عبدالله مكاوي
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
استبشر الكثيرون بقرار مجلس الامن وقف القتال خلال شهر رمضان. وهو استبشار شابه التوجس بسبب عدم خضوعه لآليات رقابة صارمة مما يشكك في جدية القرار من جهة، ولفقدان الثقة في طرفي القتال بركونهم لصوت العقل او استجابتهم لنداء الضمير، من جهة مقابلة.
ويصح ان مشكلة الدولة السودانية بدأت منذ بواكير الاستقلال وايلولة الحكم للسودانيين، الذين اظهروا عجز مريع في كيفية تدبير الحكم وادارة الدولة. لتتحول السلطة الي ساحة عراك عبثي بين الاحزاب ولصالح قياداتها.
وقد يعود ذلك لنقص الخبرة، وقبلها لان طريقة الحكم الديمقراطية ودولة المؤسسات ومسالة الفصل بين السلطات، وبين المصلحة العامة والخاصة، هي ثقافة تنتسب للحداثة او احد تجلياتها في المجتمع، وتاليا هي ثقافة دخيلة علي مجتمع تقليدي تضرب جذور ثقافته في مضارب القبيلة والطائفة. أي تم تركيب مؤسسات (برلمان كلية حربية..الخ) واضفاء مصطلحات (حزب ديمقراطية..الخ ) حديثة (ذات طابع محايد)، علي بنية مجتمعية متجذرة في المحلية (ذات طابع متحيز).
والحال ان جل ما اكتسبه هكذا مجتمع تقليدي من منجزات الحداثة، لا يتعدى مظاهر حداثية تحلت بها النخب المتعلمة، لتحيلها الي اوصياء يفتقرون للحكمة، عوض عن رجال دولة يعون مهام الدولة ويلتزمون جادتها. أي عوض عن تحديث المجتمع، تم تشويه الحداثة وافراغها من مضمونها، لتتحول الي مجرد امتياز يبرر لإصحابه السيطرة المطلقة علي الحكم وما يدره من امتيازات مهولة. واذا صدق ذلك علي الطبقة السياسية فهو يصدق بصورة مضاعفة علي الطبقة العسكرية، التي وظفت سلاح الدولة في حسم صراع السلطة لصالحها، ومن ثمَّ وجهته تجاه حكم الاقلية، وما يعقبه من تجيير الدولة لمصلحتها، وما يسمه من استبداد وفساد وتدهور مطرد.
واكبر دليل علي عجز السودانيين وقصور قامتهم عن ادارة الدولة، هم الانجليز انفسهم، الذين تمكنوا من حكم دولة شاسعة بحجم قارة، بل هم ما اضفوا ملامح الدولة علي مجتمعات متنافرة في رقعة جغرافية مترامية، فقط لان الحداثة جزء من تكوينهم ومنجزاتها (كالدولة الحديثة) احد تعبيراتها علي الارض. اي ليس هنالك حداثة من غير حداثيين او مؤسسية من غير مؤسَسين ومؤسِسين او دولة من غير رجال دولة.
وما يهمنا هنا، بعد خروج الانجليز غلب الطبع (الثقافة التقليدية) التطبع (مرجعية الحداثة وممارسة التحديث). والحال ان عدم التوافر علي مشروع وطني متفق عليه، وهوية وطنية جامعة (لحمة وطنية/ مشاعر جمعية مشتركة)، انحدر بالصراع السياسي الي محض رغبة في الانتصار بكافة الاساليب، أي تم قبلنة وتطييف (من قبيلة وطائفة) الصرع السياسي، لتتحول السلطة الي امتياز مادي ومكانة اجتماعية، عوض تحولها الي مسؤولية مُساءلة. وتاليا الازاحة عن السلطة تؤدي للتدحرج الي مجرد محكومين مجردين من كل شئ.
والمفارقة، رغم النقد الذي يوجه من قبل الحداثيين للإدارة الاهلية والطائفية، إلا ان الصرع حول السلطة بين مختلف السياسيين لم يفارق هذه الخانة (السلطة المستديمة كحق موروث)! أي من يستولي علي السلطة او مركز القيادة لا يمتلك كل الامتيازات والصلاحيات فحسب، ولكنه يتحول الي تابو يُمنع نقده وتُجرم مطالب تغييره او ازاحته. لذلك ليس مستغرب حتي في الاحزاب العقائدية ان يرث القائد بعد الموت المقرب منه او من يصطفيه.
