تتشابه سيناريوهات وضع استراتيجيات العمل كثيرًا في معظم فرق العمل، ففي البدء يتم وضع الأهداف بطموح، ثم يقوم الفريق برسم أهداف وركائز الاستراتيجية، وتحديد مخطط التنفيذ عبر مشاريع متوسطة وطويلة المدى مع مؤشراتها المتعددة المستويات، وهكذا تخرج الاستراتيجية بصورة مثالية، ولكن واقع التنفيذ يثبت بأنها غير مجدية من الجانب العملي التطبيقي، وبأن ترجمة الطموح إلى واقع هي مهمة ليست سهلة المنال، وإذا ما قام الفريق بتقييم أسباب عدم تحقيق الأهداف يكون التفسير دائمًا هو عدم فهم فريق التنفيذ لهذه الاستراتيجية المثالية، وهناك مقولة شهيرة تتردد بكثرة في مجلات ودوريات الأعمال مفادها: «يحتاج التنفيذ لاستراتيجيات عمل، ولكن غالبًا ما تبدو الاستراتيجية معقدة، وهذا لا يعود لكونها في الأصل مركبة وشائكة، ولكن لأن الأكاديميين والمستشارين وغيرهم من الخبراء والممارسين يستفيدون من هذا التصور العام بأنها معقدة»، فهل فكرتم يومًا في الدوافع وراء حرص المديرين التنفيذيين على وضع استراتيجية العمل متطلبًا أساسيًا في التنظيم الإداري المؤسسي؟ وكم تبلغ القيمة السوقية لقطاع الاستشارات الاستراتيجية العالمية؟ وفيما إذا كان سبب فشل الخطط الاستراتيجية أحيانًا هو ميل المخططين في المبالغة في تعقيدها بوضع أهداف طموحة بشكل جارف وبعيد عن الواقع؟

تعالوا نبدأ من منشأ التحدي؛ وهو كيف ينظر متخذو القرار إلى استراتيجية العمل كمفهوم وممارسة، وكيف ينظر المعنيون بالتنفيذ إلى الأمر من زاوية مختلفة تمامًا، وعلى مستوى الإدارات العليا فإن الاعتقاد السائد حول الخطط الاستراتيجية هي بأنها في الأساس وثائق عمل معقدة المفاهيم، وأن السبيل إلى الإتقان في وضعها يرتبط بقدرة المخططين على تيسير الفهم الكافي لهذه المفاهيم النظرية المركبة، واقتراح برامج تنفيذية تسعى لإدخال تغييرات جذرية وواسعة المدى، ولذلك تسعى الكثير من المؤسسات لاستجلاب بيوت الخبرة الاستشارية، وعلى الرغم من أن المختصين بأعمال المؤسسة يدركون بشكل كاف أن التحديات التي تعترض تحقيق الأهداف يمكنها أن تبتلع الطموحات الكبيرة في الاستراتيجية، إلا أن الجاذبية التي تمتلكها عملية وضع الاستراتيجية تحول دون الالتفات إلى هذه النقطة المهمة، وبذلك يتم وضع أهداف محكوم عليها مسبقًا بأن لا ترى النور، وحينما تدخل الاستراتيجية مرحلة التنفيذ تظهر التحديات المعيقة التي تزيح الخطة من نطاق الواقعية، وتضعها مع مثيلاتها من الحالات المعروفة بمسمى «استراتيجية على الورق».

والمتتبع لنماذج الأعمال في الشركات الرائدة يجد الكثير من الأمثلة التي تؤكد بأن الاستراتيجيات الطموحة التي تعد أرضًا خصبة للمنظرين هي ليست رائعة كما تبدو في الظاهر، والأهداف الجريئة تدمر الشركات في كثير من الأحيان، وأكثر بكثير مما يعتقد المسؤولون بالتنفيذ، تعالوا نتوقف عند قصة بنك ويلز فارجو (Wells Fargo)، ففي عام 2011م قام البنك بتطوير استراتيجية جديدة تستهدف بناء علاقات عمل مصرفية طويلة الأمد، وذلك بتحفيز مستخدمي المنتجات المصرفية على تجريب مختلف الخدمات، في ذلك الوقت كان الرئيس التنفيذي للبنك هو المصرفي المعروف جون ستومبف، وأطلق على استراتيجية العمل هذه اسم «الثمانية العظيمة»، وذلك بعد اعتماد قرار كبار المسؤولين التنفيذيين باستهداف زيادة في استخدام الخدمات والمنتجات المصرفية من عددها الحالي الذي كان يتراوح من ثلاثة إلى أربعة منتجات، وإيصالها إلى ثمانية، وبالفعل بدأ العملاق المصرفي ويلز فارجو بقياس مدى نجاح الشركة في تنفيذ هذه الاستراتيجية عبر تتبع نسبة الزيادة في شراء المنتجات المصرفية، وبصورة أدق قام البنك بقياس أداء الموظفين ومكافأتهم على أساس قدرتهم في رفع عدد المنتجات المصرفية المختلفة التي يتم

