حلت الفنانة شيرين عبد الوهاب ضيفة على برنامج "بودكاست Bigtime" تقديم الإعلامي عمرو أديب والفنانة أصالة، المذاع عبر فضائية "MBC1".

 

وتحدثت شيرين عبدالوهاب، عن الأدعية التي تدعي بها المولى عز وجل خلال حياتها اليومية، قائلة إنها دائمًا تقول هذه الأدعية: "يا رب متخليش صفاتي الحلوة هي تبقى سبب تعرضها للأذى في الدنيا.

. يا رب استخدمني وأكون سبب في الأرض لخدمة الناس وتقديم العمل الإنساني".

 

وأفصحت شيرين عبد الوهاب عن تفاصيل حياتها اليومية، قائلة: "بقى عندي أسلوب جديد في حياتي، كل حاجة اتغيرت وبلعب رياضة وابتعدت عن الأكل بشراها، وبعد الساعة 2 بعد منتصف الليل مش بمسك التليفون".

 

وأكملت: "الفلوس بالنسبالي بقيت مش أهم حاجة بقيت محتاجة اللي أعيش بيه أنا وبناتي، واللي عندي بقول يا رب اعتبره مش ليا"، مضيفة: "أنا عيشتي قبل الفن هي هي بعد الفن.. معنديش طباخين وسفرجية، عندي فدانين أرض زرعاهم كل الحاجات اللي بحبها، وبحب الفول الحراتي بالكمون والجبنة القريش كأني باكل كافيار".

 

أخر أعمال شيرين عبد الوهاب 

 

ويذكر ان أخر أعمال المطربة شيرين عبد الوهاب أغنية" الدهب "، وحازت الأغنية على إعجاب الجماهير في الوطن العربي.

 

أغنية "الدهب" من كلمات تامر حسين، وألحان مدين،وتوزيع الموسيقي توما.

 

وتقول كلمات الأغنية: “قالوا الدهب اللي بيلمع عمره ما بيصدي ياما نصحنا ما قولنالك قولنالك هدي لفيت الدنيا أهو وجيتلي وهتبوس على يدي مش كان من الأول إحنا استغنينا عيني علي اللي بيتجرأ لما بيطرق اتهور مسمعش اتهور معرفش يفرق النية اللي متبقاش سالكة دايمًا بتغرق مش كان من الأول إحنا استغنينا.. ما إحنا قولنا اكبرولنا قولنا عيب عليكوا".

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: شيرين عبد الوهاب الفجر الفني أزمات شيرين عبد الوهاب شیرین عبد الوهاب

إقرأ أيضاً:

أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين

"سأل رجل بلالًا -وقد أقبل من الحلبة- فقال له: من سبق؟ قال: سبق المقربون، قال: إنما أسألك عن الخيل، فقال بلال: وأنا أجيبك عن الخير".

البيان والتبيين، الجزء الثاني، ص193.

تنوعت العرب في أساليبها البلاغية، وتعاملت مع كل موقف بما يقتضيه سياقه، حتى عدوا البلاغة "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، ومنه قول الحطيئة للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ المَلِيكُ  ..  فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا

غير أنهم لأسباب حددوها ارتأوا أن يخرجوا عن هذا المقتضى، ما يصنع لونا من المفارقة، دون أن يحيدوا عن قبلة البلاغة ومرامي البيان، وتحت هذا الخروج المسوغ يندرج موضوعنا.

بالتوازي، تضع الدراسات الحديثة بين أيدينا المفارقة الأسلوبية بما تحمله من توتر دلالي وانزياح لغوي داخل بنية النص، بما يجعل تلك المفارقة -على اختلاف أنواعها- تقترب في بعض وجوهها من أسلوب الحكيم، ودفعا للإطالة ها هنا سنخصص لها مقالا وسنشير خلاله إلى التعالق بينهما ونقاط التلاقي والتمايز.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جدل الغنائية والدرامية.. في نماذج من الشعر الفلسطيني الحديثlist 2 of 2الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والسينما المصريةend of list

في هذه الدراسة نتعرض إلى نشأة أسلوب الحكيم، ثم نعرفه لغة واصطلاحا، ونعرّج على أشياء ذات صلة تشمل تقسيمه وقيمته وأغراضه، ثم تقاطعاته مع المشاكلة والقول بالموجب وتجاهل العارف لقربهم.

أشار الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" تحت عنوان "اللغز في الجواب" إلى أسلوب الحكيم، دون أن يخصص له تسمية. ثم جاء السكاكي في "مفتاح العلوم" وقدم له قواعد وحدد مصطلحه (مولدة بالذكاء الاصطناعي – الجزيرة) نشأة أسلوب الحكيم

أوّل من أشار إلى ما نحن بصدده أبو عثمان الجاحظ (ت 255هـ)، إذا ساق في (البيان والتبيين) تحت عنوان "اللغز في الجواب"، قوله "سأل رجل بلالًا -وقد أقبل من الحلبة- فقال له: من سبق؟ قال: سبق المقربون، قال: إنما أسألك عن الخيل، فقال بلال: وأنا أجيبك عن الخير". قال الجاحظ "فترك بلال جوابه بلفظه إلى خير هو به أنفع له"، وفي موضع آخر من الكتاب ذاته "استقبل عامرَ بن عبد القيس رجلٌ في يوم حلبة فقال: من سبق يا شيخ؟ قال: المقربون".

إعلان

ذكر الجاحظ هذا اللون دون أن يخصه بتسمية، وأشار إليه مرة أخرى تحت عنوان "باب من الكلام المحذوف ثم نرجع بعد ذلك إلى الكلام الأول"، وذلك في ثنايا حديثه عن "كلام يذهب السامع منه إلى معاني أهله وإلى قصد صاحبه".

ثم تراخى الزمن إلى أن أقبل أبو يعقوب السّكاكيّ (ت 626هـ)، المتهم -من وجهة نظر بعض المحدثين- بتعقيد البلاغة، فكان أن أطال النّفس في الحديث عن هذا اللون، وقعّد قواعده وحدّد مصطلحه، وخلع عليه اسمه الّذي يلازمه إلى اليوم؛ أسلوب الحكيم، وذلك في كتابه (مفتاح العلوم)، وأدرجه في آخر علم المعاني. المدة الزمنية بين وفاة الجاحظ وميلاد السكاكي قدرها 300 عام -إذ ولد السكاكي سنة 555 للهجرة- وخلالها لم يهتد أهل العربية -أو هكذا يبدو- إلى مصطلح يناسب هذا اللون البلاغي!

من بعد السكاكي، جاء الخطيب القزويني (ت 739هـ) يسعى، فشقّق القول في هذا الباب، وذكر -فيما ذكر- أن عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) ساق هذا اللون وخلع عليه اسم "المغالطة"، لكنك حين ترجع إلى (دلائل الإعجاز)، تجد الجرجاني يسوف اللفظة عرضا ضمن ثنايا كلامه في "فصل: الاستفهام له التقديم والصدارة وتقديم ما يقارنه من اسم وفعل"، فلما أن وصل إلى بيان استعمال لفظتي مثل وغير -وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل- ذكر كلمة "المغالطة".

ولسائل أن يسأل: هل أدرج الجرجاني كلمة "المغالطة" لقصد أم أوردها عرضا؟ العلم عند من يعلم السر وأخفى، لكن عدم توسعه في تبياتها يضعنا في حالة من اللبس ولا يخولنا التعويل على مراده منها. دأب البلاغيون على إدراج أسلوب الحكيم تحت عنوان "خروج الكلام لا على مقتضى الظاهر"، وبعض المصادر تقول "إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر". نشير على عجالة إلى تفريق العرب بين مقتضى الظاهر ومقتضى الحال، وسنتوسع في ذلك عند معالجة مقال المفارقة الأسلوبية، وإن تطرقنا لجانب منه في مقال (الاستلزام الحواري.. أحد أبرز معالم النظرية التداولية).

بعد القزويني، نقل البلاغيون أسلوب الحكيم إلى علم البديع، وجعلوه ضمن المحسّنات المعنوية، فكأنهم لم يرتضوا تصنيف السكاكي له ضمن علم المعاني، وما زال إلى يوم الناس هذا في عباءة البديع. لكن الدكتور محمد محمد أبو موسى يجد تخريجا لتصنيف السكاكي، فيقول "وألحقوا به -أي بعلم المعاني- أسلوب الحكيم لأنه ضرب من المخالفة"، ولقائل أن يقول إن تصنيف السكاكي ظلم البديع، ولهذا موطن نقاش آخر.

