بغداد اليوم- ذي قار

مضت أربع سنوات ومربي الجاموس رعد الموسوي (55 سنة) من أهوار الجبايش في محافظة ذي قار جنوبي العراق، ينتظر إنقضاء مواسم الجفاف التي ترزح المنطقة تحت تأثيرها، لتعود المياه تغمر الأهوار وينمو القصب والبردي مجدداً بكثافة بما يحفظ قطيع جواميسه التي باع بعضها لتأمين العلف للمتبقي منها.

يشكو ابن الأهوار الذي قضى حياته فيها ولم يعرف غيرها، من تراجع حاد في معدل انتاج جواميسه الخمس المتبقية للحليب، الذي يعتمد على مردود بيعه في إعالة أسرته الكبيرة.

يقول عن ذلك: "كانت الجاموسة الواحدة تنتج في اليوم 75 لتراً من الحليب، أما الان  فلا يزيد انتاجها عن 20 لترا فقط".

التحدي اليومي الذي يشغله في ظل ندرة القصب والبردي، هو تأمين العلف الكافي لإطعام جواميسه، لذا فان جل ما يحصل عليه من بيع الحليب بالكاد يغطي تكاليف العلف الذي يصل سعر الطن الواحد منه إلى 700 ألف دينار ( 535 دولار). 

ما عوض جزءا من خسارته المزدوجة، نتيجة تراجع انتاج الحليب بنسبة 40% وتقلص عدد جواميسه، هو ارتفاع سعر اللتر الواحد من الحليب من 1000 دينار في السابق الى 1500 دينار اليوم نتيجة شحة الانتاج.

"انخفاض انتاج الحليب"

ابو محمد (50 سنة) مربي جاموس  يقطن في عمق أهوار الجبايش، بمنطقة تسمى ايشان الحلالب، يمتلك  خمسة عشر رأسا من الجاموس، تسعٌ منها إناث، يشتكي كذلك من قلة انتاجها من الحليب، إذ يؤكد بأن الواحدة منها لاتنتج أكثر من 15 لتراً في اليوم.

يقول وهو يشير اليها: "لا نأخذ كل ما في ضرع الجاموسة، نترك ما مقداره الثلث للعجول الصغيرة، فتغذية الجواميس بات همنا الأكبر". لأجل ذلك قام ببيع العديد من جواميسه، وسيفعل ذلك مع عدد آخر في حال استمر الجفاف وظل نمو القصب والبردي محدوداً.

يؤكد علي جايد، وهو بائع حليب بالجملة في علوة الكسرة بقضاء الجبايش، تراجع كميات حليب الجواميس التي تصل الى السوق، على الرغم من وجود طلب متزايد عليه ولا سيما من بغداد والديوانية وبابل.

يذكر الرجل الكهل، الذي يعمل في مهنته ذاتها منذ عشرين عاما، بأنه كان يستقبل من مربي الجواميس ما يصل إلى ستة عجلات بيك آب، مليئة بعبوات الحليب يومياً، لكن بعد شحة المياه في الأهوار، انخفض عددها إلى عجلتين فقط.

ويضيف: "منذ سنتين والأمور تتدهور هنا، المياه تقل والجواميس تتناقص، لأن أصحابها يبيعون منها لكي يشتروا الاعلاف لما تبقى".

وفقاً لرئيس قسم الثروة الحيوانية في مديرية زراعة ذي قار، د.ميثم عزيز، فأن 84 ألف رأساً من الجواميس تتواجد في المحافظة، ثلثها اناث. وتتركز 50% من الجواميس في مناطق الأهوار، ويعد غذائها الأساس القصب والبردي الذي يتطلب نموها أن تغمر الأرض بالمياه.

ويشير إلى تأثير بالغ خلفته التغييرات المناخية في السنوات 2021 و 2022 و 2023 على مربي الجواميس، فالجفاف أدى الى انحسار المساحات الخضراء التي تضم نباتات القصب والبردي "مما دفع بالمربين إلى شراء الاعلاف من الأسواق، فانعكس ذلك على تراجع مستوى التغذية للجواميس، وبالنتيجة إنخفاض انتاجها من الحليب، بل وأثر حتى على جودته".

