لجريدة عمان:
2024-11-19@00:34:43 GMT

«لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال»

تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT

إذ كان الأمرُ كذلك، فما أوفر المُختالين من القُصّاص والقصّاصين، فنظرا إلى أنّه من العسير إيجاد قاصّ أمير أو مأمور بإتيان القصص من قِبَل آمرٍ، فإنّ أغلب القُصّاص واقعون في دائرة الاختيال، والاختيالُ كما تُجمع المعاجم على حدّه هو التكبُّر والتبختر والزهوّ والتيه والذهاب بالنفس مذهب العلوّ والرفعة، «إن اللّه لا يُحبّ كلّ مختال فخور».

لقد عنيتُ توظيف حديث أُخرِج عن سياقه الشرعيّ في وسْم القُصّاص وتحديد منازلهم حتّى أعرض لظاهرة القُصّاص والحكّائين، لا للقصّة والحكاية في حدّ ذاتها. قلتُ إنّ الحديث خارجٌ عن سياقه وعن مقامه التاريخيّ لعلّة في نفسي أُبْديها، فأمّا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو الحديث الذي رواه عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقصّ إلا أمير أو مأمور أو مختال»، والذي وظّفه الفقهاء في لاحق الزمان لمنْع ظاهرة انتشار القُصّاص في العصر العبّاسي، وللوقوف ضدّهم، وفق سياقٍ كان فيه القصص عالقا بالتأريخ وبصدق الحكاية، صدورا عن قصص أصليّ مطلق الصدق وهو القصص القرآنيّ، الذي لا ينبغي أن يُجانَب بقَصص آخر، ويجب أن يبقى هو الصورة الوحيدة الحاملة للصدق والحق. أمّا في زماننا، فإنّ للقصّة مفهوما مختلفا، فهي التخييل، وهي الممكن، وهي الحكيُ الخارج عن مطابقة الواقع، الصادر بالضرورة عن واقع. القُصّاص في زماننا ليسوا القُصّاص في زمنٍ كان، وأدوارهم بالضرورة اختلفت، ولكن ممّا لا ريب فيه أنّ صلةً جامعة بين اختال واختلّ، وبين المختال والمختلّ، هي صلة صوتية في الدلالة المعجميّة وهي صلة نفسيّة تأويليّة في الدلالة السياقية المقامية. عندما عدت إلى لسان العرب باحثا عن معنى الختل فوجدته «الخداع عن غفلةٍ»، معانٍ تتراكم قد تُبْعدنا عن مقصود المعنى، فيكفينا من القاصّ ختلا معنيين، التباهي والجنون، فأمّا التباهي فإنّ «عُقدة الأدب» تصنع في العادة شخصيّة متعالية، متباهية بنبوّتها، وبيقينها امتلاك بصيرة ورؤية، وهي الصفة الأدبيّة التي شفّ عنها المتنبي في مقام مغاير عندما قال: «أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي/ أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي/ وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـ/ لاهُ وَما لَم يَخلُقِ/ مُحتَقَرٌ في هِمَّتي/ كَشَعرَةٍ في مَفرِقي»، وأمّا الجنون فهو بابٌ من أبوابٍ قليلة يتأطّر فيها عامّة الداخل في عالم الأدب في هيْأته وفي حركته وفي كلامه، وفي تمثّل المجتمع له. عودا إلى أصل الموضوع، إنّ صورة القصّاص في عالمنا العربيّ جامعة بين «الرجم بالغيب»، فهو مالك عالم الأحلام، ومهندسُ عوالم الخيال، له القُدرة على صياغة عوالم ممكنة، لم تُوجَد على وجه الإحالة والإرجاع، ولكن قد تُوجَد على وجه الإمكان، في ما ينعته الفلاسفة بالوجود بالقوّة مقابلا للوجود بالفعل، فعالم القصّاص هو عالم الوجود بالقوّة، عالمٌ افتراضيّ، يقيم فيه ممالك، ويُسْقِط ملوكا وشعوبا وحضارات، يُحيي شخصيّات ويُميتهم، يبني دورا ويهدمها، عالم ممكن باللّغة يُصنَعُ وبالخيال تُقَام عناصره وبالقصص يكون جوهره. ينبغي أن يكون القاصّ مختلاّ ومختالا، إذ يعجز أن يكون آمرا أو مأمورا، فلا صاحبَ أمرٍ له فراغٌ للخيال والقصص، ولا يقبل القاصّ عموما أن يكون مأمورا، فوجب أن يكون مختالا ومختلاّ، يجب أن يفقد عقله الواعي المُدرِك، العقل المنطقي، ليُعْمل العقل السرديّ، عقل المتخيّل الذي يشدّ إليه النافر من عالم اليقين، الهارب إلى عالم الظنّ والتأويل، فهل الذي بنى «مُدن الملح» في القصص قبل أن تُبْنى في واقع الحياة هو شخص غير مختل وغير مختال؟ ينبغي أن يكون منيف مزهوّا نافرا ريشه بالعالم الذي بناه، بالمدن الملحيّة التي أقامها، ولو لم يكن له عقلٌ مختلّ، لا ينظر إلى الأشياء كما ينظر إليها عامّة النّاس، لما استطاع أن يدخل سرد العوالم الممكنة، ولبقي في السرد الحرفيّ الذي يدخل فيه الشقّ الأوفر من قصّاصي اليوم، الساردون في زماننا هو -في أغلبهم- لا يرتقون لمنزلة قصّاص القرية، أو حكّاء السمر، فهم يعيدون إنتاج الواقع رصدا وتتبّعا. القاصّ الحقّ هو ليس محضَ راوٍ يعيد إنتاج الحكايات أو يتلقّف القصص ليكتبها بلغة يُبدي فيها تيهه اللّغوي والبلاغي، القاصّ الحقّ هو متبصّر، له رؤية خارقة، مختلٌّ في حسبان ميزان العقل، كما اتّهم غاليلي بالاختلال، وكما اتّهم نيوتن بالاختلال، القاصّ في جوهره لا يخرج عن هذه الدائرة التي يُنْكَر فيها المرء بسبب أفكاره أو قصصه أو علمه، يجب أن يتوقّف هذا السيل السرديّ القصصيّ اليوميّ ليترك المجال لأصوات قد نتوه عن عمقها، وهي تُبدي رؤيتها القصصية للكون، وهي تحكي المُقبل، وتحكي الحالّ بعينٍ لا يمتلكها عامّة النّاس.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن یکون