والمحصلة مما ذكر اعلاه، هي تدني قيمة ومكانة ومصادرة كافة حقوق المواطنين العاديين. الذين عندما لا يكونون ادوات للصراع السياسي علي السلطة، فانه تتدني مكانتهم الي مجرد بسطاء مساكين تجوز عليهم الصدقات من بعض فتات سلطة الاقلية المتسلطة. ولولا ان امتياز السلطة يفقد قيمته من غير التباين الصارخ مع هؤلاء الرعايا البسطاء، لما سمح لهم اصلا بالبقاء. وكما اسلفنا يستوي هذا لدي الاحزاب الطائفية والاحزاب العقائدية، التي تستخدم هؤلاء المواطنين (كثوار ومجاهدين) لخدمة عقائدها، التي بقدرة قادر تنحل في مصالح ومطامح قادتها المُلهَمين ومن يحيط بهم.
والحال كذلك، اذا كان السياسيون غض النظر عن مرجعيتهم، يقوم استغلالهم للمواطنين علي دغدغة مشاعرهم والتلاعب بهمومهم واحلامهم. فان دخول الجيش معترك السياسة والسلطة، قاد الي استهداف حياة المواطنين وتجريدهم من كافة حقوقهم، وبمن فيهم للمفارقة السياسيين الذين غالبا ما يتورطون في استدعاء العسكر لحسم الصراع بينهم، وتكرار ذات الاخطاء وبذات الطريقة وغالبا بذات الشخوص في كل مرة.
وبتغلغل الاسلامويين بمشروعهم الاجرامي داخل اروقة الجيش، وصولا للسيطرة الكاملة عليه بعد انقلابهم المشؤوم. اتخذ الصراع السياسي منحي آخر، وهو استخدام كامل طاقة الجيش وموارد الدولة لحماية السلطة ورفاهية المتسلطين. أي تمت ادلجة لكافة مؤسسات الدولة وعلي راسها الجيش لتصبح في خدمة التنظيم علي وحساب افقار وارهاب بقية المواطنين.
وللاسف تزامنت المصادرة الكاملة لحقوق المواطنين والاستباحة التامة لموارد الدولة، مع تعدد الاجهزة الامنية والعسكرية والمليشياوية وزيادة نفوذ واطماع قادتها. ومع تطور الصراع الداخلي بين الاجهزة والمؤسسات المختلفة للنظام، ازداد تدهور دور مؤسسات الدولة، وتاليا مزيد من الانكشاف والاستضعاف للمواطنين. وبموازاة ذلك تمدد نفوذ وسيطرة مليشيا الدعم السريع، واصبح القادة المتنافسون علي السلطة يشترون ود حميدتي بتقديم كافة انواع التنازلات (ويا لها من غفلة ذئاب خبيثة، غاب عنها بسبب الغطرسة، ان حميدتي الذي اتقن اصول لعبتهم القذرة، تحول لكبير الذئاب المتعطشة للسلطة المغتصبة او المغموسة بالدماء).
وبقيام الثورة وحل جهاز الامن والعمليات (احد اضلاع توازن السلطة الثلاثي) وخضوع قائد الجيش البرهان لسطوة ورغبات حميدتي، وقبل ذلك تطوير مليشيا الدعم السريع لقدراتها المالية والاستخباراتية وعلاقاتها الخارجية، واستقطابها لكافة اعداء الثورة للانقضاض عليها. دخلت البلاد وليس الثورة فحسب، في ورطة حقيقية بعد تهديد امنها القومي بواسطة هذه المليشيات. أي منذ اللحظة التي اصبحت فيها هذه المليشيات قادرة علي التلاعب بمقومات وجود الدولة، اصبحت البلاد وشعبها في خبر كان. وهذا ما فطن له السياسيون وافرغوا جهدهم لمكافحة هذا الشر (الخطر الماحق) باقل الخسائر (الاتفاق الاطاري)، ولكن مزايدة الجذريين وغدر وقلة عقل الاسلامويين جر البلاد الي ما لا يحمد عقباه.
وهكذا انصبت علي السودانيين كل شرور الارض، بعد سيطرة اشر اشرارها (الاسلامويين) علي السلطة وتحكمهم في مصير العباد. وكالعادة بما ان سيطرة الاشرار لا تنتج سوي الاشرار، فقد كان ميلاد واستقواء مليشيا الدعم السريع، التي جمعت الشرور من كل اطرافها، من الاحقاد القبلية الي نهب وترويع العصابات المسلحة الي العمالة والارتزاق، وكل ذلك في مواجهة مواطنين عُزَّل ومن غير حماية من أي نوع.
