كشفت تقرير مؤشر السلام والأمن، أن منطقة الشرق الأوسط الأسوأ، فيما اليمن يتصدر رأس القائمة.

 

وأظهرت النسخة الرابعة من مؤشر المرأة والسلام والأمن 202324، -نشرته الحرة- أن ما يعيشه العالم من حالة طوارئ مناخية، وصعود القوى الاستبدادية والمعادية للديمقراطية، والنزوح القسري واسع النطاق، والنزاعات المسلحة المدمرة، فضلاً عن الآثار المتعددة لجائحة كوفيد -19، تؤثر جميعها على وضع المرأة، وتهدد بتضييع عقود من التقدم على هذا الصعيد.

 

ويقيّم المؤشر (WPS)، الصادر عن معهد جورج تاون للمرأة والسلام والأمن، 177 دولة، بناءً على وضع المرأة فيها، حيث يهدف إلى قياس حالة المرأة وواقعها الحقوقي، ودورها في تحقيق السلام وتعزيز الأمن في مختلف الدول، وذلك عبر مجموعة من المؤشرات التي تسلط الضوء على جوانب عدة، مثل المشاركة في العملية السياسية والتنموية، والحماية من العنف والتمييز، والتمكين الاقتصادي والاجتماعي.

 

ويأخذ المؤشر بعين الاعتبار 13 عاملاً في مقياس قابل للمقارنة عبر البلدان، معتمداً على ركائز متنوعة لوضع المرأة، ويجمع على سبيل المثال ما بين التعليم، والتصورات حول الأمن، والتمثيل البرلماني، وفيات الأمهات، الحماية القانونية والقرب من النزاعات المسلحة.

 

وتندرج تلك العوامل تحت ثلاثة أبعاد: الدمج (الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي)، العدالة (التمييز الرسمي وغير الرسمي)، والأمن (على المستويات الفردية والمجتمعية والمجتمعية)، حيث يجمع المؤشر بين الأداء عبر العوامل والأبعاد لتوليد درجة الدولة، بين 0 و1.

 

الشرق الأوسط.. الأسوأ

 

وجاءت الدنمارك في رأس القائمة بكونها الدولة الأكثر أمانًا للنساء في عام 2024 بمؤشر 0.932، يليها سويسرا 0.928 ثم السويد وفنلندا وآيسلندا.

 

في المقابل كانت أفغانستان الأسوأ في القائمة 0.286، تليها اليمن 0.287، وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان.

 

وسجلت الإمارات النتيجة الأفضل بين دول الشرق الأوسط، حيث احتلت المرتبة 22 عالمياً، والأولى بين الدول العربية مع نتيجة 0.868 يليها البحرين في المرتبة 56  بنتيجة 0.752 ثم الكويت في المرتبة 61 عالمياً مع 0.742.

 

وجاءت السعودية في المرتبة 67، يليها عُمان 75، ثم إسرائيل 80 حيث تشاركت المرتبة نفسها مع قطر، بينما جاء الأردن في المرتبة 92 يليه تونس في المرتبة 96، تركيا 99، مصر 110، الغرب 114، الجزائر 118، ليبيا 122، لبنان 128، إيران 140، موريتانيا 151، جيبوتي 153، فلسطين 156، السودان 164، العراق 168، الصومال 169، سوريا 171، اليمن 176 في المرتبة ما قبل الأخيرة.

 

ووفقاً للتقرير، فإن أداء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو الأسوأ، خاصة فيما يتعلق بالتمييز القانوني والوصول إلى العدالة، حيث لا يوجد في إيران والأردن والكويت وفلسطين وقطر وسوريا واليمن عقوبات جنائية على التحرش الجنسي في مكان العمل. وفي 10 دول في المنطقة، يُلزم القانون النساء بطاعة أزواجهن.

 

 بالإضافة إلى ذلك، فإن كل أفغانستان والعراق وسوريا واليمن كانوا من بين البلدان العشرة الأخيرة، منذ الإصدار الافتتاحي لمؤشر المرأة والسلام والأمن لعام 2017/2018.