ووفقاً لإحصائية أعدتها مديرية زراعة ذي قار، فان 6500 رأس من الجاموس، نفقت خلال سنة 2023 جراء شحة المياه وقلة المراعي. 

ذلك الوضع الحرج لمربي الجواميس، دفع الحكومة في العام 2023 الى اطلاق مبادرة لدعمهم من خلال تجهيزهم بنوعين من العلف مجاناً "45 كيلو غرام من النخالة للرأس الواحد من الجاموس، وعلف المولاس بكمية 15 كيلو غرام لكل رأس، ولمرة واحدة فقط".


المبادرة جاءت بطلب من وزارة الزراعة، واقرت من قبل مجلس الوزراء، وتضمنت، كما يقول د. عزيز "تخصيص مبلغ قدره 5 مليارات دينار عراقي لدعم التغذية وشراء علف الجاموس الأساسي وتوفيرها مجانا لمربي الجاموس في جنوبي البلاد، بإشراف من فريق مشترك متخصص من إدارات الثروة الحيوانية والإرشاد التابعة لوزارة الزراعة مع خبراء منظمة الأغذية والزراعة".

"تغيير مناخي وتقلص امدادات الأنهر"

يشهد العراق منذ سنوات أزمات مياه تظهر بنحو لافت في أشهر الصيف وبداية الخريف حيث تنقطع الأمطار وترتفع معدلات تبخر المياه، بسبب التغيير المناخي والجفاف الذي أحدثه تقليص تركيا لإمدادات المياه لنهري دجلة والفرات النابعين من أراضيها وبنسبة تصل الى 70% الى جانب قطع إيران لمعظم الجداول والأنهر العابرة من أراضيها والتي كانت تغذي سابقا نهر دجلة في العراق.

وانخفض معدل الكميات المائية الواردة الى العراق بحسب البيانات التي اعلنها الجهاز المركزي للإحصاء، من نهري دجلة والفرات لعام 2021 -2022 عن العام 2020-2021 بمقدار 6.74 مليار متر مكعب.

وبلغت مساحات الأهوار المغمورة بالمياه في العام 2019 نحو 5600 كيلومتر مربع، قبل ان تتراجع بسبب الجفاف بنسبة 96% في العام 2023 بحسب منظمة طبيعة العراق الناشطة في المجال البيئي.

النقص الحاد في المياه، دفع السلطات المعنية الى تغيير مسارات جداول وروافد عديدة لتأمين المياه لسكان المحافظات، مما أدى إلى قلة منسوب المياه التي تصل الى الأهوار، وجفاف أجزاء واسعة منها، فأدى ذلك إلى موت النباتات، ونفوق الأسماك وقلة تواجد الطيور المائية، فضلاً عن أضرار كبيرة لحقت بمربي الجواميس والأهالي بنحو عام، ليعمد الكثيرون إلى الهجرة نحو المدن والإستقرار فيها. 

ويأتي العراق في المرتبة الخامس على مستوى العالم من حيث التضرر نتيجة الظواهر المرتبطة بالتغيير المناخي، وكشفت الهيئة الدولية للصليب الاحمر في تقرير لها في عام 2021 أن العراق تعرض "لأكثر من 300 عاصفة رملية، بينما في الفترة ما بين عام 1950 إلى عام 1990 كانت أعداد العواصف الرملية أقل من 25 عاصفة في السنة الواحدة.


منظمة الامم المتحدة اشارت في تقرير لها نشره موقعها الالكتروني ان الهجرة المناخية في العراق أصبحت حقيقة "في نهاية عام 2021، سجلت المنظمة الدولية للهجرة ما يقرب من 20 ألف نازح بسبب ندرة المياه في 10 محافظات فقط من أصل 19 محافظة عراقية، وأشارت الى ارتفاع الملوحة وسوء نوعية المياه في جميع أنحاء العراق".

