قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في محاضرته الرمضانية الثانية: الله سبحانه وتعالىَ وعد المسلمين وعد المؤمنين على الالتزام بالتقوى بالنور والفرقان ليكونوا أرقى أمة في وعيهم
تاريخ النشر: 13th, March 2024 GMT
الغفلة، وعدم الاستحضار، عدم التذكر، عدم الانتباه، يسبب للإنسان قسوة القلب، وإذا قسى قلب الإنسان؛ كان جريئاً على المخالفة لتوجهات الله
الثورة/
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
حديثنا عن أهمية التقوى، التي هي الثمرة التربوية لفريضة الصيام، وما تعنيه لنا التقوى؛ ليتضح لنا مدى حاجتنا إلى التقوى، وماذا تعنيه بالنسبة لنا، لنركز عليها، ونسعى لأن نحصل على هذه الثمرة، من خلال أدائنا لفريضة الصيام المباركة، ومن خلال سعينا للاستفادة الواسعة من بركات الشهر الكريم (شهر رمضان المبارك).
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بيَّن لنا كثيراً في القرآن الكريم عن أهمية التقوى بالنسبة لنا، وعن حاجتنا إليها، وفي واقع الحال فالسعي للتقوى، والحرص على التقوى، والاهتمام بأمر التقوى هي مسألةٌ فطريةٌ لدى الإنسان، الإنسان هو بفطرته يحب الخير والسلامة لنفسه كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» عن الإنسان: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات: الآية8]، يحب لنفسه الخير، ويريد لنفسه الخير؛ ولذلك نحتاج مع الفطرة التي تؤثِّر عليها مؤثرات هذه الحياة، ويؤثر أيضاً جهلنا بما هو الذي يشكِّل وقايةً لنا، وسلامةً لنا، وخيراً لنا، كما يؤثِّر على الإنسان ما يعانيه من الضلال، وسوء الفهم، والتصورات الخاطئة عمَّا هو الذي يحقق له الخير، ويشكِّل وقايةً له من الشرور والشقاء، وضنك المعيشة، وعن الخزي في الدنيا، وعن العذاب في الآخرة، نحتاج إلى هداية الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، نحتاج إلى الإيمان الواعي، الذي يتحقق لنا من خلاله التقوى، مع هداية الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» رسم لنا في توجيهاته، وتعليماته، وأوامره، ونواهيه، ما يمثل وقايةً لنا في الدنيا، وفي الآخرة:
في الدنيا: من الشقاء، من ضنك المعيشة، من الخزي، من القهر، من الظلم، من الذل، من كل الشرور.
وفي الآخرة: من العذاب العظيم، من سوء الحساب، من الخسران الكبير، الخسران لرضوان الله، ولجنته، وللنعيم الأبدي، والاتجاه نحو العذاب الأبدي والعياذ بالله.
ما ينقص المسلمين مع انتمائهم للإسلام هو التقوى، وهذا النقص له أثرٌ خطيرٌ على حياتهم، في كل شؤونهم: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، وغير ذلك، ومن الواضح مدى الخسارة التي يعانيها المسلمون، بسبب هذا النقص في التقوى، لو أن المسلمين التزموا التقوى، وبنوا واقعهم على أساسها، لكان وضعهم مختلفاً تماماً عمَّا هو عليه، ولما حصلت لهم ما حصلت من المآسي والكوارث والويلات، ولا يعني ذلك ألَّا يكون هناك معاناة وتضحيات في إطار عملي، فهذا شيءٌ طبيعيٌ في ظروف هذه الحياة، التي هي ميدان اختبار وميدان مسؤولية، ولكن المسألة تختلف كثيراً عن تضحيات ومتاعب لها ثمرة، ولها نتائج مهمة جداً، وعن معاناة تنتج المزيد من المعاناة، ومآسٍ تنتج المزيد من المآسي، وعن تتابع الكوارث والمآسي والويلات التي عانت منها الأمة على مدى تاريخها.
النقص في التقوى كان خطيراً ومؤثراً، والأخطر أيضاً من نتائجه وآثاره في هذه الحياة الدنيا: العواقب الخطيرة في الآخرة؛ فلذلك ندرك من خلال التأمل في آيات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم الأهمية الكبيرة لمعالجة هذا النقص، والسعي لتلافي هذا النقص.
الخطر الذي يسبب للإنسان أن يقع في المصائب الكبرى، والعواقب الخطيرة جداً، هو بمخالفة توجيهات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ لأنها هي التي تُشَكِّل وقايةً لنا، وشملت مختلف شؤون حياتنا، فعندما يخالفها الإنسان كشخص، أو كمجتمع، أو كأمة، لذلك تابعات، ومخاطر، وأضرار، وآثار، وعواقب وعقوبات، جزءٌ منها يأتي في الدنيا، والجزء الأوفى، والجزء الكبير، والجزء الخطير يأتي في الآخرة.
والمسلمون فَرَّطُوا في كثيرٍ من تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، التي تشكِّل وقايةً لهم من الضعف، والهوان، والشتات، والذل، والقهر، والظلم، فَرَّطُوا في تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وتوجيهاته، التي تبنيهم كأمةٍ قويةٍ عزيزة.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أمرهم في القرآن الكريم بالاعتصام بحبله، وحذرهم من التفرُّق، فتفرَّقوا وفرَّطوا في هذه التعليمات، أمرهم بالجهاد في سبيله، أمرهم بأن يكونوا أمةً قائمة بالقسط في عباده وبلاده، حمَّلهم مسؤوليات فيها الشرف الكبير لهم، بها نهضتهم، وعزتهم، وقوتهم، وريادتهم بين الأمم؛ ولذلك فرَّطوا في ذلك، بدلاً من أن يكونوا الأمة التي تتحرك في إطار تلك المسؤوليات العظيمة، وتحظى بنصر الله، ومعونته في أدائها لتلك المسؤوليات الكبرى: في الدعوة إلى الخير، في الأمر بالمعروف، في النهي عن المنكر، في السعي لإنقاذ البشرية وإصلاح واقعها، التفريط في ذلك، التفريط في الجهاد في سبيل الله، التفريط في الدور الحضاري وتقديم النموذج الحضاري الإسلامي، الذي يعمر هذه الحياة على أساسٍ من هدي الله وتعليماته، على أساسٍ من القيم والأخلاق العظيمة، فرَّطوا في كل ذلك، فرطوا في إعداد ما يستطيعون من القوة، فكانت النتائج عليهم خطيرة؛ لأن تفريطهم في ذلك كله امتد على مدى قرون من الزمن، على مدى مئات السنين، فكان الاتجاه هو اتجاه انحدار بين الأمم، الأمم الأخرى تنهض، تكبر، تقوى، وأمتنا الإسلامية تهبط في مسار هبوط على مدى التاريخ؛ لاستمرارها في ذلك التفريط، ولتفاقم وتعاظم هذا النقص في التقوى، والإصرار عليه، فكانت النتيجة في هذه الحياة نتيجة مؤسفة جداً، بعد امتداد التفريط لقرون من الزمن تغير واقع الأمة، هبطت في مستواها بين الأمم، وطمع فيها أعداؤها.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وعد المسلمين، وعد المؤمنين على الالتزام بالتقوى بالنور والفرقان؛ ليكونوا أرقى أمة في وعيهم، في حكمتهم، في بصيرتهم، في فهمهم، في معرفتهم، ولكن فرَّطوا في التقوى؛ فخسروا ذلك، بدلاً من أن يكونوا أمةً ترى بنور الله، تمتلك الوعي العالي، والبصيرة، والحكمة، والفهم، خسروا ذلك، وأصبحوا أمة ينقصها الوعي، يتمكن أعداؤها من إغوائها وإضلالها، وتضييعها في اتجاهات مختلفة، وأهواء مختلفة، وأفكار مضطربة، تزيدها ذُلاً، وتزيدها هواناً وضعفاً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال: من الآية29]، فقدوا الفرقان؛ فالتبست عليهم الأمور، وتمكّن أعداؤهم من التأثير عليهم، في رؤاهم، في ثقافاتهم، في أفكارهم، بما يخدم أعداؤهم، ويؤثر عليهم سلباً.
وعدهم الله على الالتزام بالتقوى أن يكون معهم، وهذا شيءٌ جامع، جامعٌ لكل خير، لكل فلاح، لكل عزة، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}، {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: من الآية123]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل: الآية128]، فلا يضر بهم ولا يؤثر عليهم مكر أعدائهم كيفما كان، {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل: 127-128].
وعدهم- كما وعد الأمم من قبلهم- على الالتزام بالتقوى بالبركات والخيرات، في أرزاقهم، في متطلبات حياتهم، في معيشتهم، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: من الآية96].