الحكيم هو رجل يضع الأمور في مواضعها، فلا يجنح إلى الطيش أو التهور، يصيب مفصل القول وكبد الحقيقة، يحسن التصرف، يتقن التعامل مع الأشياء وفق منطقها وطبيعتها (مولدة بالذكاء الاصطناعي – الجزيرة) أسلوب الحكيم لغة واصطلاحا

الأسلوب في اللّغة الطريق أو الطريقة، الاستقامة والامتداد، الفن والمذهب، وهي قريبة من بعضها في وجوه، من الفعل سلب؛ ففي (مقاييس اللغة) قال ابن فارس (ت 395هـ) "السين واللام والباء أصل واحد، وهو أخذ الشيء بخفة واختطاف"، وفي (تهذيب اللغة) قال الأزهري (ت 370هـ) "يقال للسطر من النخل أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب… والأسلوب الوجه والطريق والمذهب، يقال: أنتم في أسلوب شر، ويجمع أساليب"، وفي (شمس العلوم) قال الحميري (ت 573هـ) "ويقال إن كل شيء امتد من غير اتساع فهم أسلوب".

إعلان

وعند ابن منظور (ت 711هـ) في لسان العرب "والأسلوب بالضم الفن، يقال أخذ فلان في أساليب من الفن أي أفانين منه"، أما الزبيدي (ت 1205هـ) في (تاج العروس) فيقول "… والأسلوب الطريق تأخذ فيه، وقد سلك أسلوبه: طريقته، وكلامه على أساليب حسنة"، والمعنى هنا واضح لا يحتاج إلى تعليق.

أما على وجه الاصطلاح، فيقول الزرقاني (ت 1367هـ) "الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأديه معانيه ومقاصده من كلامه، أو هو طابع الكلام أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك"، فالأسلوب في الكلام فن إيراده وطريقه عرضه التي تميز الرجل عن غيره، لذلك قيل "الأسلوب هو الرجل"، ويختلف الأسلوب في تصور البلاغيين عنه في تصور الأسلوبيين، وسيأتي بيان ذلك.

والحكيم لغة يشير إلى الإتقان والإصابة والتّحرز والتّحوط والوقاية والمنع، وهذا توصيف لكل حكيم، يقول محمد بن يزيد المبرّد (ت 285هـ) الحكيم المصيب للحق، وعند ابن فارس "الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع، والحكمة هذا قياسها لأنها تمنع من الجهل… والمحكم المجرب المنسوب إلى الحكمة"، وعند جرير بن عطية الخطفي (أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ/ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا)، أي امنعوهم من التّعرض لي، وفي (شمس العلوم) أن "الحكيم صاحب الحكمة، قيل هو المانع من الفساد"، وعند الرازي (ت 666هـ) "الحكيم أيضا المتقن للأمور"، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم.

من هنا نستشف أن الحكيم رجل يضع الأمور في مواضعها، فلا يجنح إلى الطيش أو التهور، يصيب مفصل القول وكبد الحقيقة، يحسن التصرف، يتقن التعامل مع الأشياء وفق منطقها وطبيعتها.

أما على جهة الاصطلاح، فقد مرّ معنا قبل قليل أن السّكاكي أوّل من تناول أسلوب الحكيم من هذه الناحية، فيقول "وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، أو السائل بغير ما يتطلب". سنجد أن آخرين لم يحفلوا بتسمية أسلوب الحكيم، وفضّلوا استعمال كلمة "المغالطة"، ربّما تعصبا أو تيمنا بصاحب دلائل الإعجاز، من هؤلاء تاج الدين السبكي (ت 773هـ) في (عروس الأفراح)، وجلال الدين السيوطي (ت 911هـ) في (شرح عقود الجمان).

إعلان

مع ذلك، سنجد أن الكثرة الكاثرة من البلاغيين تميل إلى استعمال أسلوب الحكيم، أو الأسلوب الحكيم، مقارنة بالمغالطة التي تتداخل مع التورية واللغز في الجواب والقول بالموجب وتجاهل العارف وغيرها.

وإن كان النحاة تحرّجوا من إطلاق تعبير "المبني للمجهول، أو المبني للمفعول" إذا تعاملوا مع النصوص الدينية أو تعرّضوا للفظ الجلالة ولشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فآثروا استعمال تعبير "ما لم يسمّ فاعله"، فإن البلاغيين ليسوا أقل ألمعية وتأدبا، من ثم تركوا "المغالطة" إلى أسلوب الحكيم في عرض النصوص القرآنية والنبوية، ونجد أن السكاكي حاد عن استعمال "تجاهل العارف" إلى "سوق المعلوم مساق غيره"، من باب التأدب مع التنزيل العزيز. يدلك (مفتاح العلوم) على أن الرجل تعمد هذه التسمية بقوله "… ومنه سوق المعلوم مساق غيره، ولا أحب تسميته بالتجاهل".

وفي رسالة ابن كمال باشا (ت 940هـ)، يعرّف الأسلوب الحكيم بأنه "صرف كلام المتكلم أو سؤال السائل عن المراد منه، وحمله على ما هو الأولى بالقصد، أو إجابته على ما هو الأولى بالقصد".

بعض أهل التخصص يورد التركيب الوصفي (الأسلوب الحكيم)، في هذه الحالة يتعلق الوصف بالأسلوب ذاته؛ فالكلام هو الحكيم، ما يعني أن الأسلوب حكيم وإن خرج من غير حكيم (مصممة بالذكاء الاصطناعي – الجزيرة) أل التعريف في أسلوب الحكيم

أسلوب الحكيم نوع من العدول اللغوي يتألف من لفظتين؛ أسلوب والحكيم، تورده بعض المصادره في تركيب إضافي (أسلوب الحكيم)؛ فالمتكلم هنا موصوف بالحكمة، وهذه تسمية أبو عذر هذا المصطلح، إذ يقول "ولهذ النوع -أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر- أساليب متفننة… ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها".

أورد السكاكي التركيب الإضافي، وتابعه عدد من أهل العلم منهم ابن حِجّة الحموي (ت 837هـ)، وأبو البقاء الكفوي (ت 1094هـ) الذي يقول في (الكليات) "أسلوب الحكيم لغة هو كل كلام محكم"، ومن المحدثين عبد الرحمن حبنكة الميداني في (البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها)، عبد القادر حسين في (فن البديع).

إعلان

بعض أهل التخصص يورد التركيب الوصفي (الأسلوب الحكيم)، في هذه الحالة يتعلق الوصف بالأسلوب ذاته؛ فالكلام هو الحكيم، ما يعني أن الأسلوب حكيم وإن خرج من غير حكيم. في هذه المسألة على وجه التحديد، يورد شرف الدين الطيبي (ت 743هـ) في حاشيته على الكشاف أمثلة من القرآن الكريم، أمثلة ساقها ربنا عز وجل على ألسنة المشركين والكفار، وفي التعليق عليها يقول الطيبي إنها من الأسلوب الحكيم وإن صدرت من الأحمق!

ولا إلغاز هنا إن ربطت ذلك بقالة العرب "ربّ رمية من غير رام"، وقولهم "مع الخواطئ سهم صائب"، وما أشبه ذلك، إن اقتنعت فبها ونعمت، وإلا فلعلي أرجع بك إلى الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ)، من طريق مجمع الميداني (ت 518هـ) ومستقصى الزمخشري (ت 538هـ)، ومفاد الخبر أن الحجاج سأل أحدهم: أعصامي أنت أم عظامي؟ فأجاب من فوره: هذه وتلك! فلما باحثه الحجاج وجده أحمق، (وأحمق جدا كمان، إنه -ويا للهول بصوت يوسف وهبي- "أبيض يا ورد")، إذ لم يعرف مقصود العصامي ولا العظامي، وحاصل أمره أنه خشى أن يختار أحدهما تأسيسا على مبدأ "اللي يخيّرك بيحيّرك"؛ فقال ما قال واختار كليهما، على طريقة القائل "كلاهما وتمرًا"، و"يا طابت يا اتنين عُور"، وعلّق الحجاج "المقادير تجعل من العي خطيبا".

قد تقول إن هذا المثال وإن حمل مفارقة فإنه ليس من أسلوب الحكيم، فخذ -بارك الله فيك- هذا المثال من حاشية الطيبي: "قوله ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ ونَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ من الأسلوب الحكيم، وإن صدر من الأحمق، لأن الجواب المطابق للملأ عن قولهم ﴿أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ﴾: إنا سنقتله وقومه ونسبي ذراريهم، ولو أتى بهذا الجواب لظهر عجزه لبني إسرائيل، لأنه إذا ترك قتل الأبناء وشرع في قتل الرجال، لتوهم أن ذلك للخوف منهم، وأن موسى عليه السلام هو الموعود، فلما صرح بالعود إلى ما كانوا عليه من القهر: بإبقاء الرجال، وقتل الأولاد واستحياء النساء، دل على ذلة بني إسرائيل، وأن موسى غير الموعود به. يعني: لا تلتفتوا إليه أيها القبط، ودُومُوا على ما كنتم عليه من قتل الأولاد، واستحياء النساء، ولا تعتمدوا عليه، يا بني إسرائيل، ولا تعتضدوا به، فأنتم بعد أذلاء مقهورون".

