تتوجه الأنظار في لبنان نحو شركات الخدمات المالية غير المشروعة التي ازدهرت بشكل كبير مستغلة انهيار النظام المصرفي الرسمي، خشية استخدامها من قبل أشخاص ومجموعات مصنّفة إرهابية، كوسيلة لتدفق الأموال إليها، ومنها إلى دول المنطقة.

والأسبوع الماضي، حذّر نائب مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون آسيا والشرق الأوسط بمكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية، جيسي بيكر، خلال زيارته لبنان من مخاطر استخدام القطاع المالي لهذا البلد لتمويل حركة حماس وحزب الله، حيث دعا المسؤولين السياسيين والماليين اللبنانيين الذين التقى بهم إلى اتخاذ "تدابير استباقية" لمنع ذلك.

ويوجد في لبنان اليوم 297 صرافاً شرعياً فقط، بينما يُقدر عدد الصرافين غير الشرعيين بالآلاف، وفقاً لما يؤكده نقيب الصرّافين في لبنان مجد مصري لموقع "الحرة"، "يختبئون تحت أسماء مكاتب تحويلات مالية مرخصة كوكلاء عنهم، يعملون من دون حسيب أو رقيب، مما يجعلهم عرضة لمرور الأموال المشبوهة من دون قصد".

هذه الشركات ومكاتب التحويلات المالية، إلى جانب الاقتصاد النقدي الذي يقدر البنك الدولي أنه يصل إلى ما يقرب من 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبنان، قدمت حلولاً للأشخاص والمجموعات المحظورة من النظام المالي الرسمي بسبب العقوبات الأميركية.

يذكر أنه بعد الاعتماد الرئيسي على القطاع المصرفي في لبنان، هزّ توقف المصارف عن دفع أموال المودعين الثقة بهذا القطاع، مما دفع نحو "اقتصاد الكاش"، وما نتج عن ذلك من مخاطر لاسيما سهولة وصول الأموال "غير الشرعية" لأفراد وكيانات مشبوهة بعيداً عن أي رقابة رسمية. 

وقال وليد الكيلاني، المتحدث باسم حماس في لبنان، لوكالة "أسوشيتد برس" إنه ليس لديه "معلومات" بشأن هذا الأمر.

وتأتي زيارة المسؤول الأميركي في ظل توقف المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في غزة، وزيادة القلق من تصعيد إقليمي خلال شهر رمضان المبارك، ووقوع اشتباكات شبه يومية بين حزب الله والقوات الإسرائيلية منذ أكثر من خمسة أشهر.

أهداف الزيارة

لا تشكل زيارات وفد الخزانة الأميركية، خاصة من مديرية مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، حدثاً استثنائياً كما يقول خبير المخاطر المصرفية والباحث الاقتصادي، الدكتور محمد فحيلي "فهي حدث روتيني يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد مع قرار الحكومة اللبنانية ربط مصير العملة المحلية بالدولار وتوجه لبنان نحو الدولرة الكاملة بعد انتهاء الحرب الأهلية، كجزء من تعاون مستمر بين البلدين في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".

اهتمام الخزينة الأميركية بلبنان طبيعي في ظل الأوضاع الراهنة، كما يرى فحيلي لا سيما في ظل الأزمات التالية "وضع مصرفي متأزم، واعتماد مفرط على الأوراق النقدية الأميركية في التبادل والتداول داخل الاقتصاد اللبناني، وتوجه السلطة اللبنانية في موازنة العام الحالي إلى الدولار كعملة أساسية في احتساب الإيرادات والنفقات، بدلًا من العملة الوطنية، إضافة إلى وجود سلسلة عقوبات أميركية على كيانات لبنانية أو عاملة في لبنان وأفراد لبنانيين".