وعودٌ كثيرة تحدث عنها في القرآن الكريم، تتعلق بعاجل الدنيا، وأيضاً في الآخرة الجزاء الأوفى، الحساب اليسير، الأمن في يوم الفزع الأكبر، الفوز برضوان الله تعالى، الوصول إلى نعيم الله، إلى أرقى نعيم، إلى جنة الله، إلى السلامة من عذاب الله، ومن الشقاء والعذاب الأبدي.
ولذلك فالتقوى ذات أهمية كبيرة للإنسان، وحاجة ضرورية للإنسان، البديل عنها: هو ما يقع فيه الإنسان من الشقاء، من العذاب، من الهوان، من الخزي، من المصائب، من الشرور، فالتقوى ذات أهمية للإنسان، وإذا كان الإنسان قد يجازف بالتقوى، في حساب ما يحسبه من شقاء في هذه الحياة، وشرور في هذه الحياة، وأراد أن يجازف، وأن يستهتر بنفسه ولا يبالي بذلك، فماذا عن الآخرة؟ ماذا عن العذاب الأبدي، الشقاء الأبدي، الحسرات والندم، والعذاب النفسي والعذاب الجسمي الرهيب جداً في الآخرة، هل يمكن أن يفكر الإنسان بأنه شيء عادي، بأنه شيءٌ بسيط، بأنه شيءٌ يمكن أن يجازف وأن يورط نفسه فيه؟ هذا ما ينبغي أن نتأمله أيضاً من خلال القرآن الكريم.
العواقب والعقوبات في الآخرة رهيبة جداً، فظيعة وشديدة للغاية، وتداعيات، وعواقب، وعقوبات، إخلال الإنسان في هذه الدنيا بالتقوى، بما يشكل وقايةً له، لا تقتصر عند شرور ومصائب هذه الحياة، ما يواجه الإنسان في هذه الحياة من شرور ومصائب ومخاطر، بل الخطير جداً أنها تمتد إلى عالم الآخرة، إلى عالم الآخرة بشكلٍ رهيبٍ جداً يفوق تخيل الإنسان، فهي لا تقتصر على الدنيا، بل تمتد إلى الآخرة، وجزاء عظيم، جزاء كبير جداً، يُبيِّن لنا أهمية مسؤولية الإنسان كإنسان، وأهمية أعماله، وما يترتب على أعماله من جزاء، عِظَمُ الجزاء يدل على أهمية العمل، وآثار هذا العمل، ونتائج هذا العمل بالنسبة للإنسان.
ولذلك فالإيمان بالآخرة، واليقين بالآخرة، من أهم ما يساعد الإنسان على التزام التقوى في هذه الحياة، والاستقامة في هذه الحياة؛ لأن الإنسان يدرك أنَّ مستوى العقوبات والعواقب خطيرة جداً على الإخلال بالتقوى، ومهولة، ورهيبة، وليست فقط في ما قد يصيب الإنسان في هذه الحياة من شرور، ومن آلام، ومن مخاطر، ومن أضرار، ومن مصائب، بل أكبر بكثير، رهيبةٌ جداً، فهذا يمثِّل حافزاً له على الاستقامة في هذه الدنيا، فهذه مسألة مهمة.
ولهذا قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم في أوصاف المتقين: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: من الآية4]، وصلوا في مستوى إيمانهم بالآخرة إلى درجة اليقين، واليقين له أثره الكبير على الإنسان، عندما يكون موقناً بكل تلك التفاصيل عن عالم الآخرة، التي ذكرها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن، ويدرك أنَّه سيتَّجه إليها، وإذا عاش تلك التفاصيل ووصل إليها بإخلاله بالتقوى، بتفريطه في تعاليم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فهي حالة خطيرة جداً.
فالإنسان بحاجة إلى هذا الإيمان، وهذا اليقين، وبحاجة إلى الاستحضار؛ لأننا في واقعنا كأمةٍ مسلمة نقر في إيماننا بالآخرة، إيمان إقرار، نحتاج أولاً إلى أن يكون إيمان يقين، وإيمان راسخ، ووعي، وبصيرة، وفي نفس الوقت الاستحضار والتذكر لما ذكره الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» عن عالم الآخرة، من خلال تلاوة الإنسان للقرآن الكريم، وينبغي أن تكون هذه العلاقة مع القرآن الكريم، في الاهتمام بتلاوته علاقة دائمة، علاقة مستمرة، علاقة يومية، والإنسان يقرأ في القرآن الكريم وفي القرآن مساحة واسعة جداً للحديث عن عالم الآخرة، فالإنسان عندما يتلو كتاب الله، ويتلو آيات الله، ويرى تلك التفاصيل المؤثِّرة جداً، والمهمة للغاية، هذا يزيده دافعاً للتقوى، ويدرك أهميتها باستمرار، فالغفلة، وعدم الاستحضار، عدم التذكر، عدم الانتباه، يسبب للإنسان قسوة القلب، وإذا قسى قلب الإنسان؛ كان جريئاً على المخالفة لتوجهات الله، وتعليمات الله، التي هي تشكِّل وقايةً له، فيفرِّط في التقوى، وهي حالة خطيرة جداً.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قال عن عباده المتقين المفلحين؛ ليبيِّن هذا الاستحضار للآخرة، هذا التذكر، هذا الإيمان، هذا اليقين، يحكي عنهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: الآية10]، هذا التذكر، وهذا الاستحضار مثَّل دافعاً عملياً، وكان شعوراً حياً يحملونه في قلوبهم، ومشاعرهم، ووجدانهم.
يقول عن أهل الجنة في الجنة، عن المتقين الذين لم يفرِّطوا بالتقوى، فوصلوا إلى الغاية العظمى، والسعادة الأبدية، وهم يتحدثون عن أسباب نجاتهم في الدنيا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}[الطور: الآية26]، لم يكونوا في حالة غفلة دائمة مستحكمة، وإعراض، وتجاهل، واستهتار، كان هناك حالة إشفاق، محاذرة من الوقوع في سخط الله، وعذاب الله، والعقاب الإلهي.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» ذكر أيضاً حتى عن ملائكته، وعن أنبيائه، كيف هي مشاعرهم حيَّة، كيف يعيشون حالة الحذر من المخالفة لتوجيهات الله، وتعليمات الله؛ لأنهم يؤمنون أنَّ ذلك يوقعهم في العذاب، أنَّ ذلك تفريطٌ في التقوى، فيما يشكِّل وقايةً لهم، فيقول عن ملائكته، وهم ملائكته: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل: الآية50].
يتحدث عن أنبيائه كذلك، عن مخافتهم: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء: من الآية57]، يخافون من عذاب الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يحملون مشاعر الخوف من أن يفرِّطوا في توجيهاته، في تعليماته؛ لأنهم يدركون أنَّ ذلك هو تفريطٌ فيما هو وقايةٌ لهم.
يقول عن خاتم أنبيائه وسيِّد رسوله محمد بن عبد الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزمر: الآية13]، رسول الله «صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» يحمل مشاعر الخوف من أن يفرِّط في التقوى، من أن يخالف تعليمات الله، من أن يعصي الله؛ لأنه يدرك ما وراء ذلك من العذاب العظيم.
هؤلاء هم ملائكة الله وأنبياؤه، كيف بنا نحن؟! كيف بالإنسان الجاهل، الغافل، المستهتر، الذي لا يدرك الخطر الكبير الناتج عن تفريطه بالتقوى؟!
يوم القيامة وأهواله، هو مرتقبٌ ومنظور، وله ثقله في السماوات والأرض، يومٌ عظيم، ينبغي أن يلتفت الإنسان إليه، له شأنٌ يعنيه، ويتعلق به؛ ولهذا يقول الله عن القيامة، عن الساعة: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: من الآية187]، شأنها كبير، مشهد رهيب جداً، مرتقب بين ملائكة الله، وبين خلق الله، وسيأتي حتماً، ويترتب عليه نتائج كبيرة جداً؛ ولهذا بهذه الأهمية الكبرى، كان من أهم أدوار الرسل والأنبياء ومسؤولياتهم ومهامهم: أن يكونوا مبشِّرين، وأن يكونوا منذرين؛ لإقامة الحجة على الناس، ولهذا يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: من الآية165]؛ لأن ما يأتي أمر رهيب، وأمر عظيم جداً.
فعالم الآخرة، ويوم القيامة، ليس مجهولاً، بل أتى الحديث عن تفاصيله الكثيرة جداً في القرآن الكريم، وعن مراحله، مرحلةً بعد مرحلة، وبحديثٍ تفصيليٍ عجيب، يُشَخِّص للإنسان في حالة تقريبية- إذا تأمل الإنسان ذلك- ما يرى منه مشهداً رهيباً جداً، يدرك أنَّ من الخسران، وأن من الحمق أن يتجاهل الإنسان هذا المستقبل الآتي حتماً، الذي هو مصيرك المحتوم، ستتجه إليه، ويتقرر فيه أيضاً حياتك في عالم الآخرة، الحياة الأبدية، إمَّا بخيرٍ خالص، وإمَّا بشرٍ خالص.
