدن في كـيان قومي واحـد. وإذا كانت الدولة الوطنيـة الحديثة قد فرضت نموذجيـتها السياسيـة في العـالم، فـإن واحـدة من أرفع أنواع مكـتسباتها التي اهـتـدت إلى تحـقيـقها، وبالتالي، إلى تعظيم صورتها بها هي عمليـة الوحـدة القوميـة التي يسـرت عليها برنامج بنائـها النـهضوي والتـنموي لمجتمعها/ مجتمعاتـها، وكـرست في العالـم نموذجيـتـها التي باتت مرجعيـة. وفي وسـع أي منا أن يتخـيـل ما الذي كانت تستطيعه كيانات صغيرة، في ذلك الإبـان، مثـل إمارة فـلورنسا في إيطاليا، أو مملكة پـروسيا في ألمانيا، أو مملكة إنجـلـترا في بريطانيا، أو ولايـة نيوإنـجـلاند في أمريكا الشـماليـة، أو دوقيـة موسكو الكبـرى في روسيا... إلخ، لو لم تنجز تلك البلـدان وحـدتها القـوميـة في نطـاق دول وطنـيـة ذات شـأن واعتـبـار؟!
...على أن هذا المعمار السياسي الهائل، وعل عظيم ما أنجزه من مكتسبات للبلدان التي قام فيها، لم يكن -يـوما- بمنجاة من عملية نقد أعادت فحص الكثير مما تراءى من ثغرات وأعطاب فيه. ولقد فتحـت ورشة نقديـة له، عمليا منذ مطالع القرن التاسع عشر: غب نجاح الثورة الفرنسية.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الـدولة الوطـنیـة ما کان
إقرأ أيضاً:
عمار: الحديث عن المساس بالدعم نوعاً من «الغباء الاقتصادي»
قال فوزي عمار خبير اقتصادي:” لا يُنكر عاقل أن للدعم وجهاً آخر قد يتحول من أداة حماية اجتماعية إلى عبء اقتصادي إذا أُسيء تطبيقه،لكن الفرق بين “الغباء الاقتصادي” و”الحكمة الاجتماعية” يكمن في كيفية إدارة هذا الدعم”.
وأضاف عمار، عبر حسابه على “فيسبوك” :” يعتقد البعض أن الدعم على بعض السلع هو خسارة اقتصادية، متناسيا أن كبار الدول مثل بريطانيا تدعم الصحة مثلا 188.5 مليار باوند سنويا”.
ولفت إلى أن بعض الدول تخسر لشراء السلم المجتمعي، فليس كل خسارة هي خسارة بل أن الاقتصاد ليس أرقام فقط، بل أحيانا تخسر الدولة من أجل كرامة المواطن صاحب المال، فالاقتصاد الجزيء الذي يٌنبى على الربح يختلف عن الاقتصاد الكلي للدولة”.
ونوه بأن الفلسفة التي تدعوا لخلق طبقتين هما عمال ورأس مال لخلق دولة صراع ديمقراطي مازلنا بعيدين عنها”.
وأكد ان الدعم متواجد في مختلف الهويات الاقتصادية، وهذه نماذج لبعض الدول التي لديها دعم: فبريطانيا ليس وحدها من الدول الكبرى التي تلجأ للدعم بل فنلندا والسويد والنرويج تدعم التعليم والصحة فهي مجانية، وكندا تدعم التعليم العالي بمنح كبيرة، وفرنسا تدعم التأمين الصحي الإلزامي، والإمارات تدعم المشروعات الصغرى والمتوسطة والبرازيل تدعم الفقراء للارتقاء بحياة كريمة.
وأفاد بأن الجدل حول الدعم هو في الحقيقة جدل حول أولويات الحكومات ورؤيتها للمواطن، فالدولة التي ترى شعبها مجرد أرقام في جداول الميزانيات ستسارع إلى قطع الدعم باسم “الترشيد المالي”، أما الدولة التي تعتبر الإنسان ركيزة التنفس فستسعى إلى
عدم المساس بالدعم”.
وتابع عمار:” القضية ليست “دعم أم لا دعم”، بل “كيف نُحسن الدعم” لنصنع اقتصاداً يُحقق التوازن بين العقل والقلب، والأهم من ذلك، أن الدعم يجب أن يكون جسراً للإصلاح، لا بديلاً عنه، وقبل كل هذا يبقى السؤال الأهم هو كيف نوزع الثروة على الناس حتى لا يضطرون للدعم”.
وتابع:” لم يعد السؤال “هل نلغي الدعم؟”، بل “كيف نعيد اختراعه؟”، فالدعم في القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون نظاماً ذكياً مرتبطا بالتنمية”.
واستطرد عمار قائلا:” في خضم الجدل حول الدعم الحكومي للسلع الأساسية، يغفل الكثيرون عن الحكمة العميقة الكامنة وراء هذه السياسات، فالدعم ليس مجرد إنفاق عشوائي يُثقل كاهل الموازنة العامة، بل هو استثمار حقيقي في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي”
وقال عمار:” عندما تتدخل الدولة لضمان أسعار معقولة للخبز أو الوقود أو الكهرباء، فإنها لا تحمي فقط الفئات الهشة من الغلاء، بل تحافظ أيضًا على تماسك المجتمع وتجنبه موجات الغضب والاضطرابات التي قد تكبد الاقتصاد خسائر أكبر بكثير من تكلفة الدعم نفسه.
وأشار إلى أن الحديث عن المساس بالدعم في ظل غياب الدولة مثل ليبيا يعتبر نوعا من “الغباء الاقتصادي” أو ما يمكن أن نطلق عليه (الغباء المدعوم).
ولفت إلى أن رفع الدعم أو استبداله في هذه الظروف تبسيط يفتقر إلى الرؤية الشمولية في ظل دولة لا تملك مواصلات عامة ولا طيران اقتصادي ولا سكك حديد.
وشدد على أن أن تحويل الدعم إلى نقدا سيزيد من حجم التضخم فكل شيء مرتبط بالوقود من الخبز إلى نقل الدواء إلى تذاكر السفر، كما أن الحكومة غير قادرة على توفير المرتبات في موعدها فلا بالك باظافة الدعم النقدي.
وأضاف أن المواطن لم يعد يثق في الحكومة التي وعدته بدفع نقدا للدعم على المواد الغذائية ولم يرَ ذلك نهائيا.
وأوضح أن الحل في جودة العملية الظبطية لأن مهما رفعنا السعر سيظل يهرب الوقود، فمثلا في السودان سعر اللتر يصل إلى 6 دينانير ليبية مهما رفعت الدعم ستظل هنالك فرصة للتهريب”.
واختتم عمار قائلا:” إن الاقتصاد الناجح ليس ذلك الذي يحقق فائضاً مالياً على الورق فقط، بل الذي يضمن حياة كريمة لمواطنيه ويبني مجتمعاً متوازناً قادراً على النمو المستدام، لذلك، قبل إطلاق الأحكام، علينا أن نسأل: هل نريد اقتصاداً يخدم البشر، أم بشراً يُضحَّى بهم في سبيل اقتصاد وهمي؟”.