وتذكر تقارير دولية، ان 94% من النازحين في محافظات العراق الجنوبية، عدّو "ندرة المياه" سببا رئيسيا لنزوحهم. وكان النزوح من الأهوار بدأ بشكل واسع في تسعينات القرن الماضي نتيجة سياسات حكومية، وبحلول عام 2001 اختفتى 90% من الأهوار وفقد العراق جزء كبيرا من تنوعه البيولوجي، وكان ذلك سببا لنزوح واسع النطاق".

وأظهرت دراسة أجراها المجلس النرويجي للاجئين عام 2021 أنه في المناطق المتضررة من الجفاف كان لدى أسرة واحدة من كل 15 أسرة، فرد أجبر على الهجرة بحثاً عن عمل. وحذرت الدراسة من تزايد النزوح بنحو كبير، ودعت الجهات المحلية والدولية للإستعداد لمواجهة المخاطر المرتبطة بالهجرة الناجمة عن تغير المناخ باتخاذ إجراءات عاجلة ومنسقة. 

ويوضح الخبير في الشأن المائي وفي واقع الأهوار جاسم الأسدي، ان مساحات شهدت تقلصا خلال السنوات الأخيرة، وان أهم المساحات المائية التي جفت هي الأهوار الوسطى وهور أبو زرك مما دفع بالأهالي لترك محل سكناهم والبحث عن أماكن بديلة مع مواشيهم.

تاثير ذلك ظهر بشكل كبير على مهنة تربية الجواميس، وهي المهنة الأساسية لسكان الأهوار. وبحسب المختصة في الجغرافية البيئية الدكتورة منار ماجد، يرتبط حيوان الجاموس بشكل وثيق ببيئة الأهوار لحاجته الى تبريد جسمه الحار بالماء خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في مناطق جنوب العراق، فضلا عن أهمية نبات القصب والبردي وما يحويه من مواد غذائية جيدة تنعكس على مستوى انتاج الحليب.

وتقول ماجد، ان انخفاض مستويات الاغمار المائي يؤثر بشكل مباشر على نوعية القصب الذي يتغذى عليه الجاموس اذ ان جزء مهم من القصب المسمى بـ"العنكر" والذي يتشكل في القسم المغمور بالماء، يعتبر مادة غذائية جيدة للجاموس ويتغذى عليه ايضا سكان الاهوار.

ويعد "العنكر" الذي هو أشبه بالألياف، قلب القصب، ولونه أبيض، وبات شبه مفقود في مناطق واسعة من الاهوار نتيجة قلة مساحات الاغمار، لذا يضطر الأهواريون الى البحث عن هذا النوع من النبات في أماكن أخرى بعيدة عن مناطق سكناهم، لأجل ان يكون غذاء "دسم" لهم ولمواشيهم.

"حلول ولكن !"

يرى أستاذ علم الجغرافيا الدكتور حسين الزيادي، ان أهوار جنوب العراق التي تشكل مثلثا زواياه البصرة وميسان وذي قار، لا تنتشر بنحو متساو في المحافظات الثلاث. ويقول ان مركز انعاش الأهوار التابع لوزارة الموارد المائية حدد الحصة الأكبر لمحافظة البصرة بنسبة 36.8% وميسان بنسبة 28.3% وذي قار 34.9%، وهذه فقدت حوالي ثلثي مساحاتها خلال المدة الممتدة 1973 وحتى 2016، اذ كانت تبلغ 19788 كيلو متر مربع.

ويقول الزيادي ان ذلك يظهر مراحل الجفاف التي مرت بها الأهوار خلال حقبة النظام السابق وخاصة بين تسعينيات القرن الماضي ومابعد 2003 نتيجة التغيرات المناخية.