تسعى الخزينة الأميركية من خلال زياراتها إلى لبنان إلى التأكد، بحسب ما يقوله فحيلي لموقع "الحرة" "من التزام القطاع المصرفي بالعقوبات المفروضة، ولا تُعدّ هذه الزيارات رسالة سلبية، بل رسالة داعمة، حيث لم يتخذ الوفد أي قرارات تمنع السلطة اللبنانية من التوجه نحو الدولرة أو تمنع المصرف المركزي من تأمين مدخرات الدولة لدفع رواتب وأجور ومصاريف الوزارات.

كما تسعى الولايات المتحدة أيضاً من زياراتها المتكررة إلى "مراقبة الوضع للتأكد من عدم سوء استخدام الدولار ووصوله إلى الأيادي الخاطئة، ومن ناحية سياسية، يثير توحيد الساحات والجبهات بين لبنان وغزة اهتمام الخزينة الأميركية، وذلك للتأكد من عدم وجود أي كيان من مكونات القطاع المالي في لبنان يقوم بتسهيل تمويل مؤسسات أو تنظيمات تعتبرها الولايات المتحدة إرهابية".

ويعدّ هذا الاهتمام بحسب خبير المخاطر المصرفية "أمراً طبيعياً، خاصة في ظل فترة السماح التي يتمتع بها لبنان من مجموعة العمل الدولي المالي فيما يتعلق بتصنيفه على اللائحة الرمادية أو السوداء في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إذ تبحث الخزينة الأميركية الآن فيما إذا كان لبنان يتخذ الإجراءات الصحيحة لتجنب التصنيف كدولة غير متعاونة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".

وبناءً على الدراسة التي أجرتها "المينافاتف"، وهي جهة رقابية دولية تراقب سلامة الوضع المالي للدول وتضعها على اللوائح الرمادية أو السوداء، التي أظهرت كما يقول مصري "وجود حاجة إلى تحسينات في بعض القطاعات، بما في ذلك القطاع المالي، تواصلنا مع مصرف لبنان وعرضنا إقامة لقاء تدريبي للصرافين الشرعيين بشأن كيفية الوقاية من التعامل مع الأموال المشبوهة".

ويشرح مصري "يواجه الصرافون صعوبة في تحديد ما إذا كانت الأموال التي يتعاملون بها مشبوهة، خاصة عند التعامل مع زبائن جدد. لذلك، قمنا بمبادرة إطلاق تطبيق إلكتروني يجمع أسماء المدرجين على اللوائح السوداء الدولية، بما في ذلك لوائح الأمم المتحدة وقوى الأمن الداخلي اللبناني، بالإضافة إلى الأسماء الواردة في لوائح مكتب مراقبة الأصول الأجنبية العائد لوزارة الخزانة الأميركية".

وباستخدام هذا التطبيق، يمكن للصراف "التحقق من اسم الزبون للتأكد من عدم وجوده على أي من هذه اللوائح، مما يساعد في تحديد ما إذا كانت الأموال التي يتعامل بها مشبوهة من عدمه".

"لقاءات إيجابية"

أعرب وفد وزارة الخزانة الأميركية بحسب الصحفية الاقتصادية والباحثة بالجرائم المالية، محاسن مرسل "عن الرضا الكبير للتدابير المتخذة وكيفية تعاطي مصرف لبنان مع السياسة النقدية الجديدة المتبعة من قبل حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري ونوابه، ومن قبل المجلس المركزي بشكل عام، كما أبدى الوفد الرضا عن توجه الحاكمية الجديدة إلى امتصاص النقدية الزائدة في الاقتصاد".

وسبق أن أظهرت الردود الدولية الموحدة على سياسات وسيم منصوري، وزيارات السفراء الأجانب ووفد الكونغرس، "الدعم للحاكم الجديد" كما تقول مرسل لموقع "الحرة" "وتأييدهم لتوجهاته التي تتماشى مع المعايير الدولية، خاصة تلك المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال وتعزيز الاقتصاد النقدي".