عالم الآخرة مرتبطٌ ومترابطٌ مع عالم الدنيا، فمنذ بداية التكوين في تدبير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، أن يكون هناك عالم الدنيا (العالم الأول)، وعالم الآخرة، وليس فقط عالماً واحداً، وحياة الإنسان- كذلك- في تدبير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» منذ البداية، الإنسان مخلوق لحياتين: الحياة الأولى، والحياة الآخرة، بينهما فاصلٌ قصيرٌ جداً، هو الموت، والإنسان سيستشعر حين البعث كم كان الموت فاصلاً قصيراً جداً، قد يتصوَّره الإنسان بمقدار ساعة واحدة، أو بعض يوم، فالإنسان منذ البداية في تدبير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو مخلوقٌ لحياتين بينهما ارتباط، حياة محدودة، بأجل محدود، قصيرة جداً في مقابل الحياة الأخرى، التي هي أبدية، لا نهاية لها؛ ولذلك ينبغي على الإنسان بما أنَّ مصيره في الحياة الأخرى مرتبطٌ بهذه الحياة، وبما يعمله في هذه الحياة، ينبغي أن يحسب حساب حياته الأخرى، وليس فقط يتَّجه إلى هذه الحياة ناسياً ذلك المستقبل الأبدي، حسابات الإنسان واهتماماته ينبغي أن تكون مبنيةً على ذلك.
أتى الحديث عن عالم الآخرة، وعن نهاية هذه الحياة في القرآن الكريم بعناوين مهمة جداً، عناوين تبيِّن لنا رهبة وعِظَم ذلك المستقبل الآتي حتماً: القيامة، والساعة، والواقعة، والقارعة، والطامة الكبرى، والصاخة، والحاقة، هذه من الأسماء والعناوين التي تعبِّر عن هول المرحلة الثانية للوجود، هذه المرحلة الآتية في جزئيها: نهاية هذه المرحلة الأولى، وبداية المرحلة الأخرى في النفخة الأولى والنفخة الثانية، الصيحة الأولى والصيحة الثانية.
في مقدمة ما ينبغي أن نعرفه عن القيامة، وعن أهوالها: أنَّها قد اقتربت، أنها قريبةٌ جداً، وأنها بالنسبة لنا في هذا العصر أقرب من أيِّ زمنٍ قد مضى، نحن آخر الأمم، نحن على مقربةٍ- فعلاً- من قيام الساعة، من نهاية المرحلة الأولى من الوجود، ومجيء المرحلة الثانية في عالم الآخرة، نحن على مقربة- نحن أهل الأرض بشكلٍ عام- نحن على مقربة أكثر من كل الأجيال البشرية التي قد مضت في التاريخ، فنحن على مقربة من نهاية هذه الحياة، على قربٍ من قيام القيامة والساعة، نحن على مقربةٍ من نهاية التاريخ، نحن في حقبة نهاية التاريخ، في المراحل المتأخرة جداً، وهذا ما أكَّده الله في القرآن الكريم؛ ولذلك ختمت رسالات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بخاتم النبيين، وسيِّد المرسلين محمد بن عبد الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فكان ختام الأنبياء، وكانت رسالة الله إليه هي نهاية الرسالات، وختام الرسالات؛ لأن البشر على مقربة من القيامة، من الحساب والجزاء.
ومع قربها، هي ستأتي بغتة، ليس هناك وقت محدد يتصوَّر الإنسان أنه في يوم كذا، في ساعة كذا- سواءً من ليلٍ أو نهار- تقوم الساعة، ستأتي بغتة، في وقتٍ غير متوقع، معنى مجيئها بغتة: أنها ستأتي في مرحلة، في وقت، في لحظة لا يتوقع المجتمع البشري حتى بالرغم مما يمتلكه البشر في هذا العصر من تقنيات، من إمكانات، وقد تطوَّرت العلوم بمختلفها، علوم الفلك… وغيرها من العلوم، تطوَّرت وامتلك البشر فيها أيضاً وسائل وتقنيات، وإمكانات متطورة، مع كل ذلك ستأتي في وقتٍ غير متوقع، خارج الحسابات والقراءات، ولو كان لدى البشر مراصد فلكية، وحسابات رياضية لحركة الأفلاك، وحركة الكواكب، وحركة الأرض، ولكن ستأتي في وقتٍ لا يتوقعونها أبداً، بغتة، وهذا ما أكَّده القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة، فلا يعرف أحدٌ اللحظة التي تحصل فيها، تجيء فيها الساعة، وتقوم فيها القيامة، إلَّا الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف: من الآية187]، فهي قريبة، كما قال عنها: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}[النجم: 57-58].
النفخة الأولى كما في التعبير القرآني، والصيحة الأولى أيضاً كما في تعبيرات قرآنية، يختل بها نظام عالمنا هذا، في سمائه وأرضه، وتدمِّر الأرض بكلها تدميراً كلياً هائلاً، بزلزالٍ عظيمٍ شامل، يسحق جبالها بكلها، بالرغم من كثرة الجبال في الأرض، من قوتها، مما فيها من الصخرات، وهي أوتاد للأرض، هذه الجبال الشامخة، الممتدة على مساحات ورقعة واسعة في الأرض، تنسف بشكلٍ نهائي نتيجةً لذلك الزلزال العظيم، وتتحول إلى هباء، إلى غبار يتطاير في الجو وتنتهي؛ ولهذا يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة: الآية13]، واحدة فقط، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة: الآية14]، يعني: لا يحتاج كل جبل إلى نفخة، وإلى صيحة، وإلى حادث منفرد به، ثم ينتقل إلى الجبل الآخر، فيبدأ بها جبلاً ثم جبل، إلى آخر الجبال في الأرض، بل في نفحةٍ واحدة تدك كل الجبال، تنسف كل الجبال التي على الأرض، {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة: الآية15].
الزلزال الذي يُدمِّر الأرض بكلها، وبكل ما عليها من الجبال، فما بالك بالعمران! إذا كانت الجبال بكل قوتها، وشموخها، وثقلها، وكبرها، وصخراتها الصلبة، وجبال كثيرة هي بذاتها صلبة، تدمَّر وتنسف في لحظةٍ واحدة، في نفحةٍ واحدة، في صيحةٍ واحدة، فما بالك بما على الأرض من عمران، من مدن، من قرى، من منشآت عمرها الإنسان على كوكب الأرض، كلها ستنسف، لا يتخيل الإنسان هذه الحالة الرهيبة، هذا المشهد المهول جداً، من الدمار والخراب الذي ينسف كل ما على الأرض من المدن والقرى في لحظةٍ واحدة، في لحظة واحدة يتم تدمير كل ما على الأرض، من مدن، من منشآت، من عُمران، من مبانٍ، كل ما عمره الإنسان، وتنتهي كل معالم الحياة على الأرض، كل ما على الأرض من معالم للحياة؛ ولهذا يقول الله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة: 1-5]، في بداية الأمر يصاب الإنسان بالذهول، بالدهشة، بالحيرة، بالخوف؛ لكنه سيهلك، يهلك كل البشر الذين تأتي الساعة وهم على قيد الحياة، يهلكون بأجمعهم، كل الكائنات الحية على وجه الأرض كلها تنتهي، كلها تموت، كلها تهلك.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن: الآية26]، يفنى كل ما على وجه الأرض من كائنات حية، الأرض التي كانت تنتشر فيها الكائنات الحية باختلافها وأنواعها، في برها وبحرها، كل تلك الكائنات الحية تموت، كل ما على الأرض يفنى، لا يبقى ولا كائنٌ حي على وجه الأرض.
تنسف الجبال بكلها، تمحى كل معالم العمران على الأرض، كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف: الآية8].
حتى البحار والمحيطات، التي تغطي نسبة واسعة من كوكب الأرض، تتبخر وتتلاشى، {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار: الآية3]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير: الآية6]، تتلاشى وتنتهي، لا يبقى على الأرض لا مياه، ولا جبال، ولا عمران… ولا أي معالم من معالم الحياة التي كانت قائمةً عليها، تتحول الأرض إلى صعيد، إلى جُرُز، ليس فيها أي نبات، ولا أي غابات، ولا أي معالم من معالم الحياة، ولا ماء… ولا أي شيء، {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}، لا نبات فيه، ولا حياة فيه.
يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه: 105-107]، لا ترى في الأرض تتحول إلى ساحة مستوية تماماً، وصعيدٍ مستوٍ، ليس فيها لا جبال، ولا منخفضات، ولا وديان، ولا أنهار، ولا بحار… ولا أي معالم من معالم الحياة، ينمحي كل ما عليها من معالم الحياة، ومن العمران، تصبح صعيداً جُرُزاً، وقاعاً صفصفاً مستوياً تماماً، ليس فيه أي شيء آخر.
