أوريان 21: هكذا يهاجم رئيس الوزراء الهندي المسلمين والعلم
تاريخ النشر: 13th, March 2024 GMT
من خلال اللعب على الإسلاموفوبيا واستغلال بعض مفاهيم ما بعد الحداثة، يعمل القوميون الهندوس بزعامة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي على مواجهة إسلام يصفونه بـ"المحتل والقمعي للتقاليد الهندوسية الحكيمة"، كما يعادون العلوم الطبيعية والتاريخ، محاولين فرض سردية وطنية جديدة على المسلمين الهنود وبقية العالم.
بهذه المقدمة، افتتح موقع أوريان 21 -مقالا للمؤرخ الفرنسي سيمون بيير- انطلق فيه من افتتاح مودي مبنى على الطراز الكلاسيكي الجديد في 22 يناير/كانون الثاني 2024، في موقع أقدم مسجد مغولي في شبه القارة الهندية، أسسه بابور، أول سلاطين سلالة الفرغانيين، ودمره القوميون الهندوس عام 1992، وتم تخريب آثاره خلال أعمال شغب صاحبتها مذبحة لآلاف المسلمين من دون عقاب.
وأوضح أستاذ التاريخ في جامعة السوربون أن الحجة المقدمة هي أن المسجد أقيم في مسقط رأس الملك المؤله راما الذي عاش قبل 4 آلاف عام، مشيرا إلى أن هذا الهجوم المتطرف، الذي يتم تبريره باسم الإيمان والعبادة والنظام الاجتماعي والهوية الهندوسية، جزء من الأجندة القومية الدينية لحزب بهاراتيا جاناتا الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي، وهو يستهدف 225 مليون مسلم يشكلون 16% من سكان الهند.
إعادة كتابة العلوم بدعوى إنهاء الاستعمار
ونبه المؤرخ الفرنسي إلى أن الحملة المنسقة لإعادة الكتابة ضد الحقيقة العلمية تستهدف أيضا التاريخ الطبيعي والفيزيائي والبيولوجي بقدر ما تستهدف التاريخ الاجتماعي والسياسي، لأنهما يناقضان الحقائق المقدسة حول خلق العالم ونظامه، فضلا عن التفرد والحصرية الهندوسية للرواية الوطنية.
ويتم تبرير هذا الهجوم الأصولي بحجة أن سيادة المعرفة التقليدية مهددة بفِعل المعرفة الغربية التي يُنظر إليها على أنها استعمارية، ككل ما ينسب إلى الهند الإسلامية، مشبها حالة الهند هذه بالنزعة العسكرية اليابانية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وحججها بحجج الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية في الفترة نفسها.
وفي هذا السياق، تحرم هذه الظلامية -حسب وصف الكاتب- طلاب المدارس المتوسطة والثانوية في الهند من الوصول إلى معلومات محايدة في المجالات البيولوجية والجيولوجية والفيزيائية الفلكية والاجتماعية والسياسية، محولة مسار النضال ضد الهيمنة الاستعمارية إلى تعزيز وإعادة فرض الهيمنة القديمة للطوائف المهيمنة، التي يتم تقديمها على أنها وطنية، ولا سيما البراهمة المتدينين.
تشكيك المتطرفين الهنود في العلوم يحرم طلاب المدارس المتوسطة والثانوية في الهند من الوصول إلى معلومات محايدة في المجالات البيولوجية والجيولوجية والفيزيائية الفلكية والاجتماعية والسياسية
وتُفرض دعاية حزب بهاراتيا جاناتا على الناس قبل التخصص في السنة النهائية، للمحافظة على جهل الجميع بما لا يخصه من مجالات، ومن ثم فإن إعادة كتابة التاريخ تقوم على مقولة شائعة مفادها أن الحضارة الهندية يعود تاريخها إلى 5 آلاف عام، وكأن حجة الأسبقية واستمرارية الجوهر من شأنها أن تبرر التفوق الجوهري المزعوم، كما يقول الكاتب.
عاطفة علمية عمياءوقد أثارت هذه الهجمات المنسقة ضد التعليم الذي لا يتفق مع هيمنة القومية الهندوسية بالفعل بعض ردود الفعل، رغم أنها غير متكافئة ومفككة، فمن ناحية، لم يتلق القطاع الهندي للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وخاصة في التاريخ التركي الإيراني والإسلامي، أي دعم أكاديمي من الدولة تقريبا، ورغم وجود تحركات متفرقة في دوائر دراسة الأحياء والفيزياء، فإنها لم تذكر أبدا حالة التاريخ.