وحرصت الخزينة الأميركية، وفقاً للباحثة في الجرائم المالية "على الاستفسار عن التعميم 165 الصادر عن حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة. في أبريل الماضي، الذي بدأ العمل به في شهر يونيو لتنظيم عمليات التسوية الإلكترونية للأموال النقدية، وبالتحديد الأموال التي حوّلت من الخارج أو تم تلقيها أوراقا نقدية بالعملات الأجنبية بعد تاريخ 17 نوفمبر 2019، وكذلك الأموال المودعة، أو التي ستودع أوراقاً نقديّة في حسابات جديدة بالليرة اللبنانية".

وتضيف: "هدف التعميم زيادة الشفافية في النظام المالي اللبناني، وتحسين قدرة مصرف لبنان على مراقبة حركة الأموال، والحد من عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتسهيل عمليات التسوية الإلكترونية للأموال النقدية، أما علامات الاستفهام والمخاوف التي يبديها البعض منه، ومنهم بيكر، لاسيما لجهة سماح التعميم بفتح حسابات مصرفية جديدة بالفريش دولار، وبالتالي إمكانية أن يكون معبراً لتبييض الأموال، فغير دقيقة، لأن الكلفة المالية الكاملة في مصرف لبنان لمقاصة الشيكات بالدولار الفريش وفقا لهذا التعميم تتراوح فقط بين 10 و15 مليون دولار".

وكان المتحدث باسم مصرف لبنان المركزي، حليم برتي، أكد لوكالة "اسوشيتد برس" أن مسؤولين في المؤسسة التقوا بيكر ووصف اللقاءات بأنها "إيجابية للغاية"، وقال إن البنك المركزي يقوم بدوره لتنظيم شركات الخدمات المالية المرخصة، لكن أولئك الذين يعملون دون ترخيص "ليسوا ضمن ولايتنا القضائية" ويجب التعامل معهم من خلال سلطات إنفاذ القانون.

تحديات كبيرة

تعدّ ظاهرة تبييض الأموال وتمويل الارهاب من أبرز التحديات التي تواجه الدول التي تعاني من انهيار اقتصادي، مثل لبنان وفنزويلا والعراق وسوريا، كما تقول المتخصصة بالاقتصاد النقدي الدكتور ليال منصور، وتشرح أنه "في ظل هذه الظروف، يضعف القطاع المصرفي، ويتوقف التعامل بالتحويلات المصرفية، مما يدفع الاقتصاد نحو الاعتماد بشكل كبير على النقد، غالباً من مصادر غير شرعية".

ويزداد الأمر تعقيداً، بحسب ما تقوله منصور لموقع "الحرة"، "مع ضعف الحكومة والقضاء وغياب السياسات المالية، وعندما يكون للمسؤولين مصلحة في دخول الأموال بطرق غير شرعية عبر مؤسسات مالية غير مرخصة أو عبر المطارات والموانئ، التي قد تكون مصادرها من تجارة المخدرات أو استغلال البشر أو غيرها من الأنشطة غير القانونية".

ويمثل الاقتصاد النقدي تحدياً كبيراً، لا سيما للدول التي تعاني من أزمات اقتصادية، وفقاً لمرسل، وتشرح أنه "حتى عام 2001 كان لبنان مرتعاً لتبييض الأموال وتمويل الارهاب، وبعد ذلك، تم وضع قوانين مصرفية، بما في ذلك تنظيم العمل المصرفي، بهدف التصدي لهذه الآفة".

وفي عام 2015، تم إقرار قانون الضرورة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والفساد، بحسب ما تقول مرسل "وبموجب ذلك جرى إغلاق الحسابات المصرفية التي تعود لحزب الله أو لأي كيان أو شخص مدرج على القوائم السوداء التي يصدرها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية العائد لوزارة الخزانة الأميركية، وهذا يعد جزء من استجابة لبنان للمعايير الدولية في مجال مكافحة الجرائم المالية".