{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}: مستوية بشكلٍ تام، بشكلٍ تام، يتغير وضع الأرض بشكلٍ كامل، ومعالمها، صورتها وشكلها، كل شيء يتغير، يتغير، الآن للأرض شكلها، ولها لونها، بالبحار والمحيطات التي تغطيها، بالغابات التي تغطِّي مساحةً منها، وفي أماكن منها أيضاً معالم العمران الذي عمره البشر، من مدن وقرى، كل ذلك ينتهي، ولا مزارع، ولا نباتات… ولا أي شيء، شكل مختلف تماماً.
ليس فقط هذه المتغيرات التي تأتي على الأرض، في نهاية المرحلة الأولى من الوجود، وتمهيداً للمرحلة الثانية، بل يشمل السماء، السماء في بداية أمرها تنشق، السماء يقول الله عنها: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}[الانفطار: الآية1]، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}[الانشقاق: الآية1]، {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة: الآية16]، يتغير لونها {كَالدهَانِ}[الرحمن: من الآية37]، كما ورد في الآية المباركة، ثم تطوى وتتلاشى وتنتهي، كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}[الأنبياء: من الآية104]، تطوى وتنكمش وتتلاشى.
الشمس التي هي نجمٌ ملتهبٌ، متوقدٌ، مستعرٌ، هائل، كبير الحجم جداً، تنتهي، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير: الآية1]، النجوم تتساقط {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}[التكوير: الآية2]، كذلك يطمس نورها وينمحي، ويظلم العالم ظلاماً مطبقاً وبشكلٍ تام، وهكذا الشمس والقمر تصطدم ببعضها البعض، {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة: الآية9].
فينتهي هذا العالم بكل ما فيه، ويعيد الله صياغته من جديد؛ لتبدأ المرحلة الثانية من الوجود فيما بعد ذلك، كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {يَوْمَ تُبَدلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}[إبراهيم: من الآية48]، يعيد الله صياغة الأرض وتشكيلها، وتشكيل السماوات والأرض، لمهمة مختلفة، الأرض عندما يغيِّر الله حالها، لا يبقى فيها الجبال، ولا البحار، ولا النباتات، وتتحوَّل إلى صعيدٍ مستوٍ تماماً؛ لأن لها مهمة، مهمة أخرى، غير المهمة السابقة، مهمة الحشر عليها، والحساب عليها، تمهيداً للانتقال إلى عالم الجزاء.
ما بين المرحلتين: مرحلتي القيامة والساعة، في مرحلتها الأولى التي هي نهايةٌ للوجود، وخرابٌ لنظام العالم لإعادة تشكيله وصياغته، إلى المرحلة الثانية، التي أعيد فيها تشكيل هذا العالم من جديد؛ لتبدأ مرحلة جديدة هي الحياة الأخرى، وليبدأ الناس في البعث والحشر إلى عالم الآخرة، هي مرحلة ليست بعيدةً جداً قياساً بما قد مضى من الزمان؛ ولهذا يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}[النازعات: 6-7]؛ ليبيِّن القرب ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية، والله أعلم كم هو قياساً بالنسبة للزمن.
يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}[الزمر: من الآية68]، هذا الاستثناء لما خارج الأرض، أمَّا الأرض فهو قال عنها: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن: الآية26]، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: من الآية68]، بعد إعادة تشكيل الأرض والسماوات والعالم من جديد، تأتي النفخة الثانية، والصيحة الثانية، صيحة البعث، صيحة الحشر والنشور، في يوم النشور، في يوم البعث.
نستكمل الحديث على ضوء بعضٍ من الآيات المباركة القرآنية عن مرحلة الحشر، والنشر؛ والحساب، والجزاء؛ والجنة، والنار، باختصارٍ- إن شاء الله- في محاضرة الغد.
نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
نص كلمة قائد الثورة حول آخر التطورات والمستجدات
الثورة نت
نص كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي حول آخر التطورات والمستجدات الإقليمية والدولية، 16 رمضان 1446هـ / 16 مارس 2025م.
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بالأمس أعلن العدو الأمريكي عن جولةٍ جديدةٍ من العدوان على بلدنا، ونَفَّذ عِدَّة غارات، وكذلك عمليات بالقصف البحري، استهدف بها المنازل والأحياء السكنية في العاصمة صنعاء، وفي عددٍ من المحافظات اليمنية، وأسفرت تلك الاعتداءات عن ارتقاء العشرات من الشهداء والجرحى، في تلك المحافظات التي استهدفها العدو الأمريكي، وهناك عددٌ من الشهداء والجرحى من الأطفال والنساء.
هذا العدوان هو عدوانٌ غاشمٌ ظالمٌ، في إطار الطغيان الأمريكي والعربدة الأمريكية تجاه أُمَّتنا، والهدف منه واضحٌ، وهو: الإسناد للعدو الإسرائيلي، بعد أن أعلن بلدنا موقفاً واضحاً، في الإسناد للشعب الفلسطيني، تجاه ما يقوم به العدو الإسرائيلي من تجويعٍ لأهل غزَّة، ومنعٍ لدخول المساعدات الإنسانيَّة، ومنعٍ تامٍ لدخول البضائع إلى قطاع غزَّة.
جريمة التجويع لاثني مليون فلسطيني جريمة كبيرة جدًّا، بكل ما توصَّف به كبار الجرائم، جريمة ضد الإنسانيَّة بكل ما تعنيه الكلمة؛ ولـذلك فكل من له ضميرٌ إنسانيٌ، وكل من له انتماءٌ صادقٌ إسلامي، لا يمكنه أن يسكت تجاه ذلك، ومن المؤسف أن يكون الموقف العام للأنظمة في العالم الإسلامي- في أغلبها- وفي العالم العربي، موقفاً بارداً تجاه ذلك، ليس هناك أي تَحَرُّك جادّ، لمنع ما يقوم به العدو الإسرائيلي من تجويع تام لأهل غزَّة، بل وصل الحال به الآن إلى السعي لتعطيشهم، والسعي لمنع الماء عنهم.
وما يعيشه الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة هو مأساة كبيرة، يتجاهلها الكثير من الناس، ولا يتفاعلون معها؛ لأن السقف لدى الكثير من الناس- بحسب الترويض الإسرائيلي حتى يتفاعل- أن يكون هناك إبادة شاملة، بالقتل بالقنابل والسلاح، فقد يتابع؛ وإلَّا فقد تضعف حتى مسألة المتابعة للأحداث، حينما يكون الوضع هناك دون ذلك، في مستوى أقل، لكن مسألة التجويع لأهل غزَّة، ومنع الغذاء عنهم، لا بدخول المساعدات الإنسانيَّة، ولا بحركة البضائع، ليست قضيةً سهلة، هي توجُّهٌ نحو الإبادة لهم، بوسيلة من وسائل الإبادة، وهي: التجويع ومنع الغذاء عنهم.
الآن خمسة عشر يوماً والعدو الإسرائيلي مغلقٌ للمعابر إلى القطاع، مانعٌ لدخول المساعدات والبضائع، ومعنى ذلك: أن المعاناة قد زادت لدى الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، ومن يتابع ما يجري هناك، ويلحظ حجم المعاناة الكبيرة، يدرك أنها مأساة كبيرة.
وهناك في المقابل مسؤولية، مسؤولية على أُمَّتِنَا قبل غيرها، على المسلمين جميعاً، على كل شعوبنا وبلدان أُمَّتِنا، أين هو التحرك الجاد لمنع ذلك، وللضغط بإدخال المساعدات إلى الشعب الفلسطيني؟ ليس هناك أي تَحرُّك جاد، أين هو على المستوى السياسي، أكثر من مسألة بيانات؟ أين هو على المستوى الاقتصادي؟ ليس هناك أي موقف يرقى إلى مستوى الموقف بما تعنيه الكلمة، في أي مجالٍ من المجالات من جانب معظم الأنظمة، وهي مؤثِّرة على مواقف شعوبها، التي تَجْمُد وتبقى متفرِّجة.
معنى ذلك: أن هناك خطر كبير على هذه الأُمَّة، عندما يكون هناك إخلال كبير بالتزاماتها الإنسانيَّة، والدينيَّة، والإيمانيَّة، والأخلاقيَّة، وتفريط في واجباتها الكبرى؛ خشيةً من أمريكا، هذه هي الحقيقة، وخوفاً من أمريكا؛ لأن الأمريكي يتدخل مع الإسرائيلي كشريك في كل جرائمه، وكحامٍ له؛ لينفِّذ ما يشاء ويريد من الجرائم، ثم يتولى الأمريكي دور الحماية له، هذه هي المشكلة التي أوصلت هذه الأُمَّة، في معظم بلدانها وشعوبها، رسمياً وشعبياً، إلى هذا المستوى من التفريط، والتقصير في التزاماتها الإيمانيَّة، والإنسانيَّة، والأخلاقيَّة.
