بينما كنتُ أقضي عطلة نهاية الأسبوع الماضي في منزل عائلتي، كان أبي وكعادته يتنقل بين قنوات اليوتيوب المستقلة التي بات يفضلها على قنوات التلفزيون الرسمية والتي تعلق على مستجدات الجريمة التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي المحتل في غزة وكل فلسطين. إحدى هذه القنوات هي قناة «النبراس» في برنامجها «ما قل ودل» للمحلل السياسي: علي المعشني.
ينبغي في البداية أن نفكر في التفكير المؤامراتي على طريقة رودي رايشطات في كتابه «بحث في المسألة المؤامراتية» باعتبارها نظرية المؤامرة تعبيرًا عن التمرد في الطريق نحو تحقيق مشروع تحرري قوامه الاستقلالية الفكرية، أو الكفاح المشوش ضد الظلم، ولا ترى أن من يفكرون بهذه الطريقة التي تعتمد على الملكات النقدية فحسب بلداء بالضرورة كما يُعرف عنهم عادة، بل قد يكونون من ألمع العقول. وأستطيع أن أفهم منطلقات المعشني وغيره من العرب الذين يعون خطورة المشاريع «الإمبريالية» التي نالت من العرب ومن حريتهم وكرامتهم وقدرتهم على تحقيق المصير، في سبيل السيطرة على ثرواتهم على اختلافها، أو تحقيق مصالح جيوسياسية تتفق مع أجندة الغرب. الأمر الذي لم يوقع العرب في نوع من التفكير المؤامراتي فحسب، بل جعلهم في كثير من الأوقات يقفون في صف المستبد والظالم والديكتاتور على اعتبار أن الثورة على نظام عربي ما هي إلا جزء من مخطط للإطاحة بالأنظمة المعارضة لأمريكا أو غيرها من الأطراف التي لديها مصلحة في هذا النوع من التخريب.
ما يقدمه التفكير المؤامراتي خلق حاجز يعمل على حماية الناس من الواقع عبر خلق واقع بديل أكثر إغراء وذلك للهروب من «وضعية يصعب تحملها». وتعد المؤامرة أداة خطابية يتم استخدامها في الصراعات السياسية وغالبًا ما تسود في المجتمعات التي ترزح تحت الأنظمة السياسية القهرية، كل هذا يتفق وبطبيعة الحال مع المناخ السياسي الذي يرزح العرب تحت وطأته كيف لا ونحن نرى أن الإبادة أمام أعين العالم كله دون أن تتحرك أي قوة سياسية لإيقافها.
يقدم رايشطات بورتريها لمن يفكر بطريقة مؤامراتية في تحليله لما يجري من حوله، فهو متغطرس على سبيل المثال، ولقد لاحظتُ ذلك في طريقة المعشني، فهو يقدم المعلومات بوثوقية عالية، بل ويلوم من يتابعه على عدم الإحاطة ببعض مما يقول، ويلقي بالتوجيهات المتعلقة بمصداقية مصادره، عبر الإحالة المستمرة لظرف تاريخي معين أو معالجة سياسية بعينها ويضمر عدم القدرة على الاستطراد كثيرًا، إذ إن ما يقوله «بديهي، ومتفق عليه، ولا يمكن التشكيك فيه من قبل عاقل» وهذه الوثوقية لا أستطيع النظر إليها إلا كأداة سلطوية، تتمكن فعلًا من التأثير على المتلقي خصوصًا إذا ما قيلت بنبرة الاستخفاف التي تتملك المعشني أثناء حديثه لمشاهديه أو إذا ما قدمت عبر مسار حجاجي استفهامي. رايشطات يكتب «معتنق نظرية المؤامرة واثق من نفسه عموما بل ويغالي في تقييم قدراته». ومهمة هذا الشخص هو فضح النظام، والإقرار بوجود واقع أكثر واقعية يختفي وراء الأشياء التي يراها العامة ولا يتمكنون من إدراكها، وهم من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم شهداء للحرية على طريقة غاليليو غاليلي «إنهم يتجاهلونك في البداية، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، وفي النهاية