ولتدارك مخاطر اختفاء الأهوار، يكشف مدير مركز انعاش الاهوار في ذي قار عدنان الموسوي، عن خطة يتم العمل عليها منذ سنتين، تتركز في كري وصيانة المسالك المائية المؤدية للأهوار الوسطى بدءاً من المغذيات الرابطة مع السدة القاطعة بين قضاء المديّنة شمال البصرة والجبايش وكذلك مع محافظة ميسان لضمان تدوير المياه والحفاظ على مستوى مائي جيد وهذا ينعكس بشكل إيجابي على إبقاء السكان المحليين في مناطقهم وعدم الهجرة وحماية الثروة الحيوانية من الهلاكات.

ويرى الموسوي أن أبرز المناطق التي شهدت انتعاشاً نسبياً بعد أعمال الكري، هي "هور أبو سوباط وأبو النمسي وجويلانه والمجري". ويقول بأنها شهدت كذلك انخفاضاً واضحاً لنسب الملوحة.

مشكلة توفير العلف نتيجة قلة القصب تشغل كل مربي الجاموس بما فيهم الذين ينتشرون في الأهوار التي أجرت السلطات المعنية عمليات كري فيها. فـ(أبو سجاد) الذي يسكن هور أبو سوباط، يواجه صعوبة في توفير العلف المطلوب، ويحاول قدر الإمكان ان يجمع بين ما يحصل عليه من القصب وما يقوم بشرائه من "النخالة"، مبينا ان جواميسه تستهلك يوميا ما مقداره 15 كيلو غرام الا انه يقوم بتقديم كميات محدودة حسب قوله "قوت لا تموت".

ويعرب (أبو سجاد) عن مخاوفه من تدهور أكبر في الصيف المقبل، ولا يعلم كيف سيتعامل مع احتمال استمرار مواسم الجفاف، والى أين يتجه؟ ففي الصيف الماضي فقد 11 من جواميسه التي نفقت نتيجة الجفاف، وباع ستة آخريات وبقي لديه الآن ثلاثة فقط.

ويرى أن المبادرات والخطوات الحكومية، مجرد محاولة لمعالجة او سد جزء من المشكلة لوقت محدد وليست حلاً دائماً، مع استمرار مواسم الجفاف وبقاء التغيرات المناخية تضرب بآثارها العراق والمنطقة.

المصدر: وكالة بغداد اليوم

كلمات دلالية: من الحلیب المیاه فی فی مناطق عام 2021 ذی قار

إقرأ أيضاً:

على وقع تراجع أصوات التحرير.. مفارقة قاتلة: الطبقة السياسية تستنجد بالأمريكان لا تتركونا - عاجل

بغداد اليوم - خاص

لا أحد في بغداد ينام حقًا. فحتى حين تهدأ الضوضاء في الشوارع، ويُطفأ ضوء آخر مكتب حكومي، يبقى القلق مستيقظًا. وبينما يبدو المشهد السياسي العراقي ساكنًا على السطح، تغلي تحته براكين من الاحتمالات، ليس أولها استمرار التواجد الأمريكي، وليس آخرها خشية الدولة من عقوبات لا تأتي بصيغة تهديد، بل تُفرض كأنها قَدَر سياسي لا مفر منه. منذ سقوط نظام صدام وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم تكن العلاقة بين بغداد وواشنطن سوى قصة طويلة من الخوف المقنّع بالتحالف، والتبعية المتزيّنة بمساحيق السيادة. وإذا كانت القوات الأمريكية قد خرجت رسميًا عام 2011، فإنها عادت بعدها بثلاث سنوات، لا بقرارٍ من البيت الأبيض فحسب، بل بطلب يائس من عراقٍ كان يتفكك تحت ضربات داعش، ويبحث عن قشة في بحره الغارق.