وتشير مجلة "نيتشر" إلى أن "الهند ليست الدولة الوحيدة التي تتصارع، في مرحلة ما بعد الاستعمار، مع مسألة كيفية احترام أشكال المعرفة القديمة أو المحلية والاعتراف بها في مناهجها المدرسية"، إلا أن المجلة كغيرها -حسب الكاتب- لم تكن قادرة على ربط هذه الهجمات بتلك التي تستهدف العلوم الإنسانية وتاريخ الإسلام، وفي نهاية المطاف فالمسلمون هم الذين يتعرض بقاؤهم الجسدي والسياسي والرمزي للتهديد، في الوقت نفسه يتعرض فيه مستقبل العالم للخطر.
ويبدو أن جزءا صغيرا من الصحافة هو الذي لمح الجانب المناهض للإسلام والمسلمين في عملية إعادة كتابة التاريخ هذه، وبالفعل أشار مقال في صحيفة فايننشال تايمز إلى محو آخر سلالة هندية من المغول، وهي إشارة لا تضع في الاعتبار ما ينطوي عليه ذلك من آثار على الصعيد الاجتماعي والسياسي، على حقوق مئات الملايين من المواطنين المسلمين في الاتحاد الهندي.
وبالفعل تحدد قناة الجزيرة -حسب الكاتب- هذا التركيز على المغول وحدهم فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية، وهي تشعر بالقلق منذ عام 2018 بشأن العلامات التحذيرية لهذه السياسة المناهضة للإسلام، مع تغيير اسم مدينة الله أباد من قبل حكومة ولاية أوتار براديش.
وبالفعل قام رئيس وزراء الإقليم، وهو "الراهب" الهندوسي العنصري المسمى يوغي أديتياناث، عام 2020 بحملة علنية من أجل طرد جميع المسلمين إلى باكستان، كما أعلن في مواجهة المظاهرات المناهضة لتجريم الطلاق في الشريعة الإسلامية أنهم (المحتجون) "إذا لم يفهموا الكلمات سيفهمون الرصاص".
ويعتمد جزء كبير من السردية القومية الهندوسية على الانتقام من الاستعمار الإسلامي للهندوس منذ آلاف السنين، وأحد العناصر الأساسية في خطاب الاضطهاد هذا هو ما يسمى "التحول الديني القسري"، لكن الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن الهندوس ما زالوا أغلبية تظهر أن هذا مجرد وهم، وهو يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تكتفي بالجزية مقابل بقاء المرء على دينه، كما مارستها السلطات المحلية.
ومع أن مودي يحرص على عدم نقل هذا الجانب، لتجنب ردود الفعل الغربية، فإن سياسته على المستوى الفدرالي، تتضح بشكل خاص من خلال تغيير الاسم الرسمي للبلاد، من "هندوستان" في اللغة الفارسية إلى "بهارات".
أجندة إصلاحية رجعية
وعلى النقيض من الصحافة العالمية -كما يقول الكاتب- فإن صحفيي الجزيرة لا يتحدثون فقط عن المساجد والسلالات الإسلامية، بل يصفون المراجعة الكاملة للتدريس في 14 ولاية اتحادية، ويفصلون في ذلك، مقتبسين من أستاذ هندي أسفه لأن طلابه يفقدون "المكان الوحيد لمناقشة وتحدي المفاهيم الدينية"، وهو فرصة "المعلم لقيادة الطلاب إلى التمييز بين" الإيمان كوسيلة للمعرفة" و"العلم كوسيلة للمعرفة".
وباختصار، تنتقد الصحافة المناصرة للإسلام بوضوح قمع العلوم الطبيعية غير الدينية في التعليم الثانوي الهندي، في حين تتجاهل وسائل الإعلام العلمية استئصال العلوم التاريخية المرتبطة بالإسلام أو تقلل من شأنه.
ويتقدم القوميون الهندوس على وجه التحديد انطلاقا من غياب رد الفعل الدولي، من خلال مهاجمة الحقائق البيولوجية والتاريخية، مما يعرض العلم بشكل عام للخطر، ولكن رد فعل المجتمعات الغربية المتضررة كان خجولا.