تنتصر» وهكذا تصبح أي محاولة لانتقادهم هي جزء من المؤامرة نفسها التي تفرضها المنظومة التي ينتقدونها وذلك بهدف إسكاتهم. يتصرف متبني التفكير المؤامراتي علي الدوام بحسب رايشطات وكأنه يواجه منعطفًا تاريخيًا كبيرًا بينما يمتلك الفرصة الأخيرة لمواجهة ما يحدث. كما يميل هذا التفكير للتشكيك في البديهيات المتفق عليها، والتي تجعلنا نقع في حيرة فكرية لا تعدو كونها نفيًا للعقل بحسب لوران ساغالوفيتش والتي يصفها سانتياغو ألبا ريكو في «الإنكارية والديمقراطية» بعدم الإيمان بموضوعية المعارف الجمعية. أو تقويض فكرة حنة آرندت التي تقول بأن «العالم مشترك» وبهذا فإن ما يفعله التفكير المؤامراتي هو بذر الشكوك تحت ستار مشروع نقدي تحرري. وليس من المهم أن يصبح لديك حقيقة بديلة بعد تعرضك لهذا النوع من التفكير، بل في اليقين بأن هنالك من يكذب عليك.
كيف يفعل التفكير المؤامرتي ذلك؟ يستغل المناطق المعتمة في أي حادثة، ولا يؤمن بالصدف على الإطلاق، وتمثل تلك المناطق المعتمة بحسب رايشطات الشقوق في صخرة الرواية الرسمية. ولنلاحظ الآن، أن التفكير المؤامراتي شبكي ومعقد، فكل من يفكر بالمؤامرة يعتمد على مرجع آخر يفكر في العالم بوصفه مؤامرة أيضًا. ويمكننا ملاحظة كيف أن هذا النوع من التفكير يحمل في سلته ثمارًا متشابهة عادة. فصدام حسين كان الزعيم العربي الوحيد القادر على مواجهة إسرائيل، والذي نال العراقيون في حكمه أهم تعليم عال وحياة ثقافية في المنطقة كلها بل وازدهارًا اقتصاديًا، وما الحديث عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد مثلًا أو اغتيال المعارضين سوى ضرب من الوهم، أو في أحسن أحوال التفكير المؤامراتي: ضريبة لابد منها من أجل مشروع وطني سيفيد الأمة. ولا شك بأن الغزو الصدامي على الكويت مثلًا لم يكن إلا نتيجة حتمية للطريقة التي رضخ فيها الخليجيون والكويتيون تحديدًا لمطالب الغرب حول أسعار النفط التي كان النظام العراقي في حاجة للسيطرة عليها بعد الحرب الإيرانية العراقية التي كلفته الكثير. وأنفسهم هؤلاء من يفكرون حول العراق بهذه الطريقة، لديهم مواقف مماثلة حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أو ثورات الربيع العربي. ويستخدمون واقع الدول العربية الذي ساء خلال العقد الأخير لتسويغ أفكارهم. وهم أنفسهم أيضًا من يفكرون في المحرقة ضد اليهود كوهم مردود عليه. ينبغي أن نلاحظ هنا أن كل تفكير مؤامراتي ينطوي على بعض الحقائق ويكرسها بالفعل، فإسرائيل على سبيل المثال استخدمت الهولوكوست بالفعل لتسويغ مشروعها الاستيطاني. وهذه فكرة توصلت إليها كل الأدبيات التي قاربت موضوع المؤامرة. فآلبا ريكو يذهب إلى «كل بناء مؤامراتي يحوي بدوره لبنة أو لبنتين من الحقيقة». ولأنه كما تمت الإشارة لسياسية التفكير المؤامراتي فينبغي أن يكون رد فعلنا سياسيًا أيضًا تجاه هذا الخطاب. علينا أن نسأل بمن نثق وأن نفكر في جدوى «الإنكار» وفقًا لآلبا ريكو فهو قادر على تغذية الحركات والأحزاب الفاشية واليمين الشعبوي في العالم كله، ويعود البا ريكو للفيلسوفة الإيطالية دوناتيلا دي تشيزاري المتخصصة بالهولوكوست ليقول لنا كيف أن الإنكار هو رد فعل دفاعي تجاه الصدمات العنيفة، ويرجى منها إنتاج أشكال بديلة من التضامن الاجتماعي.