لكن القشة ذاتها تحوّلت إلى حبل يُمسك بخناق القرار العراقي، لا يُفلت، ولا يسمح له بالتنفس. اليوم، لا تتحدث واشنطن عن انسحاب، ليس لأنها تخشى العودة إلى نقطة الصفر، بل لأنها تدرك أن العراق بات هو النقطة التي تبدأ منها كل خرائط المنطقة الجديدة. والبقاء الأمريكي، كما يقول أحمد الشريفي، "أمر وارد جداً"، بل قد يكون، وهنا تكمن المفارقة، خيارًا عراقيًا بامتياز، حين تتحول السيادة إلى مجاز، والخوف من المجهول إلى عقيدة سياسية، والمصلحة الوطنية إلى ملفّ مؤجل إلى إشعار آخر. السؤال لم يعد: "هل ستخرج أمريكا؟"، بل: "هل يستطيع العراق أن يعيش من دونها؟"، والإجابة المضمَرة بين السطور، هي: لا، أو على الأقل، ليس الآن، ولا بهذه الطبقة السياسية التي تخشى العقوبات أكثر من احتلال القرار.


الانسحاب المؤجل... أم البقاء بطلب عراقي؟

في زمن أصبحت فيه مفردات السيادة تُوزن بميزان الذهب السياسي، لا يبدو "الانسحاب الأمريكي" من العراق خيارًا مطروحًا على الطاولة بجدية، حتى لو رُفع كيافطة في بعض الخطابات الرنانة. فالميدان يقول شيئًا آخر، يقول إن الأمريكيين باقون، وإن الدولة العراقية – بتركيبتها المرتجفة – لم تعد تملك ترف الاستغناء عنهم. وهنا لا نتحدث عن الاحتلال بمعناه الكلاسيكي، بل عن نوع جديد من الحضور: حضور بالطلب، ووجود بالرضا، وتمدّد بالصمت. تلك المفارقة عبّر عنها بوضوح الخبير العسكري والاستراتيجي أحمد الشريفي، حين قال: "حتى الساعة لا يوجد أي تأكيد أمريكي رسمي يؤكد بأن هناك نية حقيقية للانسحاب من العراق، خاصة في ظل التطورات الأخيرة، وخاصة في الساحة السورية، ولهذا بقاء الأمريكان لفترة أطول في العراق أمر وارد جداً، وربما البقاء يكون بطلب عراقي."

وهنا تكمن المفارقة القاتلة: أن الحكومة التي طالما تباهت بأنها تعمل على إنهاء "الوجود الأجنبي"، قد تكون نفسها من يطلب بقاءه، ليس حبًا في الدبابة الأمريكية، بل خوفًا مما قد تجرّه الفوضى التي تحوم كطائر جارح فوق سماء العراق. في حسابات الواقعية السياسية، الانسحاب يعني إعادة خلط الأوراق؛ يعني تَحرُّك الفصائل بحرية، واندفاع الخصوم الإقليميين لسد الفراغ، وانكشاف القرار العراقي أمام شمس العقوبات الدولية. ولهذا، ما يُحكى في العلن لا يعكس ما يُهمس به في أروقة الدولة، حيث تُدار المعادلات وفق ميزان الخسارة الأقل، لا الربح الأكبر. وهكذا، تتحوّل السيادة من حقّ دستوري إلى ورقة تفاوضية، وتتحوّل الجيوش الأجنبية من "قوة احتلال" إلى "حاجة مؤقتة" تتجدد كلما خاف القرار السياسي من مصيره.


الصوت الذي خفت... حين تصبح المقاومة عبئًا

لم تعد المطالبات بإخراج القوات الأمريكية تصدح كما كانت، ولا تعلو كما كانت تصدح أيام التظاهرات المليونية والخطابات النارية التي تُلقَى من على منصات حديدية متهالكة. الآن، انكفأ الصوت، وتراجعت الحناجر، كأن المقاومة نفسها باتت غير مرغوب بها في خريطة توازنات جديدة، أكثر هشاشة، وأشد تعقيدًا. لم تعد المسألة مجرّد "رفض احتلال"، بل تحوّلت إلى سؤال خائف: "ماذا لو خرجوا؟ من سيحمينا من الضغوط؟ من سيفصل بين بغداد وواشنطن الغاضبة؟". وهنا تنكشف هشاشة القرار الوطني حين يصبح رهينة لردود الفعل الخارجية.