وهكذا يعيش السودان اليوم حرب الفجار علي ابشع صورها، بين اتفه من وجد علي سطح الارض (حرب نظام الانقاذ الداخلية)، بعد تناقض المصالح بين اجنحتها. حيث يعمل الاسلامويون للمحافظة علي سلطتهم وما وفرته لهم من منافذ للنهب المحمي في الداخل، وتعمل مليشيا الدعم السريع للحفاظ علي مداخيل العائد الريعي في تقاطع مع مصالح الخارج. أي هي حرب عسكرة المصالح او المصالح المعسكرة، بين النواة الصلبة للاسلامويين المتحلقة حول الجيش، واسرة آل دقلو وحلفاءها من اسلامويين وغيرهم ممن ينتمون عرقيا وجهويا لمليشيا الدعم السريع. وما يجري بين هذين القوسين مجرد تفاصيل وافرازات لهذا الصراع الذي استصحب معه تصفية احقاد تاريخية وخدمة مشاريع خارجية وجدت الفرصة سانحة لتمرير اجندتها. والحال كذلك لا يشكل المواطن أي قيمة في هذه المعادلة الاجرامية ذات الابعاد المصلحية.
وبما ان الاسلامويين سواء في الجيش او القيادات المدنية، يتصفون بقوة العين وقلة الحياء وتبلد حساسيتهم المجتمعية، اي بوصفهم مجرد ظاهرة دعائية إدعائية، لذلك بادروا مبكرا علي رفض الهدنة الرمضانية، التي تبتقي توفير الامن من الخوف والاطعام من الجوع، للمحاصرين داخل ساحات المعارك، وهي بالمناسبة مدنهم وقراهم. وما يدعو للدهشة ان ما تهدف اليه الهدنة هو مطلب انساني بحت، بل هو عينه ما ورد في نص قرآني (سورة قريش/ارتبط بعبادة الرب)! بل ما يتخطى الدهشة ويدخل حيز الانحرافات والتشوهات الوجدانية الاجرامية المريضة، انهم يبتزون المجتمع الدولي، بملف الحالة الانسانية البائسة، التي تسببوا فيها بالشراكة مع منتجاتهم الفرانكشتانية (مليشيا الدعم السريع التي وصلت بالانتهاكات سقف، ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر ببال احد)!
والحال ان الكيزان يسبحون عكس تيار استراتيجية مليشيا الدعم السريع، التي تجيد تحسين صورتها وسمعتها ومظهرها خارجيا، رغم فظائعها التي ترتكبها في حق الابرياء داخليا. وذلك باستخدام اسلوب بسيط، وهو قبول كل المبادرات التي تدعو للهدن والسلام، ودخول المساعدات الانسانية، وابداء استعدادها للتعاون مع المجتمع الدولي في كافة الملفات! أي مليشيا الدعم السريع التي تعلمت الكذب والبهتان والمراوغة من الكيزان، تفوقت عليهم في تقديم خطاب غض النظر عن مصداقيته المشكوك فيها، إلا انه يجد صدي ايجابي في الخارج، ولدي دعاة ايقاف الحرب في في كل مكان. أي مليشيا الدعم السريع لا تتفوق علي الكيزان عسكريا فحسب، ولكن دبلوماسيا واعلاميا ايضا! وذلك ليس لانهم عباقرة او موهوبون او خبراء، ولكن لاستفادتهم من اخطاء وغباء وتنطع الاسلامويين الذين يتوهمون الذكاء والمعرفة والاحاطة الشاملة والسيطرة علي كل شئ.