وفيما يتعلق بتمويل حماس، فإن الأمر الإيجابي، كما ترى مرسل، أنه "لا يوجد حوالات مالية مباشرة بين لبنان وفلسطين، وفي ذات الوقت يواصل الحاكم الحالي للمصرف المركزي ضبط عمل المؤسسات المالية، خاصة غير المصرفية، وذلك لضمان التزامها بالقوانين والمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب".

وتشدد : "تُمثل المؤسسات المالية غير المشروعة تهديداً خطيراً للاقتصاد اللبناني، إذ تشارك في غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعرقل الاستثمارات الأجنبية. على سبيل المثال، شركات تحويل الأموال غير المرخصة وشركات الصرافة غير المرخصة بالإضافة إلى شركات الاستثمار الوهمية والمنصات الإلكترونية لتداول العملات الرقمية غير المرخصة".

إجراءات المواجهة

يُعدّ دخول الأموال بطرق غير شرعية سيفا له حدين، كما تصف منصور، إذ "يساهم في دعم اقتصاد البلد الفاشل من جهة، بينما يؤدي في الوقت نفسه إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الرسمي ويضر بالاعتراف الدولي بالاقتصاد الشرعي من جهة أخرى، وفي غياب سيطرة السلطة، يزداد تدفق الأموال غير الشرعية، ويعدّ دليلًا على انحلال الدولة، مما يعيق إبرام الاتفاقيات التجارية والاستثمارية الخارجية معها".

وكان المسؤول في الخزانة الأميركية قال لوكالة "أسوشيتد برس" إن إظهار لبنان التزامه بالمعايير العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب أمر أساسي لجذب الاستثمارات من الولايات المتحدة، وبقية العالم وإخراج البلاد من أزمتها التي طال أمدها.

ويُعدّ موضوع تمويل المنظمات المصنفة إرهابية من أهم التحديات التي تواجهها الدول العربية، بما في ذلك لبنان، بحسب مرسل التي تعتبر أن السيطرة على الاقتصاد النقدي عملية تستغرق وقتاً نظراً لتعقيدها وتشعبها.

 وتضيف "عندما اتهم رياض سلامة بتبييض الأموال والفساد، أثيرت مخاوف بشأن سلامة القطاع المالي اللبناني، إلا أن هذه المرحلة انتهت مع الحاكمية الجديدة، أما الآن فمن غير الصحيح ما يتم تداوله مؤخراً بشأن رغبة بعض المصارف المراسلة بقطع علاقاتها مصرف مع لبنان، إذ إن العلاقات بين الطرفين مستمرة بشكل طبيعي".

من جانبها ترى منصور أن ظاهرة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب تتطلب اتخاذ خطوات حاسمة، مثل "تشديد تطبيق القوانين المتعلقة بذلك، وتعزيز قدرات القضاء وجهود المراقبة والمحاسبة".

كما يرى فحيلي أن القطاع المالي اللبناني يواجه تحديات كبيرة تتطلب إجراءات حاسمة، إذ يجب عليه "أولاً، إصدار تعميم من مصرف لبنان أو مراسيم من الحكومة أو قوانين من مجلس النواب لتنظيم العمل في القطاع المصرفي، ومن أهم هذه الإجراءات، التوجه نحو العودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي، مثل الشيكات وبطاقات الدفع والائتمان، والتخفيف من الاعتماد على الأوراق النقدية في التبادل والتداول التجاري داخل لبنان".

"ثانياً، يجب على السلطة أو مصرف لبنان أو المصارف التجارية إيجاد طريقة لجذب المؤسسات لإعادة توطين رواتب وأجور موظفيها في حسابات مصرفية، وكذلك جذبها لبدء قبول وسائل الدفع المتاحة لتسديد فواتير الاستهلاك وما شابه".

