سودانايل:
2024-12-25@04:26:11 GMT

العبـادة فـي الإسـلام

تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT

بسم الله الرحمن الرحيم
أ.د. احمد محمد احمد الجلي
مقدمة: بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك ،أقدم هذه المقالة تذكيرا لنفسي والاخوة من قراء سودانايل وغيرهم ،بهذه المناسبة العظيمة ،سائلا الله ان يوفقنا الى صيام هذا الشهر وقيامه،وان يجعلنا من عتقائه ،وان يتقبل من الجميع الطاعة وصالح الاعمال .
مفهوم العبادة في الإسلام:
المعنى اللغوي: كلمة عبادة مشتقة من الفعل "عبد"، الذي يدل على الخضوع والتذلل، والاستكانة والطاعة .

يقال: "طريق معبد" أي: مذلل للسير، بكثرة الوطء عليه. ومنه أُخِذ معنى "العَبْدُ"، لذله لمولاه. يقال: "تَعَبَّد فلانٌ لفلان"، إذا تذلل له
المعنى الشرعي: إنَّ مجرد الخضوع -كما يرى ابن تيمية- لا يُسمَّى "عبادة" إلا إذا كان متضمناً معنى "الحب". فمن خضع لآخرَ مع غاية المحبة له فهو عابدٌ له. ومن خضع لآخرَ مع بغضه له، أو كونه مكره على ذلك، لا يكون عابدا له.ومن ثم فإنَّ العبادة المرادة في الشرع، هي: الخضوع التام، والطاعة المطلقة والاستسلام الكامل لله تعالى، باتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه مع غاية المحبة له سبحانه. وهذا هو معنى قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الفاتحة:5 .( العبودية ابن تيمية، ص"44).
ولا تتحقق العبادة الشرعية إلا بأمرين:
1 - الاستسلام التام لمنهج الله تعالى، والخضوع المطلق لكل ما أمر به ، والانتهاء عن كل ما نهى عنه. فمن رفض منهج الله، ولم يخضع لشرعه، فلا يُعَدّ عابداً لله، وإن أقر بالربوبية لله.
2- أن يكون هذا الخضوع صادراً ومقروناً بحب الله تعالى.
أهمية العبادة في الإسلام:
تكمن أهمية (عبادة الله) فما يأتي:
1- إنَّها وظيفة الإنسان الكبرى في الحياة؛ كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ،مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ،إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(الذريات:56-58).
2- إنَّها أمر رباني ألزم الله تعالى به الناس جميعاً حين خلقهم ،وأخذ عليهم العهد والميثاق بالوفاء به . قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ،وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يّـس:60-61).
3- إنَّها أمر فطري فطر اللهُ الناسَ عليه، و من خلالها يلجئون إليه تعالى وقت الشدة؛ فيجأرون إليه بالدعاء والتضرع خاشعين؛ لينجيهم من التهلكة، ويُسَلِّمهم مِن الخطر؛ كما قال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (لقمان:32).
4- إنَّ العبادة هي الهدف الأسمى والمقصد الأعلى الذي جاء به جميع الأنبياء، ودارت حوله دعواتهم .قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36).
شروط صحة العبادة:
كي تكون العبادة مقبولة عند الله تعالى لا بد من أن يتوفر فيها شرطان:
الأول- إخلاص العبادة لله تعالى. الثاني:- أن يُعبَد الله بما شَرَع.
الشرط الأول: إخلاص العبادة لله تعالى:الإخلاص شرط أساسي في قبول العمل، أيَّاً كان، عند الله تعالى. قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البينة: 5.فعلى المسلم أن يخلص توجهه لله تعالى في كل عمل يقوم به.وأن يتجنب الرياء ،وقصد حظوظ الدنيا من الأعمال،وإلا فقدت العبادة شرط قبولها عند الله تعالى،.فمن زار مريضاً ليعوده إذا مرض،ومن عمل بالدرس ليقال إنَّه عالم أو لينال شهرة، فإنَّ عمله لن يقبل عند الله، لعدم توفر عنصر الإخلاص فيه.
ومرجع إخلاص العبادة لله، ومداره على نية العامل، لقوله  (إنَّما الأعمال بالنيات وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى.فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ،أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.).
وحتى تكون العبادةَ خالصة لله تعالى،بعيدة عن كل ما يؤدي إلى الشِّرْك به سبحانه ،وحفاظاَ على التوحيد الخالص، نهى الإسلام عن بعض الأمور التي قد تعكر صفو التوحيد وتفسد الأعمال ،ومنها:
1ـ المبالغة في مدح النبي ، وإطرائه بما يخرجه عن مقام البشر، ووضعه في مقام يقرب من مقام الألوهية .وقد ورد عنه النهي عن ذلك حيث قال: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبدُ الله ورسوله) ويقول : (إنَّه لا يستغاث بي وإنَّما يستغاث بالله).
2ـ النهي عن أن تُتّخذ القبورُ مساجدَ، فقال : (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد) . كما ورد المنع من تتبع آثار الأنبياء وتقديسها، مما لم يرد فيها نصٌّ شرعي، حتى تُمنَع كلُّ ذريعة للشرك والانحراف العَقَدي. وعليه فقد أمر عمر  بقطع الشجرة التي بايع الصحابة تحتها رسول الله .