إقرأ أيضاً:

عوض أن يكون ملهمي.. زوجي يزدريني ويحطّم كياني

سيدتي، إنتفضت اليوم وأنا أطرق أبواب صرحك المنيع المتمثل في ركن أدم وحواء علني أنفرد برد منك يلملم أشلائي المبعثرة.

فأنا إنسانة مجروحة إلى أقصى درجة على يد زوجي ورفيق دربي وما قلبي الحائر الذي لجأ إليك اليوم إلا وهو إنعكاس لثقتي الكبيرة في منبرك سيدتي فلا تبخلي عليّ رجاءا.

سيدتي، بعد زيجة إلتمست منها الكثير من المودة والرحمة وجدت أن أحلامي البسيطة تهاوت وقد أفل وهج قلبي في عد جميل وواعد. فعوض أن يكون نصفي الثاني وعزائي وجدت أن زوجي تحول إلى جلاد هوى عليّ بسوط الأسى والتجاهل. زوج مارس ضدي كل أنواع الإذلال والهوان.

لا أخفيك سيدتي أن أهلي اشاروا عليّ بعدم الإرتباط بمن هوى بقلبي إلى اسفل سافلين، قهر وإنتقاص من القيمة دفعني اليوم أنني أعض نواجدي ندما. لكنني إتبعت صدى قلب محب عاشق فوجدت نفسي وقد سقت لها الهوان والذل بطريقة لم أتوقعها.

زوج يزدريني أمام أهله وينعتني بأبشع الصفاتـ ، رفيق درب يخجل بي ولا يفوت فرصة حتى يجعلني أمام معارفه ناقصة بالرغم من أنني أشغل  منصبا مرموقا وبالرغم من أنني أنا من يكابد أكبر جزء من مسؤولية البيت. لست أقبل لنفسي أن أخسر زوجي بسبب طباعه الحادة، إلا أنني لست أرضى الذل والهوان الذي أكثر ما يجعلني أحسه بإنهيار أحلامي وإخفاقي في إختيار الشريك الذي لهث ورائي حتى أقبل به  .