ويضيف أن "هذه الإجراءات يمكن أن تتخذها المصارف كمبادرة فردية وفق إمكانيات كل مصرف. ومن المعروف أن القطاع المصرفي اللبناني لم يعد على حاله السابق، إذ تظهر بوضوح الفجوة بين المصارف القادرة على الاستمرار في دعم الاقتصاد والمصارف الضعيفة، التي تسببت في تشويه سمعة القطاع المصرفي. تلك المصارف القادرة على الاستمرار حافظت على علاقات جيدة مع المصارف المراسلة، وتعاملت مع المخاطر المتعلقة بالائتمان وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب وسمعتها بشكل فعّال من خلال اتباع إجراءات صارمة مطلوبة من المصارف المراسلة". 

والمشكلة تكمن، كما يشدد فحيلي "في المصارف الضعيفة، التي أُطلق عليها بتحفظ "بنكرجية"، إذ تسببت هذه المصارف في الإضرار بسمعة القطاع المصرفي بشكل عام، بالإضافة إلى الأضرار الناجمة عن تجاوزاتها التي واجهها هذا القطاع خلال السنوات الماضية".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: غسل الأموال وتمویل الإرهاب الخزانة الأمیرکیة الاقتصاد النقدی القطاع المصرفی القطاع المالی تمویل الإرهاب مصرف لبنان بما فی ذلک فی لبنان من خلال

إقرأ أيضاً:

الحراك الطلابي الأميركي وتداعياته على القضية الفلسطينية

لم يكن السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023م يومًا عاديًا بالنسبة للقضية الفلسطينية وبالنسبة للعالم أجمع، فالمواجهة التي بدأت في ذلك اليوم لا تزال مستمرّة من حيث تداعياتها على الداخل الفلسطيني من جهة، وعلى منطقة الشرق الأوسط من جهة أخرى، حيث أعقبها الكثير من التأثيرات التي ستظلّ انعكاساتها كبيرة على مجمل القضية الفلسطينية بمختلف جوانبها مستقبلًا.

وبذات القدر من الأهمية شكّل السابع عشر من أبريل/نيسان 2024م علامة فارقة في تاريخ الاحتجاجات الطلابية بأميركا، وذلك عندما قامت مجموعة من الطلاب بجامعة كولومبيا بولاية نيويورك الأميركية بالتظاهر؛ احتجاجًا على المجازر الهمجية والتصفية المُمنهجة التي قامت بها إسرائيل ضد مواطني غزة.

إن الذي أعطى تلك الاحتجاجات ذلك الصدى هو أنها انطلقت من جامعة تصنف ضمن أبرز الجامعات على مستوى العالم، إضافة إلى أنّ معظم النخب التي لعبت ولا تزال تلعب أدوارًا مفصلية في تحديد الكثير من الأمور في ماضي ومستقبل الكوكب الذي نعيش فيه، قد تخرجت في هذه الجامعة العريقة.

كما أن جامعة كولومبيا تعتبر من بين أكثر الجامعات التي تربطها صلات وشراكات مع إسرائيل، وهناك برنامج للشهادات المزدوجة بين جامعتَي كولومبيا وجامعة تل أبيب، فضلًا عن وجود المركز العالمي بتل أبيب، وهو أحد فروع مراكز كولومبيا العالمية الموجهة لدعم عدد من البلدان لحل المشكلات ذات الطبيعة المعقدة التي تواجه تلك المجتمعات، وبالتالي يُنظر للحراك الطلابي الصادر من جامعة كولومبيا في هذا السياق.

وهي تعد جامعة رائدة ومؤثرة على صعيد مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية والعالم من واقع تأثير ما حدث في حرمها الجامعي على بقية الجامعات والكليات، حيث أقام مئات الطلاب مخيمات احتجاجية فيما لا يقلّ عن اثني عشر حرمًا جامعيًا آخر في جميع أنحاء أميركا؛ للاحتجاج على الانتهاكات الإسرائيلية ضد مواطني غزة.