وفي ظل هذه المواقف التي لا تضع اعتبار لمعاناة المواطنين المهولة، وما ينتظرهم من اهوال اشد، اذا ما استمرت هذه الحرب التي تتقصد نهبهم وتشريدهم واهلاكهم. يستغرب المرء لاتخاذ ذات المواطنين ذرائع لرفض الهدنة واستمرار الحرب! بحجة شروط خروج مليشيا الدعم السريع من بيوت المواطنين ومن المدن وتسليم السلاح والتجمع في اماكن يحددها الجيش! ولم يفضل لهم إلا الطلب من حميدتي ان يبوس يد علي كرتي المتوضئة! فكل ما سلف يندرج في بند المطالب التعجيزية، التي لا يسندها لا الموقف العسكري للجيش، ولا تفريطه مسبقا لكل ما يطالب به! كما لا يعني استمرار الحرب تحقيق أيًّ من هذه المطالب (اذا ما كنا ساذجين وصدقنا انها مطالب حقيقية)! وذلك بناء علي اداء الجيش منذ اندلاع هذه الحرب، والغموض الذي يكتنف كثير من ظروف ومجريات هذه الحرب (تسليم ولاية الجزيرة، استمرار تصدير الذهب للامارات، والكثير المثير المدهش في مقالات الضابط السابق خليل محمد سليمان)! بل العكس هو الصحيح، أي مع استمرار الحرب يزداد تمدد مليشيا الدعم السريع لولايات جديدة، ومن ثمَّ تزيد مساحة الانتهاكات والبيوت والمدن المحتلة، كما ظلت تنبه بحق قوي الحرية والتغيير سابقا وتقدم راهنا. وهذا ان دل علي شيء فهو يدل علي اصابة قادة الجيش وكبار الاسلامويين بمتلازمة الادلجة، التي تتوهم ان المسافة بين رغباتهم الشاطحة وتحققها المستحيل علي ارض الواقع، لا يتعدى مجرد نصوص او مطالب مكتوبة علي ورقة، او شعارات مثالية مكتفية بذاتها.
وما يؤكد ان الاسلامويين لا يستشعرون أي مسؤولية تجاه المواطنين والبنية التحتية للدولة. ان استمرار الحرب اكد رؤية وطرح تقدم، بضرورة وقف هذه الحرب المهلكة منذ وقت مبكر، حتي لا تتفاقم الاوضاع الانسانية المأساوية، وتتضاعف خسائر الجيش! إلا ان ما حدث فعليا هو ركوب الراس ورفض كل الحلول السلمية المطروحة لحل المشكلة المستعصية، ومن دون ما يدل علي قدرتهم علي الحسم العسكري، رغم توظيفهم لانتهاكات مليشيا الدعم السريع في تهييج قبائل ومجتمعات الشمال، وتحشيد المستنفرين، واستعداء قوي تقدم، بل واستعدادهم للدخول في حرب اهلية لا تبقي ولا تذر! وكل ذلك من اجل البقاء مسيطرين علي جزء مؤثر من المشهد السياسي والسلطوي، بعد ان يئسوا من عودتهم الكاملة، امام تفوق مليشيا الدعم السريع عسكريا. أي كل ما نشهده من حرب دموية متطاولة، غرضه تحسين شروط تفاوضهم مع مليشيا الدعم السريع صاحبة الكعب الأعلى عسكريا، وتاليا قدرتها علي فرض شروطها بمنطق القوة المسلحة التي لا يعرفون غيرها. او الوصول معها لاتفاق علي اقتسام البلاد بحيث يسيطرون علي السلطة المطلقة فيما ما ينالونه من القسمة. ومن ثمَّ اعادة انتاج النهب للموارد والارهاب للمواطنين. لاته ببساطة الكيزان لا يجيدون لا السياسة ولا العسكرة ولا ادارة الدولة ولا ...الخ، اما ما يجيدونه فعليا هو الفساد والظهور بمظهر التقوي.
المهم، لم يُظهر جنرالات الجيش والاسلامويون أي اكتراث لعذابات المواطنين او دمار البنية التحتية للدولة، طوال فترة الحرب التي طال امدها. وليس هنالك ما يدعو لتصديق اكتراثهم المستجد بعذابات المواطنين او البنية التحتية للدولة. مع العلم ان مصادرة حقوق المواطنين والتخريب الممنهج للدولة، ارتبط باغتصاب الاسلامويين للسلطة بانقلاب عسكري. والحال كذلك، تحولت الانتهاكات الرهيبة للمواطنين الابرياء، من قبل مليشيا الدعم السريع الهمجية، الي قميص عثمان الذي يخفي الاطماع الحقيقية للكيزان، بل والمكاسب القذرة التي يجنيها الاسلامويون من هذه الانتهاكات، سواء بتجريم مليشيا الدعم السريع اخلاقيا (وهي مستحقة لهؤلاء الاوباش البرابرة) او لتبرير تقاصر الجيش عن القيام بواجبه، بحجة تغلغل المليشيا داخل المدن واحتماءها بالسكان والمؤسسات الخدمية، الشئ الذي يقيد الجيش من التعامل بكامل قوته العسكرية، مع مليشيا الدعم السريع الارهابية!!