3ـ منع الحلف إلاَّ بالله: قال: (من حَلَف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .
4ـ منع الذبح والنذر إلاَّ لله: قال : (لعنَ اللهُ مَن ذَبَح لغير الله (.كما حَرّم أكلَ الطعامِ الذي ذكر اسم غير الله عند ذبْحِه: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِِ بِهِ)، (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُُصُبْ ) (المائدة:3).
الشرط الثاني : أن يُعبد الله بما شرع:
لصحة العبادة وقبولها عند الله لا بد أن تؤدى وفق المنهج الذي شرعه الله، من غير زيادة و لا نقصان، ووفق السنة المطهرة.وذلك لما ورد عنه  أنَّه قال:" صلوا كما رأيتموني أصلي" . وقال في الحج: (لتأخذوا عني مناسككم،فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ). .وذلك هو الإحسان في العبادة والتقرب إلى الله بما شرعه ـ جل وعلا ـ لا بما وضعه الناس، أو وضعه الإنسان لنفسه من طرائق في العبادة،إذ أنَّ ذلك كله من الشرك الذي حذر الله تعالى منه .قال الله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى:21) .
وقد حذر  من الابتداع في الدين؛ فقال: (وشر الأمور محدثاتها،وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) . . ويترتب على هذا ،أنَّ العبادات الشعائرية، توقيفية لابد أن تؤدى وفقاً لما حدده الشرع من أشكالها وكيفياتها وصورها ، ولا يعترض على شيءٍ منها. والعبادة المبتدعة مردودة و لا تقبل ، وفقاً لما ورد عن النبي : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، أي مردود على صاحبه ولا يُقْبل منه، مع تحمله لاثم الابتداع والتجرؤ على الله في تغيير ما شرعه.
خصائص العبادات في الإسلام:تتميز العبادة في الإسلام بخصائص تميزها عن العبادة في الديانات والملل الأخرى ومن تلك الخصائص ما يلي:
1ـ موافقتها للفطرة الإنسانية:إنَّ الإسلام دين الفطرة، كما سبق أن اشرنا ،ومن ثم تتميز قيمه وتعاليمه ،يموافقتها للفطرة ،وتجاوبها مع مطالب الكيان البشري ، ومراعاتها لأشواق الإنسان الروحية والوجدانية،كما تلبي حاجاته الجسدية المادية.
وتبرز سمة المراعاة للفطرة أوضح ما تكون في العبادة،إذ نجد أنَّ ما فرضه الإسلام من عبادات تلبي حاجة الإنسان الفطرية ،و لا نجد فيها ما يسبب للإنسان عنتاَ أو مشقة،أو ما لاتتحمله طاقته. ويدل على هذا التوافق والاتساق بين الممارسات العبادية في الإسلام وبين الفطرة الإنسانية ما يلي:
أ- الجمع،في العبادة بين مطالب الروح والوجدان وبين المطالب المادية، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:9-10) ،فقد جمع الله للمسلم بين الأمر بالصلاة والسعي إلى ذكر الله الذي هو من مطالب الوجدان، ثم طلب الرزق والكسب والانتشار في الأرض الذي هو من المطالب المادية التي بها قوام بدن الإنسان واستمرار حياته.
ب- الاعتدال في أداء العبادة ،فقد نهي الرسول عن التنطع والتشدد في العبادة والدين فقال :" هلك المتنطعون "قالها ثلاثاً" وقال :" إنَّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا، واستعينوا بالقدوة والروحة وشيء من الدلجة".وعن أنس ين مالك قال: " جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي  يسألون عن عبادته، فلما أخبروا، كأنهم تَقَالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله  إليهم ،فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطرُ، وأصلي وأرقدُ، وأتزوجُ النساء، فمن رَغِب عن سنتي فليس مني ).
وبلغ الرسول أنَّ عبدالله بن عمرو قال: والله لأصومَنّ النهار، ولأقومَنّ الليلَ ما عشت، قال : (فلا تفعلْ، صُمْ وأفْطِر، وقُمْ ونَمْ ، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وأن لزَوْرك عليك حقا..)
من هذه النصوص ،يتضح لنا جمعُ الإسلام بين الجوانب المختلفة للحاجات الإنسانية، ومكونات الشخصية البشرية، بتوازن وتناغم وتمازج بحيث لا يطغى جانب على آخر، وبدون إفراط أو تفريط.
2ـ التيسير، ورفع الحرج:
خاصية التيسير ورفع الحرج عن الأمة، من خصائص كل تعاليم الشريعة الإسلامية، وخاصة في جوانب العبادة منها، وذلك أنَّ من مزايا رسالة الإسلام أنَّها عامة لكل البشر، وصالحة لكل الأزمنة والأمكنة، ولذلك فمن الطبيعي أن تمتاز بهذه الخاصية؛ لتتلاءم مع الزمان والمكان وتتواءم مع حاجات الناس.