إتاحتها للمتعاملين من الودائع وبطاقات الائتمان، إلى قروض السيارات والرهون العقارية، ونظريًا كان هذا المؤشر يعادل ويعكس الهدف الاستراتيجي لبناء علاقة عمل طويلة الأمد بين البنك والمتعاملين، وبدا كل شيء مثاليًا على الورق، ولكن السنوات القليلة التي تم فيها تنفيذ هذه الاستراتيجية أثبتت بأن الأمور قد سارت بشكل خاطئ، وانحرفت كليًا عن الهدف الأساسي، إذ إنه ومع سعي الموظفين لتحقيق المستهدف من مؤشر القياس ظهرت حالات فتح الحسابات الوهمية، والبيع الاحتيالي للخدمات المصرفية، مما أوقع البنك في مأزق كبير بعد أن اهتزت محاور الثقة والمصداقية، والسؤال هنا كيف خرجت الأمور عن المسار؟

أشار المحللون إلى أن استراتيجية الثمانية العظيمة قد خالفت النهج الاستراتيجي الكلاسيكي، وذلك باختيار أدوات التنفيذ غير المناسبة، وهذا ما عبرت عنه الصحافة مجازيًا بعبارة: لا يمكنك أن تدق مسمارًا بوسادة أريكة، حتى لو كنت نجارًا متمرسًا، وقواعد اللعبة الكلاسيكية تؤكد بأن وضع استراتيجية عمل لا يضمن الوصول الآمن للأهداف، إذ مهما كانت هذه الاستراتيجية رائعة إلا أن الفشل يكون واردًا إذا صار الطموح في حد ذاته يقوض التنفيذ، وفي حالة العملاق المصرفي ويلز فارجو فإن سبب الفوضى التي حدثت مع تنفيذ استراتيجية الثمانية العظيمة هو الميل السلوكي للخلط بين ما يتم قياسه من الهدف وبين المقياس المستخدم، وهو ما يسمى بظاهرة الاستبدال الحتمي أثناء مرحلة تنفيذ الاستراتيجية، وهي ظاهرة شائعة جدًا يدخل فيها فريق التنفيذ حلقة مفرغة من مطاردة مستهدفات مؤشرات القياس دون النظر إلى الهدف الاستراتيجي الذي يتم تحقيقه، وفي حالة البنك تم تشجيع الموظفين على ترويج المنتجات المصرفية وزيادة التعاملات لارتباطها بأدائهم الوظيفي الفعلي وما يترتب عليه من مكافآت وترقيات، وأما هدف بناء علاقات طويلة الأمد مع المتعاملين والمستفيدين فقد انحسر نهائيًا من المشهد، وبذلك فإن موظف البنك بهذه الطريقة لا يختلف كثيرًا عن مندوب المبيعات الذي يحرص على إتمام عملية بيع المنتجات مقابل عمولة المبيعات، وأثناء هذه العملية يمكن أن تأخذ العملية مسارات غير صحيحة وتتعارض بشكل كامل مع أهداف الاستراتيجية التي تسعى في الأساس لتنفيذها.