إعلان

بعض البلاغيين لم يفرّق بين التركيب الإضافي والتركيب الوصفي؛ فيذكرهما بالتبادل كأن المعنى واحد، من هؤلاء عبده قليقلة في (البلاغة الاصطلاحية).

تكاد تجمع كتب البلاغة على مثال ابن القبعثري في الإشارة إلى النوع الأول من أسلوب الحكيم، كأن التراث العربي لم يعرف غير هذا المثال! (مواقع التواصل) تقسيم أسلوب الحكيم

تشبث العلماء بتعريف السكاكي "تلقي المخاطب بغير ما يترقب، أو السائل بغير ما يتطلب"، فقسّموا أسلوب الحكيم إلى قسمين؛ أولهما تلقي المخاطب بغير ما يترقب، وثانيهما تلقي السائل بغير ما يتطلب.

أولًا: تلقي المخاطب بغير ما يترقب

تلقي المخاطب بغير ما يترقب، وفيه يُحمل الكلام على خلاف المراد أو على خلاف مقتضى ظاهر الكلام، تنبيها على أنه هو الأولى بالقصد. عند بعضهم هو تلقي المخاطِب (بالكسر) أي المتكلم، إذ إن المتلقي يسمع كلام منشئ الخطاب/الباث/المرسل، ثم يرد عليه بما لا يتوقعه. يرى الدكتور محمد أبو موسى أن هذا النوع يحمل قدرا من المفاجأة والحكمة والتنبيه اللطيف على أن الأولى بمثل المخاطب أن يكون هذا المعنى مراده، لا ما ذكره.

بالمثال يتضح المقال، إذ قالت العرب "أحضر الناس جوابا من لم يغضب"، وقالوا "لا تغضب على من لا يضره غضبك"، وبإعمال هذين القولين: كيف يتعامل مواطن -لا حول له ولا قوة- مع أحد جبابرة السلطة التنفيذية؟ ليس العقيد عبد الحميد السرّاج أو بعض جلاوزة نظام الأسد، ليس اللواء حمزة البسيوني على بطشه وعنته، إنما -ولسوء طالعه- يقف هذا المواطن "الغلبان الكحيان العدمان الصدمان" بين يدي الحجاج بن يوسف، ليس ذلك فحسب، بل إن الحجاج يتلمظ كما تتلمظ الأفعى ويتوعّده!

إليك المشهد في سياقه: هذا الغضبان بن القَبَعْثَري الشيباني البصري، من بني همّام بن مرّة، واحد من فصحاء عصره، زعم بعضهم أنه دخل في عداد الخوارج حتى أمسى رأسا من رؤوسهم، أرسله الحجاج في طلب غريمه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ثم أرسل عينا تتقصّى صنيع ابن القبعثري، فهذا عين على ذاك، وذاك عين على ذلك، وهكذا دواليك! والقبعثري معناه الفصيل المهزول والجمل الضخم.

إعلان

يأتي التّقرير إلى الحجاج وفيه أن ابن القبعثري حذّر الخصم فقال "تغدّ بالحجاج قبل أن يتعشى بك"، وقيل إنه كان في بعض البساتين فدعا على الحجاج، قال "اللهم سوّد وجهه، واقطع عنقه، واسقني دمه"، ونقل المخبرون الدعاء بنصّه وفصّه -في وقت قياسي- إلى والي العراقين؛ فأمر بضبطه وإحضاره.

جيء بابن القبعثري، دار بينهما كلام فلما كاشفه الحجاج عن الدعاء قال "أردت العنب"، فقال الحجاج: لأحملنّك على الأدهم (يقصد القيد، سمي بذلك لسواده)، فقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب (وهما من ألوان الخيل؛ فالأدهم الأسود أو الّذي غلب سواده، والأشهب الّذي غلب بياضه)؛ فقال الحجاج: ويلك إنه لحديد (يقصد المعدن، وهو القيد أيضًا؛ فيه وعيد)، فأجابه: إن يكن حديدًا خير من أن يكون بليدًا (يريد الحدّة التي هي نقيض البلادة، والقوة التي هي نقيض الوهن، كأن الأمير وعده ولم يتوعّده).

ثم قال الحجاج لرجاله: احملوه، فقال ابن القبعثري ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا﴾؛ فقال الحجاج: اطرحوه، قال ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾؛ فأعجب الحجاج بمنطقه وأخلى سبيله، إذ أدرك بفطنته أن الطرف الآخر في الخطاب يحثه على العفو وترك العقوبة، إذ إن أقبح عمل المقتدرين الانتقام، فكأن ابن القبعثري قال له بلسان الحال "الوعد والعفو أولى بك من الوعيد والإساءة".

قصة ابن القبعثري مع الحجاج أوردتها جملة من كتب التراث، أولها عند المعافى بن زكريا (ت 390هـ) في (الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي)، وقد أطال النفس في إيراد القصة بتفاصيل لم يذكرها غيره، وتناقل من جاء بعده الخبر باختصار وتصرف أحيانا.

ابن القبعثري استخدم بلاغة مبتكرة مع الحجاج، مما أدى إلى حوار غير متوقع وتجنب العقاب المعتاد (مولدة بالذكاء الاصطناعي – الجزيرة)

تذكر بعض المصادر أن ابن القبعثري قال للحجاج "مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب"، فضم الأشهب للقرينة على المراد بالأدهم، أو لإفادة أنه لا ينبغي أن يكتفي الأمير بالحمل على الأدهم، بينما تضيف مصادر أخرى الكميت (الأحمر الضارب إلى السّواد)، أو الأشقر (الأحمر الصّافي)، وتضيف فئة ثالثة الكميت والأشقر إلى الأدهم والأشهب!

إعلان

هذا المثال يوضح كيفية تلقي المخاطب بغير ما يترقب، فالحجاج وغيره يتوقع أن يجاحش المرء عن خيط رقبته، إن صدقا وإن كذبا، لكن ابن القبعثري سلك دربا آخر، وحمل الكلام على أحسن وجوهه، وتلطّف في القول، والقول اللين يغلب الحق البين، من هنا كان تعامل الحجاج مع ابن القبعثري على خلاف طريقته المعهودة من التنكيل والتصفية الجسدية؛ فهل فكر ابن القبعثري خارج الصندوق؟ لعله ولعله!

نلاحظ التورية في قول الحجاج (الأدهم، الحديد أو سلسلة القيد)، والتورية إطلاق لفظ يحمل معنيين على جهة الاشتراك، أحدهما قريب والآخر بعيد، مع إرادة البعيد منهما مع وجود قرينة دالة. وقد سمّى ابن الأثير -ومن بعده صاحب (الطراز)- التورية بـ"المغالطة المعنوية"، وفي (عروس الأفراح)، أورد السبكي هذه القصة تحت عنوان (تفسير السكاكي للالتفات)، وقد مرّ معنا في مقال سابق الحديث عن الالتفات، ضمن الإشاريات اللغوية، فانظر إن شئت مقال (بين البنيوية الشكلية والتداولية.. دراسة تحليلية للإشاريات اللغوية في السياقين النحوي والتداولي).

تكاد تجمع كتب البلاغة -بل وتقتصر أغلبها لسوء الطالع- على مثال ابن القبعثري في الإشارة إلى النوع الأول من أسلوب الحكيم، كأن التراث العربي لم يعرف غير هذا المثال! وإن كانت بعض المواقف التي يمكن إيرادها في هذا الباب، كالحديث بين يحيى بن خالد البرمكي وعبد الملك بن صالح، إذ قال يحيى للرجل: أنت حقود؛ فأجاب ابن صالح "إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر، فإنهما لباقيان"، فليس في جواب ابن صالح رد مباشر على حكم البرمكي أو ادعائه، إنما تلطّف في قوله وأجاب بما لم يترقّبه محدثه، يدلك على ذلك إعجاب البرمكي بما سمع وتعقيبه "ما رأيت أحدا اجتج للحقد حتى حسّنه غيرك".

وفي رسالته، ساق ابن كمال باشا مثالا آخر، وفيه "من ذلك أن يقول المحتفي بضيفه معتذرا: أرجو العفو عن قصوري؛ فيجيب الضيف (قصورك عالية شامخة)، أي ما قدمته من كرم عظيم كالقصور الشامخة؛ فيحمل كلمة القصور على غير ما أراد بها المضيف، ومنه قوله تعالى ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾".

إعلان

فإن عدنا أدراجنا إلى الجاحظ، وجدنا على مائدته عدد من أمثلة هذا القسم، فهذا سعيد بن مرة الكندي يدخل على معاوية بن أبي سفيان؛ فيقول الخليفة: أنت سعيد؟! ويجيب الرجل "السعيد أمير المؤمنين، وأنا ابن مُرّة"، وهذا السيد بن أنس الأزدي يدخل على عبد الله المأمون، فيسأله الخليفة العباسي: أنت السيد؟ ويجيب صاحبنا "السيد أمير المؤمنين، وأنا ابن أنس"، فاستحسن قالته وأحسن إليه.

استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الحكيم لتوجيه الصحابة، والتحاور ببلاغة (مواقع التواصل) "أسلوب الحكيم" في الهدي النبوي

في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا هو أعجبهم إلي (إلى سعد)، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أو مسلما؟ فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، فقلت: ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أو مسلما؟ ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا سعد! إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إليّ منه، خشية أن يكبّه الله في النار".

في هذا الحديث، أجاب المصطفى صلى الله عليه وسلم بغير ما يترقب الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، فيقول "أو مسلما؟" عدولا عن وصف سعد للرجل بالإيمان، فوصفه بالإسلام تنبيه على أنه أولى وأقرب للظاهر. وقد أحسن الدكتور كمال كامل محمود صالح في دراسته المعنونة بـ(الأسلوب الحكيم في الحديث النبوي في صحيح البخاري.. عشرة أحاديث مختارة)؛ فليرجع إليها من شاء.

وفي صحيح أبي داود، أقبل أبو رِمْثَة رضي الله عنه مع أبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن الأب أن خاتم النبوة في ظهر المصطفى من مرض أو ما شابه، فقال "أرني هذا الذي بظهرك فإني رجل طبيب"؛ فأجابه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم "الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها". وهذا من أسلوب الحكيم، لأن الرجل لم يتوقع هذا الجواب بحال، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم كلام الرجل على غير ما أراد، ونبهه من طرف خفي إلى الأجدر به والأليق له.

إعلان

والسؤال الآن: إذا كان هذا مثال ابن القبعثري أشهر ما سيق في هذا الباب من منثور العرب؛ فهل ضمّنوه أشعارهم؟

الجواب: اللهم نعم! هذا شاعر اختلفوا فيه، قيل إنه حاتم الطائي وقيل غيره، تعاتبه زوجه في إكرام الوافدين عليه، فيستقبلها بغير ما تتوقع منه، إذ يتغابى عامدًا متعمدا، يتغافل عن مقصدها لئلا يدخل في جدل بيزنطي، وكانت العرب تقول "الشّرف التّغافل"، وهذا أبو تمام يقول:

لَيْسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ .. لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي.

والحال هذه، يستقبل الشاعر زوجه بقوله (أَتَتْ تَشْتَكِي مِنِّي مُزَاوَلَةَ القِرَى/ وَقَدْ رَأَتْ الضِّيفَانَ يَنْحُونَ مَنْزِلِي/ فَقُلْتُ لَها لمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهَا:/ هُمُ الضَّيْفُ جِدِّي فِي قِرَاهُمْ وَعَجِّلِي)؛ فيأمرها بالمبادرة والإسراع في إكرامهم، بينما جاءت بالأساس لتوبّخه وتحضّه على خلاف ذلك. في بعض المصادر، يأتي الشطر الأول بتغيير يسير، وفيه (أَتَتْ تَشْتَكِي عِنْدِي مُزَاوَلَةَ القِرَى).

وفي الحاشية على الكشاف، يقول الطيبي وهو يستعرض قوله جل ثناؤه ﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ﴾، فإن قيل ما المناسبة بين قوله ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ وبين قوله ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ﴾؟ فالجواب أنه من باب الأسلوب الحكيم، كقوله (أَتَتْ تَشْتَكِي مِنِّي مُزَاوَلَةَ القِرَى …إلخ).

ومما يدخل في هذا الباب قوله تبارك اسمه ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾، إذ المراد منه التكثير، وحمله صلى الله عليه وسلم على العدد فقال "والله لأزيدن على السبعين"، فنزل قوله جلّ في علاه ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾، ويدخل في باب حمل اللفظ على ما يحتمل مع العلم بأنه غير مراده، أي: عدم قبول استغفارك ﴿بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، المتمردين في الكفر، فإن من طبع على الكفر لا ينقطع أبدًا ولا يهتدي، فعدم قبول دعائك لا لبخل منا ولا لقصور فيك؛ بل لعدم قابليتهم.

ابن القبعثري استخدم "مثل" بمعنى "الأمير" نفسه، وهذا شائع في البلاغة العربية للتعبير بغير المتوقع (مولدة بالذكاء الاصطناعي – الجزيرة) قوله: مثلك يفعل كذا

مرّ معنا أن ابن القبعثري قال للحجاج "مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب"، فهل كان يقصد شخصًا غيره على وجه التعيين؟ والجواب لا، فليس المراد بلفظ (مثل) غير ما أضيف إليه، إذ إن المقصود من كلامه "يليق بك أيها الأمير -وبكلّ أمير في صفتك ومكانتك- أن يكافئ ولا يعاقب".

إعلان

يفهم هذا بمقتضى القياس وموجب العرف والعادة، وليس المراد بقوله (مثل) تشبيه للرجل بغيره، وهذا تعبير كثير الاستعمال في مجازات العرب، فقوله جل ثناؤه ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا﴾، أي فإن آمنوا بالذي آمنتم به لأن إيمانهم لا مثل له، وقولك لأحدهم: مثلك يحفظ المعروف ومثلك لا يبخل! تقصد به "أنت تحفظ المعروف، وأنت لا تبخل"، ويندرج في هذا السبيل قول بشر بن المغيرة بن أبي صُفرة -وقيل البحتري بن قبيصة بن أبي صفرة- مخاطبا عمّه المهلّب (أَنَا السَّيْفُ إِلّا أَنَّ للسَّيْفِ نَبْوَةً/ وَمِثْلِي لَا تَنْبُو عَلَيْكَ مَضَارِبُهْ)، وهذا أبو الطيّب المتنبي (ت 354هـ) يقول لممدوحه (وَلَمْ أَقُلْ مِثْلَكَ أَعْنِي بِهِ/ غَيْرَك يَا فَرْدُ بِلَا مُشْبِهِ).

ولربما استعملت كلمة غيري في السياق ذاته، فتقول غيري يفعل ذلك أي "أنا لا أفعل ذلك"، ولا تقصد -بالضرورة- شخصا على وجه التعيين، أو التّعريض بغيره، ومنه قول أبي تمام (ت 231هـ) يقول (وَغَيْرِيْ يأْكُلُ المَعْرُوفَ سُحْتًا/ وَتَشْحَبُ عِنْدَهُ بِيْضُ الأَيَادِي)، وقول المتنبي (غَيْرِيْ بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسِ يَنْخَدِعُ/ إِنْ قَاتَلُوا جَبُنُوا أَوْ حَدَّثُوا شَجُعُوا).

في (دلائل الإعجاز)، قال الجرجاني "واستعمال مثل وغير على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع، وهو جار في عادة كل قوم. فأنت الآن إذا تصفّحت الكلام وجدت هذين الاسمين يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما هذا النّحو الذي ذكرت لك، وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدّما. أفلا ترى أنك لو قلت (يثني الحزن عن صوبه مثلك، رعى الحق والحرمة مثلك، يحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير، ينخدع غيري بأكثر هذا الناس، ويأكل غيري المعروف سحتا)، رأيت كلاما مقلوبا عن جهته، ومغيّرا عن صورته، ورأيت اللّفظ قد نبا عن معناه، ورأيت الطبع يأبى أن يرضاه".

إعلان

هذا الموضع لدى الجرجاني هو الذي سيقت فيه كلمة "المغالطة" عرضا، وأسلفنا تبيان ذلك، وإن تمسّك قوم بتسميته ولم يستعملوا غيرها، وامتنع آخرون عن تسمية الجرجاني منهم الرازي (ت 601هـ)، وإن عده ضمن الأسلوب الكنائي، فقال وهو يناقش التقديم والتأخير في مثال ابن القبعثري "والأسلوب الكنائي أبلغ من الأسلوب الصريح، كأن يقال: أنت تثني الحزن عن صوبه… لأن الأسلوب الكنائي كدعوى الشيء بنية ودليل".

والحال هذه، فلا نفوّت الإشارة إلى أن ما نحن بسبيله يختلف عن قول الملك الضليل (فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ/ فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ)، وفي رواية (فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ)، وفي البيت شاهد نحوي سنطوّف حوله لاحقا.

ثانيا: تلقي السائل بغير ما يتطلب

هذا النوع مبني على السؤال، يفهم من ذلك أن هذا القسم مقتصر على السؤال والجواب ليس إلا؛ يسوق أحدهم سؤالا، فيقرر المسؤول أنه سؤال غير مهم، أو أقل إفادة للسائل؛ فيضرب عنه صفحا وينبري مجيبا عما هو أهم وأولى، قد يزيد في جوابه أو ينقص بما يراه أنسب لحال السائل، وفي زيادة الجواب أو نقصانه ما يحيل على خرق مبدأ التعاون في الاستلزام الحواري، وقد أطلنا النفس في عرضه، فليرجع إليه من شاء في مادة (الاستلزام الحواري.. أحد أبرز معالم النظرية التداولية).