الخبير العسكري أحمد الشريفي، وضع إصبعه على هذه النقطة الحرجة حين قال: "الجانب العراقي الحكومي وكذلك السياسي يخشى في ظل هذه الأوضاع الانسحاب الأمريكي، خاصة أن هذا الانسحاب قد يعجّل في فرض العقوبات على العراق كدولة، والشخصيات السياسية والفصائل، ولهذا نرى هناك تراجع في الأصوات التي كانت تطالب بإخراج الأمريكان سابقاً."

بهذا المعنى، صار الأمريكي هو الغطاء غير المُعلن للطبقة السياسية التي تدرك أن خروجه قد يجرّ معها انكشافًا خطيرًا: سياسيًا، واقتصاديًا، وربما قانونيًا. فالعقوبات لم تعد سيفًا مسلطًا على "دول مارقة"، بل أصبحت وسيلة ضبط حتى للحلفاء. وبين نظام مصرفي هش، ودولة تعتمد في خزينتها على رضا الدولار، يصبح الكلام عن السيادة مجرّد قناع يُلبس في المؤتمرات، ويُخلع خلف الأبواب المغلقة. 

لذلك تراجعت أصوات "التحرير"، لا لأنها اقتنعت بضرورة الوجود الأمريكي، بل لأنها باتت تخشى اليوم ما كانت تريده بالأمس، حين أدركت أن التوازن في العراق لا يُصنع على الأرض فقط، بل على ورق العقوبات، وفي تقارير وزارة الخزانة، وبين سطور المبعوثين الدوليين الذين يكتبون بلغة القوة، لا البلاغة.


إيران التي انسحبت بصمت... وتركَت ظلها يتنقّل وحيدًا

ذات يوم، كانت طهران تتنفس من رئة بغداد، وتحرّك أوراق الشام من كواليس كربلاء، وترسل إشاراتها إلى الضاحية الجنوبية من قلب البصرة. لكنها اليوم لم تعد تلك القوة المتحفزة العابرة للحدود، بل تبدو وكأنها تنسحب إلى داخلها، تنكمش على همومها، وتطفئ جبهات الخارج واحدة تلو الأخرى. إيران التي كانت تهندس السياسة في العراق بالمجسات، وتراقب حركة القوات الأمريكية بالنبضات، باتت اليوم تنظر إلى الخارطة بنظارات داخلية... مرهقة، مثقلة، ومحمّلة بكمٍّ من الخسارات لا يُخفى.

الخبير العسكري أحمد الشريفي اختصر هذا التحوّل العميق بجملة تكشف ما خلف الستار، حين قال: "إيران لن يكون لها أي رأي بهذا الأمر، خاصة وهي الآن تتعرض إلى ضغوطات وتهديدات أمريكية كبيرة، خاصة بعد رسالة ترامب الأخيرة لها، ولهذا هي ستكون منشغلة في وضعها الداخلي أكثر من وضع نفوذها في العراق وباقي دول المنطقة، التي خسرته في سوريا ولبنان."

ولعل في هذا التصريح ما يتجاوز التوصيف، ليبلغ مستوى التحذير: إيران التي انسحبت من شوارع دمشق، وغابت عن نقاشات بيروت، وارتبكت في ساحات بغداد، لم تعد الشريك الثقيل الذي يخشاه الغرب، بل الحليف الذي يُرثى له. ومع كل ضغط مالي، وعقوبة اقتصادية، ورسالة تحذير من واشنطن، تنكمش الأذرع الإيرانية أكثر فأكثر، وتتحول من مشروع إقليمي طموح إلى دولة تحاول النجاة من الغرق داخل حدودها. وفي ظل هذا التراجع، يبقى العراق بلا مظلة إقليمية حقيقية، مكشوفًا على قراراته، محاطًا بالأعداء، ومربوطًا بقيد أمريكي لا يُرى، لكنه يُحَسّ كاختناق في حلق القرار السياسي. لم يعد لإيران ما يكفي من القوة لتفرض رأيًا، ولا ما يكفي من النفوذ لتمنع الانهيار، وهي تدرك – قبل غيرها – أنها خسرت كثيرًا، وأن البقاء في العراق لم يعد مشروعًا استراتيجيًا، بل عبئًا إضافيًا على جسدها المنهك.