 

ووفقا للتقرير، فإن جميع البلدان العشرين الأخيرة، كانت قد شهدت صراعات مسلحة بين عامي 2021 و2022، مشيرا إلى أن عام 2022 كان العام الأكثر دموية على الإطلاق من حيث الوفيات المرتبطة بالصراع منذ الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994.

 

كما تظهر النتائج أن البلدان التي تتمتع فيها المرأة بوضع جيد هي أيضًا أكثر سلمية وديمقراطية وازدهارًا وأفضل استعدادًا للتكيف مع آثار تغير المناخ، حيث ترتبط هذه الآثار ارتباطًا أقوى بوضع المرأة، أكثر من ارتباطها بالناتج المحلي الإجمالي للبلد.

 

ويطلق المؤشر على الدول صاحبة الأداء الأسوأ مسمى "الدول الهشة"، وفيها تتعرض امرأة واحدة من كل 5 نساء للعنف المرتبط بالشريك الحالي مؤخرًا، وتعيش 6 نساء من كل 10 نساء بالقرب من نزاع، ويبلغ عدد وفيات الأمومة حوالي 540 لكل 100000 ولادة حية، وهو أكثر من ضعف المعدل العالمي البالغ 212.

 

تحتل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المرتبة الثالثة من حيث السوء بشكل عام، ولكنها تمتلك أوسع نطاق للأداء، بالمقارنة مثلاً ما بين الإمارات في المرتبة 22 واليمن 176. فيما يظهر أداء منطقة دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا بشكل عام أفضل قليلاً من مجموعة "الدول الهشة".

 

في المقابل تحقق مجموعة "الدول المتقدمة" أفضل أداء، حيث تتفوق بشكل كبير على المتوسط العالمي في جميع المؤشرات الثلاثة عشر، بحسب التقرير.

 

تباينات لافتة

 

يتم تحديد درجة المؤشر الإجمالية لأي بلد عن طريق حساب متوسط درجاته في أبعاد: الدمج والعدالة والأمن.

 

وفي نسخته الرابعة، أضاف المؤشر أربعة معايير جديدة تشمل: الوصول إلى العدالة، من خلال قياس قدرة المرأة على ممارسة حقوقها بالفعل على أرض الواقع، إضافة إلى عامل وفيات الأمهات. وفي البُعد الأمني أضيف معيار العنف السياسي الذي يستهدف النساء، والقرب من الصراع، من خلال تقدير نسبة النساء اللواتي يعشن على بعد 50 كيلومترًا من النزاع المسلح.

 

ويكشف المؤشر عن تباينات صارخة في جميع أنحاء العالم، إذ لا تزال هناك حاجة إلى تحسين في جميع البلدان المدرجة في المؤشر، ويحقق العديد منها أداءً أفضل أو أسوأ بكثير في بعض معايير وضع المرأة، مقارنة ببعضها الآخر. وهو ما يسلط الضوء على أهمية قياس وضع المرأة في أبعادها العديدة.

 

ويكشف تفصيل الدرجات في كل بُعد أداء بعض البلدان بشكل أفضل أو أسوأ نسبيًا في أبعاد معينة، على سبيل المثال، تمتلك فيتنام أكبر تباين عبر الأبعاد الثلاثة، حيث تحتل مرتبة جيدة نسبيًا (24) في الأمن، بسبب التصورات القوية لسلامة المجتمع، ولكنها تراجعت إلى المرتبة 154 في العدالة بسبب ارتفاع مستويات التحيز ووفيات الأمهات.

 

ضمن بُعد الدمج، تكون التفاوتات صارخة بشكل خاص بالنسبة إلى عمل المرأة وإدماجها المالي، وفقا للتقرير، على الرغم من أن متوسط نسبة تشغيل المرأة - سواء رسمي أو غير رسمي - يبلغ 53 في المئة على مستوى العالم، إلا أنه يتراوح بين 90 في المئة في مدغشقر وجزر سليمان وبوروندي، وتتجاوز 95 في المئة في 30 دولة لكنها تنخفض إلى 10 في المئة أو أقل في 8 دول، حيث يسجل اليمن 6 في المئة فقط، بينما تمتلك أقل من 5 في المئة من النساء حق الوصول إلى حسابهن المصرفي الخاص، في أفغانستان وجنوب السودان.