وليس صحيحا ما ذهب إليه المناوي (ت 1031) من أن أسلوب الحكيم "يكون تعنيفا للمتكلم على تركه الأهم"، إذ كيف للحكيم -شخصا أو أسلوبا- أن يكون التعنيف وسيلته في التوجيه والتقويم والتقييم؟! فالحكمة تمنع من الطيش والغضب والنزق والتهور، ولربما استُعمل التعنيف في مواطن، لكنه ليس الأساس الذي عليه التعويل، واستعمال التعنيف هنا داخل في عباءة قول النابغة الجعدي (فَفِي الحِلْمِ خَيرٌ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرةٍ/ وَفِي الجَهْلِ أَحْيَانًا إِذَا مَا تَعَذَّرَا)، ومن بعده المتنبي في قوله (مِنَ الحِلْمِ أَنْ تَسْتَعْمِلَ الجَهْلَ دُونَهُ/ إِذَا اتَّسَعَتْ فِي الحِلْمِ طُرْقُ المَظالِمِ). لعل المناوي خانه اللفظ، ولو استعمل "التقريع" بدلًا من "التعنيف" لكان أوقع وأنسب.

إعلان

في القسم الأول من أسلوب الحكيم عرضنا لقصة ابن القبعثري لأنها الأشهر والأظهر في كتب البلاغيين المتقدمين، ثم أردفنا بالشعر والذكر الحكيم، لكننا سنبدأ في هذا النوع بإيراد الأمثلة القرآنية لشيوع هذا النوع فيه، نتبع ذلك بشيء من الهدي النبوي، ثم منظوم العرب ومنثورهم.

هناك بعض الأمثلة القرآنية الدالة على شيوع استخدام الأسلوب البلاغي "أسلوب الحكيم" فيه (شترستوك) القرآن الكريم آية الأهلّة

يقول ربنا جلّ شأنه ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾، إذ سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غُنم الأنصاري (في بعض الروايات: ربيعة بن غانم الأنصاري) -رضي الله عنهما- فقالا "يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ". سؤالهما عن هيئة الهلال ومنازل القمر، ولن يفيدهما -وغيرهما- في قليل أو كثير، فأجيبوا ببيان الغرض والفائدة ووجه العائدة من هذا الاختلاف، إذ إن حكمة تفاوت الأهلّة أولى بحالهم، "وذلك للتنبيه على أن الأولى والأليق بحالهم أن يسألوا عن الغرض، لا عن السبب؛ لأنهم ليسوا ممن يطلعون بسهولة على ما هو من دقائق علم الهيئة، ولا يتعلق لهم به غرض".

هنا، لن أبرح الأرض ولن أشرب القهوة -وإن بردت- حتى أنبّه على مسألة تحزّ في النفس، إذ شهدت بعين قلبي الخليل وسيبويه والكسائي وابن حبيب ورجالات البصرة والكوفة كابرا عن كابرا، وقد أصيبوا بنوبة من الإحباط والحسرة، سقط الفك السفلي على الأرض -على طريقة أفلام الكرتون- استهجانا ودهشة ونحن جلوس نتابع محاضرة لأحدهم في الأسلوب الحكيم؛ فإن سألت عن العلّة، قلت لك -نيابة عن هؤلاء الأكارم- إن صاحبنا استشهد بالآية الكريم ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾، ثم بثقة لا مزيد عليها ولا مسوغ لها نوّن المواقيت -دون أن يطرف له جفن- مع إجماع طوب الأرض على منعها من الصرف!

إعلان

قال (مواقيتٌ)، لم ينوّنها مرة أو مرتين، نوّنها ثلاثا! ثلاث مرات نوّنها على تراخ بين كل مرة وأخرى، ثلاث مرات نوّنها لا يلوي على شيء، وانفطرت قلوبنا، لعلي سمعت أحدهم يردد -في غيط وكمد- قالة محمود درويش "لَمْ يَبْقَ فِي اللُّغَةِ الحَدِيثَةِ هَامِشٌ للاحْتِفَاءِ بِمَا نُحِبْ"، ربّما سمعت غيره يستشهد بقوله تعالى ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾. المواقيت جمع الميقات -أصله موقات، قُلبت الواو ياء لكسر ما قبلها- وهو الوقت، وعند صاحب (الكشاف) بمعنى معالم. مواقيت على زنة مفاعيل، مثل مصابيح ومفاتيح، بعد الألف ثلاثة أحرف أوسطها ساكن، وفي التنزيل قال جل ثناؤه ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾.

هل أقول إن صاحبنا يدرّس البلاغة في بعض الجامعات المرموقة؟ هل أقول إنه يحاضر في كثرة كاثرة من طالبات العلم اللواتي سيصبحن غدا أو بعد غد أمهات ومعلمات يدرّسن الضاد ويخرجن الأجيال؟ هل نحن في حاجة إلى ذكر اسم خالد الذكر وعطر السيرة والمسيرة عبد القاهر الجرجاني، وقد بدأ حياته مكينا في النحو فانقادت له البلاغة من حيث يدري ولا يدري!

هل أقول لك إن الأكاديمي نفسه ساق مثال الحجاج الآنف الذكر، وقال إن بطل القصة يقال له (القبعثرى) -بألف ليّنة، ولا أدري من أين جاء بذلك!- هل أقول لك ذلك؟ لا، لن أخبرك بذلك إنما سأكتم الهم في كبدي، ما هي إلا نفثة مصدور، لا بد للمصدور من أن ينفث، ومن ضاق صدره اتسع لسانه وقلمه ولوحة مفاتيحه، ولنرجع إلى ما كنا بسبيله ونعود إلى ما استطردنا عنه.

آية النفقة

في قوله تعالى ذكره ﴿يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، كان سؤال عمرو بن الجموح: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فكان الجواب مخصوصا بالفئات التي تستوجب الإنفاق عليها، ومصارف الإنفاق والجهات المستحقة لها، وهذا أولى بهم وأجدى لهم من سؤالهم، ومن ثم فهذا الجواب من أسلوب الحكيم.

إعلان

فضلًا عن المثالين السابقين؛ أي سؤال الأهلّة وسؤال الإنفاق، نجد كلمة (يسألونك) في 9 مواضع من القرآن الكريم، قال سبحانه ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾، قال عز من قائل ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾، قال جل ثناؤه ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾، وقال ربنا ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾، وقال تبارك وتعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، وقال تقدست أسماؤه ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾.

ووردت الكلمة مسبوقة بحرف العطف (ويسألونك) في 9 مواضع؛ قال تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، وقال سبحانه ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾، وقال عز من قائل ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ﴾، وقال ربنا ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾، قال جلت قدرته ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ﴾، وتعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾، قال سبحانه ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، قال العزيز الحكيم ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾، قال عز وجل ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا﴾.

إعلان

هنا لطيفة مفادها أنهم سألوا ولقِّن المصطفى صلى الله عليه وسلم الجواب (قل)، إلا في موضع واحد فقط، في سورة طه، إذ اقترن التلقين بالفاء، قال تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾. قال صاحب (فتح البيان) "لأن الجواب في الجميع كان بعد وقوع السؤال، وفي طه كان قبله، إذ تقديره: إن سئلت عن الجبال فقل". كذلك فإن المتأمل في هذه الآيات يجد أن الجواب فيها يندرج ضمن أسلوب الحكيم، ونترك للقارئ الكريم مجالًا للتطبيق العملي وفق ما قدمناه.

آية الشهادة

لمّا قال كفّار قريش: يا محمد! لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة؛ فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل قوله جلّ وتعالى ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾.

في (الكشف عن وجوه القراءات)، قال ابن أبي طالب (ت 437هـ) "… ويجوز أن يكون الجواب ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ﴾؛ فهو على الأول للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد -الذي لا أصدق منه- شهد لي بإيجاء هذا القرآن، وعلى الثاني من الأسلوب الحكيم، لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى، بل الكلام في أنه: هل نشهد لنبوته أو لا؟"، وعنه نقل ابن كمال باشا في تفسيره، وشهاب الدين الآلوسي (ت 1270هـ) في (روح المعاني).

فإن سأل سائل: لماذا لا يجاب عن السؤال مباشرة؟ فالجواب ما تقدّم في بيان نوعي الأسلوب الحكيم، ويردف ذلك باعث آخر من كيس السيوطي نسوقه من باب تضافر الأدلة، إذ أورد في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) ما نصه "قد يعدل عن الجواب أصلا إذا كان السائل قصده التعنت، نحو قوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾. قال صاحب الإفصاح: إنما يسأل اليهود تعجيزا وتغليظا، إذ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة؛ فقصد اليهود أن يسألوه، فبأي مسمى أجابهم قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا، وكان هذا الاحتمال كيدا يرد به كيدهم".

إعلان

ومن قبل السيوطي، نجد الطيبي في حاشيته يذكر موقف العاص بن وائل السهمي حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففتّه بين يديه، وقال -بنبرة لا تخلو من تهكم- يا محمد! أيبعث الله هذا بعد ما أرى؟ فأجابه من لا ينطق عن الهوى "نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم".