واذا كانت كافة الانتهاكات السابقة كوم، فما تتعرض له قري الجزيرة كوم آخر، وهم يتعرضون لاستباحة جنونية اذا جاز التعبير، او هي نوع من الاحتلال الممنهج القائم علي تعريض المواطنين العُزَّل للانتهاكات بكافة اشكالها، وصولا للطرد من قراهم. وكل ذلك لا يجد اهتمام من جماعة بل بس او الحسم العسكري، والاسوأ من ذلك لا يقدمون مخرج لهؤلاء البسطاء وهم يقعون لقمة سائغة لذئاب مليشيا الدعم السريع الحاقدة الوحشية! والمؤسف حتي ما تُقدم لهم من حلول (دولية او إقليمه او داخلية) لوضح حد لهذه المأساة. ورغم ان ذلك اوجب واجباتهم الذي تقاصروا عنها، إلا انهم يُعرضون عنها بغرور وتبلد واستهتار محير (او كما تساءل الضوء، الموية اولي من العباد، للبضائع المحتكرة التي غمرها غضب البحر الفائض)؟! وما يؤسف له ان ذات الانتهاكات وبذات الوتيرة المتصاعدة، اصبحت تتقدم ناحية قري سنار، ولا حياة لمن تنادي.
ومأساة شعبنا الاعزل، انه وقع فريسة ما بين همجية مليشيا ارهابية وحشية، مجردة من الرجولة والكرامة والانسانية وكل ما يمت للتحضر بصلة، وقبل ذلك مزودة باحقاد قبلية وجهوية ومطامح احتلالية، وبين اطماع كيزان غير معنيين بشيء سوي السلطة والمحافظة علي مكتسباتهم غير الشرعية.
وتتعمق المأساة عندما تكشف الاختبارات الانسانية، حقيقة التواطؤ المستتر مع القتلة والمجرمين ضد الابرياء والمضطهدين، ممن كنا نظنهم رسل الانسانية والثقافة والاستنارة! وهو اكتشاف يزلزل القناعة بقيمة هؤلاء الرسل، ويزيح الغطاء عن قبحهم الذي يفوق قبح المجرمين بحكم استتاره! اي هذه المواقف المتخاذلة امام الانتهاكات البشعة من قبل الطرفين، وعلي الاخص مليشيا الدعم السريع، علي اعتبار انتهاكاتها ممنهجة وجزء من بنية تكوين المليشيا. وهذه المواقف الملتبسة امام انتهاكات كاملة الاركان (لا تحتمل الشبهات او تسمح بالمرواغة) كشفت عن هشاشة وخواء ما يسمي بمستنيرين ومثقفين وادباء ومفكرين، وهم قبليون وجهويون وعقائديون قبل كل شئ. اتخذوا من قناع الاستنارة ومظهر الثقافة كمدخل للتواجد في المشهد الثقافي والحداثي، أي كامتياز يضعهم في المقدمة ويؤهلهم لاقتناص المكاسب متي ما أُتيحت الفرصة. وللاسف الدكتور الوليد مادبو الذي لطالما راهنا عليه، يقود هذه القافلة ما دام يصر علي استسهال التنظير لدولة الجلابة (الراكزة ضمن هواجسه) دون اكتراث الي ان هكذا تنظير جهوي ينفخ في نار الفتنة والتحريض المشتعلة اصلا، قبل ان يتشفي في انهيارها (فش غبينة)، وهو عاجز عن رؤية افول الدولة ككل، وتحولها لفوضى عارمة تقود البلاد الي ما لا يحمد عقباه.
ومن يصدق ان هنالك مثقف له حظ من العقلانية والموضوعية، يري فيما يحدث الآن من دمار لكل مقومات وجود الدولة، وانتهاكات مريعة طالت المواطنين وشردتهم في كل فجاج الارض، وحرمت الغالبية من الخدمات الاساسية، بل والبقية الباقية معرضة لخطر المجاعة! هو البداية الفعلية للخلاص من الدولة القديمة والتدشين الفعلي للدولة المشتهاة!!