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: اليمن مؤشر المرأة والسلام والأمن حقوق الشرق الأوسط المرأة

إقرأ أيضاً:

الشرق الأوسط يحترق

ترجمة: أحمد شافعي -

أثارت ضربة إيران الصاروخية البالستية لإسرائيل في الأول من أكتوبر مخاوف من حرب شاملة في الشرق الأوسط. فقد بدأت دوامة إراقة الدماء المتزايدة في السابع عشر والثامن عشر من سبتمبر بتفجير آلاف من أجهزة البيجر واللاسلكي التي تستعملها عناصر حزب الله في أنحاء لبنان، وهي عملية غير مسبوقة اعتبرها أحد المحللين "أوسع ضربة سلسلة إمداد مادية في التاريخ". وتمثل الغارات الجوية المستمرة في بيروت وجنوبي لبنان أكبر وابل إسرائيلي على مدى أحد عشر شهرا من التصعيد المتبادل. وفي السابع والعشرين من سبتمبر، وجهت إسرائيل لحزب الله ضربة مهلكة بقتل زعيمه حسن نصر الله في غارة جوية على ضاحية ببيروت. وبرغم ترنحها من هذه الانتكاسات الأخيرة ومن استئصال هيكلها القيادي، يواصل حزب الله إطلاق الصواريخ على إسرائيل. وفي ذهول وغضب، شنت إيران قرابة مئتي صاروخ بالستي على إسرائيل، فلقي شخص واحد على الأقل مصرعه في الضفة الغربية. ويستعد الإيرانيون الآن للانتقام الإسرائيلي. ويبدو أن دائرة العنف أبعد ما تكون عن الانتهاء.

تؤكد هذه الحلقة الأخيرة الانهيار شبه التام للردع في الشرق الأوسط. إذ تقبل الجهات الفاعلة الدولتية وغير الدولتية على مخاطر هائلة. كان بوسع عملية البيجر ـ بوصفها عملية فريدة ـ أن تشير إلى عزم إسرائيل على أن تجبر حزب الله على التراجع عن التصعيد أو مواجهة حرب كارثية. لكن قرارات إسرائيل باغتيال نصر الله وتكثيف الغارات على لبنان بل والشروع في غزو بري تشير جميعا إلى احتمالية أشد قتامة هي أن القصد من عملية البيجر لم يكن إلا وضع حزب الله في موقف دفاعي ليكون ذلك مقدمة لتوغل عسكري إسرائيلي أشمل.

على مدى قرابة عقدين من الزمن، ساد هدوء نسبي الحدود الإسرائيلية اللبنانية. لكن التصعيد الأخير يكشف حقيقة أن المنطقة باتت أشد خطورة منذ هجمة حماس في السابع من أكتوبر وما أعقبها من صراع غزة. لم يعد الشرق الأوسط ملتزما بقواعد الاشتباك وأساليب الردع المستقرة. فالافتراضات الحاكمة للسلوك وحسابات المخاطر لدى الفاعلين الدولتيين وغير الدولتيين في المنطقة تَبيد يوما بعد الآخر. والخطوط الحمراء الواضحة وقواعد اللعبة المقبولة من مختلف الأطراف غائبة غيابا صارخا. ومثلها القنوات المضمونة التي يمكن للأطراف من خلالها التراجع عن التصعيد.

بوسع الولايات المتحدة أن تعيد تأسيس نفوذها المتلاشي وأن تقوم بدور حاسم في استرداد الردع في منطقة تشعر فيها البلاد والجماعات المسلحة الآن أنها قادرة على التصرف تصرفات طائشة. لكن على الولايات المتحدة أن تعترف أولا بأن السياسات الراهنة بالية وغير كافية. إذ إن الولايات المتحدة مستمرة في الاعتماد إلى حد كبير على أساليب عسكرية في الردع تقصر عن مراعاة التحولات التي تزعزع المنطقة، من قبيل اجتراء فاعلين غير دولتيين، وانفلات فاعلين دولتيين، وتقنيات تخريبية. لا بد أن تساعد واشنطن جميع الأطراف على تقليص احتمالية الخطأ في الحسابات والعمل على إيقاف تآكل الردع الذي أشعل فتيل العنف. وإذا لم تفعل هذا، فإنها ستخاطر بالانزلاق إلى صراع إقليمي له تداعيات عالمية.