وتظهر خاصية التيسير في العبادات عموماً، لا سيما تلك التي تُؤَدّى في أزمان معينة وبكيفيات وهيئات مرسومة من الشرع، (كالطهارة المشروطة لأداء العبادة، وكالصلاة والصوم والحج ...) ،والتي قد يعترضُ أداءها، على أكمل وجه في بعض الأحيان، حرجٌ لظروف وأعذار طارئة، فشرع الإسلام أداءَها بما يتناسب مع ظروف كل إنسان ومراعاة لأعذاره. ومن أمثلة ذلك: أنَّه شرع التيمم بدل الوضوء والغسل ،عند تعذر استعمال الماء لمرض وغيره.وشرع قصرَ وجمعَ الصلاة في السفر؛ لما في السفر من مشقةٍ تقتضي التيسير، كما أجاز للمريض أن يصلي قاعداً أو على جنب، أو مستلقياً على ظهره، حسب استطاعته.ورخص للمسافر والمريض أن يفطرا، على أن يقضيا عِدّةً من أيامٍ أُخَر.وكذلك رخص للمجاهدين بالفطر؛ ليَقْوَوْا على لقاء العدو. وهذه أمثلة ولها نظائر كثيرة في شرع الله ..وأمر بالتخفيف بالناس في الصلاة الجماعية مراعاة لظروف الناس، فقال: (إذا صلى أحدكم للناس، فَلْيُخَفِّف فإنَّ منهم الضعيفَ والسقيمَ والكبير، وإذا صلى أحدُكم لنفسه، فلْيُطوِّل ما شاء) . ولما أطال معاذ  بالناس في الصلاة، قال له: (أفَتّانٌ أنت).
ولما رأي ، حبلاً ممدوداً بين عمودين في المسجد، فقال: (ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبلٌ لزينبَ تصلي، فإذا فَتَرَت تعلقت به. فقال : حُلُّوه، لِيُصَلِّ أحدُكم نَشَاطَهُ، فإذا فَتَر فليرقد)، ذلك لأن كل تشدد وتكلف في العبادات مآله إلى نتائج سيئة، منها: بُغْض العبادة واستثقالها، ثم أخيراً، الانقطاع عنها، والرسول  يقول: (عليكم بما تُطِيقون من الأعمال، فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلّوا) .
وزيادة على ذلك رغب الإسلام في الأخذ بالرخص ،دفعاً للمشقة والعنت، ، فقال  (إنَّ الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) .
3ـ استمرار العبادة ولزومها لجميع الخلق:
العبادة بمفهومها الشامل الذي يتضمن الشعائر والمعاملات،وكل ما يطاع الله به،لازمة لجميع الخلق، ولا تسقط عن أحد منهم، حتى الأنبياء والرسل ،ينبغي أن يقوموا بها، كلٌّ على حسب استطاعته. و لا يُعْفَى أحدٌ منها أو تخفف عنه، إلا لوجود أعذار مقبولة شرعاً ، كعذر السفر، والمرض ... وهكذا.
وقد زعم قومٌ من المبتَدِعة أنهم غير مطالبين بالتكاليف الشرعية من عبادات وغيرها.وأنَّهم وصلوا إلى درجة عالية من الصلة بالله،حتى أسقط عنهم التكاليف الشرعية. وأنَّهم من الخَواصّ، الذين أدركوا المقصود الأساسي من التشريع، ولذا لا حاجة لهم للعبادات ولا بقية التكاليف، وسموا أنفسهم بـ(أصحاب الحقيقة)، وسموا بقية المسلمين بـ(أصحاب الشريعة) الذين هم فقط مُطالَبون بالتكاليف الشرعية. واحتج هؤلاء المبتدعة بقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) ،فهم حسب زعمهم، قد عبدوا الله حتى أتاهم اليقين، وليس بعد اليقين شيء، فسقط عنهم التكليف، وأُحِلّت لهم المعاصي. ويرد على هؤلاء، بأنَّ معنى الآية الصحيح هو: اعبد ربك حتى يأتيك الموت. وتقسيم المكلفين إلى أصحاب حقيقة وأصحاب شريعة تقسيم بدعي مرفوض. فالشريعة في الإسلام هي الحقيقة، وكما نحن مطالبون بالصلة القلبية بالله والخشية منه والإنابة إليه، فإننا مطالبون كذلك بجميع التكاليف الشرعية من عبادات وغيرها، بصورها وأشكالها مع مضامينها وحقائقها .
4-شمول العبادة:
العبادة في الإسلام ليست محصورة في شعائر معينة، وشرائع محددة، بل هي عامة وشاملة لكل الأحكام والتكاليف الشرعية. وتتضمن كل ما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأفعال الظاهرية والباطنية،سواء كانت شعائر أو معاملات أو أخلاق .يقول ابن تيمية رحمه الله: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله) .
فالعبادة في الإسلام لا تقتصر فقط على أداء بعض الشعائر كالصلاة والصوم والحج والاستغفار والدعاء مثلاً، رغم أهمية هذه الشعائر، إلا أنَّها ليست هي كل العبادة، بل هي جزء منها، وإن كانت جزءاً مهماً جداً.
وما اصطلح عليه الفقهاء من تقسيم التكاليف الشرعية إلى عبادات ومعاملات ،واطلاق اسم (المعاملات) على التكاليف الشرعية، التي تُنَظِّمُ حياةَ البشر، وتسميتهم للشعائر الأخرى (كالصلاة والصوم والحج والزكاة ...وغيرها) باسم (العبادات)، لا يعني أنَّ القسم الأول مغايرٌ للقسم الثاني وغير داخل في معنى العبادة. وأنَّ الدين كلَّه داخلٌ في معنى العبادة، وإنما قصارى ما في هذا الأمر أن هذا التقسيم هو تقسيم علمي اصطلاحي فني في كتب الفقه، أراد الفقهاء من خلاله التمييز بين نوعين من التكاليف الشرعية.فالعبادة تشمل النوعين ،والمسلم مطالب بالالتزام بأمر الله في كليهما وعليه القيام بهما والحرص علي أدائهما،وفقا لما شرع الله سبحانه وأمر، وأن يؤديهما في اخلاص نية وصدق توجه ،وأن يبتغي في كل ذلك مرضاة الله تعالى.
فكل نيةٍ حسنة ينويها المسلم، وكل حركة يتحركها، أوكلمة ينطقها، تُحتَسب له عبادة ويُثاب عليها، إذا أراد بها وجه الله.ولن تتحقق العبودية التامة لله تعالى، بأداء بعض الشعائر التعبدية كالصلاة والصوم والحج والزكاة، فقط، مع تعطيل شرع الله وترك أوامره ونواهيه في بقية شئون الحياة.
