كيف يبدو واقع المهن التراثية والتقليدية في سوريا؟
تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT
دمشق- لم تكن المهن التراثية والحرف التقليدية في سوريا محصّنة ضد تداعيات الحرب، ففي ظل الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة التي تشهدها البلاد منذ ما يربو على عقد، تعاني هذه المهن من تراجع غير مسبوق مرتبط بظروف الإنتاج والسوق، مما يجعلها اليوم مهددة بالاندثار.
وكشف رئيس اتحاد الحرفيين في محافظة اللاذقية جهاد برو، في تصريح حديث لصحيفة الوطن المحلية، عن تراجع إنتاج الحرف والمشغولات اليدوية بمختلف أنواعها بنسبة 50% ضمن المحافظة، معتبرا ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج وزيادة ضرائب الدخل أسبابا مباشرة لهذا التراجع.
من جهته، قال رئيس الجمعية الحرفية لصناعة الحلويات في دمشق بسام قلعجي، في تصريح لصحيفة غلوبال المحلية الشهر الماضي، إن أكثر من نصف الحرفيين الحلوانيين توقفوا عن الإنتاج وتحولوا إلى العمل بمهن أخرى بسبب انخفاض الطلب وعدم كفاية الأرباح.
تصريحات متعاقبة تكشف واقع الحرف التراثية والتقليدية السورية التي باتت تئنّ تحت وطأة التدهور الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد.
هذا الوضع دفع آلاف الحرفيين إلى إغلاق ورشهم ومحالهم والتحول لأعمال أخرى، أو الهجرة ونقل أعمالهم إلى خارج البلاد، وسط تهديد فعلي باندثار العديد من المهن التراثية والحرف اليدوية التقليدية التي تشكّل قطاعات حيوية من القطاعات الاقتصادية في البلاد وجزءا لا يتجزأ من هويته الحضارية.
فما أبرز أسباب هذا التراجع؟ وكيف ينعكس على الحياة الاقتصادية في البلاد؟
غياب الدعم والمنافسة غير المتكافئةيقول أنطون (42 عاما)، وهو حرفي دمشقي ومالك سابق لورشة صناعة موزاييك في ريف دمشق، إن كفاحه لسنوات للإبقاء على ورشته مشرعة الأبواب تنتج وتبيع ما يكفي لدفع أجور العاملين فيها لم يكن مجديا.
ويضيف في حديث للجزيرة نت: "حاولت جاهدا الحفاظ على الورشة والعاملين فيها لأطول فترة ممكنة، لكن الغلاء المستمر في أسعار الخشب (المحلي والمستورد) بصورة غير موائمة، والانقطاع الطويل للتيار الكهربائي (16_18 ساعة يوميا)، وانخفاض الطلب على الموزاييك في السوق المحلية والخارجية، كلها عوامل أجبرتني على تسريح العاملين، ولاحقا إلى إغلاق الورشة بعد انقضاء أشهر لم أستلم خلالها سوى طلبيتين".
وبالإضافة إلى تلك العوامل، يرجع أنطون سبب انخفاض الطلب على الموزاييك "الأصلي" وغيرها من المشغولات اليدوية والمصنوعات التراثية (نحاسيات، دمشقيات، أنتيكا، منسوجات) إلى:
واقع السوق في الوقت الراهن في ظل غياب السياح. تراجع الطلب الخارجي على السلعة نتيجة انقطاع العلاقات التجارية مع الأسواق الخارجية. هجرة الوسطاء والتجار وبالتالي انخفاض التصدير. منافسة غير متكافئة.ومع تحوّل المنتجات التراثية إلى سلع "أكثر من كمالية" بالنسبة إلى السوريين الذين يعانون من ضعف القدرة الشرائية (متوسط الرواتب الشهرية نحو 20 دولارا)، وغياب الدعم للحرفيين والتوعية بأهمية وأصالة هذه المنتجات من قبل الاتحادات الحرفية والجهات الحكومية، يواجه حرفيو سوريا تحديات كبرى للاستمرار في حرفهم.
وبالرغم من عدم توفر أرقام دقيقة حول أعداد الحرفيين الذين دفعتهم ظروف العمل إلى الهجرة خارج البلاد، إلا إن رئيس اتحاد حرفيي دمشق علي قرمشتي كشف، في حوار مع موقع كليك نيوز الإخباري المحلي، العام الماضي، أن نسبة الحرفيين الدمشقيين المهاجرين أصبحت مرتفعة جدا لا سيما من شريحة الشباب.
سياسات اقتصادية واجتماعية طاردةوإلى جانب العوامل الاقتصادية المباشرة التي أدّت إلى تراجع الحرف التراثية خلال الأعوام القليلة الماضية متمثلة بارتفاع أسعار المواد الأولية، وسوء الواقع الخدمي، وتراجع حركة البيع والشراء، كانت هناك عوامل غير مباشرة أضرت بهذه الحرف.
ويرى الخبير الاقتصادي السوري يونس كريّم أن أزمة الحرفيين بدأت منذ عام 2008 بعد تعرضها لضغوطات كبيرة بحكم تغيّر التوجه الاقتصادي العام في البلاد.
