الاقتصاد العماني.. الفيل الذي في الغرفة
تاريخ النشر: 13th, March 2024 GMT
منذ تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في البلاد، كان واضحا وجليا تركيز جلالته العميق على الدفع بالاقتصاد العماني نحو آفاق جديدة؛ إدراكا من جلالته -أعزه الله- بالمقومات والمقدرات والمزايا والموارد الاستثنائية التي حبا بها الله عمان على الصعيد الاقتصادي والتجاري والاستثماري والزراعي والسياحي والموقع الاستراتيجي ووطأة الوجود التاريخي لعمان ومع وجود طاقات شابة عمانية مؤهلة من أعرق الجامعات والكليات، ولهذا فلا غرو أن تكون الطموحات عالية وبما يليق بعمان، وهو ما انعكس بكل عزيمة وإرادة في ذلك الحراك الضخم من لدن جلالته لمعالجة الملف الاقتصادي وفق استحقاقات المرحلة الراهنة والمستقبلية، واضعا في الاعتبار كل ما شأنه تعزيز مكانة الاقتصاد العماني واستدامته والتخفف قدر الممكن والمتاح والواقع من الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات الوطنية.
وأستحضر هنا خطاب جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- في 23 فبراير 2020 حينما أكد حرصه على «تعزيز التنويع الاقتصادي، واستدامة الاقتصاد الوطني». ولا يتسع المقام لاستعراض التوجيهات السامية والمعالجات والمبادرات والمراسيم التي توالت تباعا لوضع الأطر التشريعية والتنظيمية والإجرائية للمشهد الاقتصادي، ترجمة للرؤية السامية في العهد الجديد، بل وتوج تلك التوجهات بزيارة تاريخية لكتلتين اقتصاديتين على المستوى العالمي هما الهند وسنغافورة.
وفي 18 أغسطس 2020 تم استحداث وزارة الاقتصاد وكلفت بجملة من الاختصاصات على سبيل المثال لا الحصر (اقتراح السياسات والبرامج الاقتصادية والإجراءات اللازمة لتنفيذها، وعرضها على مجلس الوزراء للاعتماد، دراسة وتقيم أداء القطاعات الاقتصادية وتطورها واتجاهاتها بالتنسيق مع الجهات المعنية وغيرها. وتعمل وزارة الاقتصاد منذ ذلك الوقت لوضع هذه السياسات في إطارها الوطني والتي يعوّل عليها الكثير من التوقعات وطنيا وشعبيا. ومن الملفت جدا أن اختصاصات الوزارة لا تتضمن حرفيا العمل على الدفع بالاقتصاد العماني لخلق فرص عمل بل واجبات عامة وبصيغ مفتوحة نسبيا.
ولعله من المناسب الإشارة إلى تجربة أخرى في سياق أدوار الجهات الاقتصادية مثل التجربة السنغافورية، سنجد أنه لا توجد وزارة مخصصة للاقتصاد مثلما هو الحال في عمان وإنما هناك كيان حكومي اسمه مجلس التنمية الاقتصادية (Economic Development Board ) يتبع وزارة التجارة والصناعة هدفه الأسمى يتعلق بالعمل على إيجاد نمو اقتصادي مستدام معزز ببيئة أعمال جاذبة وخلق فرص عمل جيدة للشعب السنغافوري. فيما يشرف المجلس على جملة من الصناعات التي تشكل أكثر من ثلث إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وإلى جانب تسهيل الاستثمارات فإن المجلس يضطلع بمشاركة قاعدة الشركات السنغافورية الراهنة لتحويل عملياتهم وتعزيز إنتاجيتهم والدفع بالنمو والتوسع في دول الجوار من خلال تطوير وإنماء أنشطة تجارية سنغافورية جديدة خارج البلاد. كذلك يعمل المجلس مع الجهات الحكومية المعنية لتحسين بيئة الأعمال التجارية وضمان أن تلتحق بهذه الصناعات قوة عاملة قادرة على المنافسة عالميا عبر تطوير المواهب والكوادر السنغافورية. وفي ذات المسار هناك ما يسمى بمجلس الاقتصاد المستقبلي (The Future of Economy Council ) ) ويترأسه نائب رئيس الوزراء ووزير تنسيق السياسات الاقتصادية ومهمته قيادة النمو والتحول في سنغافورة نحو اقتصاديات المستقبل ويتألف من أعضاء يمثلون الحكومة والمجتمع الصناعي السنغافوري والتجاري والجمعيات والغرف التجارية والمؤسسات التعليمية والتدريبية في البلاد.
في ذات الوقت، نواجه في عُمان تحديا كبيرا يتعلق بتوفير فرص العمل لأبناء وبنات عُمان سواء في الحكومة أو في القطاع الخاص وهناك سجال لا يتوقف عن التعمين والذي يراه البعض أنه كمفهوم وقناعة عامة أصبح ضارا أكثر مما ينفع فمن غير المعقول أن يصبح توظيف العماني في القطاع الخاص هو الاستثناء! بمعنى أنه يمكن أن توظف من غير العمانيين ما شئت إذا التزمت بنسبة التعمين المحددة رسميا في النشاط التجاري وطبيعته، وهي لعمري مغالطة كبرى ينبغي أن تتوقف، بل والعكس هو الصحيح والمنطقي في ظل تخرج عشرات الآلاف من الشباب العماني سنويا من أعرق الجامعات الوطنية والأجنبية.