الأمر الآخر الذي يُعطي حيويةً إضافيةً إلى هذا الحراك، هو أنّ أغلب المتحدثين باسم الطلاب من اليهود، بجانب أنّ عملية توفير الطعام للمتظاهرين كانت تتم بواسطة شريحة مقدرة من سكان مدينة نيويورك، مما يُضفي على هذا الحراك بُعدًا شعبيًا يتجاوز أسوار الحرم الجامعي.

مطالب الحراك

لقد كان المطلب الرئيسي لهؤلاء المتظاهرين هو وقف إطلاق النار في غزة، ووقف التعامل مع إسرائيل. وتتفاوت النظرة لمطالب وقف التعامل مع إسرائيل من جامعة لأخرى، بيد أنّها لا تخرج عن أربعة أشكال تصبّ محصلتها النهائية في دعم وقف العدوان على غزة، ومناصرة القضية الفلسطينية.

فهناك من طالب بالتوقف عن التعامل مع الشركات المصنعة للأسلحة العسكرية التي تزوّد إسرائيل بها، ومنهم من دعا لعدم قبول تمويل الأبحاث العلمية التي تساعد الجهود العسكرية، ومنهم من ناشد بوقف استثمار الأوقاف الجامعية مع مديري الأموال الذين يستفيدون من الشركات أو المقاولين الإسرائيليين، فضلًا عن شكل آخر ينادي بضرورة أن تكون هناك شفافية أكبر بشأن الأموال التي يتم تلقيها من إسرائيل، والأغراض التي تستخدم فيها.

ووَفقًا لقاعدة بيانات وزارة التعليم الأميركية Department of Education، فقد أبلغت حوالي 100 كلية أميركية عن هدايا أو عقود من إسرائيل بقيمة إجمالية تبلغ 375 مليون دولار على مدى العشرين سنة الماضية، والمفارقة العجيبة أنّ البيانات المتوفرة لا تُنبئ إلا عن القدر القليل فيما يخُصّ مصدر الأموال، أو كيفية استخدامها، فوَفقًا للمركز الوطني لإحصاءات التعليم The National Center for Education Statistics لعامي 2019م-2020م، فإنّ عدد الكليات الجامعية في الولايات المتحدة بلغ 3.982 جامعة.

وبالتالي عندما تتمّ مقارنة الكليات التي قدّمت تقارير لوزارة التعليم عن حجم الدعم المالي الذي تتلقّاه من إسرائيل، وتلك التي لم تقدّم تقارير عن ذلك، نجد أن الفجوة المعلوماتية كبيرة للغاية، وعليه فإنّ الافتراض بوجود ارتباطات أو عدمها بين تلك الكليات وإسرائيل، يظلّ كبيرًا، ويعكس حجمَ الفرص المتوفّرة لها لتطوير قطاع الصناعات الدفاعية بالتعاون مع المؤسّسات العلمية الأميركية، ومن ثم يعطي وجاهة لمطالب المتظاهرين ضد الحرب على غزة بضرورة قطع أيّة صلات لهذه الجامعات والكلّيات بإسرائيل.

خصوصية الحراك

من المعلوم أنّ الجامعات الأميركية قد شهدت موجة عارمة من الاحتجاجات في منتصف الستينيات من القرن العشرين؛ بسبب الحرب في فيتنام، حيث ترافقت حركة التذمّر ضد الحرب مع تصعيد الرئيس الأميركي ليندون جونسون من وتيرة العمليات العسكرية، وزيادة عدد القوات العسكرية المشاركة.

وقد تختلف التفسيرات الخاصة بدواعي تصاعد الحراك الطلابي المناهض للحرب ما بين العام والخاص، فالعام يتعلق برفض الانتهاكات التي رافقت الحرب بدرجة محدودة – حسب تقديري الشخصي – والخاص الذي يرتبط بمصالح شريحة عريضة من الطلاب الذين انتظموا في ذلك الحراك، هو عدم استعدادهم للانضمام للجيش، والمشاركة في الحرب، ضمن ما يُعرف بالخدمة العسكرية، وأنا أميل لترجيح كفة هذا الدافع على ما عداه من دوافع، من واقع استبسال المقاومة الفيتنامية في إلحاق الأذى البدنيّ المباشر بأفراد الجيش الأميركي.