محور الانتهازيين

طالما لعبت الجهات الفاعلة غير الدولتية دورا مزعزعا للاستقرار في الشرق الأوسط. لكن بعد السابع من أكتوبر، تمكنت مجموعة فضفاضة من الجماعات المتحالفة مع إيران تعرف بـ"محور المقاومة" من إعاقة المنطقة على أنحاء غير مسبوقة. فبعد يوم واحد لا أكثر من هجمة حماس، بدأ حزب الله سلسلة ضربات على شمال إسرائيل أرغمت ما لا يقل عن ستين ألف إسرائيلي على ترك منازلهم، بما أدى فعليا إلى خلق منطقة عازلة بطول خمسة كيلومترات داخل إسرائيل. وكبّدت هجمات إسرائيل الانتقامية المدنيين اللبنانيين ثمنا هائلا، بتشريد مئات الألوف منهم وقتل أكثر من ألف، مع زيادة ضخمة في حصيلة الموتى منذ منتصف سبتمبر.

انضمت أيضا "الميلشيات" في العراق إلى القتال في أواخر أكتوبر، باستهداف قوات أمريكية متمركزة في العراق وسوريا. فعلى سبيل المثال قامت جماعات عراقية عديدة تعمل تحت مظلة المقاومة الإسلامية في العراق بتنفيذ أكثر من مئة هجمة على أهداف أمريكية بالإضافة إلى ضربات موجهة لإسرائيل. وأحدث تلك الأمثلة هو إعلان المقاومة الإسلامية في العراق مسؤوليتها عن هجمة طائرة مسيرة على مدينة إيلات الإسرائيلية في 25 سبتمبر.

في نوفمبر 2023، شنت جماعة الحوثيين اليمنية حملة مستمرة من الهجمات على أكثر من مئة سفينة تجارية في البحر الأحمر، معطلة التجارة العالمية ومسفرة عن تأخير وتكلفة في شحن الحاويات من آسيا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية. وفي مزيد من الجرأة استعمل الحوثيون طائرة مسيرة لمهاجمة تل أبيب في يوليو مما أدى إلى مصرع فرد وإصابة عشرة آخرين. وردت إسرائيل باستهداف ميناء الحديدة اليمني الذي يتولى 70% من واردات اليمن التجارية و80% من مساعداته الإنسانية، مما أدى إلى شلل في وصول المساعدات الأساسية إلى البلد الذي مزقته الحرب. في سبتمبر، اطلق الحوثيون صاروخا بعيد المدى وصل إلى وسط إسرائيل، وفي وقت تال من الشهر، زعمت الجماعة أنها ضربت مدينتي تل أبيب وعسقلان في هجمتين منفصلتين بالمسيرات، فردت إسرائيل على ذلك بضربات واسعة النطاق للحديدة. وسلوك الحوثيين مثال للقرارت الخطيرة الاستفزازية التي تصاحب انهيار الردع في ظل أن العمل العسكري المنسق من الولايات المتحدة وحلفائها لم ينجح كثيرا في كبح جماح الجماعة.

تسارع تآكل الردع في الشرق الأوسط بسبب تحول أكبر تمثل في فهم مفاده أن السيطرة الأمريكية في المنطقة تتلاشى. وفي ظل محاولة صناع السياسة الأمريكيين أن يبتعدوا عن الشرق الأوسط، سعى الفاعلون غير الدولتيين إلى الاستفادة من ذلك، معتقدين أنهم باتوا قادرين على فرض أنفسهم بمزيد من الحرية سعيا إلى تحقيق أغراضهم. وتحقيقا لتلك الأغراض، تعززت مكانتهم بسهولة الحصول إلى المسيرات والصواريخ وبالسردية الشعبية التي تضعهم في مقابل إسرائيل والولايات المتحدة. ودفعتهم هجمة السابع من أكتوبر إلى انتهاز الفرص لإحداث الاضطرابات. وبرغم أن إسرائيل ألحقت بحماس وحزب الله انتكاسات كبيرة، فإن الاضطراب الناجم عن الفاعلين غير الدولتيين ألقى الضوء على أزمة الردع التي تشابك فيها الفاعلون الدولتيون مع أوضح وأعنف حلقات التصعيد المنفلت.