قال الطيبي: وقوله صلى الله عليه وسلم "نعم… ثم يدخلك نار جهنم" من الأسلوب الحكيم، أي: إحياؤه مما لا كلام فيه، فسل عن حالك كيف تصير إلى جهنم؟ فإن قيل: ليس هذا من الأسلوب الحكيم في شيء، بل أجاب وزاد في الجواب بالبعث والعقاب؛ فيقال: الأسلوب الحكيم: هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب والسائل بغير ما يتطلب، فقوله صلوات الله عليه "ويبعثك ويدخلك جهنم" هو الجواب المفحم، وقوله "نعم" توطئة للجواب، واللعين لم يترقب ذلك، على أن سؤاله ذاك لم يكن سؤال مسترشد طالب للحق، بل سؤال متعنت متهكم لم يقنع بلا ونعم… على أن الزائد على الجواب لا يتبينه إلا الحكيم الحاذق.

وعند الطيبي أن قوله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي﴾، وقوله تبارك اسمه ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي﴾، وكذلك قوله سبحانه ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾، وقوله جل ثناؤه ﴿أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، كلها داخلة في عباءة أسلوب الحكيم.

وفي سورة يس، يتحسر المشركون بلهجة السؤال ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾، والجواب المباشر لذلك هو أن الله تعالى الذي بعثكم من قبوركم ليوم الحشر، لكن الجواب يأتي على خلاف ما ترقبوه، فكان أن قال سبحانه ﴿هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾.

السنة النبوية

في رسالته، ساق ابن كمال باشا مثالين من السنة النبوية المطهرة لهذا النوع، الأول منهما أن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله! على النساء جهاد؟ قال "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة". سمّى المصطفى صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة جهادا بجامع المشقّة بينهما. والحديث عن ابن ماجه وأحمد، واللفظ لابن ماجه.

إعلان

المثال الثاني عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رجلا دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: متى الساعة؟ فأومأ الناس إليه بالسكوت، فلم يقبل وأعاد الكلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: وماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت". الحديث في الصحيحين بتغيير يسير، وهنا يسأل الرجل عن موعد يوم القيامة؛ فوجّهه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يحرص عليه ويسعى له، وهو التزوّد لهذا اليوم -الذي لا ريب فيه- والإعداد له، تأسيسًا على قوله تعالى ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾.

قال الطيبي -وعنه نقل المباركفوري- أنه صلى الله عليه وسلم "سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم، لأن سأل عن وقت الساعة؛ فقيل له: فيم أنت من ذكراها؟ إنما يهمك أن تهتم بأهبتها، وتنتفع بما ينفعك عند إرسالها من العقائد الحقة والأعمال الصالحة، أجاب بقوله ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله".

على ذكر كلمة الساعة، فلعل من المناسب الإشارة إلى التجنيس البلاغي، وهو لون من ألوان المحسنات اللفظية، ومنه التجنيس التام كقوله تبارك وتعالى ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾؛ فإن اللفظ تكرر دون تغيير، لكن المعنى مختلف؛ فالساعة الأولى يوم القيامة، والثانية وقت يسير من اليوم، وهنا يميز القارئ اللبيب بين التجنيس والمشاكلة التي سنعرض لها بعد قليل.

ديوان العرب

يزخر الشعر العربي بأمثلة تستعصي على الحصر لهذا النوع من الأسلوب الحكيم، فهذا أبو الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكي (ت 399هـ) يهتبل سانحة، يسجلها في شعره:

قَالُوا: اقْتَرْحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ *** قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا

يسمى ذلك مشاكلة، والمشاكلة ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا، فالتحقيق كما في البيت الذي نحن بسبيله، إذ كان للشاعر أربعة أصدقاء أيّام كافور الإخشيدي، الملقّب بـ(الأستاذ)، ثم جاءه أحدهم في يوم قارس البرودة، قال إنهم اصطبحوا اليوم وذبحوا شاة سمينة فاشتهِ علينا ما تحب أن نطبخه لك منها؛ فأجابه على البديهة (إِخْوَانُنَا قَصَدُوا الصَّبُوحَ بِسَحْرَةٍ/ فَأَتَى رَسُولُهُمُ إِلَيّ خُصُوصَا/ قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا… إلخ). وقوله: نُجد من الجود، وقد يأتي بفتح الأول من الإيجاد.

إعلان

وهذا ابن جابر الأندلسي، يطلب إليه ما طلب من أبي الرقعمق، فيجيب (قَالُوا اتَّخِذْ دُهْنًا لِقَلْبِكَ يَشْفِهِ/ قُلْتُ: ادْهِنُوهُ بِخَدِّهَا المُتَوَرِّدِ)، وإن أبعد النُّجعة وارتقى مرتقى صعبا، لكنها الأحلام والأماني!

والمشاكلة قديمة، وهي من المحسنات المعنوية، نجدها في قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم (ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا/ فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلينَا)، استعمل الجهل بمعنى الجزاء والعقاب لتأديب من يسيئون الأدب مع قومه، وليس الجزاء جهلًا، لكنه من باب مشاكلة اللفظ، وقال غيره (لَئِنْ كُنْتُ مُحْتَاجًا إِلَى الحِلْمِ إِنَّنِي/ إِلَى الجَهْلِ فِي بَعْضِ الأَحَايِينِ أَحْوَجُ/ وَلِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ/ وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالْجَهْلِ مُسْرَجُ/ وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمِي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ/ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجِي فَإِنِّي مُعَوَّجُ).

ومن أمثلة المشاكلة في التنزيل العزيز قوله تعالى ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ﴾؛ فجاءت لفظة اعتدوا -وهي بمعنى الاقتصاص من المعتدين- من باب المشاكلة مع لفظة اعتدى، قال الحافظ ابن كثير (ت 774هـ) في تفسير هذه الآية "وقد أطلِق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة"، قال السمعاني (ت 562هـ) "وإنما سُمي الجزاء على الظلم: اعتداء، على ازدواج الكلام، ومثله قوله تعالى ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾، وتقول العرب: ظلمني فلان فظلمته، أي جازيته على الظلم، ويقال: جهل فلان عليّ فجهلت عليه".

ومن المشاكلة قوله تعالى ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَـٰدِعُهُمۡ﴾، يقول ابن كثير "ولا شك أن الله تعالى لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر… وقوله ﴿وَهُوَ خَـٰدِعُهُمۡ﴾، أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه".

إعلان

لعل القارئ الفطن أدرك ملمحا أو أكثر للتشابه بين هذا القسم -تلقي السائل بغير ما يتطلب- من قسميْ أسلوب الحكيم وبين الاستلزام الحواري، وقد فصلنا القول فيه.

النثر العربي

من أشهر الأمثلة على النوع الثاني من أسلوب الحكيم ما أورده المعافى بن زكريا بالتفصيل، ومن هذا الخبر "قال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن عمرو الغساني وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، من أين أفضي أمرك؟ قال: من صلب أبي، قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل؟ قال: إي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال: فما سنك؟ قال عظم، قال: ما تزيد في مسألتك إلا عناء، قال: ما أجبتك إلا عن مسألتك… إلخ".

ساق صاحب (الجليس والأنيس) هذا المثال بفصّه ونصّه، أو بتوسع وتفصيل عما أورده سابقوه، إذ صوّره بعدسة كاميرا متوسلا بتقنية "عين الطائر"، فجاء بكل خلجات المشهد السردي من الفعل ورد الفعل وما يحملانه من بعد درامي، ثم تناقلته عنه كتب التراث بتصرف واختصارات واقتطاعات عدة. وقد وقع في اسم أحد طرفي هذه القصة تغيير لعلّ مردّه إلى التصحيف؛ فعند المعافى بن زكريا اسمه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيّان بن بقيلة الغساني، بُقَيْلَةَ (بالباء المضمومة المتبوعة بالقاف المفتوحة)، وعند المرتضى (ت 436هـ) في (غرر الفوائد ودرر القلائد) أنه عبد المسيح بن بقيلة الغساني، وعند سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) في (مرآة الزمان في تاريخ الأعيان)، نجد اسمه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيّان بن بقيلة، ويأتي على الشّاكلة ذاتها عند الحسن اليوسي (ت 1102هـ)، في كتابه (زهر الأكم في الأمثال والحكم)، ومصادر أخرى جرت على المنوال ذاته.

يذكر الدّكتور إحسان في كتابه (ملامح يونانية في الأدب العربي)، أن صاحبنا لقّب بابن بُقيلة لأنه كان يمشي في ثوبين أخضرين، فشُبّهت ثيابه بخضرة البقل، فسمي بذلك، وهو ابن أخت سَطيح، أرسله كسرى أبرويز إلى خاله سَطيح ليسأله عن خمود النار ورؤيا المُوبَذان، أدرك الإسلام فلم يسلم.

