الأوقاف الألفية.. وركائز الاستدامة..
تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT
أكثر من ألف وأربعمائة سنة مضت منذ انطلاق الشعاع الأول للحضارة الإسلامية من المدينة المنورة، تلك الحضارة التي سعت إلى تغيير منظومة الحياة التي كانت تعيشها البشرية قبل ظهور الإسلام، فأوجدت نظما مستندة إلى الوحي تعمل على رفع مكانة الإنسان وإيجاد الحياة الكريمة له.
ويمثل الوقف أحد النظم التي أوجدتها الحضارة الإسلامية، فقد تأسس أمام الحضرة النبوية في المدينة المنورة، وبتوجيه نبوي منه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فكان أن وَقَفَ كثير من ذوي اليسار والمال من أصحابه صلى الله عليه وسلم، فنما وتطور وفقا لاحتياجات المجتمع لا سيما الضرورية منها والتي كانت تمثل محفزات للابتكار في مجال الوقف وموجِّهات لتنوّعه، فعلى سبيل المثال: عندما بدأت هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة العاصمة الجديدة للدولة، ازداد عدد سكانها الأمر الذي أدى إلى حدوث ضغط شديد على الموارد المائية لاسيما أوقات الجفاف، فاستغل بعض ضعاف النفوس حاجة المسلمين إلى الماء، فأصبح يبيعه بأثمان غالية كبّدت كثيرا من الأسر المسلمة أعباء مالية كبيرة، أرهقت كاهلها، وأصبحت عاجزة حتى عن توفير قطرة الماء التي تروي الظمأ، وهنا يتدخل التوجيه النبوي ليجد حلا لهذه المشكلة، فكان الوقف الوسيلة الأمثل للحل، فتقدم حينئذ الصحابي الجليل ذو النورين عثمان بن عفان للمبادرة كعادته في الكرم والسخاء، فوقف بئر رومة، التي أصبحت علامة بارزة في التاريخ الحضاري الإسلامي، ورمزا للأوقاف التي يتعدى عمرها أكثر من ألف عام والتي يمكن تسميتها بـ(الأوقاف الألفية).
ليست بئر رومة هي الوقف الوحيد الذي تعدى عمره حاجز الألف عام في البلاد الإسلامية، فهنالك أوقاف أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر: أوقاف الجامع الأزهر بمصر والتي تعود بدايتها إلى مطلع القرن الخامس الهجري، كذلك أوقاف جامع القرويين في المغرب. وهنا في سلطنة عُمان وقف الإمام الوارث بن كعب الخروصي بولاية العوابي شامخا لأكثر من ألف ومائتي عام، فقد نشأ هذا الوقف إثر وصية أوصى بها الإمام الوارث بن كعب الخروصي المتوفى عام 192هـ/ 808م واستمر إلى اليوم محافظا على أصوله، وعلى توزيع عائداته وفق الوصية.
إن الحديث عن استمرار الأوقاف لأكثر من ألف عام مضت، واليقين باستمرارها لسنوات طويلة أخرى - وهو ما يعرف بـ(استدامة الأوقاف) -، يدعونا إلى النظر إلى طبيعة الركائز الأساسية التي استند إليها الوقف في تحقيقه لفكرة الاستدامة واقعا.
يبدأ الوقف بإقرار من المالك أنه قد وَقَفَ ماله أو جزءا منه على جهة خير؛ قُربة لله تعالى وطاعة له، وذلك يعني وقف التصرف في ملكية تلك الأصول، فتبقى محفوظة إلى ما شاء الله لجهة الخير المحددة تلك، على أن يتم الانتفاع بعائدها، وعلى هذا فإن بذرة استدامة العين الموقوفة وجهة البر الموقوف لها توضع في اليوم الأول لنشوء أي وقف، فالهدف من تأسيسه بقاء أصوله منتجة مستدامة إلى ما شاء الله لبقاء تلك الجهة وخدمتها، لكن هذا الأساس -على أهميته- لا يكفي وحده للاستدامة، وهذا يعنى وجود ركائز أخرى لاستدامتها.
الوقف كما -عرفنا سلفا- في جزء منه متمثل في كيان مادي هو عبارة عن أصول عينية من أموال وعقارات ونقد وغيرها، إلا أنه في جانب آخر منه يُعَدُّ منظومة مؤطرة بضوابط شرعية وقانونية تنظم العلاقة بين الأطراف التي لها علاقة بالوقف، فتحمي الأصول الموقوفة، وتضمن حقوق المنتفعين منه، وتُبَيِّن واجبات القائمين عليه، وتحافظ على حقوقهم، وفوق ذلك هناك هالة قدسية تحيط مال الوقف كونه خرج من ملكية الواقف إلى مال له بُعْده التعبدي المرتبط بالقداسة، كونه مالا وهبه صاحبه لله سبحانه وتعالى.