العراق بين مفترقين... والقرار يُصنع خارج الحدود

العراق، ذلك البلد الذي كان يصدر قراراته يومًا تحت قباب ملوكية وأروقة إمبراطورية، أصبح اليوم يترقب مصيره من على حافة هاتف خارجي أو تقرير من وزارة دفاع لا تعرف الجغرافيا بقدر ما تعرف المصالح. الوجود الأمريكي فيه لم يعد مجرّد حالة أمنية أو ضرورة عسكرية، بل تحوّل إلى معادلة وجودية، تكشف هشاشة البنية السياسية، وتعرّي التصورات الرومانسية عن "الاستقلال الوطني". فالعراق، كما يبدو، لا يستطيع أن يبقى معهم، ولا يملك أدوات البقاء بدونهم، وكأنه واقع في مساحة رمادية يتحكم بها الجميع، إلّا هو.

في هذا التناقض القاتل، تُصبح الدولة العراقية كأنها سفينة مشروخة تسير في بحرٍ هائج، لا تملك بوصلة، ولا تملك قرار العودة إلى الشاطئ. كل محاولة للانسحاب الأمريكي تعني زعزعة للتوازن الهش، وكل محاولة للبقاء تعني تجذيرًا لوصاية مرفوضة على الورق، مقبولة بحذر في الواقع. واشنطن تعرف هذه الحقيقة، وتدير اللعبة بحسابات دقيقة: لا انسحاب كامل، ولا التزام طويل الأمد… فقط وجود كافٍ لردع الخصوم، وضغط يكفي للهيمنة. أما بغداد، فهي العالق الأبدي في المنتصف، تنظر إلى طهران المُنهكة فلا تجد سندًا، وإلى واشنطن المتحفّظة فلا تجد حليفًا، وإلى الشارع المتذمّر فلا تملك له جوابًا.

والبقاء الأمريكي لم يُعلن، لكنه يتحقّق يوميًا بصمتٍ ثقيل، بين خوف سياسي من العقوبات، وتراجع إيراني عن الدعم، وعجز تام عن تخيّل عراق بلا ظلّ أمريكي يتمدد فوق أرضه، من البرلمان إلى غرفة العمليات.

هكذا يُختصر الموقف: القرار الأمريكي لم يُحسم، لكن القرار العراقي محسوم سلفًا... "ليس بيده".


المصدر: بغداد اليوم + وكالات

مقالات مشابهة

  • صور| جانب من الدمار الذي لحق بمشروع ومبنى مؤسسة المياه في مديرية المنصورية جراء العدوان الأمريكي
  • بين التأكيد والتأجيل.. مصير الإنتخابات في مهب التوترات الإقليمية - عاجل
  • ‏⁧‫عاجل‬⁩/ أمام السيد ⁧‫محمد شياع السوداني‬⁩:
  • على وقع تراجع أصوات التحرير.. مفارقة قاتلة: الطبقة السياسية تستنجد بالأمريكان لا تتركونا - عاجل
  • البلاد تدخل دائرة التغيير المناخي: انخفاض مفاجئ بدرجات الحرارة وأمطار رعدية في نيسان - عاجل
  • مطالبة كردية بإنهاء الوجود التركي في كردستان - عاجل
  • الكشف عن نمو الاستثمارات في العراق خلال الفترة القادمة - عاجل
  • المياه الجوفية في العراق مهددة بالاستنزاف
  • تحذيرات من تفجر الأوضاع بين أمريكا وإيران.. العراق المتضرر الأكبر - عاجل
  • مقبرة الشريف.. شاهد على مآسي النزوح وسنوات الدم في ديالى - عاجل