وهل هنالك من يصدق ان حميدتي او مليشيا الدعم السريع، تحمل مشروع دولة حقيقية، تعالج كل علل الدولة القديمة؟! واذا كان ذلك صحيحا لماذا تآمر علي الثورة، الاكثر تاهيلا لاحداث التغيير المنشود؟ واذا صدقنا اعتذاره عن التآمر، لماذا تواظب قواته علي ارتكاب الانتهاكات والنهب ضد الابرياء؟ وبكلام واحد، مستقبل دولة حميدتي هو ماضي دولة التعايشي، وهو ما يعني المزيد من التخلف في احط مستوياته، ومفارقة الحضارة مفارقة الطريفي لجمله، ويا لها من مدنية وديمقراطية (من النوع ابو كديس) محمولة علي ظهر تاتشر وتتخفي وراء كدمول؟!
اما ما يحدث فعليا، هو اكبر فتنة يتعرض لها الوطن ومحنة تصيب المواطن، وتنذر اما بذهاب ريح الدولة، او اقتسامها بين الطامعين الخارجيين، وما حميدتي والبرهان ومن يقف خلفهما الا ادوات في هذه المؤامرة القذرة، سوي علموا ذلك او لم يعلموا.
اما اذا كان الغرض هو التغيير الحقيقي وليس ذهاب دولة (الجلابة) المغضوب عليها لتعقبها دولة دقلو الاماراتية المرحب بها. فالتغيير يمر بدقة التحليل وصدق النوايا وصلابة الارادة والتجرد للوطن وتقديس حقوق المواطنين. واسهل طريق للتغيير المنشود، ليس دمار الدولة القديمة بهذه الطريقة الفوضوية، من قبل مجرمين سواء كانوا كيزان او دعامة. ولكن اصلاح ما فيها من اعطاب (سطوة العسكر وهزال المدنيين). وبكلام واحد تحريرها من الاستبداد والانفتاح علي الحريات العامة، والمحافظة علي حرمة حقوق المواطنين، مع ايفاء الدولة بالمتطلبات الاساسية بما يحفظ كرامة المواطنين. أي التاسيس لدولة حديثة بالتوازي مع تحديث الحياة والمجتمع تدريجيا.
واخيرا
نرجو من المذيع احمد طه ترتيب لقاء مع السيد القائد (كما يتملقه مستشاروه) حميدتي، ليحدثنا عن الديمقراطية والدولة المدنية ومشروعاته المستقبلية، ويمتنع التصحيح او التوضيح بين كل كلمة واخري!! وعموما اذا كان هنالك خير في هذه الحرب التي هي الشر المطلق بعينه، فهي خلصتنا من الظهور اليومي للبرهان باكاذيبه ونفاقه وتهديده للمدنيين، ومن حميدتي بكلامه من نوعية تمطروا حصو وفسوة مدنقر ونصارع الدولار وغيرها من مساخر تثير الرثاء من المستنقع الذي هبطت اليه ليس اللغة السياسية فحسب، ولكن الدولة بكل يمت لها بصلة، وقبلها مكانة المواطن في دولته. وما هي المليشيا اصلا غير حرب علي الدولة كمؤسسات، واستباحة لمواردها كريع، واهدار لارواح وكرامة المواطنين كبشر. فما بالك ونحن في قلب حرب المليشيات ضد بعضها البعض، بتفاوت درجة مليشياويتها. ولا حول ولا قوة الا بالله. الله يفرجها. ودمتم في رعايته.
////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ملیشیا الدعم السریع حقوق المواطنین استمرار الحرب علی السلطة هذه الحرب اذا کان إلا ان من قبل من غیر
إقرأ أيضاً:
فضيحة بالكربون !
مناظير الثلاثاء 12 نوفمبر، 2024
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* بينما يتحول السودان إلى (لا دولة) تسيطر عليها العصابات المسلحة والمليشيات التي تُدار من الخارج بالريموت كنترول وتتناسل كل يوم، ويعجز الجيش عن حماية المواطنين في الجزيرة المكلومة وغيرها من وحوش الجنجويد، يرتدي رئيس حكومة الامر الواقع في بورتسودان البدلة وربطة العنق ويسافر الى (الرياض) متقمصا دور رئيس الدولة السودانية للمشاركة في القمة الاسلامية العربية في الوقت الذي لا توجد فيه دولة سودانية ولا رئيس دولة ولا جيش يحمي المواطنين الذين لم يجدوا الفرصة او الامكانيات للهروب من جحيم الحرب المشتعلة منذ اكثر من عام ونصف بين وحوش شرسة للسيطرة على السلطة والمال ونهب خيرات البلاد، والمضحك في الأمر ان يدعو هذا الرئيس المزيف في (الرياض) لوقف الحرب على غزة ولبنان، ناسيا الحرب القذرة التي يشنها مع زعيم عصابة الجنجويد على اهل السودان من اجل السلطة والمال الحرام!