إعلان

وينفرد أبو الفضل الميداني (ت 518هـ) بذكره ابن نُفَيْلَةَ (بالنون المضمومة متبوعة بالفاء المفتوحة)، ففي (مجمع الأمثال) أنه عبد المسيح بن عمر بن نفيلة، ولعلّه تصحيف، أما ابن عاصم الغرناطي (ت 829هـ) فيبدو أنه لم يقطع في ذلك، فتصرف تصرفا لطيفا في (حدائق الأزاهر)، فذكر أن اسمه عبد المسيح بن عمرو الغساني.

وصفوة هذا الخبر أن سيف الله المسلول كان يسأل الرجل، فإذا به يعدل عن الجواب المباشر، ويتلقاه بغيره لحاجة في نفسه، وهذا ما نوضحه في الحديث عن قيمة أسلوب الحكيم وأغراضه.

قيمة أسلوب الحكيم

قال السكاكي "وإنّ هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع، وسلبه حكم الوقور وأبرزه فى معرض المسحور. وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجى وسل سخيمته حتى آثر أن يحسن على أن يسئ غير أن سحره بهذا الأسلوب".

قلنا إن هذا الأسلوب فيه عدول لغوي، وانزياح من الدلالة الظاهرة إلى أخرى عميقة، ومن ثم فإن التباين بين مراد المتكلم وفهم المتلقي يحدث نوعا من الانتباه والتشويق، يسعى القارئ أو الجمهور إلى الوقوف على مراد طرفي الحديث، إيقانا منه أنهما لا يلقيان القول على عواهنه، وأن هذا الانزياح -أو هذه المفارقة- له ما يسوّغه، وسنتوسع في ذلك خلال الحديث عن ثنائية صانع المفارقة/قارئ المفارقة.

فإن قال قائل: هذان شخصان يتحدّثان، فما شأنهما بالجمهور المتلقي لاحقا؟! فالجواب أن كلًا منهما يسعى لهدف، ويزن الأمور بما يحقّق مقصده، ولا ضير أن يعالج الموقف بما يناسبه، فإذا ما ظفر بطِلبته ونال مبتغاه، كان ذلك أوقع في نفوس غيره، لأنّه عالج الموقف بحكمة على البديهة، ولم يحتج إلى طول رويّة للتعامل مع المسألة، وقد دلّ على عقله اختياره.

وكذلك تتنوع أغراض أسلوب الحكيم بين التبكيت وإثارة الانتباه إلى ترتيب الأولويات، الإيجاز إن كان السؤال يتطلب شرحا لا يقتضيه المقام، الإيضاح وإثارة الفضول، تفادي الإحراج والتخلص من إحراج السائل، أو عدم الرغبة في الصدام أو المواجهة، أو للتهكم، أو التظرف، أو غير ذلك.

إعلان

ولأن أسلوب الحكيم قريب من القول بالموجب وتجاهل العارف، فنرى إتمامًا للفائدة أن نعرض لهذين اللونين، ولو على جناح السرعة.

القول بالموجب

يعد ابن أبي الإصبع (ت 654هـ) أول من سك مصطلح "القول بالموجب"؛ فهو أبو عذره، قال في تعريف أسلوب الحكيم "هو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام، فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم، فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب".

تحدّث بعض البلاغيين عن "القول بالموجِب" -بكسر الجيم- أي الصفة الموجبة للحكم، اسم فاعل من الفعل أوجب، ويحتمل فتح الجيم إذا أريد بالحكم القول الذي أوجبته الصفة، فيكون اسم مفعول، والمعنيان صحيحان، وهو واحد من المحسّنات المعنوية.

يخلط بعضهم بين القول بالموجب وأسلوب الحكيم، ويعدهما بعض العلماء أمرا واحدا؛ ففي (التلخيص في علوم البلاغة) تحدث القزويني عن القول بالموجب ولم يتعرض لأسلوب الحكيم، أما في (الإيضاح في علوم البلاغة) فقد تحدث عن أسلوب الحكيم ولم يتطرق للقول بالموجب. وتجد السبكي في (عروس الأفراح) يقول "وهذا القسم -أي أسلوب الحكيم- قريب أو هو من تجاهل العارف بزيادة إشارة إلى سفه رأى المخاطب، وهو قريب من القول بالموجب". نلمس الاتجاه ذاته لدى ابن حِجّة الحموي في (خزانة الأدب وغاية الأرب) يقول "القول بالموجب، ويقال له أسلوب الحكيم".

لكن ابن معصوم الحسني (ت 1119هـ) يميز بينها في (أنوار الربيع)، فيقول عن القول بالموجب "هذا نوع من البديع غريب المعنى لطيف المبنى، راجح الوزن في معيار البلاغة، مفرغ الحسن في قالب الصياغة، وهو الأسلوب الحكيم رضيعا لبان وفرسا رهان، حتى زعم بعضهم أن أحدهما عين الآخر، وليس كذلك، بل بينهما فرق".

ومن أمثلة القول بالموجب قول العزيز الحكيم ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ﴾، إذ في قوله تبارك اسمه ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ﴾ قلب لمقصدهم وإغاظة لهم.

إعلان

مرّ معنا تعريف ابن أبي الإصبع للأسلوب الحكيم، إذ قال "هو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام… وذلك عين القول بالموجب؛ لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه"، ثم أورد كلام القزويني في تقسيم القول بالموجب، ووفق القزويني، ينقسم القول بالموجب إلى قسمين:

الأول: أن تقع صفة في كلام الآخر كناية عن شيء أثبِت له حكم؛ فتثبت في كلامك تلك الصفة من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم وانتفائه عنه، كقوله تعالى ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ فالأعز صفة وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم والأذل كناية عن المؤمنين وقد أثبتوا لفريقهم -المكنى عنه بالأعز- الإخراج فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم، وهو الله ورسوله والمؤمنون، ولم يتعرض لثبوت ذلك الحكم الذي هو الإخراج للموصوفين بالعز، أعني الله ورسوله والمؤمنين ولا لنفيه عنهم، ومنه قول القبعثري للحجاج لما توعده فقال "لأحملنك على الأدهم… فرأى القبعثري أن الأدهم يصلح صفة للقيد والفرس، فحمل كلامه على الفرس".

نلاحظ قالة الخطيب القزويني "ومنه قول القبعثرى للحجاج"، وهنا لطيفة إذ ذكر الدكتور عبد المتعال الصعيدي (ت 1391هـ/1971) أن القزويني أول من نسب القصة إلى القبعثري في كتابيْه (تلخيص المفتاح، الإيضاح في علوم البلاغة)، وتابعه على ذلك عدد من أصحاب الشروح والحواشي -منهم أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ) في (البحر المحيط) والبهاء العاملي (ت 1031هـ) في (الكشكول)، وعبد العزيز عتيق (ت 1396هـ/1976) في (علم البديع)- وجميعهم واهم لأنه ليس القبعثري، وإنما هو ابن القبعثري كما أوردت المصادر السابقة على القزويني -وفي صدارتها (الجليس والأنيس)- دون خلاف بينها.

إعلان

الثاني: حمل لفظ وقع في كلام الآخر على خلاف مراده بما يحتمله، وهو كثير في نثرهم ونظمهم، يكاد يكون ظريفا لولا مسحة التكلف، فإن لم يغلبه التكلف جاء رائقا، فمن ظريفه ولطيفه ما أورده الجاحظ وألمعنا إليه وألمحنا في صدر هذه الدراسة، ومنه قول الحسين بن الحجاج البغدادي (ت 391هـ) مسجلا ما دار بينه وبين صديقه (قَالَ: ثَقَّلْتُ إِذْ أَتَيْتُ مِرَارًا/ قُلْتُ: ثَقَّلْتَ كَاهِلِي بِالأَيَادِي/ قَالَ: طَوَّلْتُ قُلْتُ أَوْلَيْتَ طَوْلًا/ قَالَ: أَبْرَمْتُ قُلْتُ: حَبْلَ وِدَادِي)؛ فالصّديق يشعر بالحرج، وابن الحجاج يصرفه عن ذلك بألطف معنى وأسلس عبارة، وفي الحكمة "مَنْ ثَقُلَ عَلَى صَدِيقِهِ خَفَّ عَلَى عَدُوِّهِ".

وفي أبيات تفرّقت نسبتها في المصادر بين ابن الرومي وغيره، نجد قول الشاعر (وَإِخْوَانٍ حَسِبْتُهُمْ دُرُوعًا/ فَكَانُوهَا وَلَكِنْ لِلأَعَادِي/ وَخِلْتُهُمْ سِهَامًا صَائِبَاتٍ/ فَكَانُوهَا وَلَكِنْ فِي فُؤَادِي/ وَقَالُوا قَدْ صَفَتْ مِنَّا قُلُوبٌ/ لَقَدْ صَدَقُوا وَلَكِنْ مِنْ وِدَادِي/ وَقَالُوا قَدْ سَعَيْنَا كُلَّ سَعْيٍ/ لَقَدْ صَدَقُوا وَلَكِنْ فِي فَسَادِي)، والمعنى الذي ندندن على وتره مبثوث في البيت الثالث منها، فكأنه يقول: نعم! قلوبكم صافية من ودادي، وليست صافية من الحقد عليّ.