لا أريد أن أبقى على هذا الحال، ولا أبتغي لأولادي أن يروا في الإنكسار والضعف وأنا التي كنت دوما مثالا للقوة والإلهام.كما أنني لا أريد  أن أكون سببا في أن يطلقني زوجي فأخسر بذلك حياة بنيتها بكبير التضحيات مني. أنا على حافة الإنهيار  سيدتي ,انا أطلب منك  أن أرسو على بر الأمان بنصائحك وإرشاداتك.

أختكم س.نجاة من الغرب الجزائري.

الرد:

أختاه، من الغريب أن يجد المرء نفسه  يجني المتاعب جراء سوء الإختيار، ولعل أوجع إحساس أن نتأكد من أننا أسأنا إختيار رفيق الدرب الذي نهبه حياتنا وكل جميل فيها لنجده يزرع بين جوانبها كل سيء ومخزي. بكل الذكاء الذي حباك به الله ، وبكبير الخبرة في الحياة التي تملكينها إلا أنك ولطيبة أخلاقك وحسن سيرتك توسمت الخير في إنسان لم يزدك إلا غبنا. هذا الإحساس إنتابني وأنا أقرأ ما كتبته بقلب مفتوح من أنك تحسين أن هذا الزوج كان يرتدي قناعا سرعان ما نزعه لتتضح لك معالم شخصيته الحقيقية، ولدرجة أنني أحسست أيضا من أنه لم يرتبط بك سوى ليكسرك، وكأنّ، لديه عقدة نقص جعلته كصياد رمى بطعمه لفريسته لينكل بها بعد أن إصطادها.

تريدين اليوم الإنتفاض وتستطيعين أختاه من دون أن يبلغ رفضك لما أنت فيه للطلاق، لأنه من غير المعقول لزوج يدرك قيمتك والإيجابية التي زرعتها في حياته أن يتخلى عنك أو يجعلك بين يدي شخص أخر غيره. ناقشيه في أنك تفهمين ما به من ظروف وإمكانيات ومن أنك لا تتحملين من المسؤوليات الكثير خوفا أو ضعفا، وإنما  حبا وتوسما للخير ورضا الله، أخبريه من أنك قادرة على العطاء أكثر، لكن بمقابل أن يهيّأ لك هو الظروف المناسبة لذلك. أدركي أختاه أن اللين الذي ستمارسينه على زوجك قد يجعله يعيد ترتيب أفكاره أو على الأقل يعيد حساباته معك من جديد،فتستقر حياتكما وتجدين نفسا من أجله لتمضي قدما نحو الأمام. أما إذا قد وجدته يزيد من غطرسته وإستهزائه بك، فإحتكمي به إلى أهله وأهلك حتى يعوا حقيقة ما تكابدينه وتعانيه مع زوجك الذي يحاول دفنك حية.

ما أنت فيه أختاه ليس غبنا بقدر ما هو إحساس بعدم التقدير أو رد الجميل من زوجك، وعليك أن تتأقلمي مع الظروف أيا كان ولتعتبري أنّ ذلك ليس إنتقاصا من كرامتك بقدر ما هو علوّ في قدرك مع الله قبلا ومع نفسك أخيرا، ففاقد الشيء أبدا لا يعطيه وأنت بعون الله وحفظه نبع للعطاء  .

ردت: س.بوزيدي.

 

مقالات مشابهة

  • بسبب شظايا مشتعلة.. تحقيق عاجل في حريق مستشفى تحت الإنشاء بحدائق أكتوبر
  • عوض أن يكون ملهمي.. زوجي يزدريني ويحطّم كياني
  • العرض العالمي الأول لـ"دخل الربيع يضحك" الليلة بمهرجان القاهرة السينمائي|قصة الفيلم المصري الوحيد المنافس بالمسابقة الدولية
  • وكيل «الدعوة الإسلامية»: الحوار الحضاري ضرورة ملحة في عالم أحوج ما يكون أن يسكت صوت القنابل
  • أبو بكر: الحوار الحضاري ضرورة ملحة في عالم أحوج ما يكون أن يسكت صوت القنابل
  • نصية يأمل أن يكون الاستحقاق القادم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية
  • بهذه الطريقة وحدها يكون لبنان قويًا
  • حين ينهار كلّ شيء في عالم الميليشيا
  • عالم يكشف عن المخلوق الذي “سيحكم الأرض” في حال انقراض البشرية!
  • من يريد أن يكون الأدنى؟ ملامح التهميش والتفكك في السودان