ونبه الكاتب إلى أن مودي يتبنى عن طيب خاطر وبنجاح موقفا مناهضا للاستعمار مع الهيبيين، وموقفا آريا مع الفاشيين، وفي هذه السردية المتوافقة مع أوروبا يبرز أن الهند كانت ستصبح منارة علمية لو لم تسحقها الظلامية الإسلامية، ولو لم تكن ضحية للغرب.
ويستغل حزب بهاراتيا جاناتا بمهارة الإسلاموفوبيا ومعاداة الداروينية ومعاداة الاستعمار ومحبة الهندوسية، لتنفيذ أجندته "الإصلاحية" الرجعية -حسب تعبير الكاتب- حيث ينظر إلى أي مدخلات إسلامية أو غربية باعتبارها اعتداءات "استعمارية" على أصالة بهارات وتفوقه الوجودي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات ترجمات إلى أن
إقرأ أيضاً:
عندما يرسم الكاتب
القصيدة وعاء والشعر سائل... هذا ما وصلت إليه إليسا جابرت في مقالتها (شكل الفراغ- نحو تعريف للشعر)، تبدو الفكرة جذابة لدرجة الجزم بصحتها باعتبار الشعر كيانا أثيريا لا يقتصر تواجده على القصائد والنصوص الشعرية بل يتجاوزه ليتخلل القصص والروايات ويمتد ليشمل اللوحات والمنحوتات والعوالم الفنية تشكيلية مسرحية وسينمائية، ويمكن أيضا تلمس النفس الشعري حتى في التفاصيل اليومية الصغيرة، وبالقياس يمكن اعتبار تمايل الشّجرة وهجرة الطيور وعلاقة الموج بالشّواطئ كلها شعرا خالصا، فكأنّ الشّعر وجدانيات كثيفة وروحانيات صوفيّة مرهفة تعتمر الرّوح وتقدم نفسها بين أيدينا على شكل مفردات أو خطوط وألوان، رقصاً أو نغمات وموسيقى.
وهذا إذن السبب الرئيس وراء تمازج الفنون، حيث يندر أن نجد أديبا لم يحاول الرسم أو يقارب الغوص في عالم اللون، وبالمقابل تستهوي الرسام الكلمات وقد يقع في شرك الكتابة، العزف أيضا مجال عريض الأبواب للدخول ومحاولة إحلال العلامات الموسيقية مكان الأحرف المكتوبة لدى الأصابع، معظم هذه المحاولات تكون خاصة لا يطلع عليهم سوى دائرة ضيقة من المقربين، بينما تكون علنية عند آخرين، مما لا يجدون ضيرا في عرض نتاجهم.
سنسترق النّظر هنا لنشاهد تجارب عدد من الكتّاب الذين لم تكن علاقتهم بالفن علاقة سرية، بل رسموا بالتوازي مع عملهم الكتابي وعرضوا نتاجهم بمعارض فنية أو عبر صفحاتهم على وسائل التّواصل الاجتماعي، وقد استخدمت مصطلح ـ استراق النظر ـ عن قصد لأن السمات العامة لمحاولات الكاتب أن يقترب من عالم الفن كانت تتسم بخجل ووجل طفوليين أجبرت بعض الكتاب على محاولة إخفاء إنتاجهم الفني ولعل أشهرهم كان كافكا الذي خبأ رسوماته عن الأنظار، يقول جوستاف يا نوخ في كتابه «حوارات مع كافكا» إنّه حين شاهد كافكا يرسم، أخفى الرسومات عنه، لكنه سمح لجوستاف برؤيتها فيما بعد، وأضاف: «هذه الرسومات ليست بريئة كما تبدو لأول وهلة. إنها بقايا رغبة قديمة وعميقة» فكأنها ما ترسب في الأنا ولم تستطع الكتابة إخراجها، تقنيا كانت هذه الرسوم بسيطة بالحبر الأسود ذاته الذي كان يكتب به كافكا قصصه ورواياته لكن تكثيفها ورشاقة خطوطها هما سمتاها المميزتان، وكأن هذه الرسومات امتداد لما يكتبه من أدب، ويذكر الناقد الفني فيليب هارتغان أن هذه الحركات السريعة والتعبيرات البسيطة تحوي الكثير من الاقتصاد في الرسم يمكن للرسامين التعلّم منه. الخطوط هنا تعكس ثقةً وقوة لم تكونا واضحتين في شخصية كافكا، وكالعادة النتاج الفني يفضح بعض التّفاصيل الدّاخلية العميقة والتي ربما حتى الفنان نفسه لا يعرفها عن نفسه، حجمها الصغير يشي بخوف وحياء من تجربة الرّسم، وذاك ليس غريبا على فرانز كافكا الذي كان يتأخر بنشر نتاجه الأدبي، حتى أن أشهر أعماله (المسخ) انتهى من كتابتها في 1912 ولم تنشر إلا بعد 1915.