خصوم قدامى..عداوات جديدة

أدى انهيار الردع أيضا إلى مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل. وليس الوابل الإيراني الأخير الذي انصب على إسرائيل انتقاما لاغتيال نصر الله إلا أحدث حلقات المواجهة المباشرة بين الخصمين. ففي ابريل، انتقمت إيران من ضربة إسرائيلية لمبنى قنصلي إيراني في دمشق أدى إلى قتل العديد من ضباط الحرس الثوري الإيراني من بينهم قائدان رفيعا المستوى بإطلاق وابل من أكثر من ثلاثمئة صاروخ ومسيرة على إسرائيل. فأنهت تلك الهجمة قواعد الاشتباك القديمة التي ظلت حاكمة لـ"الحرب الخفية" بين البلدين، فقد تسعى فيها إيران إلى إيذاء إسرائيل من خلال وكلاء وأفعال سرية لكنها تحجم عن مهاجمة خصمها مباشرة. وفي ظل تلك السابقة، افترضت إسرائيل مخطئة أن رد إيران على الهجمة الإسرائيلية التي استهدفت مجمعها الدبلوماسي في دمشق سوف يكون محدودا. لكن حسابات المخاطرة لدى طهران تغيرت بما قد يعكس إيمانا لدى صناع السياسة الإيرانيين بأن ضربات إسرائيل متزايدة الاستفزاز قد استوجبت ردا أقوى وأوضح. اختارت إيران أن تخرج من وراء ستار الإنكار الذي يوفره وكلاؤها. لكن رد إسرائيل على هجوم ابريل الإيراني كان دالا، فقد اختارت انتقاما بسيطا لكنه محدد، إذ ضربت أهدافا قليلة قريبة من مواقع عسكرية ونووية إيرانية حساسة. وحتى مع تغاضي القادة عن التصرفات متزايدة الخطورة، لم يبدُ أن أحدا يريد خروجا للصراع عن السيطرة.

ومع ذلك استمرت دائرة التصعيد. ففي الشهور التالية، قام الجانبان بتصعيد الهجمات. فأثارت الضربات الإسرائيلية المتوالية لبيروت وطهران في يوليو وتبادل الصواريخ الكبير في أغسطس مخاوف من حرب شاملة. وجاء تصعيد سبتمبر الإسرائيلي ليجدد تلك المخاوف.

يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ـ الذي طالما اعتُبر متجنبا للمخاطر إلى حد كبير ـ أشد عزما على قبول مخاطرات أكبر، مثلما يتبين من اغتيال نصر الله والضربات المستمرة للبنان، والعملية المخابراتية الجريئة ضد حزب الله، واغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران في شهر يوليو. وبالنظر إلى هذه الخطوات مجتمعة فإنها تشير إلى أن الزعيم الإسرائيلي مستعد للمقامرة بأن مضاعفة القوة العسكرية لاسترداد الردع وإعاقة الخطر الذي يمثله محور المقاومة تفوق مخاطر إثارة حرب إقليمية.

يجد الشرق الأوسط نفسه الآن في لحظة خطيرة. فالاتفاقيات القديمة الحاكمة للتصعيد نُحِّيت جانبا، وظهر فاعلون جدد، والجميع يتنافسون على الهيمنة. ونتيجة لذلك، فإن هوامش منع حرب شاملة باتت أضيق من ذي قبل. والأخطر من ذلك كله هو أن جهود إعادة إقامة الردع تقتصر إلى حد كبير على استعمال القوة. فكل طرف يقوم بتصعيد عسكري لردع الآخر. والعجز عن الرد بالقوة على عمل عدائي قد يكون بمقام دعوة إلى مزيد من الاستفزاز، ولكن الرد بالقوة أيضا يولد المزيد من التصعيد. وفي أي من الحالتين، يرجَّح أن يتصاعد العنف بشكل لا يمكن السيطرة عليه.