ويقول كريّم في حديث للجزيرة نت: "منذ عام 2008 وضعت السلطات يدها على أماكن انتشار هذه الصناعات نظرا لأهمية موقعها الجغرافي، والعمل على تغيير معالمها لصالح مستثمرين أثرياء، أو تقديمها كهبات للدول التي تسعى دمشق إلى إقامة علاقات ثنائية معها"
ووفق الخبير فإن واقع عمل الحرف التراثية بعد عام 2011 أصبح أعقد وأصعب مع "استمرار اعتماد النظام سياسات اقتصادية واجتماعية تضيّق على أصحاب هذه الحرف، وتستبعد عنهم الدعم، وتستملك أماكن انتشارهم، إلى جانب توقّف المعارض وصعوبة المشاركة بفعاليات خارجية بسبب المواقف السياسية للنظام.
ويوضح كريّم أن التفكك الأسري والاجتماعي الذي يعاني منه السوريون نتيجة الهجرة الواسعة النطاق خلال العقد الأخير، كانت سببا مضافا من أسباب تراجع هذه الحرف التي "اعتمدت على التوريث بين أجيال العائلة الواحدة كتقليد اتبعه الحرفيون السوريون منذ زمن بعيد".
من الكيلو إلى القطعة والقطعتينيبدو أن بعض المهن والحرف التقليدية في خندق واحد مع الحرف التراثية في حربها ضد الاندثار، حيث يعاني أصحاب حرف تقليدية عديدة لا تقلّ أصالة عن تلك التراثية، ولا سيما الحلوانيين من ارتفاع تكاليف المواد الأولية الداخلة في الإنتاج، وارتفاع تكاليف حوامل الطاقة، والخسارات المتتابعة على خلفية عزوف المواطنين عن شراء الحلويات العربية الفاخرة المرتفعة الثمن.
يقول صهيب (55 عاما)- صاحب محل حلويات في منطقة الجزماتية في دمشق، للجزيرة نت: "تنقضي أيام دون أن نبيع ما مجموعه كيلو من مختلف الأصناف، ومنذ سنتين أصبح كساد البضائع في المحل ظاهرة مألوفة لنا، ولولا مواسم الأعياد، وبعض المناسبات والأفراح التي تقام هنا وهناك، لكنا أغلقنا منذ أمد بعيد".
ويضيف الحلواني الدمشقي في حديث للجزيرة نت: "انخفضت أرباحنا، وأرباح معظم محال الحلوانيين في دمشق بنسبة كبيرة منذ بداية الأزمة الاقتصادية في البلاد".
ويشير الحلواني إلى أن سعر الكيلو من بعض أصناف الحلويات العربية قد تجاوز الـ400 ألف ليرة مؤخرا، مضيفا: "وهو ما لا قدرة للسوريين على شرائه، ولذلك أصبحنا نتبع أساليب بيع نعتمد فيها على الكميات القليلة، فنبيع البقلاوة والبلورية والمشكَّل والآسية والمبرومة وغيرها من الأصناف بالأوقية والحبة (القطعة) والحبتين للحفاظ على حركة البيع، وعدم انقطاع الزبائن عن محلنا".
وعن أسباب توقف حلوانيين في دمشق عن العمل وهجرة كثيرين منهم إلى خارج البلاد، يقول الحلواني الخمسيني: "إن الأسباب كثيرة تبدأ من الضرائب السنوية الكبيرة غير المنسجمة مع تكاليف التشغيل المرتفعة والأرباح المنخفضة، ويضاف إليها الارتفاع الكبير في أسعار الكهرباء التجارية والمحروقات اللازمة لتشغيل المحال والمعامل، والزيادة الهائلة بأسعار المواد الأولية، وارتفاع أجور العمال، وعزوف الزبائن عن شراء هذه الحلويات إلا بالمناسبات".
وارتفعت أسعار المواد الغذائية والمكسرات وغيرها من مكوّنات الحلويات العربية بنسب متفاوتة في الآونة الأخيرة، حيث بلغ سعر كيلو السمن الحيواني 150 ألف ليرة ( دولار يعادل نحو 2511 ليرة)، بينما ارتفع سعر كيلو الفستق الحلبي الحب إلى 300 ألف، وسعر كيلو الجوز إلى 120 ألفا.
وسجلت أسعار الحلويات الشعبية كالبرازق والمعمول في أسواق دمشق، بحلول رمضان الفضيل، أسعارا تتراوح بين 100 و130 ألف ليرة للكيلو الواحد، في حين تراوحت أسعار الحلويات المتوسطة والفاخرة من قبيل "البلورية" و"المشكّل و"كول وشكور" و"عش البلبل" و"البقلاوة" بين 250 و500 ألف للكيلو الواحد وهو ما يعادل راتب موظف سوري في القطاع العام.
وأرجع رئيس الجمعية الحرفية لصناعة الحلويات بسام قلعجي، هذا الارتفاع بأسعار الحلويات إلى رفع الحكومة الدعم عن المشتقات النفطية، مما أدى إلى ارتفاع التكاليف مباشرة بنسبة 150%، مشيرا إلى أن رفع سعر الكهرباء بنسبة 5 أضعاف سيؤدي إلى زيادة سعر نحو 650 منتجا.