وإذا عدنا للسؤال الأول عن مدى حرص المديرين التنفيذيين على وضع استراتيجية العمل، فإن البيانات التقديرية تشير إلى أن قيمة سوق الاستشارات الاستراتيجية العالمية سوف تصل إلى (50) مليار دولار في عام 2025م ومن المتوقع أن تصل إلى (100) مليار دولار بحلول عام 2030م، وهذا يعكس اهتمام قادة الأعمال بوجود مسارات عمل توجيهية مثل الاستراتيجيات طويلة الأمد، وبالعودة إلى قصة بنك ويلز فارجو يمكننا أن نستخلص عدة دروس، أولًا أن التعقيد النظري للاستراتيجية ليس هو المشكلة الرئيسية في فشل تحقيق الأهداف، ولكن نقص التوافق بين مؤشرات القياس وترابطها بالهدف يتصدر قائمة أسباب الفشل، وإذا بحثنا في جذور هذه المشكلة نجدها تكمن بشكل أساسي في قلة مشاركة الجهات المعنية بالتنفيذ في عملية إعداد الاستراتيجية، ويعد ذلك إخلالًا بقواعد اللعبة الكلاسيكية، والتي تنص على حتمية إشراك الجهات المسؤولة عن تنفيذ الاستراتيجية في عملية صياغتها منذ البداية، وذلك للوصول إلى القدر الكافي من الفهم المشترك للأهداف العليا الكامنة وراء مؤشرات القياس التي هي في الأصل أدوات دالَّة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية العامة وليست في حد ذاتها أهدافًا، وهذا هو الدافع الرئيسي وراء خروج الباحثين والممارسين بمنهجية تصميم عملية التخطيط عالية المشاركة (High Intensity Participatory Planning HIP) وذلك لإشراك جميع الأطراف المعنية في التنفيذ، والجهات المستفيدة من مختلف نطاقات الاستراتيجية، وهذا النهج يختلف بشكل جذري عن الطريقة الاعتيادية التي تعتمد على تكليف بيوت الخبرة الاستشارية بالعمل مع المديرين التنفيذيين والخروج بوثيقة الاستراتيجية يتم إسقاطها تدريجيًا من أعلى الهرم المؤسسي إلى التقسيمات المختصة بالتنفيذ

والمتابعة، إذ إن عملية التخطيط عالية المشاركة تخلق زخمًا استثنائيًا من المدخلات المتعددة، وبذلك يصبح لكل الشركاء والفاعلين صوتٌ في تحديد الاتجاه الاستراتيجي والأهداف والتطلعات، وهكذا يتشكل الفهم المشترك الذي يدعم تتبع المؤشرات التي تغذي فعليًا الأهداف العامة دون انحراف كلي، أو تمدد في النطاق.

إن نهج التخطيط عالي المشاركة ليس اجتهادًا لحل تحديات فشل التنفيذ، ولكنه بمثابة إعادة اكتشاف قواعد اللعبة الكلاسيكية في التخطيط الاستراتيجي التي طالما اقتصرت على تحديد الأهداف الطموحة من مبدأ التفكير خارج الصندوق، والبحث عن معالجات للتحديات الجديدة التي يجب التغلب عليها أثناء ترجمة الاستراتيجية إلى برامج تنفيذية، ومحور التفاضل هنا هو توظيف المعرفة الكلية والذكاء الجمعي لرفع مستوى التفكير في وضع الرؤى التي يتطلع إليها جميع المشاركين، ويستشعرون الثقة بالتمكين والاستعداد لتحقيقها، وبذلك يمكن للجميع رؤية الصورة الكبيرة، والتي تنقل المشاركة إلى مستوى التكامل في الأدوار بدلًا من تسليم الأدوار، وتحفز فريق التنفيذ للمحافظة على نطاق العمل، فالجميع على دراية بالأسئلة المحورية: أين نحن؟ وإلى أين نتجه؟ وكيف نخطط للوصول إلى هناك؟ والأهم من ذلك، ما الذي يعنيه كل هذا العمل بالنسبة لواقع ومستقبل المؤسسة، وبذلك يتم إضافة قاعدة جديدة لقواعد اللعبة الكلاسيكية في التخطيط الاستراتيجي وهو: «عندما تلجأ إلى أعلى مستوى من التفكير التشاركي، فإنك تحصل على أعلى مستوى من الأداء».

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المنتجات المصرفیة استراتیجیة العمل هذه الاستراتیجیة تحقیق الأهداف طویلة الأمد أهداف ا

إقرأ أيضاً:

تسريب غامض من كوالكوم يضرب أندرويد 16.. معالج Snapdragon X Elite قد يغير قواعد اللعبة

ذكرت منصة Chrome Unboxed أن شركة كوالكوم Qualcomm، تستعد لإطلاق فئة جديدة من الحواسيب العاملة بنظام أندرويد والمدعومة بمعالجات Snapdragon X Elite، في خطوة يعتقد أنها ستفتح الباب أمام جيل جديد من أجهزة حواسيب أندرويد عالية الأداء.

وتظهر بيانات مسربة من مستودع شيفرة أندرويد 16 إشارات إلى دعم المعالج Snapdragon X Elite، المعروف بكفاءته من فئة الحواسيب المكتبية، لتشغيل أنظمة أندرويد على حواسيب كاملة، ما يعزز رؤية كوالكوم لتوسيع حضورها في سوق الحواسيب العاملة بمعمارية ARM.