وكان الواجب، وأُمَّتِنا هي في شهر رمضان، والعادة أن يُقْبِل الناس أكثر على تلاوة كتاب الله، أن يتذكَّر الجميع هذه المسؤولية الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، والإيمانيَّة، وأن يدركوا- في نفس الوقت- الخطأ والخطر الكبير، عندما يصل واقع الناس إلى أن تكون خشيتهم من أمريكا، وخوفهم من أمريكا، أكثر من خوفهم من العقوبة الإلهية، والعذاب الإلهي، حينما يُفرِّطون في مسؤوليات كبيرة، وعظيمة، ومُقَدَّسة، ومهمة، وضرورية لهذه الأُمَّة، ضرورية لهذه الأُمَّة؛ لأن ما تقبل به هذه الأُمَّة على الشعب الفلسطيني من إبادة، من تجويع، من قتل، من تهجير، من ظلم، دون ردة فعل، دون موقفٍ جادّ؛ هي بذلك تفتح الأبواب للشرِّ على نفسها، والحال نفسه سيكون تجاه أي بلد عربي آخر، أي بلد مسلم آخر، أينما اتَّجه الأمريكي والإسرائيلي لفعل ما فعلوه في فلسطين، سواءً في البلدان المحيطة بفلسطين، أو بغيرها؛ ستكون النتيجة هي النتيجة: يتفرَّج الباقون، يكونون مُكَبَّلين بالخوف والرعب والذُّلّ، وهذا ما يُجَرِّئُ الأمريكي أكثر.
هذا له مخاطر كبيرة على هذه الأُمَّة؛ لأنه- بالفعل- يُشَجِّع الأمريكي، ويُشَجِّع الإسرائيلي، وكلاهما ليس عنده أي وازع من ضمير، أو أي مراعاة لاعتبارات أخرى، يعني: هم لا يُقَدِّرون لأي شعب، أو بلد، أنه تفرَّج عليهم، وهم يفعلون ما يفعلونه في بلدٍ عربيٍ أو مسلمٍ آخر، فَيُقَدِّرون لذلك البلد العربي والإسلامي أنه تَفرَّج، ولم يتدخل، هذا لا يفيده شيئاً بالنسبة لهم؛ هُمْ أصحاب أطماع كبيرة، ومشاريع عدوانية إجرامية يستهدفون بها أُمَّتنا، ولديهم منطلقات عقائدية، ومنطلقات أيضاً تعود إلى نزعتهم الاستعمارية، وسلوكهم الطغياني والإجرامي.
لذلك كان موقف بلدنا اليمن، وقراره في الإسناد للشعب الفلسطيني، واتِّخاذ قرار بحظر الملاحة الإسرائيلية، وبشكلٍ واضح أن هذا القرار يَخُصُّ العدو الإسرائيلي فقط، وبهدف الضغط عليه؛ من أجل السماح، ومن أجل فتح المعابر، لدخول المساعدات الإنسانيَّة إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وإنهاء التجويع.
ما يجري هناك هو تجويع بالفعل، ويضاف معه التعطيش، في ظل نكبة كبيرة يعيشها الشعب الفلسطيني في القطاع، بعد الإبادة لخمسة عشر شهراً، والدمار الشامل للقطاع، وتدمير كل مقومات الحياة فيه، يعني: ليست الظروف التي يعيش فيها الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة ظروفاً عادية، يكون تأثير مثل هذا القرار بمنع دخول المساعدات، ودخول البضائع، قراراً لا تأثير له بشكلٍ كبيرٍ عليه، التأثير كبير؛ لأن الوضعية صعبة من أساسها، ليس هناك لا مخزون غذائي، الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة لا يمتلك أي مخزون من الغذاء، ليس هناك نشاط زراعي، ليس هناك أي مقومات باقية للحياة، القطاع بكله مُدَمَّر بشكلٍ كامل، مقومات الحياة فيه مُدَمَّرة بشكلٍ كامل، والمشاهد واضحة لمن يتابع، فالظروف هناك هي صعبة للغاية؛ ولـذلك عندما أقدم العدو الإسرائيلي على هذه الخطوة، هو من اللحظة الأولى ألحق ضرراً بالغاً، ومعاناة حقيقية للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، والآن تزايدت المعاناة على مدى خمسة عشر يوماً، لم يحصل هناك منذ اللحظة الأولى أي تَحَرُّك جاد- كما قلنا- للأنظمة العربية، وللأنظمة في العالم الإسلامي، تَحَرُّك جاد بما تعنيه الكلمة.
ولـذلك نحن- وبحكم انتمائنا الإيماني، نحن شعبٌ قال عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”: ((الْإِيْمَانُ يَمَان، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، هذا الانتماء الإيماني، وبضميرنا الإنسانيّ- لا يمكننا أبداً أن نتفرَّج تجاه ما يجري، بلدنا وقف مع الشعب الفلسطيني على مدى خمسة عشر شهراً، في إسناد طوفان الأقصى، في معركة طوفان الأقصى، في مواجهة الإبادة الجماعية، التي يرتكبها العدو الإسرائيلي بشراكةٍ أمريكيةٍ ضده، وشعبنا صمد، وتصدى أيضاً للعدوان الأمريكي، الذي كان في تلك المرحلة بكلها، على مدى خمسة عشر شهراً؛ إسناداً للعدو الإسرائيلي، كما هي الحالة الآن، صمد شعبنا في مواجهة العدوان الأمريكي، بكل ثبات، بكل فاعلية.
فشعبنا هو مستمرٌ في موقفه المساند للشعب الفلسطيني، وهناك خطوط حمراء في الوضع الفلسطيني، عندما يتَّجه العدو الإسرائيلي، وبشراكة أمريكية وحماية أمريكية، لارتكاب الإبادة الجماعية، هذا خطٌ أحمر، المسألة لا يمكن التَّفَرُّج عليها، هناك التزامات قانونية وإنسانيَّة حتى على غير المسلمين تجاه ذلك، في القانون الدولي، في مواثيق الأمم المتحدة، لكن الكل يفرِّطون بالتزاماتهم، في المجتمع الدولي، في البلدان الأخرى، يفرِّطون في التزاماتهم الإنسانيَّة تلك، وفي عالمنا الإسلامي يفرِّطون في التزاماتهم الإنسانيَّة، والدينيَّة، والأخلاقيَّة، والمرتبطة حتى بأمنهم القومي، وبمصالحهم كأمة مستهدفة، يفرِّطون في كل شيء تفرِّيطاً شاملاً، وهذا- كما قلنا- يشجِّع العدو الإسرائيلي، ويشجِّع معه الأمريكي شريكه وحاميه، يعني: لا يمثِّل حلاً للأُمَّة، لا يدفع الخطر عنها، ولا يمثِّل حلاً تجاه ما يجري؛ فقرار بلدنا لإسناد الشعب الفلسطيني، وقراره في منع حظر الملاحة فيما يخص العدو الإسرائيلي نفسه، هو في إطار هذا الالتزام الإنساني، والأخلاقي، والديني، والإيماني؛ للضغط بإدخال المساعدات، وإنهاء التجويع لاثنين مليون فلسطيني في قطاع غزَّة، ليست المسألة مسألة عادية يمكن التجاهل لها، أو التغاضي عنها، المسألة خطيرة، جريمة كبرى، ضد فئة واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني.
ولـذلك فالعدو الأمريكي عندما ينفِّذ هذا العدوان، وهذه الغارات، فهو لن يحقق هدفه في الضغط علينا بالتراجع عن موقفنا، الحل الوحيد هو:
دخول المساعدات الإنسانيَّة إلى قطاع غزَّة.
إنهاء التجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة.
إنهاء التعطيش للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة.
ما يجري هو أمرٌ فظيعٌ جدًّا، عندما يُقْدِم العدو الإسرائيلي على مثل هذه الخطوات، أو على خطوة الاستهداف للمسجد الأقصى، والسعي لمصادرته أو تدميره، أو للسعي للتهجير للشعب الفلسطيني، هذه يجب أن تكون لدى كل أُمَّتنا خطوطاً حمراء، لا تسمح بها الأُمَّة؛ لأن العدو عندما يدرك أن الأُمَّة مهما فعل، لا تتَّخذ أي خطوات عملية، ولا قرارات حقيقية، ولا مواقف جادّة؛ يُشَجِّعه ذلك على ما هو أسوأ؛ لأن سقفه في مشروع الصهيوني معروف، فكل خطوة تصعيدية كبيرة جدًّا، يُقْدِم عليها دون رد فعلٍ ولا موقف، ستشجعه للانتقال فيما بعدها إلى خطوة أكبر منها، وهو يريد- بالفعل- أن يسيطر بشكلٍ تامٍ على الشعب الفلسطيني، أن ينهي الوجود الفلسطيني، أن يُصَفِّي القضية الفلسطينية، هذا ما يريده العدو الإسرائيلي، ومعه العدو الأمريكي، كلاهما يعتنقان المعتقد الصهيوني، ويتبنيان المشروع الصهيوني، ويتحركان على أساسه، فالمسألة مسألة مهمة.
