لجريدة عمان:
2024-12-19@15:13:36 GMT

«لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال»

تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT

إذ كان الأمرُ كذلك، فما أوفر المُختالين من القُصّاص والقصّاصين، فنظرا إلى أنّه من العسير إيجاد قاصّ أمير أو مأمور بإتيان القصص من قِبَل آمرٍ، فإنّ أغلب القُصّاص واقعون في دائرة الاختيال، والاختيالُ كما تُجمع المعاجم على حدّه هو التكبُّر والتبختر والزهوّ والتيه والذهاب بالنفس مذهب العلوّ والرفعة، «إن اللّه لا يُحبّ كلّ مختال فخور».

لقد عنيتُ توظيف حديث أُخرِج عن سياقه الشرعيّ في وسْم القُصّاص وتحديد منازلهم حتّى أعرض لظاهرة القُصّاص والحكّائين، لا للقصّة والحكاية في حدّ ذاتها. قلتُ إنّ الحديث خارجٌ عن سياقه وعن مقامه التاريخيّ لعلّة في نفسي أُبْديها، فأمّا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو الحديث الذي رواه عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقصّ إلا أمير أو مأمور أو مختال»، والذي وظّفه الفقهاء في لاحق الزمان لمنْع ظاهرة انتشار القُصّاص في العصر العبّاسي، وللوقوف ضدّهم، وفق سياقٍ كان فيه القصص عالقا بالتأريخ وبصدق الحكاية، صدورا عن قصص أصليّ مطلق الصدق وهو القصص القرآنيّ، الذي لا ينبغي أن يُجانَب بقَصص آخر، ويجب أن يبقى هو الصورة الوحيدة الحاملة للصدق والحق. أمّا في زماننا، فإنّ للقصّة مفهوما مختلفا، فهي التخييل، وهي الممكن، وهي الحكيُ الخارج عن مطابقة الواقع، الصادر بالضرورة عن واقع. القُصّاص في زماننا ليسوا القُصّاص في زمنٍ كان، وأدوارهم بالضرورة اختلفت، ولكن ممّا لا ريب فيه أنّ صلةً جامعة بين اختال واختلّ، وبين المختال والمختلّ، هي صلة صوتية في الدلالة المعجميّة وهي صلة نفسيّة تأويليّة في الدلالة السياقية المقامية. عندما عدت إلى لسان العرب باحثا عن معنى الختل فوجدته «الخداع عن غفلةٍ»، معانٍ تتراكم قد تُبْعدنا عن مقصود المعنى، فيكفينا من القاصّ ختلا معنيين، التباهي والجنون، فأمّا التباهي فإنّ «عُقدة الأدب» تصنع في العادة شخصيّة متعالية، متباهية بنبوّتها، وبيقينها امتلاك بصيرة ورؤية، وهي الصفة الأدبيّة التي شفّ عنها المتنبي في مقام مغاير عندما قال: «أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي/ أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي/ وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـ/ لاهُ وَما لَم يَخلُقِ/ مُحتَقَرٌ في هِمَّتي/ كَشَعرَةٍ في مَفرِقي»، وأمّا الجنون فهو بابٌ من أبوابٍ قليلة يتأطّر فيها عامّة الداخل في عالم الأدب في هيْأته وفي حركته وفي كلامه، وفي تمثّل المجتمع له. عودا إلى أصل الموضوع، إنّ صورة القصّاص في عالمنا العربيّ جامعة بين «الرجم بالغيب»، فهو مالك عالم الأحلام، ومهندسُ عوالم الخيال، له القُدرة على صياغة عوالم ممكنة، لم تُوجَد على وجه الإحالة والإرجاع، ولكن قد تُوجَد على وجه الإمكان، في ما ينعته الفلاسفة بالوجود بالقوّة مقابلا للوجود بالفعل، فعالم القصّاص هو عالم الوجود بالقوّة، عالمٌ افتراضيّ، يقيم فيه ممالك، ويُسْقِط ملوكا وشعوبا وحضارات، يُحيي شخصيّات ويُميتهم، يبني دورا ويهدمها، عالم ممكن باللّغة يُصنَعُ وبالخيال تُقَام عناصره وبالقصص يكون جوهره. ينبغي أن يكون القاصّ مختلاّ ومختالا، إذ يعجز أن يكون آمرا أو مأمورا، فلا صاحبَ أمرٍ له فراغٌ للخيال والقصص، ولا يقبل القاصّ عموما أن يكون مأمورا، فوجب أن يكون مختالا ومختلاّ، يجب أن يفقد عقله الواعي المُدرِك، العقل المنطقي، ليُعْمل العقل السرديّ، عقل المتخيّل الذي يشدّ إليه النافر من عالم اليقين، الهارب إلى عالم الظنّ والتأويل، فهل الذي بنى «مُدن الملح» في القصص قبل أن تُبْنى في واقع الحياة هو شخص غير مختل وغير مختال؟ ينبغي أن يكون منيف مزهوّا نافرا ريشه بالعالم الذي بناه، بالمدن الملحيّة التي أقامها، ولو لم يكن له عقلٌ مختلّ، لا ينظر إلى الأشياء كما ينظر إليها عامّة النّاس، لما استطاع أن يدخل سرد العوالم الممكنة، ولبقي في السرد الحرفيّ الذي يدخل فيه الشقّ الأوفر من قصّاصي اليوم، الساردون في زماننا هو -في أغلبهم- لا يرتقون لمنزلة قصّاص القرية، أو حكّاء السمر، فهم يعيدون إنتاج الواقع رصدا وتتبّعا. القاصّ الحقّ هو ليس محضَ راوٍ يعيد إنتاج الحكايات أو يتلقّف القصص ليكتبها بلغة يُبدي فيها تيهه اللّغوي والبلاغي، القاصّ الحقّ هو متبصّر، له رؤية خارقة، مختلٌّ في حسبان ميزان العقل، كما اتّهم غاليلي بالاختلال، وكما اتّهم نيوتن بالاختلال، القاصّ في جوهره لا يخرج عن هذه الدائرة التي يُنْكَر فيها المرء بسبب أفكاره أو قصصه أو علمه، يجب أن يتوقّف هذا السيل السرديّ القصصيّ اليوميّ ليترك المجال لأصوات قد نتوه عن عمقها، وهي تُبدي رؤيتها القصصية للكون، وهي تحكي المُقبل، وتحكي الحالّ بعينٍ لا يمتلكها عامّة النّاس.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن یکون