وبالتالي كان الطلاب يرون في الذهاب والمشاركة الفعلية في الحرب أمرًا يحمل درجة عالية من الخطورة على حياتهم، وجاءت معارضتهم من ذلك الباب، بينما الحراك الطلابي الداعم لوقف الانتهاكات الموجهة ضد أهالي غزّة بشكل خاصّ والداعم للقضية الفلسطينية بشكل عام، ارتبط بشكل مباشر بعاملين اثنَين:

العامل الأول، يتعلق بالموقف الأخلاقي من الحرب، ورفض الإبادة الجماعية الممنهجة التي قامت بها إسرائيل والمدعومة من قبل الولايات المتحدة، وهذا فرق كبير للغاية من المنظور الإنساني والسياسي. فالحراك الطلابي المناصر لغزة نابع من وعي سياسي عميق وموقف أخلاقي يتجاوز دائرة المصلحة الشخصية، كما كان الحال في حرب فيتنام، مع الأخذ في الاعتبار الاختراق الكبيرالذي أحدثه هذا الحراك في فتح باب النقاش واسعًا – وبصورة لم يسبق لها مثيل – حول العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وجدوى هذا التحالف الذي ظلّ يُكلف دافع الضرائب الأميركي ما يقدر بـ 3.3 مليارات دولار سنويًا.

وقد بلغ حجم الدعم العسكري المقدم لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م تاريخ الحرب الدائرة في غزة، ما قيمته 12.5 مليار دولار. فالعلاقة مع إسرائيل ونقد سياستها ودور اللوبي الصهيوني، تُعد من الأمور المحرم نقاشها على أي مستوى من المستويات، وذلك لما لهذا اللوبي من سطوة كبيرة على مختلف هياكل السلطة وأبنيتها في نطاق النظام السياسي الأميركي.

العامل الثاني الأهم؛ هو أنّ نجاح الشعب الفلسطيني بشكل عام، وأهالي غزة بشكل خاص في الصمود أمام آلة القمع الإسرائيلية المدعومة بالقوة العظمى الأميركية – وعدم انكسارهم وإصرارهم على عدم مغادرة أراضيهم، رغم الكلفة البشرية العالية جدًا – سبب رئيسي في كسب تعاطف الطبقة المستنيرة داخل الولايات المتحدة الأميركية مُمثلة في طلاب الجامعات.

تمدّد هذا التعاطف والتفهم لعدالة قضية الشعب الفلسطيني بشكل لم يسبق له مثيل، وقد نجح المواطن الفلسطيني من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في مخاطبة الرأي العام العالمي بشكل عام، والرأي العام الأميركي المستنير بشكل خاص، وبصورة تجاوز فيها سطوة وسائل الإعلام التقليدية التي كانت تحتكر الرواية الخاصة بالقضية الفلسطينية بصورة ساهمت في عدم وصولها للشعوب الحرة التي تؤمن بحقوق الإنسان، والتي من بينها الحق في الحياة.

الدروس المستفادة

​رغم أنّ حجم الحراك الطلابي قد انخفض بشكل ملحوظ في الوقت الحالي؛ بسبب نهاية العام الدراسي الجامعي بالولايات المتحدة الأميركية، فإنّه حمل بين طياته مجموعة من الدروس المُستفادة والتي من بينها أنّه مهما كانت عدالة القضية المعنية – القضية الفلسطينية – وحجم الدعم الذي يُمكن أن تحظى به، يظل العامل الحاسم في استمرار التعاطف والتأييد مرتبطًا بمتغير مُستقل أوحد، وهو درجة صمود أصحاب القضية واستعدادهم للتضحية مهما كان حجمها؛ بُغية الوصول لأهدافهم العادلة. وبالتالي لم يكن مُمكنًا أن تحظى القضية الفلسطينية بهذا التأييد لولا صمود أهل غزة، والصورة النادرة التي قدموها للعالم.