أما رامبو الشّاعر الفرنسي المغامر الذي لجأ للرمز والسريالية في شعره فقد رسم أيضا مجموعة من اللوحات رافقت أسفاره ورحلاته لمدن كثيرة، وكانت لوحاته مائية هادئة المزاج خلافا لشعره الذي شكّل انقلابا في الشعر الفرنسي، فكانت تمثّل السكون الذي يربض خلف غضبه وثورته المستمرة، وقد تكون مطالعة شعر رامبو مع مشاهدات لوحاته فسحة جديدة تزيد من عمق الشعر وتقدم مسارات لقراءة شعرية أكثر غنى.
بالطبع لا نستطيع إغفال جبران خليل جبران الذي عرف عالميا ككاتب أكثر من كونه رساما مع أنه قضى حياته يكتب ويرسم في آن واحد، وقد بدأ حياته رساما! وترك خلفه حوالي 700عمل ما بين تقنية الفحم والألوان المائية، وكان يعتبر الرسم فعلا لا يحتاج الوعي كالكتابة يقول عن ذلك: «عندما أعكف على الرّسم وأنتج شيئا جيدا قليلا أو يستحق التقدير يجيء ذلك على غير وعي مني، وأنا على خلاف ذلك في كتاباتي فأنا أعرف عما أكتب في حين أنني أجهل لم أرسم أو أصور» إذن كان الفن عنده هروبا من قيود الوعي وراحة للعقل، حيث كان بإمكانه أن يرسم ما يعتمر في لاوعيه دون رقيب.
أدونيس الشاعر أدخل الفن التشكيلي أيضا لعالمه ومزجه مع الشعر ليس على المستوى المعنوي فقط بل أننا عندما نشاهد رسومه نجدها محاطة بكلمات وأشعار لـ(المتنبي، المعري، النفري...) وكأنهما -الشّعر والفن- كيانان يحتفل كل منهما بالآخر، رسم بالحبر الأسود رسوما رمزيّة مختزلة تشبه رسوم الإنسان القديم على جدران الكهوف، كما أنها تحمل مسحة طفولية بعفويتها وفطريتها وعن ذلك يقول أدونيس في أحد تصريحاته: (... في فني أبحث عبر شيخوختي عن طفولتي المفقودة التي اقترب حزنها من حلم الفرح) اللون الأحمر كان حاضرا كذلك في العديد من رسومه بقوته ووضوحه يمنح اللوحة قوة ويسحب الانتباه إليها، حينها يبدأ المتلقي بقراءة الكلمات وتأمل التفاصيل البارزة في العمل فقد استخدم أدونيس الكولاج أيضا ليضيف مواد متنوعة ويصنع بذلك عملا بتقنية خاصة به وقد أسمى أعماله بـ(اللوحات الرقيمة) فهو يريدها أن تشبه الرّقم، وقد بدأ بتنفيذها بعد مروره بمراحل لم يستطع خلالها القراءة أو الكتابة فخطر بباله السؤال التالي: لم لا أعطي ليدي نوعا من الحرية لأعرف ما يمكنها أن تصنع، فكانت بداية الدخول للتجربة التّشكيلية.
وهذا السبب يتشابه عند الكثيرين فعند التوقف أو التردد عن التعبير بالأداة التي احترفوها يفرحون بامتلاك أداة مختلفة تحتوي على ذات الخواص، وهو سلوك طبيعي يشبه سلوك السواقي التي تباشر في حفر مسار جديد عندما تعترضها عقبة جيولوجية، فتنشر الجمال والخضرة في جغرافيا جديدة، كأن تخونك لغتك، فتنساب لغة جديدة تمنحك القدرة على نقل رؤاك وأفكارك بعناصر شكلية هذه المرة.
وهذا ما لجأ إليه الشاعر والمترجم أحمد. م. أحمد الذي شغلته الترجمة في فترة عن إبداعه الشّعري، وصارت كلماته مسخّرة لترجمة نتاج الآخرين، وبدأت مشاعره (الغضب، اليأس، الترقب...) تتراكم فوق صدره، فبدأ بالرّسم وكان طوق النجاة، خرجت لوحاته للجمهور ناضجة فكان أشبه بطفل خطا خطواته الأولى بثقة، لم يحبُ لم يتأرجح ببداية سيره!.