هندسة السلام

لا بد أن تعيد الولايات المتحدة تقييم نهجها في منطقة باتت المواجهة المباشرة فيها بين إيران وإسرائيل واقعا ولم يعد فيها من رادع للفاعلين غير الدولتيين المستمرين في التصعيد. فحتى تاريخه، نجح الحوثيون في إيقاف الشحن العالمي في البحر الأحمر برغم اشتباك عسكري أميركي غير هين، ولم تتمكن مجموعات حاملات الطائرات الأميركية المتمركزة في المنطقة من ردع حزب الله عن شن هجمات لا هوادة فيها ضد شمال إسرائيل. وبرغم تحالفها الوثيق مع إسرائيل ودعمها الحاسم للجيش الإسرائيلي، عجزت الولايات المتحدة عن تثبيط نتنياهو عن المخاطرة. لا بد أن تستحدث واشنطن نهجا جديدا يوظف كل أدوات القوة الأمريكية لمعالجة واقع الشرق الأوسط الجديد الأشد خطورة. ويجب أن تنبني هذه الإستراتيجية الجديدة على الحالات التي تحقق فيها الردع ومنع التصعيد.

لا بد لاستراتيجية ردع أمريكية محدثة في الشرق الأوسط أن تقوم أولا بتعزيز وتنظيم آليات القنوات الخلفية القادرة على تخفيف خطر الحسابات الخاطئة والفهم الخاطئ. يمكن أن تدعم الولايات المتحدة وساطة هادئة يقوم بها طرف ثالث من خلال بلاد من قبيل سلطنة عمان التي لعبت دورا حاسما في تمرير الرسائل بين الولايات المتحدة وإيران خلال لحظات التوتر الشديد. ويجب أيضا أن تنظر في إقامة شبكة خطوط ساخنة بين إسرائيل ومصر ودول الخليج، وإيران لمساعدة المسؤولين على اجتناب مواجهة غير مقصودة. ويجب أن تعتمد الولايات المتحدة على أطراف ثالثة لها اتصالات مباشرة مع جماعات محظورة، منها فاعلون دولتيون من قبيل قطر وفاعلون سياسيون من أمثال الزعيم الشيعي نبيه بري في لبنان، للمحافظة على خطوط تواصل مع الفاعلين غير الدولتيين. وفي الحالات الأشد خطورة، ينبغي أن يكون لدى الولايات المتحدة خط ساخن مباشر مع إيران.

وبرغم أن الولايات المتحدة تعتمد في بعض الأحيان على العقوبات الاقتصادية أكثر مما ينبغي فإنها قد تكون أداة فعالة من أدوات السياسة الأمريكية في المنطقة طالما أنها تتم بتنسيق وبحساب. وقبل فرض عقوبات جديدة، يجب أن تجد الولايات المتحدة سبلا أفضل لتفعيل العقوبات المفروضة سلفا، ومن ذلك بذل جهود أكثر إبداعا لإنهاء بيع النفط الإيراني الخاضع لعقوبات أمريكية للصين باستعمال تكتيكات "الأسطول الأسود"، حيث تعطل السفن قدرات التعقب لديها اجتنابا لكشفها. يجب أن تعمق واشنطن أيضا تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الدول الصديقة وأن تعمل على صياغة خطط أكثر تنسيقا مع الحلفاء الأوروبيين لاتخاذ إجراءات منسقة تستهدف برامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة الإيرانية على غرار الجهود المشتركة المعلنة في سبتمبر بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لزيادة الضغط على إيران في أعقاب نقل إيران للصواريخ الباليستية قصيرة المدى إلى روسيا.