الأمر الثاني هو أنّ الانتباه لقوة وسائل التواصل الاجتماعي والاستعانة بها في الوصول للرأي العام العالمي، من الأمور التي أسهمت بشكل إيجابي في شرح القضية الفلسطينية، وكسب المناصرة والتأييد لها.

ومن الدروس المُهمة التي أفرزتها تجربة الحراك أنّ البعد الإنساني والقيمي، يُعتبر من الأمور المُهمة التي تدفع شريحة مقدرة من الناس للتعاطف مع قضية ما – القضية الفلسطينية – بصورة تتجاوز حواجز الديانات والمعتقدات والجغرافيا، فأغلب المتظاهرين الذين خرجوا محتجّين على ما أفرزته الحرب الدائرة من انتهاكات موجهة ضد الفلسطينيين لم يكونوا مسلمين، وليست لهم أي ارتباطات مباشرة بمنطقة الشرق الأوسط، ولا يعرفون عنها إلا القليل.

التوقعات المستقبلية

إنّ مستوى الوعي الذي أفرزه الحراك الطلابي داخل الجامعات الأميركية سيشكّل نقطة انطلاق لتغيير الأسس التي يتم من خلالها النظر للسياسة الخارجية، وتحديد خياراتها بناءً على معيار المصلحة الملتزم بالأبعاد الأخلاقية، والخاسر الأكبر في هذا الصدد سيكون إسرائيل، وسيسهم ذلك في تعميق عزلتها، الأمر الذي سيصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية على المدى الطويل، بالنظر إلى أنه يمكن أن يُشكل هؤلاء المتظاهرون الطبقة السياسية الحاكمة في أميركا على المدى البعيد.

من جهة ثانية، ستنحسر سطوة اللوبي الصهيوني على مستوى السياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط إجمالًا، وإسرائيل على وجه الخصوص بتأثير حملة الوعي التي ابتدرَها طلاب الجامعات الأميركية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعيدًا عن سطوة وسائل الإعلام التقليدية المعروفة كالـ "CNN" و"FOX News"، وغيرهما.

ومن المتوقع أن تتصاعد فاعلية استغلال وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الفلسطينيين للوصول للرأي العام الأميركي بشكل منهجي سيأخذ في الحسبان التكوين النفسي والفكري والقيمي الذي ينطلق منه المواطن الأميركي؛ لضمان تأثير أكبر في شرح قضيتهم، فضلًا عن توقعات بنشر الوعي الإلكتروني المرتبط باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وسط الشعب الفلسطيني، الأمر الذي سيعقد من مسار وحركة قطار التطبيع في المنطقة، على خلفية الوعي المفترض تأسيسه وانتشاره.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • وزير خارجية إسرائيل يهدد إيران وحزب الله: سنتحرك بكل قوة
  • هل انتهت فرصة التسوية السياسية الأميركية بين إسرائيل وحزب الله؟
  • ماذا تعني إزالة تركيا من القائمة الرمادية لغسل الأموال؟
  • نيويورك تايمز: واشنطن تضغط لتجنب حرب أوسع بين إسرائيل وحزب الله
  • الحراك الطلابي الأميركي وتداعياته على القضية الفلسطينية
  • إزالة تركيا من القائمة الرمادية لغسل الأموال.. تفاصيل
  • إزالة تركيا من القائمة الرمادية لغسل الأموال.. ترحيب تركي بالقرار
  • احتمالات الحرب بين إسرائيل وحزب الله.. ماذا تتوقع دوائر الاستخبارات الأميركية؟
  • ماذا يعني رفع اسم تركيا من القائمة الرمادية؟
  • تركيا تخرج من القائمة الرمادية لغسل الأموال