ولـذلك هذه الخطوط الحمراء، لا يمكن أبداً أن نُفرِّط نحن في التزامنا، ولو فرَّط الآخرون، أن نسكت نحن، ولو سكت الآخرون، فلن نسكت أبداً، هذا موقفنا بكل ما نستطيع، في مستوى قدراتنا وإمكاناتنا، وخياراتنا المتاحة؛ لأن هذه مسؤولية أمام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتفريط فيها عليه عقوبة من الله، عليه جزاءٌ كبير في الدنيا والآخرة، ونحن من السهل بالنسبة لنا أن تكون مشكلتنا مع طغاة عصرنا، وأن يكون الخطر علينا من جهتهم، أن نضحِّي في سبيل الله تعالى، ولا أن يكون لنا مشكلة مع الله، أو نجلب على أنفسنا سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله في الدنيا والآخرة؛ لأننا نطمئن أننا عندما نتَّخذ الموقف الصحيح، الذي يتطابق تماماً- كما قلنا- مع الالتزامات الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، وحتى مع مصالح الأمن القومي لأُمَّتنا بكل الاعتبارات، ونتَّجه هذا التَّوجُّه من أجل الله تعالى، واستجابةً له؛ فإن الله هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، {هُوَ مَوْلَانَا}[التوبة:51]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الأنفال:40]، نحن نثق بالله، نحن نثق بوعده الصادق، نحن نتوكل على الله، نحن نعتمد على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران:150]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
الأمريكي أيضاً في تصريحاته، وفي بياناته، يقول أيضاً: أن من أسباب هذه الجولة من عدوانه الجديد على بلدنا، هذا العدوان الغاشم، الظالم، الإجرامي، هو أيضاً بسبب وقوف شعبنا خلال الخمسة عشر شهراً مع الشعب الفلسطيني، في مواجهة عدوان الإبادة الجماعية، الذي نفَّذه العدو الإسرائيلي، بشراكة أمريكية، وحماية أمريكية، ضد الشعب الفلسطيني، فهو أيضاً يُقَدِّم عدوانه هذا أنه يحاسب فيه شعبنا على وقفته المُشَرِّفة، الشجاعة، الكاملة، إلى جانب الشعب الفلسطيني، في مواجهة عدوان الإبادة الجماعية.
نحن نقول أيضاً: تلك الوقفة المشرِّفة، التي هي من أجل الله تعالى، وفي سياق هذه الالتزامات الإيمانيَّة، والإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، هي أيضاً موقفٌ لن يندم عليه شعبنا، موقفٌ مشرِّف، موقفٌ عظيم، موقفٌ يُمَثِّل قُربةً إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وموقفٌ زاد شعبنا قوةً، زاده قوةً على كل المستويات، بما في ذلك على المستوى العسكري، والقدرات العسكرية، وموقفٌ يُبَيِّض الوجه، وشعبنا العزيز انطلق فيه من منطلقٍ إيماني، ببصيرة عالية، بثباتٍ إيماني، بِعزَّةٍ إيمانيَّة؛ ولـذلك فشعبنا لن يتزحزح عن تَوَجُّهِه الإيماني، القرآني، الإنساني، الأخلاقي، مهما كان الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، نحن سنقف ضد هذا الطغيان الأمريكي والإسرائيلي.
العدوان الأمريكي فاشل، وسيفشل بإذن الله تعالى، ولن يحقق أهدافه:
لن يحقق أهدافه في الضغط على شعبنا وبلدنا في التراجع عن موقفه، ولا عن قراره؛ لأنه موقفٌ أساسيٌ، موقفٌ مهمٌ، موقفٌ ضمن التزامات إيمانيَّة، وإنسانيَّة، وأخلاقيَّة، ودينيَّة، وضرورة، ضرورة فعلاً بكل ما تعنيه الكلمة، ضرورة كما سنشرح أيضاً حول هذه النقطة.
لن يحقق العدوان الأمريكي أهدافه في تقويض القدرات العسكرية لبلدنا بإذن الله تعالى؛ لأننا نحن نعيش تجربة جهادية، وتصدٍ للعدوان الأمريكي على مدى سنوات طويلة؛ وإنما هذه جولة من جولات العدوان الأمريكي، بل كما في المراحل الماضية، الأمريكي سيسهم بهذا العدوان الجديد، بهذه الجولة الجديدة من عدوانه، في تطوير قدراتنا العسكرية أكثر فأكثر بإذن الله تعالى.
سنواجه التصعيد بالتصعيد، هذا هو توجُّهنا، والبارحة قامت قواتنا المسلحة- وعلى الفور- بإطلاق الصواريخ والطائرات المسيَّرة؛ للتصدي لتلك الاعتداءات، والغارات، والقصف الأمريكي على بلدنا؛ ولـذلك فهذا خيارنا، وهذا قرارنا، وهذا توجُّهنا، طالما استمر العدو الأمريكي في عدوانه على بلدنا، فبارجاته، وحاملة طائراته، وقطعه البحرية، ستكون مستهدفة بالطائرات المسيَّرة، وبالصواريخ، وأيضاً- مع ذلك- سيشمله قرار الحظر في الملاحة البحرية، طالما استمر في عدوانه، وهو الذي يسعى هو إلى التأثير على الملاحة البحرية، حينما يحوِّل البحر إلى ساحة حرب، هو الذي يؤثِّر هو بذلك على الملاحة البحرية؛ أمَّا قرارنا فكان واضحاً، كان يَخصُّ العدو الإسرائيلي فقط، والأمريكي الآن سيشمله الحظر، لكن تحويل الأمريكي للبحر إلى ميدان حرب، وساحة حرب، هذا يؤثِّر- بالفعل- على الملاحة الدولية.
ولـذلك من واجب كل الدول أن تعرف من الذي يُشكِّل خطورة على الملاحة، مَنِ الذي يُشكِّل تهديداً على الملاحة البحرية، وعلى حركة السفن؟ هو الأمريكي، الأمريكي والإسرائيلي هما مصدر شرّ، وخطر على مستوى العالم، وعلى مستوى المنطقة بكلها، الشَّرُّ منهم، الإجرام منهم، العدوان منهم، التوتير للوضع العام في هذه المنطقة منهم، هم مصدر الشَّرّ والخطر، وهم من يعتدون، من يرتكبون الجرائم، من ينفِّذون الاعتداءات، هم من يُضِيعُون السلام بكل ما تعنيه الكلمة، ويحوِّلون الأجواء بكلها، الأجواء العالمية، إلى أجواء متوترة في الشرق والغرب، وأجواء مأزومة؛ لأنهم عدوانيون، وظالمون، ومتكبرون.
لدينا أيضاً خيارات تصعيدية، يعني: الآن نحن سنواجه التصعيد بالتصعيد، سَنَرُدّ على العدو الأمريكي في غاراته، في اعتداءاته، بالقصف الصاروخي، بالاستهداف لحاملة طائراته، لبوارجه، لسفنه، سيشمله قرار الحظر، ومع ذلك أيضاً لا يزال لدينا خيارات تصعيدية، فإذا استمر في عدوانه، ننتقل إلى خيارات تصعيدية إضافية بإذن الله تعالى.
شعبنا العزيز أيضاً سيتحرَّك تَحَرُّكاً شاملاً، على مستوى التعبئة العامة، على مستوى كل المجالات، كما كان ذلك التَّحَرُّك العظيم، والمشرِّف، والقوي، على مدى خمسة عشر شهراً، ضد عدوان الإبادة الجماعية، التي ارتكبها العدو الإسرائيلي بشراكة أمريكية، وحماية أمريكية، ضد الشعب الفلسطيني، الآن في مواجهة هذا العدوان على بلدنا، والتجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، والتعطيش، شعبنا العزيز سيتحرَّك تحرُّكاً شاملاً وواسعاً للتصدي للطغيان.
نحن لسنا في موقفٍ عبثي، نفتعل المشاكل لأنفسنا، نحن في موقفٍ إيماني، أخلاقي، إنساني، جهادي في سبيل الله تعالى، نتصدى للطغيان، للظلم، للإجرام، للعربدة الأمريكية والإسرائيلية.
ما يسعى له الأمريكي هو: إخضاع هذه المنطقة بكلها للإسرائيلي، وهذا شيءٌ واضح، بالرغم من أن الأمريكي شريكٌ في الاتفاق المتعلق بوقف العدوان على قطاع غزَّة، وإدخال المساعدات، وإنهاء التجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وعليه التزامات بذلك، التزامات، مما هي التزامات بين الدول، بين الناس، اتِّفاقات تُوَقَّع، فيها التزامات واضحة، لكن الأمريكي لا يكترث بالتَّنكُّر لالتزاماته، بعدم الوفاء بالتزاماته، بالنَّكْثِ بالاتِّفاقات.