بوسع الولايات المتحدة أن تساعد في ردع العنف في المنطقة بتقوية قدراتها العسكرية الخاصة. فقد أثبتت تكنولوجيا المسيرات المضادة والدفاعات الصاروخية أنها ضرورة لإيقاف تصعيد إبريل بين إيران وإسرائيل. غير أن هذه الأسلحة تتطور على نحو مستمر. يجب أن تضع الولايات المتحدة أولوية للابتكار في هذه التكنولوجيا بتعميق شراكات القطاع الخاص، ومكافأة الإبداع في التصنيع، وتقصير الجدول الزمني لهذه الأسلحة منذ تصميمها وحتى إنتاجها بحجم كبير. ويجب أيضا أن تستغل الذكاء الاصطناعي بل وبعض التقنيات المستخدمة في ألعاب الكمبيوتر لتوقع التهديدات بشكل أفضل وتطوير الاستجابات الأكثر فعالية للتقلبات في الشرق الأوسط.

ولكن على واشنطن قبل إطلاق أي صاروخ أن تعترف بالدور التأسيسي للدبلوماسية في إقامة الردع. فالاستراتيجية الدبلوماسية الفعالة في المنطقة سوف تعيد بناء الردع ليس فقط عن طريق التهديد والقهر، ولكن من خلال إيجاد حوافز إيجابية أيضا من شأنها أن تتفادى الصراع. فقبل عام واحد من هجمة السابع من أكتوبر، توصلت إسرائيل ولبنان إلى اتفاقية حدود بحرية تاريخية بمساعدة دبلوماسية بارعة من الولايات المتحدة ووعد بمنافع حقيقية للطرفين. كان كل طرف يرجو أن يستغل أصول الغاز الطبيعي القيمة في البحر الأبيض المتوسط. وقد أدت تسوية قضية الحدود البحرية إلى القضاء على مصدر للخلاف كان من الممكن أن يؤدي لولا ذلك إلى أعمال عدائية كان من شأنها أن تقوض حتما مشاريع الغاز الطبيعي تلك. وبصفة أعم، قد يؤدي منح الفاعلين غير الدولتيين المزعجين ما يمكن أن يخسروه إلى تحويل حسابات المخاطر الخاصة بهم بعيدا عن العنف وتقريبها من السلام والمصالحة. ولمزيد من إخماد الصراع في الشرق الأوسط، ينبغي للولايات المتحدة أن تساعد في تسهيل إقامة بنية أمن إقليمي تأخذ شكل شراكات أمنية واتفاقيات تعاون بين البلاد ذات التفكير المتماثل، وآلية وساطة ومنتدى لحل الصراعات سلميا وهو ما تفتقر إليه بشدة هذه المنطقة التي تعد أكثر المناطق التي مزقتها الصراعات في العالم.

وفي غياب هذه الإصلاحات، يصبح الوضع الراهن غير قابل للاستمرار. فقد فشلت نماذج الردع العتيقة في الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين حيث ينعم الفاعلون غير الدولتيين بسهولة الوصول إلى الطائرات المسيرة وغيرها من التقنيات المتطورة في الحرب. وما من سبيل إلى تجنب الكارثة إلا إعادة صياغة نهج الردع الأميركي الحالي في الشرق الأوسط.

* منى يعقوبيان نائبة رئيس مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد الولايات المتحدة للسلام

* عن فورين أفيرز

مقالات مشابهة

  • وسط توترات الشرق الأوسط.. السعودية ترفع أسعار النفط لآسيا
  • الشرق الأوسط يحترق
  • حرب لبنان الثالثة
  • المغرب يفقد 6 درجات في مؤشر الاتصال ويتراجع إلى المرتبة 93 عالميا
  • الفريق جابر ينتقد غياب الدعم الإفريقي تجاه أزمة السودان
  • دعم شعبي ثابت في الدول العربية للفلسطينيين من دون تأثير على الحكومات
  • حقيقة عودة مصر لمؤشر " جيه بي مورجان" للسندات الحكومية للأسواق الناشئة.. بـ4 عوامل حاسمة
  • بنسبة 1.24%.. ارتفاع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة نهاية الأسبوع
  • ارتفاع المؤشر الرئيس للبورصة بختام تعاملات جلسة اليوم
  • النفط يرتفع مع تفاقم توترات الشرق الأوسط