ومن هذا كله فإن إنكار الشهادات التي قدمت من قبل الناجين من المحرقة مثلًا أو حتي من عملوا في نظام هتلر النازي نفسه، وتجاهل التاريخ يعني بالضرورة فرصة لتجاهل ما حدث في نكبة ١٩٤٨ فما الذي يجعل شهاداتنا مختلفة؟ وبالتالي فإننا لا نسعى لخلق عالم مشترك تسوده قيم التسامح والحرية والعدالة للجميع. وبدلًا من محاربة استغلال إسرائيل لليهود ومآساتهم، ندخل في حيز التشكيك في مأساة اليهود أنفسهم الأمر الذي سينتج نكوصًا جماعيًا بغرض حماية النفس من الآخر. ألا تبدو لكم حلقة مفرغة؟
أمل السعيدية كاتبة وقاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من التفکیر
إقرأ أيضاً:
صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة ضمن برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة
المناطق_واس
صدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة، يتم استضافتهم على 4 مجموعات خلال العام 1446هـ، ضمن برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة الذي تنفذه وتشرف عليه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد.
وبهذه المناسبة رفع معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد المشرف العام على برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، الشكر الجزيل والتقدير لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله – على حرصهما وعنايتهما الكريمة والمباشرة على تمكين المسلمين من مختلف دول العالم أداء شعائر الإسلام بكل يسر وطمأنينة على نفقتهم الخاصة، لافتًا إلى أن هذه الاستضافة تأتي امتدادًا للعناية الكبيرة من قبل القيادة الرشيدة في كل ما يخدم الإسلام والمسلمين ويعزز أواصر الأخوة بين المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وينمي التواصل المثمر مع الفاعلين من النخب الإسلامية والعلماء والمشايخ، والشخصيات المؤثرة في العالم الذين يتم استضافتهم ضمن البرنامج.
ونوه أن البرنامج وعبر مسيرته المستمرة شمل مختلف قارات العالم، حيث بلغ عدد الدول المستفيدة منه منذ انطلاقته وحتى هذا العام أكثر من 140 دولة حول العالم تم تقديم الخدمات لهم وفق منظومة متكاملة منذ مغادرتهم بلادهم وحتى عودتهم سالمين غانمين بإذن الله تعالى.
وأشار معاليه إلى أن الوزارة منذ صدور الأمر السامي الكريم سخرت كل طاقاتها لتنفيذه وفق أعلى معايير الدقة والجودة، كما تعمل اللجان العاملة بأمانة ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين لإعداد البرنامج المخصص للاستضافة والذي يمكّن الضيوف من أداء مناسك العمرة وزيارة عدد من المعالم التاريخية بمكة المكرمة والمدينة المنورة والالتقاء بالعلماء وأئمة الحرمين الشريفين.
وأثنى الدكتور آل الشيخ في ختام تصريحه على الدعم الكبير والمتواصل الذي تلقاه وزارة الشؤون الإسلامية للقيام بواجبها وتحقيق رسالتها لخدمة الإسلام والمسلمين ونشر قيم ومبادئ الدين الإسلامي والتصدي للكراهية والغلو والتطرف بما يحقق المبادئ النبيلة التي يوجه بها ويسعى لها خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين – رعاهما الله ـ سائلاً الله تعالى أن يجزي خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين خير الجزاء على ما قدموه ويقدمونه من خدمات عظيمة للإسلام والمسلمين، وأن يديم على هذه البلاد نعمة الأمن والاستقرار، وأن يتقبل من المعتمرين عمرتهم، وأن يردهم إلى بلادهم سالمين غانمين.