والإسرائيلي كذلك، يَنْكُث أي عهد، أي ميثاق، يتنكَّر لأي اتِّفاق، ما يفعله العدو الإسرائيلي في فلسطين نفسها:
في الضفة الغربية: جرائم مستمرة.
في مخيم جنين: لا يتوقف يومياً عن القتل، عن التهجير، عن التدمير…
وفي مخيمات أخرى: في طولكرم، وغيرها.
ما يفعله أيضاً في ما يتعلق بالاقتحامات للمسجد الأقصى: بشكلٍ متكرر.
وهذه خطوات- كما قلنا- ليست هي النهاية، ليست هي السقف الأخير فيما يفعله العدو الإسرائيلي، هي خطوات ضمن برنامج للعدو الإسرائيلي، وكلما سكتت الأُمَّة؛ تجرَّأ على ما هو أكثر.
ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة: استمرار بالقتل اليومي، وإن لم يكن بالوتيرة التي كان عليها في الإبادة الجماعية اليومية، لكن هذه جرائم، جرائم لا يجوز أن تسكت الأُمَّة عنها.
والأمريكي يشجِّعه على ذلك، يقتل الصحفيين، يقتل المواطنين، يقتل العاملين في المجال الإنساني، وكأن الموضوع طبيعي! جرائم واضحة، اعتداءات واضحة، انتهاكات لكل شيء: للمواثيق، والقوانين، والأخلاق، والقيم… ولكل شيء.
عربدته ضد الشعب اللبناني مستمرة، لم يفِ بالاتِّفاق، الذي عليه أيضاً ضمين هو الأمريكي من الضمناء عليه في تنفيذه، لم ينسحب كُلِّيّاً من جنوب لبنان، يستمر في الاعتداءات بالقتل لأبناء الشعب اللبناني، والانتهاكات المتنوعة.
يفعل ما يفعله في سوريا: يجتاح، يتوسَّع، يُنَفِّذ الغارات، أحياناً بشكل مُكثَّف، قبل أيام (أربعين غارة) في ليلة واحدة، غارات كثيرة، يُدَمِّر، يقتل، يحتل، يتوسَّع، عربدة واضحة.
وكل هذه الجرائم هي جرائم واضحة، اعتداءات واضحة، ليس لها أبداً ما يُبرِّرها، ومع ذلك الغالب تجاه ذلك هو السكوت، معنى ذلك: أن الأمريكي- وكما قلنا أكثر من مرَّة- يسعى مع الإسرائيلي، لفرض معادلة الاستباحة في أوساط أُمَّتنا، على شعوب أُمَّتنا وبلدانها كافَّة، هذا والله ما يسعى له الأمريكي والإسرائيلي! يريدان أن تكون أيديهما مطلقة بالعدوان والإجرام، بالقتل، بالتدمير، بالاحتلال، بفعل ما يشاؤون ويريدون، دون رد فعل، ودون موقفٍ جادّ في مقابل ذلك، هذه مسألة خطيرة جدًّا، القبول بها له تداعيات كثيرة.
لو كان السكوت سيجدي، لو كانت التَّوَجُّهات الأخرى التي لا تتبنى أي موقف ضد الطغيان والعدوان الأمريكي والإسرائيلي ستجدي، لكان ذلك مجدياً في سوريا، التَّوجُّه واضح من الجماعات التي في سوريا، هي تؤكِّد بكل وضوح أنَّها لا تعادي الإسرائيلي، وأنَّها لن تتحرك ضده بأي شيء، هي لا ترد عليه بأي رد تجاه ما يفعل، هي عمَّمت في الأوساط الإعلامية، ألَّا يكون هناك حتى في التعبير الإعلامي كلمة (العدو الإسرائيلي)، ومع ذلك لم ينفع، لم ينفع كل ذلك، أن يقولون له: [نحن لا نُعاديك، نحن لن نرد عليك، نحن لا نستهدفك].
وفعلاً الواقع يُثْبِت ذلك، أنَّهم جادُّون في ذلك، لا يريدون أن يتَّخذوا أي موقفٍ ضده، لديهم توجُّه جادّ، نحن نشهد لهم في ذلك: أنَّهم لا يريدون أن يردوا عليه أي رد، ولا يريدون أن يعادوه، ولا يريدون أن يمثِّلوا أي إشكالية معه، أو أن يكون لهم أي صراع معه، يريدون منه فقط أن يَكُفّ عن احتلال سوريا فقط، يعني كمطلب وليس في إطار موقف، كمطلب عادي، يَتَوَدَّدُون، يَتَوَسَّلُون، يطلبون من الدول الأخرى، يطلبون من الأمريكي؛ لكن لم يُفِد ذلك، الإسرائيلي يحتل المزيد والمزيد، ويتوسَّع، ويُثَبِّت احتلاله، يستمر في تدمير القدرات، التي هي ملكٌ للشعب السوري، ويستمر في تثبيت سيطرته على ما قد قام باحتلاله في جنوب سوريا، في ثلاث محافظات يطمع بها: (القنيطرة)، والمساحة الواسعة من (درعا)، وايضاً (السويداء)، ويصل إلى (أطراف ريف دمشق)، ومناطق محسوبة من (ريف دمشق)، وعلى مقربة من (دمشق) نفسها، على مقربة من العاصمة السُّوريَّة نفسها.
فليس هناك في سوريا ما يمكن أن يتذرَّع به، لا علاقة مع إيران، الموقف في سوريا من تلك الجماعات من إيران موقف واضح، هم يعلنون أنَّها هي عدوهم، أنَّها العدو وليس إسرائيل، واضح أنَّهم سيقبلون بالتطبيع، وليس عندهم إشكالية في ذلك، لكن كل هذه الخيارات لن تنفع.
السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية خياراتها واضحة، الاتِّفاقات التي وقعها العدو الإسرائيلي معها فيما مضى واضحة، ومع ذلك العدو الإسرائيلي لا يلتفت إلى تلك الاتِّفاقات إطلاقاً، لا يفي بشيءٍ منها، يُعَبِّر عن أطماعه بوضوح، عن أهدافه العدوانية بوضوح، يرتكب الجرائم اليومية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية.
معنى ذلك: حتمية الموقف الذي يردع العدو، يردع العدو الإسرائيلي.
فنحن لسنا في موقفٍ عبثي، نحن في موقفٍ ضروري، موقفٍ إنساني، أخلاقي، ديني، أمام ما يريد الأمريكي تثبيته على مستوى المنطقة بكلها، في إخضاعها للعدو الإسرائيلي، هذا هو الهدف الأمريكي: الإخضاع لهذه المنطقة بكلها للعدو الإسرائيلي، وفرض معادلة الاستباحة، وكلاهما لا يمكن أن نقبل به أبداً: لن نقبل بإخضاع هذه المنطقة للعدو الإسرائيلي، لن نقبل أبداً بتثبيت معادلة الاستباحة لأُمَّتنا، لا في بلدنا ولا في غيره، هذا غير مقبول إطلاقاً؛ القبول به تنكُّر لمبادئ الإسلام، القبول بذلك ذِلَّة، والله يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8]، القبول بذلك لا يُمَثِّل حمايةً للأُمَّة، لا من القتل، ولا من الاحتلال، ولا من الشَّرّ، ولا من الخطر الأمريكي والإسرائيلي، القبول بذلك تمكين للعدو الإسرائيلي، وللعدو الأمريكي معه، تمكين لهما مما يشاءان أن يفعلاه في هذه الأُمَّة، من تنفيذ أهدافهما، ومخططاتهما، ومؤامراتهما، العدوانية التدميرية ضد هذه الأُمَّة.
نحن في موقفنا العظيم المشرِّف، الذي هو استجابةٍ لله تعالى، وفي إطار التزاماتنا الإيمانيَّة، الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، في موقفٍ أصيل، ليس إملاءً علينا من أي جهة، وليس من أجل امتداداً لجهة هنا أو هناك، تحالفنا، وتعاوننا، وتنسيقنا، مع أخوتنا من أحرار أُمَّتنا في محور المقاومة، هو في إطار موقف ضمن التزاماتنا جميعاً، كأُمَّة، واجب الأُمَّة بكلها، إذا تَحَرَّك فيه البعض ضمن التزاماتهم، لا يعني ذلك أنها مسألة عمالة من بلد لبلد، أو من فئة لفئة، هذا موقف ضمن التزامات الجميع، ومسؤولية الجميع، فمن يفرِّطون في هذا الالتزام هذه مشكلتهم؛ أمَّا موقفنا فهو في أشرف قضية، في موقفٍ عظيم، يُبَيِّض الوجه أمام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي موقف ضروري.