إقرأ أيضاً:

بعد 100 يوم عاش فيها تحت الماء ..عالم يكشف أسرار التحول في جسده

كشف عالم أمريكي عن التأثيرات غير المتوقعة التي تعرض لها جسده بعد خوضه تجربة العيش تحت الماء لمدة 100 يوم. 

وكان الدكتور جو ديتيوري، أستاذ في جامعة جنوب فلوريدا، قرر أن يصبح جزءاً من تجربة علمية لفهم كيف يؤثر العيش تحت الماء على جسم الإنسان. 

وقد أُجريت هذه التجربة في بيئة تعتبر مشابهة للظروف التي يواجهها رواد الفضاء خلال السفر الطويل.

وبحسب صحيفة “اندبيدنت” البريطانية، بدأ ديتيوري، المعروف أيضاً بلقب "الدكتور أعماق البحر"،  في 1 مارس 2023 تحدي "نبتون 100"، حيث عاش في قاع البحر في غرفة داخل محطة تحت الماء في "جولز أندر سي لودج" في كي لارجو بفلوريدا لمدة 100 يوم. وكانت الغرفة التي تبلغ مساحتها 100 قدم مربع تقع على عمق 30 قدماً تحت سطح الماء، وكان من الضروري أن يغوص في البحر للوصول إليها.