من ناحية الشكل نجد هذه الأعمال تنتمي للمدرسة الفطرية يرسمها بطريقة طفولية –وهذا تبريره عند الفنانين الأكاديميين مختلف عن تبريره لدى الداخلين عالم الفن حديثا.
فهنا يرجع استخدام هذا الأسلوب لرغبة عارمة للتعبير والبوح عن شعور كامن دون أن يلقي بالا بالطرق الأكاديمية في الرسم؛ المواضيع عند أحمد شائكة معقدة تفاجئ المتلقي بكثرة التفاصيل، فيحتاج المشاهد لوقت طويل حتى يلم بالعناصر ويحصي الألوان المستخدمة، فيجد نفسه في مأزق التفسير الشاق ولا يلبث أن يكتفي بالتذوق.
الأعمال عبارة عن مساحات لونية كتيمة لا فراغات بيضاء تسمح لها بالتنفس، الألوان قوية جريئة حيوية ودرجاتها قاتمة، تتوزّع بتواتر مدروس أحيانا وعشوائي غالبا يشي باختلاط المشاعر، فخلف كل لون خلجة من خلجات مشاعره يسكبها على سطح اللوحة دفقةُ واحدة، ليكسبها حياة وجمالا ينافس فيها الفنانين، وليزيد لوحاته غنى يضمنها مقاطع من شعره أو جمل ترجمها ليخرج عمله الفني مشكلا على طريقة فريده يختص بها دون سواه.
أما تجربة القاص والرّوائي إسلام أبو شكير فكانت مختلفة، فقد أتقن دور الفنان التشكيلي، وقرّر الرسم بطريقة أقرب للواقعية، تطورت تجربته شيئا فشيئا فصارت لوحاته الواقعية دقيقة لحد كبير، رسم تفاصيل يومية كوب الشاي، قارورة الماء، سلة الغسيل، الكنبة... وغيرها، لينتقل في مرحلة أخرى للوحات تعبيرية تحمل الكثير من الأفكار (الموت، الهجرة، الوحدة...)، فنجد المشانق مدلاة من السماء في إحداها، وقاربا مكتظا بالهاربين يرسو على الرمال وكأن البحر الذي كان الفرصة الأخيرة المتاحة أمامهم جف وتركهم لمصيرهم، تتقاطع هذه المواضيع مع مواضيع أعماله الأدبية التي تحفر عميقا في الصعيد الإنساني، لكنها تطل للمتلقي بزي مختلف محافظة على الحس الجمالي الذي لا يغيب مهما كانت المواضيع قاسية.
بالطبع هنا مررنا على عينات اختيرت بشكل عشوائي من قائمة تطول من الكتّاب والشعراء من عصور مختلفة وانتماءات متباينة، ممن لجأوا إلى الفن التشكيلي ليكون نافذتهم على العالم، فقد أرادوا وسيلة أخرى غير الكلمة تترجم ما يجول داخلهم، فرحّب بهم الفن التشكيلي وفتح أمامهم أبوابه ومنحهم أسراره، وذلك لأنهم حقّقوا أهم الشروط ليكون الفن فنا وهو الصدق في العاطفة وبالتأكيد الرغبة في التعبير عما يجول في النفس والتي لولاها لما كانوا دخلوا عوالم الرسم أصلا، وأعتقد أن وجودهم في عوالم الأدب والشعر تجعلهم مطلعين أكثر من سواهم على أهمية الفن، لذا كان سعيهم (بشكل واع أو عفوي) لإنتاج أعمال إما جمالية صرفة، أو فكرية مباشرة، أو فلسفية معقدة هو الدافع المباشر للرسم.
أما الدافع غير المباشر الذي يجعل الفنان يعود كلّ يوم ليمسك قلمه وريشته، أو يعجن طينه ويحمل إزميله هي المتعة التي تتركها ممارسة الفنّ والراحة التي تستقر في الرّوح بعد تفريغ الشحنات السلبية، هذه المتعة تجعل كل من يمسك قلما يرسم وحتى إن لم يكن موهوبا، والكتب المدرسية غير مثال على ذلك، فالرسم كان وسيظلّ حبل النّجاة من الملل الذي يملأ بعض الحصص المدرسية!
بسمة شيخو كاتب سورية متخصصة في الفن التشكيلي