يقول : (الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأوضعها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان)، فما بين هذين الحدين: أعلى شعب الإيمان وأدناها، تدخل جميع الأعمال الصالحة، لتُكَوِّن الإيمانَ الكاملَ والعبودية التامة لله تعالى، ويحدث التكاملُ في حياة المسلمِ، المستسلم لمنهج الله.وتصبح حياته كلها لله تعالى ،قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162).
ويتمثل شمول العبادة في جوانب عدة نشير إلى بعض منها:
1ـ التحاكم لشرع الله.
العبادة الحقيقية هي الخضوع التام والاحتكام الكامل لشرع الله ونظامه، في جميع الشئون الحياتية؛ سواءً تلك المتعلقة بالفرد في حياته الخاصة أو العامة، أو المتعلقة بالمجتمع أو الدولة، ومن ذلك (شئون السياسة والحكم ومناهج التربية والقيم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها..) ويترتب على ذلك ما يلي:
• إنَّ رَفْضَ التحاكم إلى شرع الله إنما هو خروج عن حقيقة الألوهية، وتمردٍ على حقيقة الربوبية. وليس لمخلوق أن يعطي نفسه الحق في أن يقنن للبشر أوضاعاً وشرائع معارضة لمنهج الله تعالى ونظامه وقانونه.
• أن لا يتخذ الإنسان له مناهج وأنظمة حسبَ ما يملي عليه هواهُ ومزاجه وعقلُه ويَتَّبِعُها مع مضادتها ومخالفتها لمنهج الله. إنَّ من يفعل ذلك يكون -كما عبر القرآن-متخذاً الهوى إلهاً من دون الله. وقد حذرنا الله من ذلك قائلاً: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثـية:23).
• أن لا يخضع الإنسان لله في نواحٍ حياتية، ويرفض شرعه في نواحٍ أخرى؛ كأن يخضع لله في جانب الشرائع التعبدية المحضة كالصوم والصلاة والزكاة والحج.. مثلاً، ويرفض أوامر الله في بقية شئون الحياة، ويتلقى أنظمة الحياة وقوانينها من عند غير الله، سواءً مما يضعه له عقلُه أو عقول الآخرين من البشر، ولذا قال الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85).
2 ـ طلب العلم:
إنَّ السعي لنيل العلم وبذل الجهد لطلبه،عبادة يثاب عليها طالب العلم كما يثاب على صومه وصلاته،إذا ابتغى بعلمه مرضات الله تعالى؛ ولذا جاءت توجيهات النبي ، توضح فضل العلم ومقدار ما لطالبه من ثواب وأجر ،وتحث على طلبه، فيقول : (من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع) ، وجعل العلم من الأعمال التي يستمر ثوابها وأجرها بعد موت المرء،يقول : (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنْتَفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) . ويقول : (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة) .
وإذا كان طلب العلم ونشره عبادة يثاب عليها المرء، فإنَّ كتم العلم معصية يعاقب عليها، فيقول  (من سُئِل عن علم ثم كتمه، أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ مِنْ نار) . وبناء على هذه الأدلة الكثيرة، ذهب علماؤنا الكرام إلى أنَّ طلب العلم مقدم على نوافل العبادات.
وليس العلم قاصر على ما يعرف بعلوم الشريعة او ما يصطلح على تسميته بالفقه،كما يفهم البعض خطأً ،بل كل علم نافع للانسان يتعلق بنواحي حياته ،فهو علم ينبغي ان يتعلمه بعض المسلمين كفرض كفاية اذا قام به البعض سقط عن الباقين: فما يعرف بالعلوم التطبيقية او التجربيبة ،هي من العلوم التي ينبغي ان يتخصص فيها بعض المسلمين ويتعلموها ،ووفقا لهذا سعى المسلمون خلال التاريخ الى التعلم من الاخرين ،وابدعوا في الرياضيات والكيمياء والفيزياء والعلوم الطبية والفلك والجغرافيا الى غير ذلك من العلوم التي برز فيها علماء، و قامت على ضوئها الحضارة الاسلامية.
3ـ العمل وكسب الرزق:
جعل الإسلام العمل وكسب الرزق عبادة وقربى إلى الله تعالى، وأمر الله بطلب الرزق، والسعي في الأرض، فقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10)
وفي السنة: أن النبي  مرَّ على رجل فرأى أصحابُ رسول الله من جَلَدِه ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! فقال : "إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان" . وقال عن فضل العمل في الزراعة: "ما من مسلم غرس غرسا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة" . وقال  في فضل المتاجرة، والصدق فيها: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء"، وقال: "ما أكل أحدٌ طعاما قط خيراً مِن أنْ يأكل من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود عليه السلام، كان يأكل من عمل يده" . ويُعَد العملُ عبادة بشروطٍ، هي:
أـ أن يكون العمل مشروعاً في الإسلام، لأنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
