مُسيّرات حزب الله المتطوّرة تُقلق العدو
تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT
كتبت دوللي بشعلاني في" الديار": تُشكّل الترسانة المتطوّرة التي يملكها حزب الله، مصدر قلق "للإسرائيليين" الذين لا ينفكّون يتحدّثون عن حرب شاملة على لبنان، ويهدّدون بتوغّل برّي قريب خلال الأشهر المقبلة. مع العلم بأنّ كلّ ما يقولونه لا يتخطّى إطار التهويل، سيما وأنّهم يحسبون ألف حساب لسلاح المقاومة التي تضاعف بشكل كبير منذ العام 2006 وحتى يومنا هذا.
وصحيح بأنّ "حرب المسيّرات" يُمكن أن يكون عنواناً لأي حرب مقبلة، على ما شدّد الخبير نفسه، وإن كان الأميركي يؤكّد أنّ "إسرائيل" لا تريد توسيع الحرب على الأقلّ في المدى المنظور، الأمر الذي يجعل "الإسرائيلي" حذراً قبل اتخاذ أي قرار بشأن استكمال التصعيد. فحزب الله، بات قادراً ليس فقط على إسقاط المسيّرة "الإسرائيلية"، إنّما على السيطرة عليها وهي في الجوّ من الداخل والتحكّم بها، وكأنّه هو من يسيّرها. وهذا الأمر ليس بجديد فقد استخدم هذه التقنية منذ سنوات، وقد استطاع خلال المواجهات الأخيرة إسقاط العديد من مسيّرات العدو، ومن السيطرة على إحداها من نوع "سكاي لارك" وهي بحالة فنية جيّدة.
فكما المسيّرات "الإسرائيلية" تستبيح الأجواء اللبنانية منذ العام 2006 وما قبله، وتقوم بالإستطلاع وتجميع الأهداف، على ما تابع الخبير، فإنّ مسيّرات حزب الله تنطلق كذلك وتقوم بمسح الأجواء في شمال فلسطين المحتلّة وفي "تلّ أبيب" وسواها، ولديه بنك من الأهداف.. وإن لم يكن بالإمكان كشف كلّ ما يملك الحزب من ترسانة أسلحة متطورّة روسية وإيرانية وصينية الصنع، إلّا أنّ العدو الإسرائيلي نفسه يُدرك أنّ الحزب يمتلك مسيّرات من أحجام مختلفة، منها طائرات تجسّس تصل الى العمق "الإسرائيلي" أي الى "تلّ أبيب" وسواها، على ما كان أعلن الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، وأخرى هجومية يُمكن تحميلها بذخائر. كذلك فإنّ استخدام الحزب للمسيّرات الهجومية الإنقضاضية حصل للمرة الأولى في لبنان بعد بدء حرب غزّة.
وما يُشكّل قلقاً بالنسبة "للإسرائيلي"، هو أنّ الطائرات المسيّرة يُمكن إنتاجها بكلفة قليلة ولكن بكميّات كبيرة، وهي تُستخدم بهدف استنزاف نظام الدفاع الجوي "الإسرائيلي"، كما يخشى من الطائرات المسيّرة الكبيرة التي يُمكن أن تكون مسلّحة، الأمر الذي جعل العدو يُفكّر بتوغّل برّي. مع العلم أنّه فشل في محاولته خلال العملية البريّة التي قام بها على الجنوب في العام 2006. فلدى الحزب طائرات من دون طيّار مثل مسيّرات "شاهد 129"، "مهاجر"، و"كرّار"، كما تشمل طائرات "مرصاد" و"أيوب" التي يتمّ جمعها محليّاً، وغالباً ما تقوم بمهمات إستطلاعية، إلّا أنّه بالإمكان تزويدها بحمولة صغيرة من الذخائر. وقد استعمل مسيّراته من مختلف الأحجام فوق حقل "كاريش" في فترة سابقة، في رسائل لردع العدو الذي ذهب بعدها الى التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية.