* اقتداءا برئيسه المزيف، يتقمص نائب وزير الخارجية المزيف (حسين عوض الحاج) الذي كان وزيرا مزيفا قبل ان يُقال من منصبه ويُعيَّن نائبا للوزير المزيف الجديد بدون أن يشعر ولو بخدش بسيط في كرامته المهنية، شخصية نائب الوزير ويسافر الى روسيا للمشاركة في المنتدى الوزاري الروسي الأفريقي، حسب الدعوة الموجهة من الدولة المضيفة، ويطلب بلا حياء أو خجل الحماية من الدولة الروسية، كما فعل من قبل الرئيس المخلوع!
* تذكرون بالطبع الفضيحة المجلجلة للرئيس المخلوع الذي سافر الى روسيا في نوفمبر عام 2017 وإلتقى بالرئيس الروسي بمدينة "سوتشي" ليطلب منه في سابقة لم يشهدها العالم من قبل، الحماية من الولايات المتحدة الامريكية، قائلا أمام الكاميرات بلا حياء او خجل: " نعتقد أن ما حصل في بلادنا من ازمات ومشاكل هو نتيجة السياسة الأميركية، واننا بحاجة للحماية من التصرفات العدائية الأميركية بما فيها منطقة البحر الأحمر، ونعتقد أن التدخل الأميركي في تلك المنطقة يمثل مشكلة أيضا، ونريد التباحث في هذا الموضوع مع روسيا من منظور استخدام القواعد العسكرية في البحر الأحمر" .. تخيلوا، رئيس دولة يبيع بلده وأرضه وكرامته للبقاء في السلطة بحجة ان امريكا تستهدفه، رغم أن أمريكا لم تكن مهمومة أو مشغولة به وإلا كان الآن حبيسا مدى الحياة بسبب الجرائم التي ارتكبها في دارفور، واعترف بها لاحقا أمام أجهزة الاعلام طالبا الغفران من الله.
* بعد أيام من تلك الفضيحة المدوية خرجت أجهزة الاعلام الروسية متحدثة عن اتفاق بين روسيا والسودان لاقامة قاعدة عسكرية روسية على شواطئ البحر الأحمر بالقرب من مدينة بورتسودان، وهو الإتفاق الذي اسقطته ثورة ديسمبر المجيدة وشهداؤها وثوارها البواسل باسقاطها للنظام البائد ورئيسه المخلوع، وتحاول الحكومة المزيفة في بورتسودان الآن إحياءه، بغرض الحصول على الحماية الروسية والبقاء في السلطة ومواصلة السرقة والنهب!
* نفس الفضيحة تتكرر الآن بالكربون في نفس الدولة (روسيا)، وفي نفس المدينة (سوتشي)، وفي نفس الشهر (نوفمبر)، ولنفس الغرض (البقاء في السلطة واستمرار النهب)، حيث يطلب نائب وزير الخارجية المزيف للحكومة المزيفة في بورتسودان بدون حياء أو خجل، في تصريح لوكالة "ريا نوفوستي الروسية" الحماية من الدولة الروسية، قائلا : "نأمل أن تستخدم روسيا نفوذها في مجلس الأمن حتى نتمكن من تجنب سطوة الدول الغربية التي تحاول ممارسة الكثير من الضغوط علينا، بما في ذلك العقوبات"، وهى حماية لا بد أن يكون لها مقابل بالطبع، حتى لو كان بيع الارض والسيادة السودانية الذي يروج له وزير الخارجية المزيف في حوار مع (الجزيرة مباشر) متحدثا عن استعدادهم لمنح قواعد عسكرية في البحر الاحمر لكل من ترغب من القوى العظمى .. ولا عجب في ذلك، وكما يقول الشاعر: " إذا كان ربُ البيتِ للدفِ ضارباً ** فشيمةُ أهلِ البيتِ كُلِهُم الرقصُ" !