ب ـ حضور النية الصادقة في العمل، حيث يعمل المسلم نزولا على أمر الله تعالى لنا بعمارة الأرض، مع شرف القصد كإعفاف النفس والسعي على الأولاد... الخ...
ج ـ إحسان العمل وإتقانه، لقوله : "إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيء،فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته،فليرح ذبيحته" .
د ـ التزام أحكام الشرع في العمل، فلا غش ولا كذب ولا خيانة، ولا ظلم.
ﻫ ـ أن لا يكون أداء العمل،على حساب الواجبات الشرعية الأخرى فيؤدي إلى تضييعها أو فواتها، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون:9) وقال: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:37) .
4ـ الجهاد:
الجهاد مشتق من جهد ،ويراد به بذل الجهد والطاقةكأن يبذل الإنسان جهده وطاقته ويتحمل المشاق في سبيل الوصول إلى هدف معين،والجهاد العبادي هو الجهاد في سبيل الله تعالى. وتتعدد وسائله وطرائقه ،فقد يكون الجهاد بالكلمة والبيان:كما ورد في قوله تعالى:( فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) الفرقان:52،اشارة الى القرآن. وفي قوله " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"‏.‏ وقد يكون بالمال والنفس كما في قوله تعالى:( انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) التوبة:41.
و الجهاد في سبيل الله من أجَلِّ وأعظم العبادات، وقد بين الله ثواب المجاهدين، وأنَّ كل ما يصيبهم من ألم وتعب ومشقة، لهم فيه أجر من الله عظيم، فيقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:120-121). ويقول : (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة، خير من الدنيا وما عليها، والرَّوْحة يَرُوحُها العبد في سبيل الله تعالى أو الغَدْوة، خير من الدنيا وما عليها) .
ويعد الجهاد من أفضل الأعمال بعد الإيمان؛ فلقد سئل النبي : أيَّ الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" . ويقول : "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق" .
وهنا لا بد من الاشارة الى مصطلح الجهاد وما ارتبط به من سوء فهم ،وتصويره بان المراد به مقاتلة غير المسلمين و القضاء عليهم باعتبارهم كفارا. كما ذهب الى ذلك بعض المستشرقين والمتحاملين عليى الاسلام ،واتهامه بأنه انتشر بالسيف الى غير ذلك من الشبهات التي ليس هذا مجال الرد عليها ودحضها. واذا رجعنا الى كلمة الجهاد وجذرها اللغوي نجد ان الكلم مشتقة من " جهد" ،ولها عدة معاني مترادفة من بينها: الجهد ، الوسع ، الطاقة ( فى الرأى والنفس ) والمجهود ، والمشقة ، والقدر من الاحتمال ، أما الجهاد بمعنى المجاهدة والقتال فى سبيل الله ومحاربة الأعداء وصد الهجوم عن أمة الإسلام، فهو آخر ما يرد من معاني لهذا الجذر. وكلها مترادفات تستخدم فى اللغة العربية، وفي الحياة بكافة مجالاتها. ،ومن ثم استخدمت كلمة الجهاد مرتبطة بالقرآن ،كما في قوله تعالى: (فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا )، إشارة إلى جهاد الدعوة والحُجة وذلك ببذل الوسع والطاقة في مدافعة الباطل الاعتقادي والفكري بهذا القرآن ، وذلك بابلاغ آياته والاحتجاج ببراهينه وبأحكامه وعقائده ،وما فيه من زواجر ،وهذا النوع من الجهاد سابق ومقدم على جهاد السلاح والسنان( القتال)، وذلك - كما قال ابن القيم -: «لعظيم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه»، ولأنه لولا قوة الحجة، لما أفادت حجة القوة، ولما أدت شرعة الجهاد مقاصدها من الهداية والإصلاح، ودخول الناس في دين الله أفوجاً، "
.والجهاد بمعنى القتال لم يشرع في الاسلام، إلا إذا كان لضرورة معينة واهداف محددة من اهمها :الدفاع عن النفس الذي هو حق مشروع لمن اعتُدِيَّ عليه أو ظُلِمَ أن يدفع عن نفسه العدوان، ويرفع الظلم الذي يقع عليه.وقد كفلت كل القوانين البشرية والأديان السماوية والوضعية هذا الحق. كما شرعت الحرب لرد الظلم ورفع الاضطهاد عن المستضعفين، ومن لا قدرة لهم و لا حيلة على رد العدوان. ،كما شرعت الحرب في الإسلام للرد على نقض المعاهدات ونكث العهود،من قبل الآخرين. ، و قد يشرع القتال لدرء من أراد فتنة المسلمين عن دينهم، والسعي بالفساد بينهم، وتهديد سلامة المجتمع والدولة الإسلامية، الى غير ذلك من الاهداف المشروعة .كما يجري الجهاد، وفقاً لضوابط مشددة،من بينها : حماية غير المقاتلين من النساء والصبيان والعجزة والشيوخ وغيرهم ممن يطلق عليهم المدنيين،وعدم التعرض لرجال الدين الذين انقطعوا للعبادة ولم يشاركوا في الحرب ،فهؤلاء جميعاً يأمر الإسلام بحمايتهم وتوفير الأمن لهم. ومن ضوابط الحرب في الأسلام، عدم استخدام الأسلحة الفتاكة: أو ما يعرف بأسلحة الدمار الشامل مثل: الأسلحة الكيماوية، والأسلحة الجرثومية، أو القنابل النووية، أو القنابل الحارقة ،التي تؤدي إلى هدم الدور وحرق الأراضي وتدمير المباني،وقتل الحيوانات.فهذا كله من الإفساد في الأرض الذي نهى عنه الله سبحانه وتعالى، الى غير ذلك من الضوابط والاداب والتعاليم التي وضعها الاسلام للحرب، كي يخفف من آثار ها السالبة،ومما تسببه للناس من مآسي ،اذا ما اضطر المسلمون إلى خوضها ،مما يمكن أن نسميه "آداب القتال" أو قانون الحرب، او اخلاقياتها،ويدخل في ذلك كيفية التعامل مع الاسرى التي فصلها الشرع الاسلامي,
6ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين . يقول : "والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" . ويقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" . ويقول أبو بكر الصديق :يا أيها الناس إنَّكم تقرؤون هذه الآية، وتؤولونها على خلاف تأويلها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة:105) وإنِّي سمعت رسول الله  يقول: "إنَّ الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ" .
بل إنَّ من شروط الخيرية لهذه الأمة أن تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران:110 . ويقول عمر : "من سرّه أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله فيها" .
7ـ الامتناع عن المنكر:
قد يمتنع الإنسان عن معصية معينة، ليس نزولاً على أمر الله بتركها، وإنَّما يمتنع عنها لسبب آخر، كأن يمتنع إنسان عن شرب الخمر لأنَّها تُضِر بصحته، ، أو يترك آخر الزنى خوفاً من الأمراض الجنسية، وليس استجابة لأمر الله بتحريمه، فهؤلاء يسعون لحماية أنفسهم من الأمراض وحفظ صحتهم فحسب، فينالون ما يبتغون،ولكن ليس لهم من الأجر شيء. ولكن مَن ترك هذه المعاصي استجابة لأمر الله، فلا شك أنَّه يُؤجَر على هذا الترك لها،لاستجابته لأمر الله وطاعته له بترك المعاصي التي تشتهيها النفس وتدعو إليها الغرائز، فضلاً عن حفظه لصحته، وحماية نفسه من الأمراض، فينال بذلك خيري الدنيا والآخرة.
8ـ العبادة في مجال العلاقات والأعمال الاجتماعية:
الأعمال الاجتماعية النافعة كلها عبادة لله، إذا صحت فيها النيةُ ، وجانبها الرياءُ وطلبُ السُّمْعة الزائفة أو المكاسب الدنيوية، وكان أداؤها خالصا لوجه الله تعالى.
وباستعراض بعض أحاديث النبي ،يتضح لنا مدى سعة مفهوم العبادة في الإسلام وشمولها لكثير من الأنشطة الاجتماعية والحياتية،فاصلاح ذات البين عبادة:يقول : (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة) .وعيادة المريض عبادة: يقول  (من عاد مريضا أو زار أخاَ له في الله، ناداه مناد: أن طِبْتَ وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً) .وإماطة الأذى عن الطريق عبادة: يقول : "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخَّرَه، فشكر الله له، فغفر له" .
وهكذا يتسع مجال العبادات ليشمل كثيراً من المناشط الاجتماعية: يقول : "على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعل، قال: فليأمر بالخير أو قال: بالمعروف، قال: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر فإنه له صدقة"
ويقول : "كل سلامى من الناس عليه صدقة،كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته، فيحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة" .
أثر العبادة في حياة المسلم:
للعبادة آثار كثيرة يتمثل بعضها في علاقة الإنسان بربه ،وبعضها في علاقته بنفسه ،وبعضها في علاقته بالمجتمع من حوله:
أثر العبادة في علاقة الإنسان بربه:من أثر العبادة ،أنَّها تقربِ المسلمِ من ربه، فيحظى بتوفيق الله ورعايته وحفظه وحمايته الكاملة، قال فيما يرويه عن ربه: "وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّهُ؛ فإذا أحببتُهُ، كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإنْ سألَنِي أعطيته، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه" .كما يتحقق للمسلم- بأداء العبادات الخالصة التامة، مع الاستسلام فيها لله، والتسليم بحكمته فيها، - كمال العبودية لله تعالى، ويتحقق بناء على ذلك كمالُ التحرر للإنسان من كل ما سوى الله، فيصبح المسلمُ الحق هو (الحُرُّ) الحقيقي في الحياة؛ حيث يتعالى على قيود الدنيا ومطامعها.