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: حزب الله مسی رات التی ی ة التی
إقرأ أيضاً:
حزب الله في لبنان.. التأسيس والتوجهات والتوازن بين العقيدة والسلطة
في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل الصراع مع إسرائيل، وفي ظل تحوّلات دراماتيكية تعيشها قوى المقاومة في لبنان وغزة والمنطقة، يبدو "حزب الله" مُحاطاً بجملة من التحديات المصيرية. فالحزب الذي نشأ في سياق مجابهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان منذ العام 1982، وتطوّر ليصبح قوة سياسية وعسكرية يمتد تأثيرها إلى دول عديدة في المنطقة، يجد نفسه اليوم أمام امتحان صعب. إمتحانٌ لا يقتصر على الاستمرار في دوره كمقاومة مسلحة، ولا على المشاركة الفعّالة في منظومة الحكم اللبنانية المعقّدة، بل يتعداها إلى الحفاظ على فكرة "الممانعة" التي تمحور حولها تحالفٌ جمعه مع إيران وسورية، وفصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وقوى أخرى في العراق واليمن. التحالف سُمّي بالمحور، ووُصف "حزب الله" تارة بأنه "درّة تاجه" وتارة أخرى بأنه "قلبه"، لكنّه يواجه اليوم متغيّرات استراتيجية أبرزها التحول في أولويات إيران بعد تقاربها المرحلي مع قوى غربية وإقليمية، وتبدّل التموضعات السياسية في العالم العربي والاهم من ذلك نتائج الحرب الأخيرة التي أرست قواعد اشتباك جديدة ليست في صالح الحزب ولا المحور الذي يضمه.
"عربي 21" تنشر سلسلة مقالات توثيقية حول "حزب الله"، نشأته وتطوره وأبرز قادته، وانتقاله من العمل المقاوم إلى المشاركة في الحياة السياسية في لبنان بكل تعقيداتها وتجاذباتها. ويضيء على دور الحزب الذي، على الرغم من كل الضغوط، يواصل تقديم نفسه كدرع أساسي لحماية لبنان ومساندة غزة في وجه التهديدات الإسرائيلية والمخططات الأميركية.
منذ ظهوره على الساحة اللبنانية عام 1982، شكّل "حزب الله" ظاهرةً فريدةً في الحياة السياسية والعسكرية في لبنان والمنطقة. نشأ كردّة فعل ضدّ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 مستلهماً نهج وأفكار الثورة الإسلامية الإيرانية، ورافعاً شعارَ المقاومة الإسلامية ضد الاحتلال، ونجح مع الوقت في الانتقال من حرب العصابات إلى القتال بصفوف منظمة مزودة بالأسلحة المتطورة، كما نجح في الانتقال من كونه مجموعة قتالية تعمل بسرّية إلى حزب سياسي مشارك في الحياة السياسية.
وبرغم خوضه العديد من الحروب المدمِّرة (1993 ـ 1996 ـ 2006 ـ 2024) وتلقّيه ضربات موجعة كان آخرها اغتيال كبار قادته العسكريين وأمينه العام السيد حسن نصرالله، واجه الحزب جولات من الضغط المحلي والإقليمي والدولي بصلابةٍ أثبتت أنه من الأحزاب الأكثر تنظيماً ومأسَسَة في لبنان ومحيطه. بل أصبح ظاهرة تدفع للعودة إلى جذور نشأته للبحث في العوامل والأسباب التي تجعله قادراً على الصّمود والتكيّف. ومن ثم التعرّف إلى قادته الذين رسّخوا حضوره عبر مسيرته الطويلة وإلى حلفائه المحليين والإقليميين الذين أعطوه الشرعية والحماية.