وهنا تحديدا وفي هذه «المساحة الرمادية» من تداول سؤال التعمين في البلاد، من المفيد التذكير بالتعبير الإنجليزي) the elephant in the room ) الذي يشير إلى «الفيل الذي في الغرفة» ولمن لا يعرف معناه فهو تعبير يشير إلى وجود مشكلة كبيرة أو موقف أو حالة تتسم بتحد كبير وإشكاليات واسعة وعميقة وخطيرة وتداعياتها أخطر ولكن يتم تجاهل وجودها أو مناقشتها؛ لأنها قضية شائكة وحساسة وغير مريحة ويصعب معالجتها، ويستخدم المصطلح في سياقات السياسة والعلاقات والتحديات المؤسسية وتتطلب معالجة الأمر الشجاعة والأمانة والانفتاح لتقبل حوار بناء وهادف وصريح بهدف التوصل إلى حلول واقعية.
والحديث عن التعمين هو أشبه بالحديث عن «الفيل الذي في الغرفة» فالمشكلة الحقيقية هي ليست في التعمين بحد ذاته بل إنها في الاقتصاد نفسه وهو في الواقع (الفيل الذي في الغرفة) ويأتي موضوع التوظيف والتعمين مجرد منتج جانبي ونتيجة مصاحبة لعدم معالجة جذر التحدي الأصلي وهو تحدي الاقتصاد.
وبالتالي فإن الجهة المعنية بالاقتصاد يؤمل منها فوق جهودها المقدرة حاليا أن تخرج من «دائرة التنظير» و«دائرة القول» إلى طرح وتبنّي وتنفيذ أفكار واقعية وملهمة ونوعية تفكر بعقلية خارج الصندوق بحيث تنطلق المقومات الاقتصادية العمانية بكل أبعادها نحو آفاق نوعية، بعيدا عن التنظير الراهن الذي لا يخدم المرحلة بشيء ولا ينسجم مع التطلعات الوطنية، بحيث نستطيع فعلا أن نتحول إلى اقتصاد مستدام مولد للوظائف بحق وفرص العمل الكريمة للشباب العماني.
ومن الملفت أن يكون لدينا أكثر من ثلاثة آلاف كلم من السواحل والشواطئ ولا يوجد لدينا نشاط تجاري/ سياحي نوعي على ضفافها ينقل هذه المقومات إلى المنافسة الإقليمية والدولية بحيث تصبح السياحة (وأنشطة تجارية أخرى) صناعة عمانية ننافس بها المنطقة رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الوزارة المعنية. على ضفة الزراعة والأسماك، مزارعونا وصيادونا يعانون أيما معاناة في تسويق منتجاتهم الزراعية والسمكية ونحن من أكبر المنتجين في المنطقة وهو القطاع الذي يمكن أن يوظف الآلاف من العمانيين ولا يستطيع المواطن تسويق منتجاته إلا بشق الأنفس، رغم كل جهود وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه (من المحزن الآن أن كثيرا من المزارع في الباطنة أصبحت تحول إلى مخططات أراض سكنية بعد أن أصبحت غير قابلة للزراعة!). وهنالك قطاعات أخرى كثيرة مثل القطاع الصناعي (الذي يعاني من تعرفة الكهرباء والغاز العالية نسبيا) الذي يمكن أن يكون أكبر قطاع مولد للوظائف، وبالتالي ما أحوجنا الآن إلى التخلص من النمطية ومحدودية الأفق والتنظير المفرط واستلهام مضامين التوجهات السامية وطموحها لعمان الحاضر والمستقبل ولا ينقصنا في ذلك سوى الإرادة والعقول والتخفف من التنظير الحالم البعيد عن الواقع والعودة إلى خانة الفعل والإنجاز والاكتفاء من التنظير والمجاز، انسجاما مع تطلعات جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- لعمان حول سياسات التنويع والاستدامة الاقتصادية بمفهومها الشامل وتحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040.
يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاقتصاد العمانی
إقرأ أيضاً:
إنجازات «العمل» خفض البطالة ودعم العمال.. 10 سنوات من المساهمة في تنشيط الاقتصاد
عملت الدولة، على مدار 10 سنوات، على خفض معدلات البطالة، ورفع معدلات التشغيل بين الشباب، حيث بدأت معدلات البطالة فى الانخفاض تدريجياً منذ عام 2014 بدعم من الاستقرار الأمنى والسياسى والاقتصادى، وعودة حركة السياحة، وزيادة التدفقات الاستثمارية، وتعزيز وضع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وارتفاع عدد المشروعات القومية، ما أسهم فى تنشيط عجلة النشاط الاقتصادى، وخلق فرص عمل جديدة.
ونفذت وزارة العمل تكليفات الرئيس السيسى فى ملف العمل، على مدار تلك السنوات، والتى تمحورت حول مجموعة من الملفات؛ منها الاستمرار فى خطط وبرامج الحماية والرعاية للعمالة غير المنتظمة، والتأكيد على جميع منشآت القطاع الخاص والقطاع العام وقطاع الأعمال العام بالالتزام بالنسبة المقررة قانوناً «5%» لتشغيل الأشخاص ذوى الإعاقة واستمرار العمل على تنمية مهاراتهم ودمجهم فى سوق العمل.
«الوطن» تستعرض جهود الدولة نحو توفير فرص العمل ومواجهة البطالة، وأهمية تصدير الكوادر والعمالة المصرية المدربة للخارج، حيث تمتلك وزارة العمل خطة للإسهام فى مواجهة الهجرة غير الشرعية، وهو الملف الذى يدخل فى جميع برامج وزارة العمل بمتابعة مباشرة من الوزير.