وتُعَدُّ هذه الأطر الشرعية والقانونية التي تنظم الوقف -بشكل عام- ركيزة أخرى من ركائز الاستدامة، وتتميز بأنها مرنة بما يتيح التجديد في الوقف وتطويره بما يتوافق مع معطيات الزمن، فتسمح بإضافة أصول جديدة للوقف، كما تسمح باستبدال الأصل الموقوف حال تحقق منفعة ذلك للوقف، وغير ذلك مما يأتي بالمنفعة للوقف، لكنها في الوقت ذاته حازمة عند وجود مهدد بتصفية الوقف أو استهداف أصوله.
أما الركيزة المهمة الأخرى والمحورية والأكثر فاعلية في مجال استدامة أموال الوقف، فهم القائمون على الوقف، أو الوكلاء أو النُّظَّار، فعلى عاتق هؤلاء تقع مسؤولية إدارة أموال الوقف، وأمانة الحفاظ عليها، والالتزام بأداء حقوقها، والعمل على تطويرها، والسعي لتثمير أموالها، فهم الحلقة الأقرب للوقف، وعلى سلامة ممارساتهم الإدارية يعتمد النجاح في تحقيق الاستدامة.
نخلص مما سبق إلى أن عنصر الاستدامة هو أساس فكرة الوقف والمحور الذي تدور عليه العملية الوقفية بأسرها، وعلى ذلك يمكن القول إن الأصل في أموال الوقف هو البقاء والاستدامة إلى ما شاء الله، وأن انتهاءها إن حدث فهو أمر طارئ يستدعي البحث عن أسس المشكلة، وعلاجها بالاستناد إلى الأُطر المنظمة للوقف، وتجنب تكرارها مستقبلا.
د. خالد بن محمد الرحبي: باحث في التاريخ الحضاري العُماني عموما، والوقف على وجه الخصوص.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خروج الدابة التي تكلم الناس.. تعرف على هيئة إحدى علامات الساعة الكبرى
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء الأزهر الشريف، إن خروج الدابة التي تكلم الناس هي إحدى علامات الساعة الكبرى وأمارة من أمارات يوم القيامة منوها أن الدابة في اللغة كل ما يدب على الأرض، ولقد اقتصر استعمالها على الحيوانات.
وقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى خروج الدابة في كتابه فقال: (وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ) [النمل :82].
وذكر علي جمعة، أن خروجها علامة خطيرة، وذلك لانغلاق باب قبول التوبة والإيمان بظهورها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ﷺ حيث قال : (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا، طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) [رواه مسلم].
هيئة الدابةوأوضح علي جمعة، انه رغم أن الحديث عن هيئة ليس من أساس الاعتقاد في باب الإيمان بالغيب أو علامات الساعة، إلا أننا نذكره لتميم الفائدة، فقد اختلف العلماء في هيئة الدابة، وذهبوا إلى عدة أقوال:
القول الأول : أنها فصيل ناقة صالح، قال القرطبي : (أولى الأقوال أنها فصيل ناقة صالح وهو أصحها، والله أعلم) ، واستدل بحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال : ذكر رسول الله ﷺ الدابة فقال : «لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمنا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية، يعني مكة، قال رسول الله ﷺ : " ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض رأسها عن التراب فتركض الناس منها شتى ومعا، وتثبت عصابة من المؤمنين عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فبدأت بهم، فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه، فتقول : يا فلان : الآن تصلي !؟ فتقبل عليه فتسمه في وجهه، ثم ينطلق ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن يقول يا كافر أقضني حقي وحتى إن الكافر يقول يا مؤمن أقضني حقي» [رواه الطيالسي في مسنده]
وفي الحديث أنها ترغو، والرغاء للإبل. قال القرطبي: «وقد قيل إن الدابة التي تخرج هي الفصيل الذي كان لناقة صالح عليه السلام، فلما قتلت الناقة هرب الفصيل بنفسه فانفتح له الحجر فدخل فيه ثم انطبق عليه، فهو فيه إلى وقت خروجه، حتى يخرج بإذن الله تعالى» [التذكرة].
القول الثاني : أنها دابة جمعت من خلق كل حيوان.
القول الثالث : أنها إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم حتى يتبين الصادق من الكاذب فيحيا من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وهو قول بعيد ليس عليه دليل، بل جاءت الأدلة بخلافه.
القول الرابع : أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة.
القول الخامس : أنها دابة مزغبة شعراء ذات قوائم، طولها ستون ذراعا، ويقال : إنها الجساسة المذكورة في حديث تميم الداري رضي الله عنه والذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وسميت بالجساسة ؛ لأنها تجس الأخبار للدجال.