أثر العبادة في تزكية الفرد : تؤدي العبادات إلى تزكية النفس وترقيتها وتطهيرها ليتحقق لها الكمال الإنساني؛ يقول : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجْتَنَبَ الكبائر" . وبالصلاة تتحقق الاستقامة الأخلاقية: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (،العنكبوت:45. وينتج عن الصوم التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) يقول الرسول  :"من لم يدع قول الزور والعمل به ،فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". ، وفي الحج فوائد تربوية كثيرة منها: تطهير الإنسان من الذنوب، فقد ورد عنه : (من حج لله، فلم يَرْفُث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) . وفي الزكاة والصدقات غرسٌ لخلق الكرم والإيثار، وتعالٍ عن الشح والأثرة، وتزكية للنفس وتطهير: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة:103) .. وهكذا بقية العبادات..
شمول العبادة في الإسلام لكل كيان الإنسان وحركاته، يجعل الحياة بكل مظاهرها في نظر المسلم ذات قيمة عظيمة؛ حيث يصبح عابدا لله في كل حركاته وسكناته، وينظر المسلم للحياة نظرة المتفائل؛ فله في كل حركة أجر، وفي كل فكرة ثواب، وفي كل نظرة حَسَنةٌ، فتصطبغ حياته بالخيرية في كل جوانبها، فيرتاح ضميره، ولا يضجر قلبه، بخلاف أولئك البعيدين عن منهج الله الذين يشعرون بالفراغ والقلق والضيق نتاج هذا البعد، فيهربون من كل ذلك إما إلى سُكْرٍ ومخدرات أو ينهون حياتهم بالانتحار؛ لأن حياتهم فقدت قيمتها ،ولم يعد لوجودهم معنى.
أثر العبادة في المجتمع : صلاة الجماعة في المسجد وصلاة الجمعة والأعياد، تعمق قيمة الانتماء الجماعي والتآلف والمحبة بين المسلمين، وقد قال : (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئبُ القاصيةَ) ، والأحاديث في أهمية الجماعة كثيرة.ومن خلال الصلوات الجماعية يتعلم المسلم مجموعة آداب اجتماعية؛ منها:
1-احترامه لنفسه، واحترامه لغيره، وتقديم الكبير في العلم والسن، وعدم التقدم على الآخرين إلا برضاً منهم، ويبرز هذا في قوله  "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم"، وذكر منهم: "وإمام قوم ،وهم له كارهون" وورد: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِه" .
2-تعلمنا العبادات (قيمة الزمن)، وهي قيمة حضارية، لها دورٌ كبير في بناء الأمم، فكل صلاة لها وقت معلوم: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103) ،والحج كذلك له مواقيت معلومة: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة:189) ، وكذا بقية العبادات الشرعية المتوقف قبولها على أدائها في وقت محدد، فإنها تُعَوِّد المسلمَ مراعاة الوقت والمحافظة عليه بدقة متناهية، وينعكس هذا بدوره على جميع أعماله وحركاته الحياتية. وهو من أهم ما تحتاجه أمتنا اليوم. بل إنَّ الإسلام يحثنا على مسابقة الزمن واستباق الأوقات في تحصيل الخير، وهو بُعْدٌ حضاري مهم يبارك في حياة المسلم وحياة أمته كلها، قال الله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة:148) ، ويقول : "اللهم بارك لأمتي في بكورها" . وقد ورد عنه ، الحث على التبكير لصلاة الجمع.
3-أداء العبادة بمفهومها الصحيح الشامل الذي أراده الله يحقق العزة والتمكين والاستخلاف في الأرض. قال الله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) .
4-واخيرا فإن العبادة في الاسلام لها ارتباط وثيق بسلوك االمسلم في خاصة نفسه ومع الاخرين ،والمتأمل في آيات القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية يجد تأكيداً على هذا الارتباط ، ولكن واقع المسلمين عموماً وبين السودانيين خاصة ، يشهد انفصامًا بين العبادات وبين السلوك والتعامل اليومي مع الآخرين،لاسيما بعد الحرب الدائرة الان،اذ ان السودانيين لم يعودوا يحتمل بعضهم بعضا،كما يظهر من خلال نشاط الجميع من خلال وسائل الميديا الاجتماعية،اذ نجد البذاءة في الالفاظ وسوء الادب في العبارات ،وسوء الظن بالاخر الذي قد لا يعرف. ونأمل ان يكون في رمضان وقفة مع النفس ومراجعة لاساليب الخطاب مع الآخرين ،وان نقترب من تعاليم ديننا الحنيف ، وأن يظهر أثر العبادة في سلوكنا. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"،والصوم ينبغي ان يقود الى التقوى ، وانه لا رفث ولا فسوق في الحج ،وان الزكاة تزكية للنفس من الشح والبخل وتزكية للاموال . والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الآخَرُ يقي المجتمعَ من العقائدِ الفاسدة، والطِّباع المُعوجَّة، والسلوكيات المُنحرفة ،فلا يكفي أن تؤدي العبادات لكي يكون المرء مسلمًا حقًّا، وإذا لم ينعكس أثر هذه العبادات على تعامل المرء مع من حوله، فلا خير في هذه العبادة ولا ثمرة لها.
وفي الختام نسال الله ان يوفقنا لصيام هذا الشهر الفضيل ،وان يتقبل منا جميعا الصيام والقيام ،وان يعتق رقابنا ورقاب والدينا ومن نحب من النار، وان يتقبل منا الطاعات،وان يرفع عن بلادنا الكروب والمحن ،ويقينا وبلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أ.د. احمد محمد احمد الجلي