التأسيس والنشأة
في الحقيقة، لم يخرج "حزب الله" إلى العلن رسميًا إلا عام 1985، لكنّ العمل التنظيمي والتأسيسي بدأ فعليًا في العام 1982، وتحديداً في حزيران يونيو على وقع الاجتياح الإسرائيلي الذي انطلق من الحدود الجنوبية المحاذية لفلسطين المحتلة ووصل إلى بيروت. يومذاك تداعت مجموعة من الشباب المسلمين الشيعة، المشرذمين في مجموعات غير منظمة، للقتال ضد إسرائيل وأطلقوا بقيادة حسين الموسوي ما سُمّي بدايةً "حركة أمل الإسلامية" التي انشقت عن "حركة أمل" الأمّ (أفواج المقاومة اللبنانية) بسبب انخراط أمينها العام آنذاك الرئيس نبيه بري في حكومة مصالحة وطنية مع وليد جنبلاط وبشر الجميل وكميل شمعون. شكّلت هذه المجموعة نواة "حزب الله" وبقيت تعمل في السّرّ بالتعاون مع عناصر من من الحرس الثوري الإيراني حتى شباط فبراير من العام 1985، أعلن الناطق الرسمي باسم "حزب الله" إبراهيم أمين السيد، عن وثيقة الحزب السياسية الأولى خلال مؤتمر صحافي في حسينية الشياح الواقعة ضمن ضاحية بيروت الجنوبية وحملت عنوان "الرسالة المفتوحة إلى المستضعفين". فكان للمكان دلالة ورمزية واضحة تشير إلى هوية الحزب الدينية ومكانته الطائفية في خضم حرب أهلية قطعت أوصال لبنان وعزلت مناطقه بعضها عن البعض الآخر.
في الحقيقة، لم يخرج "حزب الله" إلى العلن رسميًا إلا عام 1985، لكنّ العمل التنظيمي والتأسيسي بدأ فعليًا في العام 1982، وتحديداً في حزيران يونيو على وقع الاجتياح الإسرائيلي الذي انطلق من الحدود الجنوبية المحاذية لفلسطين المحتلة ووصل إلى بيروت.ويروي شاهدٌ من الحضور أن ما قرأه أمين السيد آنذاك بدا بياناً حماسياً بعيداً من الواقع، ومثيراً لريبة الحاضرين الذين تساءلوا عن خلفية المجموعة الجديدة الطارئة على مشهد الأحداث المتسارعة في لبنان ولا سيما أن نص الرسالة حدّد رؤية الحزب ومواقفه بلغة عالية النبرة وبخطاب ديني إسلامي راديكالي.
ومن أبرز ما جاء في "الرسالة المفتوحة إلى المستضعفين: "وأمّا قدرتنا العسكرية فلا يتخيّلَنَّ أحد حجمها، إذ ليس لدينا جهاز عسكري منفصل عن بقية أطراف جسمنا، بل إنّ كلاً منّا هو جندي مقاتل حين يدعو داعي الجهاد إنّنا متوجّهون لمحاربة المنكر من جذوره وأول جذور المنكر أمريكا".
"... نحن في لبنان لسنا حزباً تنظيمياً مغلقاً ولسنا إطاراً سياسياً ضيقاً، بل نحن أمةٌ ترتبط مع المسلمين في أنحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام. وإن الحدّ الأدنى الذي يمكن أن نقبل به على طريق تحقيق هذا الطموح هو إنقاذ لبنان من التبعيّة للغرب أو للشرق، وطرد الاحتلال الصهيوني من أراضيه نهائياً. واعتماد نظام يقرره الشعب بمحض اختياراته وحريته".
هذا علماً، أن "حزب الله" عاد وأطلق في العام 2009 وثيقة سياسية جديدة حدّد فيها مواقفه من الأوضاع الرّاهنة واتّسمت بلغةٍ واقعيةٍ وخطابٍ فكريّ وسياسيّ لم يغب عنه الخطاب الإسلامي الراديكالي لكنه بدا أقل هيمنة.
الهيكل التنظيمي
تطور "حزب الله" في سياق الصراع مع اسرائيل وبنى مؤسسات تكرّس صفته المرجعية لدى جمهوره ومكانته السياسية لدى شركائه وخصومه في آن معاً، من الخدمات الاجتماعية إلى المؤسسات التعليمية والطبية والإعلامية. لكنّ الأهم لبقاء "حزب الله" وتماسكه أمام الصدمات، هو اعتماده على هيكلية تنظيمية وهرمية واضحة.
ويتألف الهيكل التنظيمي للحزب من مجالس متعددة، لا تتداخل صلاحياتها لكن يمكن أن ينضم بعض المسؤولين إلى أكثر من مجلس أو هيئة تابعة له، على أن يرأسها كلّها الأمين العام، الذي يُعدّ رأس التنظيم وقائده، وصاحب الكلمة الفصل في القرار السياسي والعسكري والمالي. ويُنتخَب من قبل مجلس شورى الحزب والذي عدّل المادة التي كانت تحصر حق الأمين العام بالترشح لدورتين متتاليتين فقط، خلال عهد السيد حسن نصرالله ما سمح له بالترشح مرات عديدة والبقاء في منصبه نحو 32 عاماً.