كوالكوم تمهد لإطلاق فئة جديدة من حواسيب "أندرويد" تعمل بمعالجات Snapdragon X Elite

تشير التسريبات إلى وجود اسم رمزي داخلي “purwa” يعتقد أنه يشير إلى معالج Snapdragon X Elite، ما يدل على وجود تكامل هندسي بين أندرويد 16 ومعالجات كوالكوم القادمة.


ويرى محللون أن هذا التطور قد يغير شكل حوسبة أندرويد جذريا، إذ يجري العمل على تحسين النظام ليعمل بكفاءة على الأجهزة الأكبر حجما.

وفي سياق متصل، كشفت كوالكوم عن موعد قمة Snapdragon القادمة، والتي من المتوقع أن يتم خلالها الإعلان عن معالج Snapdragon 8 Gen 2.

من المتوقع أن تقدم الحواسيب المزودة بمعالجات Snapdragon X Elite أداء عالي الكفاءة مع عمر بطارية أطول، وتكاملا أعمق داخل منظومة أندرويد، إلى جانب تعزيز الأمان بفضل البنية البرمجية للنظام.
 

كما قد تمنح هذه الخطوة كوالكوم موطئ قدم أقوى في سوق الحواسيب المكتبية والمحمولة، الذي تهيمن عليه حاليا شركتا إنتل وAMD.

ويرى محللون أن هذه الأجهزة قد تشكل حلقة وصل بين منظومتي ChromeOS وWindows، مما يجعلها خيارا جذابا للشركات والمطورين الراغبين في حلول حوسبة مرنة وقابلة للتوسع.

ما الذي يعنيه هذا لمستقبل التقنية؟

يشير اقتراب إطلاق حواسيب Snapdragon X Elite Android PC إلى مرحلة جديدة من الحوسبة الموحدة، تجمع بين مزايا الهواتف الذكية وأداء الحواسيب المحمولة.


وسيسمح اعتماد معمارية ARM بتصميم أجهزة أنحف وأبرد وأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، مع الحفاظ على توافق تطبيقات أندرويد.

ولقطاع الأعمال، قد يعني ذلك خفض التكاليف التشغيلية وتعزيز الإنتاجية من خلال منصة موحدة تشغّل تطبيقات أندرويد على عتاد احترافي.

وكما نقلت Chrome Unboxed: “تحول أندرويد إلى نظام تشغيل بمستوى الحواسيب الكاملة سيعيد تعريف ما هو ممكن على معمارية ARM".

أنظمة هجينة تجمع بين الهاتف والحاسوب

قد يمثل تكامل معالجات Snapdragon X Elite مع أندرويد 16 بداية لحقبة جديدة من الحوسبة الهجينة، تربط بيئات الهواتف الذكية وسطح المكتب ضمن منظومة واحدة موجهة للأعمال.


ومع أن كوالكوم لم تعلن رسميا عن هذه الأجهزة بعد، إلا أن المؤشرات التقنية تؤكد أن الشركة تمضي نحو توسيع نطاق أندرويد ليصبح منصة متكاملة للأداء العالي والإنتاجية.

طباعة شارك كوالكوم Snapdragon X Elite حواسيب أندرويد

مقالات مشابهة

  • جاتوزو: الكرة تزن 100 كيلوجرام!.
  • تجربة التركيز الكامل.. صيحة على تيك توك تحفّز على تحقيق الأهداف
  • من الابتكار التشاركي إلى الإنتاج الذكي.. كيف تغيّر”ريد هات” قواعد اللعبة في التحول الرقمي السعودي؟
  • تشكيل لجنة لاكتشاف الموهوبين في السلة
  • رئيس جهاز العبور الجديدة يشدد على سرعة الإنجاز وجودة التنفيذ بمشروعات المدينة
  • تسريب غامض من كوالكوم يضرب أندرويد 16.. معالج Snapdragon X Elite قد يغير قواعد اللعبة
  • وزير العمل يبحث مع وفد البنك الدولي آليات تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لتطوير مراصد السوق
  • العمل تبحث مع وفد البنك الدولي سبل تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتشغيل
  • رئيس هيئة الشراء الموحد يتابع آخر مستجدات سير العمل بمشروع المخازن الاستراتيجية
  • وزير العمل يبحث مع البنك الدولي تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتشغيل وتطوير مراصد السوق