وأكد قلعجي، عبر تصريح لصحيفة الوطن المحلية الشهر الماضي، أن العدد الأكبر من الحرفيين الحلوانيين هاجروا، وكانت وجهتهم الأولى هي الجزائر وتتبعها ألمانيا.
وكان قد كشف رئيس الجمعية الحرفية لصناعة الحلويات، في مارس/آذار من العام الماضي، عن إغلاق 70% من ورش صناعة الحلويات متأثرة بالأزمة الاقتصادية وضعف الإقبال على شراء الحلويات والمرطبات.
ضربة موجعة للاقتصادويشكّل هذا الاندثار التدريجي للحرف التقليدية ضربة موجعة للاقتصاد السوري، ويقول الخبير الاقتصادي يونس كريم " لقد شكلت هذه الحرف على مر عقود أكبر حاضنة للعمالة السورية، وكانت نسبة مساهمتها في الاقتصاد قبل عام 2011 تتراوح بين 40 إلى 50%".
وهو ما يذهب إليه الباحث ووزير النفط السوري الأسبق مطانيوس حبيب، في ورقة بحثية بعنوان "القطاع الخاص في سوريا" (2005)، عندما يشير إلى أن القطاع الصناعي الخاص في سوريا اتجه للاستثمار بالمهن الحرفية خوفا من سياسات التأميم سواء في عهد الوحدة السورية-المصرية (1958- 1961)، أو بعد ثورة الثامن من مارس/آذار (1967) مما جعل الاستثمار بالحرف سمة أساسية من سمات القطاع الخاص في سوريا.
بينما يؤكد كريم على أن أزمة العاملين في الحرف التقليدية من حلوانيين وغيرهم تعود إلى ما قبل عام 2011، وتحديدا إلى الفترة الممتدة بين عامي 2007 و2009 حيث كانت هناك "محاولة من قبل النظام للضغط على أصحاب المهن التراثية والحرف التقليدية عبر إجبارهم على دفع الضرائب، وإبعادهم عن مراكز المدن لصالح المستثمرين الكبار".
ويعتقد يونس كريم أن اندثار هذه الحرف تدريجيا سيكون له آثار سلبية على الاقتصاد السوري لدورها في "توفير فرص عمل تفوق تلك التي توفرها المعامل الكبيرة ولتميزها بسهولة التشغيل والإنجاز، والقدرة على الانتشار.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
سوريا تعلن افتتاح بئر غاز جديد بطاقة 130 ألف متر مكعب
وأفاد وزير النفط السوري غياث دياب، بأن البئر تم ربطه بالشبكة الغازية الوطنية لدعم محطات توليد الطاقة الكهربائية، ما يسهم في تلبية احتياجات المواطنين من الطاقة، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء السورية "سانا".
وتعمل الإدارة السورية الجديدة على تأمين مستوى مستقر من أمن الطاقة؛ منعا لحدوث أي خلل قد يؤدي إلى عدم الاستقرار ويؤخر من عملية التنمية في البلاد، وبحسب إحصائيات عام 2015، سجلت احتياطيات الغاز المؤكدة في سوريا نحو 8.5 تريليونات قدم مكعب.
ويبلغ متوسط الإنتاج اليومي من الغاز غير المصاحب للنفط حوالي 250 مليون متر مكعب، ما يمثل 58 بالمئة من إنتاج الغاز الكلي في البلاد، أما الغاز المصاحب للنفط، فيشكل 28 بالمئة من الإنتاج، حيث يأتي أغلبه من شرق الفرات، بحسب ما نقلت وكالة "الأناضول".
في عام 2010، كان النفط يمثل 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، ونصف صادراتها، وأكثر من 50 بالمئة من إيرادات الدولة، بينما كانت البلاد تنتج 390 ألف برميل نفط يوميا، إلا أن الإنتاج تراجع بشكل حاد، ليصل في 2023 إلى 40 ألف برميل يوميا فقط.
وينتج النفط السوري من منطقتين رئيسيتين، الشمال الشرقي خاصة في الحسكة، والشرق الممتد على طول نهر الفرات حتى الحدود العراقية قرب دير الزور، مع وجود حقول صغيرة جنوب الرقة، بينما تتركز الموارد الغازية في المناطق الممتدة حتى تدمر وسط البلاد.
وفي 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بسطت فصائل سورية سيطرتها على دمشق بعد مدن أخرى، منهية 61 عاما من نظام حزب البعث الدموي، و53 سنة من حكم عائلة الأسد.
وفي 29 كانون الثاني/ يناير الماضي، أعلنت الإدارة السورية الجديدة تعيين أحمد الشرع رئيسا للبلاد بالمرحلة الانتقالية، بجانب قرارات أخرى منها حل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية القائمة بالعهد السابق، ومجلس الشعب (البرلمان)، وحزب البعث الذي حكم البلاد على مدى عقود، وإلغاء العمل بالدستور