علماً أن الشيخ صبحي الطفيلي كان أول أمين عام يُنتخب من قبل "شورى القرار" في تشرين الثاني نوفمبر من العام 1989 ودامت ولايته سنتين، مُدّدت 6 أشهر بسبب معارك إقليم التفاح وانتهت بخلافات داخلية أدّت الى انشقاقه وتحوله الى خصم متشدد للحزب وللجمهورية الإسلامية. وبعده انتُخب السيد عباس الموسوي في أيّار مايو من العام 1991 إلى أن اغتالته إسرائيل بطائرة هليكوبتر مع أفرادٍ من عائلته في 16 شباط فبراير من العام 1992 ليُنتخب بعده السيد حسن نصرالله ويتولى قيادة الحزب 32 عاماً انتهت باغتياله في 17 أيلول سبتمبر من العام 2024 بـ82 طناً من القنابل الخارقة للتحصينات.
أما الأمين العام الحالي الشيخ نعيم قاسم، فقد انتُخب في 29 تشرين الأول أكتوبر من العام 2024 بعدما شغل منصب نائب الأمين العام منذ العام 1991. ولعل المشترك الأبرز بين الأمناء العامين هو كونهم رجال دين بتوجهات عقائدية واضحة والتزام قاطع بولاية الفقيه الإيرانية والتزام حازم بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال إلأسرائيلي. علماً أن "ولاية الفقيه" هي اجتهاد شيعي بحت، يختلف تطبيقها بين المجتمعات والدول الشيعية، لكنها في كل الأحوال ترمز إلى نظام حكم قائم على الولاية السياسية والدينية التي يملكها الفقيه (العالم الديني) في غياب الإمام المعصوم (الإمام الثاني عشر في العقيدة الشيعية) ونيابة عنه.
نشأ "حزب الله" وسط فوضى الحرب الأهلية اللبنانية بعد مضي ثلاث سنوات على انتصار الثورة الإسلامية في إيران (1979) التي ألهمت العديد من "المجتمعات الشيعية" في المنطقة ومن بينها الطائفة الشيعية في لبنان التي لمس أبناؤها حاجة ماسة إلى تنظيم صفوفهم في حركةٍ مقاوِمة تساعدهم على تحرير أرضهم المحتلة منذ العام 1978 وتحميهم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ العام 1948 أي منذ احتلال فلسطين، على المناطق التي يعيشون فيها ولا سيما جنوب لبنان.أما المجالس التي تعمل على اتخاذ القرارات والإشراف على تنفيذها وتقييم نتائجها فهي:
ـ مجلس شورى القرار: هو بمثابة الحكومة، يتألف من 7 أعضاء، خمسة منهم يترأسون المجالس التنظيمية الأساسية التي تعدّ بمثابة الوزارات وهي المجلس التنفيذي، المجلس الجهادي، المجلس السياسي، المجلس القضائي، ومجلس العمل النيابي.
ـ المجلس التنفيذي: يضم المسؤولَ العسكري والمسؤول الأمني والمسؤول التنظيمي ومسؤول التفتيش ومسؤولو المناطق، وتتفررع منه الوحدات التنظيمية التالية:
ـ الوحدة الإعلامية وتضم قناة المنار وإذاعة النور وموقع العهد الالكتروني ومجلّة بقية الله.
ـ الوحدة الاجتماعية وتضم مؤسسة الشهيد ومؤسسة الامداد ومؤسسة القرض الحسن المالية ومؤسسات العمل الاجتماعي.
ـ مؤسسة "جهاد البناء" المختصة بالإعمار والترميم.
ـ وحدة "التعبئة العامة" التي تعمل على ضم المتطوعين الذين يمكن ان يلتحقوا بالمقاومة خلال شنّ العدو الإسرائيلي حرب محتملة .