نحن في هذا التَّوجُّه، ضد الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، ضد الإجرام الأمريكي والإسرائيلي، ضد العدوان الأمريكي والإسرائيلي، نحن امتدادٌ لمسيرة الإسلام، المسيرة العظيمة، التي على رأسها رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، ونحن نعيش ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، التي هي في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، حينما تحرَّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، بعد الإذن من الله، والتوجيه من الله، كما قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، وكما قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:5-6]، تحرَّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” في غزوة بدرٍ الكبرى ضد الطغيان، ضد جبهة الطغيان.
جبهة الطغيان آنذاك، التي تمثَّلت بدءاً بجبهة قريش، في محاربتها، في عدوانيتها، في جاهليتها، في ظلمها، في عدائها للإسلام والمسلمين؛ جبهة الطغيان في هذا العصر هي أمريكا وإسرائيل، جبهة الشَّرّ، جبهة الكفر، جبهة الظلم، جبهة الإجرام، جبهة العداء للإسلام والمسلمين: أمريكا وإسرائيل، هل هناك شَكٌّ في ذلك؟ هل هناك أحدٌ يفعل بالأُمَّة كما يفعلون؟ أهدافهم واضحة، جرائمهم واضحة، أطماعهم واضحة، أحقادهم واضحة، مشروعهم الصهيوني، العدواني، الإجرامي، التدميري، واضح، هم جبهة الكفر في هذا العصر، فنحن نتحرك ضد ذلك الطغيان، العدوان، الإجرام، المُسْتَهدِف أصلاً في حالة عدوانية لنا ولأُمَّتنا، نتحرَّك امتداداً لمسيرة الإسلام، بموقفه الحقّ، اقتداءً برسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”.
رسول الله تحرَّك في قِلَّة من العدد والعُدَّة، لكنه تحرَّك متوكلاً على الله، تحرَّك بإيمانه، وتحرَّك من تحرَّك معه من المسلمين بالدافع الإيماني، بالاستجابة الإيمانية، بالثقة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالثقة بوعده الحق، وحقَّق الله لهم في غزوة بدرٍ الكبرى الانتصار العظيم، الذي جعل من تلك الغزوة غزوةً فارقة عمَّا قبلها وعمَّا بعدها، وأسَّست لمرحلةٍ جديدة، مرحلةٍ للعزِّ والنصر والقوة للإسلام والمسلمين، لإحقاق الحق، بالنصر، بالموقف في الميدان.
فنحن امتدادٌ لذلك التحرُّك، وكما كان موقف الأنصار مع رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، بدءاً حينما استشارهم، كانت تعبيرات أولئك المؤمنين تعبيرات تُعَبِّر عن الثبات، عن الوفاء، عن الشجاعة، عن العِزَّة الإيمانية، عن الصمود، عن الاستجابة لله تعالى، ثم كان الموقف كذلك في الجهاد في سبيل الله، شعبنا العزيز هو يحذو حذو أولئك الأسلاف من الآباء والأجداد المجاهدين، الذين حملوا راية الإسلام، في مواجهة الطغيان، بدءاً بطغيان قريش، وغير قريش، وصولاً إلى طغيان القوى العالمية آنذاك، المستكبرة، الظالمة: (إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الحَربِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِقَاء، وَاللَّهِ يَا رَسُوْلَ اللَّهِ لَنْ نَقُولَ لَكَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيْل لِمُوسَى: اِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ اِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعْكُم مُقَاتِلُون).
أسوتنا هو رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، لم يسكت في مواجهة الطغيان، لم يخنع، كيف يمكن أن يكون مقبولاً عند الله لِأُمَّة الإسلام، لِأُمَّة الملياري مسلم، للعالم العربي (أكثر من ثلاثمائة مليون إنسان)، أن يكون خيار أُمَّة هو الاستسلام، هو السكوت، هو الجمود، شعوبٌ بأكملها، بلدانٌ وأوطانٌ بأكملها، يتحوَّل هذا إلى خيار جماعي؟! هذا خيار انتحاري للأمة، يسبب لها سخط الله، وتمكين عدوها منها، خيار الاستسلام لِأُمَّة كبيرة، لا يجوز ذلك في دين الله.
رسول الله، الذي قال عنه الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، تَحَرَّك بثلاثمائة إنسان، ثلاثمائة مجاهد، يزيدون قليلاً بالعشرات، أو بأقل من العشرات، على هذا الرقم: ما بين أربعة عشر، أو أكثر، أو أقل، بحسب اختلاف الروايات، بهذا العدد حمل راية الإسلام، وتحرَّك في سبيل الله تعالى.
مخاطر الخنوع كبيرة جدًّا، هذه التحديات وهذه الأخطار التي تستهدف أُمَّتنا، لابدَّ فيها من التحرُّك الجاد، بالاعتماد على الله، والثقة به، والتوكل عليه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونحن كشعبٍ يمني لن نقبل بالاستسلام للعدو، ولن نتيح له الفرصة لتحقيق أهدافه العدوانية؛ لأننا نتحرَّك معتمدين على الله، لدينا هذا السند العظيم: هو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، نثق به، نتوكل عليه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، خيارنا وقرارنا هو من إيماننا، من كرأمتنا الإنسانيَّة والإسلامية، في الثبات على الموقف، في التصدي للعدوان والطغيان، بتحرُّكٍ واسعٍ وشامل.
ولـذلك أطلب من شعبنا العزيز، وأتوجَّه إلى شعبنا العزيز، أن يخرج في يوم الغد، في ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، أن يخرج خروجاً مليونياً، في العاصمة صنعاء، وفي بقيَّة المحافظات؛ لِيُعَبِّر، وليعلن، وليؤكِّد عن ثباته، وعلى ثباته على موقفه الحق، موقفه الإيماني، موقفه الجهادي، في دعم الشعب الفلسطيني، وفي التصدي للعدوان الأمريكي، وبحسب الوقت والإجراءات المحددة من اللجنة المنظمة وفروعها، مسألة تحديد الوقت، وتحديد الأماكن، هذا متروكٌ إلى اللجنة إن شاء الله.
ولكن من المهم أن يكون الخروج الشعبي واسعاً جدًّا، يُعَبِّر عن هذا الثبات، عن هذا الانتماء العظيم، في هذه الذكرى المهمة؛ لأن موقفنا هو امتداد لذلك الموقف، قدوتنا هو رسول الله، كما خرج الآباء والأجداد بوفاء، وإيمان، وثبات، وعِزَّة إيمانية، وصدق مع رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، في غزوة بدرٍ الكبرى، وفي غيرها من معارك الإسلام ضد طغيان الجاهلية الأولى، سنتحرك امتداداً لذلك، امتداداً لرسول الله، لراية الإسلام، لمسيرة الإسلام، لموقف الإسلام، للجهاد في سبيل الله، في هذا العصر، في هذه المرحلة، لن نقبل مطلقاً بالاستباحة، بإخضاع هذه الأُمَّة، وإخضاع بلدنا وغيره، للإسرائيلي في هذه المنطقة، لن نسكت تجاه العربدة، والطغيان، والعدوان، والإجرام، من قبل العدو الإسرائيلي، والعدو الأمريكي.
آمَل يا شعبنا العزيز- وأنتم شعب الوفاء، الشعب الذي خرج على مدى خمسة عشر شهراً، خروجاً مُشرِّفاً عظيماً، لا مثيل له في كل الدنيا- آمُل أن يكون الخروج يوم الغد كبيراً وعظيماً، مُعبِّراً عن إيمانكم، عن وفائكم، عن عِزَّتِكُم الإيمانية، عن صمودكم، عن ثباتكم العظيم الذي هو من إيمانكم، عن استجابتكم لله تعالى، عن أنكم الامتداد في هذه الأُمَّة، بين كل ذلك المحيط من التخاذل والخنوع والاستسلام، أنتم الامتداد لنهج الإسلام الأصيل، لحمل راية الإسلام، للموقف الحقّ، الذي يريده الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفيه الخير، وفيه الشرف.
اُطَمْئِن شعبنا العزيز، أنه مهما كانت التطورات، وضعنا- بحمد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- قوي، متماسك؛ باعتمادنا على الله، بتوكلنا على الله، بتجربتنا أيضاً في المواجهة لهذا العدو، لاعتداءاته، لتكتيكاته العسكرية، ونحن معتمدون كل الاعتماد على الله تعالى، وواثقون كل الثقة به، هو القائل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران:160]، هو القائل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]، فنحن نثق به، هو لا يُخلِفُ وعده، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران:150]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الأنفال:40].
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ العَلِيّ العَظِيْم.
أَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، فِي مُوَاجَهَة طُغْيَانِ طُغَاةِ العَصْر الظَّالِمِين، المُسْتَكْبِرِين، المُجْرِمِين، أَمَرِيكَا وَإِسْرَائِيل وَمَن يَدُورُ فِي فَلَكِهِم، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