قال بعضهم (وَلَمَّا نَعَى النَّاعِي سَأَلْنَاهُ خَشْيَةً/ وَلِلْعَيْنِ خَوْفُ البَيْنِ تَسْكَابُ أَمْطَارِ/ أَجَابَ: قَضَى! قُلْنَا قَضَى حَاجَةَ العُلَا/ فَقَالَ مَضَى! قُلْنَا بِكُلِ فَخَارِ)، ولآخر (وَلَقَدْ أَتَيْتُ لِصَاحِبِي وَسَأَلْتُهُ فِي قَرْضِ دِينَارٍ لِأَمْرٍ كَانَا/ فَأَجَابَنِي وَاللهِ دَارِي مَا حَوَتْ/ عَيْنًا فَقُلْتُ لَهُ: وَلَا إِنْسَانَا)، وقريب من ذلك قول القائل (طَلَبْتُ مِنْهُ دِرْهَمًا يَوْمًا فَأَظْهَرَ العَجَبَ/ وَقَالَ: ذَا مِنْ فِضَةٍ يُصْنَعُ لَا مِنَ الذَّهَبِ).

إعلان

وعند صفي الدين الحلي (ت هـ)، نجد قوله (قالوا: سلوت لبُعد الإلف! قلت لهم/ سلوت عن صحّتي والبرء من شقمي)، وله قصيدة أخرى طويلة يدوزن فيها على وتر هذا اللون البديعي، يقول في بعض أبياتها:

قَالَتْ: كَحَّلْتَ الجُفُونَ بِالوَسَنِ قُلْتُ: ارْتِقَابًا لِطَيْفِكِ الحَسَنِ

قَالَتْ: تَسَلَّيْتَ بَعْدَ فُرْقَتِنَا فَقُلْتُ عَنْ مَسْكَنِي وَعَنْ سَكَنِي

قَالَتْ: تَشَاغَلْتَ عَنْ مَحَبَّتِنَا قُلْتُ: بِفَرْطِ البُكَاءِ وَالحَزَنِ

قَالَتْ: تَخَلَّيْتَ قُلْتُ عَنْ جَلَدِي قَالَتْ تَغَيَّرْتَ قُلْتُ فِي بَدَنِي

وبيت الشيخ إسماعيل المقري (قَالُوا: الأَحِبَّةُ شَكُّوا فِي هَوَاكَ.. نَعَمْ/ شَكُّوا -بِلَا شَكّ- أَحْشَائِي بِلَحْظِهِمُ)، ومن المحدثين تجد قول إسماعيل باشا صبري (طَرَقْتُ البَابَ حَتَّى كَلَّ مَتْنِي/ فَلَمَّا كَلَّ مَتْنِي كَلَّمَتْنِي/ قُلْتُ يَا أَسْمَا عِيلَ صَبْرِي/ قَالَتْ يَا إِسْمَاعِيلُ صَبْرَا).

الأمثلة التي أوردناها في النوع تجري في مضمار الشعر، وفي ميدان النثر أورد صاحب (جواهر البلاغة) مثالين من عالم الكاريكاتير؛ الأول منهما أن تاجرا سئل: كم رأس مالك؟ فقال: إني أمين، وثقة الناس بي عظيمة، والثاني أن بعض العمّال سئل: ماذا ادخرت من المال؟ فقال: لا شيء يعادل الصحة. يحيل هذان المثالان على مبدأ التعاون في الاستلزام الحواري، إذ يشملان خرقا لقاعدة المناسبة، مما يستوجب مراعاة السياق والبحث في المعنى المقتضى أو المستلزم، وسبقت الإشارة إلى هذا بالتفصيل.

الفرق بين القول بالموجب وأسلوب الحكيم

ولك أن تسأل: فما الفرق بين القول بالموجب وأسلوب الحكيم؟ لعل الجواب الكافي يكون من طريق ابن معصوم في أنوار ربيعه، إذ يقول "هذا النوع -أعني القول بالموجب- يشترك هو والأسلوب الحكيم في كون كل منهما من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، ويفترقان باعتبار الغاية، فإن القول بالموجب غايته رد كلام المتكلم وعكس معناه، والأسلوب الحكيم هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له".

إعلان

وعن ابن معصوم ينقل (معجم المصطلحات البلاغية)، وفيه "غاية القول بالموجب رد كلام المتكلم وعكس معناه، وغاية أسلوب الحكيم تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له".

ويبصّرنا صاحب (البليغ في المعاني والبيان والبديع) بإضافة ذات دلالة، فيقول "الفرق بين القول بالموجب -القسم الثاني منه- والأسلوب الحكيم التفاوت بينهما في الغرض من إتيانهما؛ فغرض المتكلم من الأول الملاحة والمحبة، ومن الثاني تذكير المخاطب وتنبيهه بأن غير ما قصد هو الأولى بحال المتكلم".

تجاهل العارف

تجاهل العارف هو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه به، يكون ذلك لأغراض عدة منها المدح أو الذم أو التعظيم أو التحقير أو غير ذلك. يجمع السؤال بين تجاهل العارف والقسم الثاني من أسلوب الحكيم، فكلاهما يتعلق بسؤال، وإن اختلف الغرض، وتجاهل العارف والقول بالموجب وأسلوب الحكيم كلها من المحسنات البديعية المعنوية.

ولتجاهل العارف أسماء أخر في كتب البلاغيين، منها "الإعنات لنكتة" وفق تسمية ابن المعتز (ت 296هـ)، ومنها "سوق المعلوم مساق غيره" في تسمية السكاكي، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.

من أمثلته في التنزيل العزيز قول ربنا ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، وغرضه توبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد لمن تقوّل ذلك، أو كما قال البغوي (ت 516هـ) إن السؤال جاء "إعلاما واستعظاما، لا استخبارا واستفهاما"، وفيه "تثبيت للحجة على قومه، وإكذاب لهم في ادعائهم عليه أنه أمرهم بذلك"، كما قال ابن الجوزي (ت 597هـ).

إعلان

ومن تجاهل العارف أيضا قوله جل شأنه ﴿قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾، وغرضه التقرير، وقوله تعالى ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ﴾، والغرض هنا الإيناس أو لإظهار الإعجاز، وقد يكون للتعريض كما في قوله سبحانه ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، أو للتحقير كما في قوله تبارك اسمه ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.

وقد يأتي تجاهل العارف للمبالغة في المدح كقول البحتري (أَلَمْعُ بَرْقٍ سَرَى أَمْ ضَوْءُ مِصْبَاحِ؟/ أَمِ ابْتِسَامَتُهَا بِالْمَنْظَرِ الضَّاحِيْ؟)، أو للمبالغة في الهجاء كقول زهير بن أبي سُلمى (وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي/ أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ)، أو للتوبيخ كما في قول الفارعة بنت طريف الشيباني في رثاء أخيها الوليد (أَيَا شَجَرَ الخَّابُوْرِ مَا لَكَ مُوْرِقًا/ كَأنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ)، أو للتدله في الحب كقول الشاعر (بِاللهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا/ لَيْلَايَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ؟)، وهذا البيت مختلف في نسبته بين العرجي ومجنون ليلي وذي الرمة وغيرهم، وقد يأتي تجاهل العارف لأعراض أخرى تتعلق بالسياق أو مقتضى الحال أو المقام، والثلاثة بمعنى.

نكتفي بهذا القدر، ونطوف قريبا في رحاب المفارقة الأسلوبية، لنعقد مقاربة ومقارنة بينها وبين أسلوب الحكيم، وللكلام صلة.

مقالات مشابهة

  • عندي كاريزما وقوة تأثير| ياسمين عز تعلن تقديم برنامج للأطفال.. فيديو
  • أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
  • تحقيقات مع شيرين بسبب تسريب أغنية!
  • رد ناري من نشأت الديهي على مطالبة إسرائيل بسيناء مقابل حكم الفلسطينيين للضفة
  • رمضان 2025 .. فوقنا خلاص | الأغنية الدعائية لمسلسل إش إش تتخطى المليون مشاهدة
  • الدهب ميليقش إلا بينا.. شوبير في أحدث ظهور مع كأس العالم للأندية
  • إحنا بتوع التعمير..عمرو أديب: معدات إعمار غزة تدخل الأحد المقبل
  • بلاش دباديب.. ياسمين عز: الدهب أحلى هدية في الفلانتين لأي ست مصرية
  • خمسيني يروي معاناته مع الاكتئاب: تركت الصلاة وتساوت عندي الجنة والنار.. فيديو
  • عمر خيرت: بشكر السعودية على التكريم اللي لن أنساه في حياتي .. فيديو