وصرحت الجهات المنظمة للتجربة في ذلك الوقت: "جزء من التجربة يشمل مراقبة تأثيرات البيئة المعزولة على الجسم، من خلال متابعة طبيب نفسي وطبيب نفسيّ، حيث تُعتبر هذه البيئة مشابهة للظروف التي قد يواجهها رواد الفضاء في رحلاتهم الطويلة. هذه بيئة شديدة الانعزال، وبالنسبة لنا كالبشر، من الضروري أن نفهم كيف يمكننا العيش في مثل هذه الظروف إذا كنا نريد توسيع نطاق حياتنا خارج كوكب الأرض أو السفر بين الكواكب أو إيجاد الحلول للأمراض التي نحتاج إلى علاجها".

ووفقاً للدكتور ديتيوري، فقد كانت لتجربة العيش تحت الماء تأثيرات مذهلة على جسمه. يُعتقد أن جسده أصبح بيولوجياً أصغر سناً، حيث لاحظ زيادة في طول التيلوميرات – وهي هيكل على الكروموسومات يُربط أحياناً بطول العمر. وقال في حديثه لبرنامج WKMG News: "عمري الآن 56 عامًا. وكان عمري البيولوجي في البداية 44 عامًا. وعندما خرجت من الماء، أصبح عمري البيولوجي 34 عامًا. أي أن التيلوميرات قد طالت، وأصبحت أصغر سناً تحت الماء."

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت فحوصات الدم انخفاضًا بنسبة 50% في جميع مؤشرات الالتهاب.

https://www.tiktok.com/@drjosephdituri/video/7343678584554392874?is_from_webapp=1&sender_device=pc&web_id=7402724574704338437تأثيرات سلبية على الجسم

ورغم الفوائد الصحية التي شعر بها، إلا أن التجربة لم تخلُ من بعض الآثار السلبية. فقد أشار الدكتور ديتيوري إلى أنه أصبح أقصر قليلاً بعد فترة العيش تحت الماء. وقال في فيديو نشره على تيك توك: "في مهمتنا تحت الماء لمدة 100 يوم، مررنا بالكثير من الأشياء الجيدة، ولكن أحد الأشياء السيئة كان أنني أصبحت أقصر بمقدار ثلاثة أرباع بوصة".

وأوضح أن "الغطس تحت الماء يتسبب في تعرض الجسم لضغط شديد، حيث يعاني "الأكواناوت" من ضغط يزيد حتى سبع مرات عن الضغط الذي نواجهه على سطح الأرض، مما يؤدي إلى تقلص الجسم بشكل مؤقت". ومع ذلك، أكد أن طوله عاد إلى طبيعته بعد عودته إلى سطح الأرض.

مقالات مشابهة

  • غوتيريش: يجب أن يكون الانتقال في سوريا شاملاً وموثوقاً وسلمياً
  • هنري حلو: الأهمّ ألاّ يكون الرئيس المقبل ميشال عون تاني
  • الشعور بالبرد أكثر من المعتاد؟.. قد يكون السبب نقص هذا الفيتامين
  • حركة محدودة لمأموري الأقسام والمراكز بالقليوبية
  • هل يمكن لـ Search GPT أن يكون بديلا لجوجل؟
  • حبس البول قد يكون له مخاطر صحية خطيرة.. ما هي؟
  • البرنامج الثقافي يصافح جمهوره بـ”مستقبل القصص المصورة والكتابة الصحفية وجماليات الكتاب الورقي”
  • أمير منطقة تبوك يستقبل المواطن عبداللطيف العطوي الذي تنازل عن قاتل ابنه لوجه الله تعالى
  • بعد 100 يوم عاش فيها تحت الماء ..عالم يكشف أسرار التحول في جسده
  • "المانجا بين الكلمة والصورة" ومستقبل القصص المصورة بمعرض جدة للكتاب