ahmedm.algali@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر قال الله تعالى الى غیر ذلک من فی قوله تعالى فی سبیل الله الله ورسوله فی العبادة قال تعالى طلب العلم رسول الله لله تعالى فی الأرض غیر الله أمر الله شرع الله عند الله على ذلک وإن کان من خلال الله فی على هذا لله فی فإن لم التی ت ه الله د الله ورد عن

إقرأ أيضاً:

حكم تهنئة المسيحيين في عيدهم.. الإفتاء توضح

قالت دار الإفتاء المصرية لا يوجد مانع شرعًا من تهنئة غير المسلمين في أعيادهم ومناسباتهم، وليس في ذلك خروج عن الدين كما يدَّعي بعض المتشددين غير العارفين بتكامل النصوص الشرعية ومراعاة سياقاتها وأنها كالجملة الواحدة.
وقد قَبِلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدية من غير المسلمين، وزار مرضاهم، وعاملهم، واستعان بهم في سلمه وحربه حيث لم يرَ منهم كيدًا، كل ذلك في ضوء تسامح المسلمين مع مخالفيهم في الاعتقاد، ولم يفرق المولى عز وجل بين من المسلم وغير المسلم في المجاملة وإلقاء التحية وردها؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86]، والتهنئة في الأعياد والمناسبات ما هي إلا نوع من التحية.

أما ما استشهد به هؤلاء من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] على عدم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم من نصارى ويهود: فإنما هي نظرة قاصرة للنص القرآني؛ حيث لم يرد ذلك صريحًا في الآية، بل هو اجتهاد في تفسيرها، وقد نقل فيه عدة آراء، فما بالهم يأخذون منها ما يوافق أهواءهم ويكفرون بغيرها.
شمولية الرسالات الإسلامية وتكاملها فيما بينها

وأوضحت الإفتاء أن الله تعالى خلق الإنسان على اختلاف ملله وأشكاله وأجناسه من أبٍ واحد وأم واحدة «إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ»، كما جاء في "مسند الإمام أحمد" في خطبة الوداع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يفرق المولى عز وجل في الخلق ولا في الرزق بين مسلم وغير مسلم.

ولقد جاءت الرسالات السماوية من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكلُّها يكمل بعضها بعضًا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ»، قَالَ: «فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» رواه البخاري.

كما أن الرسالات السماوية كلها تدعو إلى هدف واحد، وهو توحيد الله وعبادته، وترجو نتيجة واحدة هي الفوز بالجنة في الدار الآخرة، وإن اختلفوا في الأسلوب والطريقة الموصلة إلى ذلك.

تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم

ومن المقرر شرعًا أن الإسلام لم يمنعنا من مجالسة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن؛ فقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، وأن نأكل من طعامهم وشرابهم، بل أكثر من ذلك أباح لنا الزواج منهم؛ فقال تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5].
والزواج كما هو مقرر شرعًا ما هو إلا مودة ورحمة؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]، ومن غير المعقول أن يتزوج المسلم بامرأة من أهل الكتاب، ويطلب عندها المودة والرحمة، وتهنئه في عيده ولا يرد التهنئة في عيدها، ألم يكن ذلك مخالفة صريحة لنص القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86]، حيث إنه لم يفرق بين من يلقي التحية مسلم أو غير مسلم، والتهنئة في الأعياد ما هي إلا نوع من التحية.

ولقد أوصانا الإسلام بالجار خيرًا سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم؛ فلقد ورد عن مجاهد أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ذُبِحَتْ له شاة في أهله، فلما جاء قال: أَهْدَيْتُم لجارنا اليهودي؟ أَهْدَيْتُم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، ولقد أكدت السنة النبوية الإحسان بالجار وعدم التطاول عليه وإيذائه؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الخطيب البغدادي، وفي حديث آخر: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أبو داود في "سننه".

مقالات مشابهة

  • حكم تهنئة المسيحيين في عيدهم.. الإفتاء توضح
  • 6:30 . أزهري: العبادة في زمن السوشيال ميديا مغشوشة والحسد قد يؤديان الى الانتحار
  • كيف أعرف أن الله يحبني وراض عني؟.. تحرى 10 علامات ولو كنت عاصيا
  • مظاهر تحريف الأديان
  • حاسة إن ربنا مش بيحبني؟.. عضو بـالأزهر العالمي للفتوى تجيب
  • عضو مركز الأزهر العالمي: الله أقرب إلينا من أنفسنا.. ولا يغضب علينا بسهولة
  • الإسلام ومفهوم المقاومة والثورة
  • مراتب الحزن في القرآن الكريم
  • التواضع زينة الأخلاق.. تأملات في قول الله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}
  • من هو النبي الذي قتل جالوت؟.. تعرف على القصة كاملة