ـ كشافة الإمام المهدي
ـ المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم
ـ الوحدة المالية
ـ الهيئة الصحية الإسلامية
ـ المجلس الجهادي: يُعنى بمتابعة الأعمال العسكرية والأمنية والتجهيز والتدريب والحماية. ويضم رئيس المجلس التنفيذي والمسؤول العسكري والمسؤول الأمني وممثل عن الولي الفقيه. يتولى كل عضو في هذا المجلس مسؤولية وحدة عسكرية محددة المهام، إما على الصعيد الجغرافي (5 وحدات في المناطق) أو على الصعيد الوظيفي (وحدة المدفعية، وحدة سلاح الجو، الوحدة الصاروخية...)
ـ المجلس السياسي: يهتم بتقديم التحليل السياسي للشورى، وبتحقيق التواصل وبناء العلاقات مع مختلف الأحزاب والقوى السياسية في لبنان على أن يتولّى كلّ عضو منه ملفاً محدّداً ويصبح مسؤولاً عن متابعته.
ـ المجلس القضائي: هو أصغر مجالس حزب الله. يرأسه رجل دين فقيه ويضم المسؤولين القضائيين في المناطق الذين يتابعون شؤون الأعضاء في الحزب ويحكمون في الأمور الشرعية ومخالفات الأعضاء للقرارات الحزبية والتنظيمية.
ـ مجلس العمل الوزاري والنيابي: يتألف من النواب والوزراء الحاليين والسابقين ويتابع عمل "كتلة الوفاء للمقاومة" ويهتم بدراسة مشاريع واقتراحات القوانين المعروضة على المجلس النيابي والحكومة.
دور إيران في نشأة الحزب وتطوره
يحتدم النقاش حول دور إيران في تأسيس ونشأة حزب الله بين من يعتبرها المؤسِّس المباشر للحزب ومن يرى أنها الداعم والوصي عليه. فقد نشأ "حزب الله" وسط فوضى الحرب الأهلية اللبنانية بعد مضي ثلاث سنوات على انتصار الثورة الإسلامية في إيران (1979) التي ألهمت العديد من "المجتمعات الشيعية" في المنطقة ومن بينها الطائفة الشيعية في لبنان التي لمس أبناؤها حاجة ماسة إلى تنظيم صفوفهم في حركةٍ مقاوِمة تساعدهم على تحرير أرضهم المحتلة منذ العام 1978 وتحميهم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ العام 1948 أي منذ احتلال فلسطين، على المناطق التي يعيشون فيها ولا سيما جنوب لبنان. علماً أن التوزع الديموغرافي لأبناء الطائفة الشيعية لا يقتصر على الجنوب وحده بل يشمل أيضاً منطقة بعلبك ـ الهرمل والبقاع عموماً، والضاحية الجنوبية لبيروت التي تكوّنت أساساً بفعل تمركز النازحين الجنوبيين والبقاعيين فيها فضلاً عن قرى شيعية صغيرة في منطقة جبيل، وقريتين في الجبل الدرزي في قضاء عاليه.
وتفيد بعض المراجع أن إيران أرسلت في العام 1982 نحو 1500 عنصر إلى منطقة البقاع اللبناني، خصوصًا في بعلبك، تحت غطاء "قوات الحرس الثوري الإيراني في لبنان"، بغطاء من سورية التي كان لها نفوذ في تلك المنطقة إثر تدخلها في سياق الحرب الأهلية اللبنانية. وكان الهدف المُعلَن من إرسال العناصر الإيرانية هو المساعدة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فبدأ مع قوات الحرس تنظيم وتأطير المجموعات الشيعية المتفرقة وأبرزها "حزب الدعوة الإسلامية" و"اتحاد الطلاب المسلمين" وعناصر من التيار الديني المنشق عن "حركة أمل" وكذلك من حركة "فتح الإسلام" لتشكيل نواة حزب جديد يعتمد "ولاية الفقيه" كمرجعية سياسية ودينية.
لم يُخفِ قادة "حزب الله" وعلى رأسهم الأمين العام الراحل السيد حسن نصرالله، وجود ترابط عضوي بين الحزب و إيران إذ أكد في إحدى مقابلاته أن "الجمهورية الإسلامية في إيران لم تأمرنا يومًا، لكنها ساعدتنا وساندتنا ودعمتنا، وهذا الدعم لم يكن مشروطًا، بل كان دائمًا عن قناعة ووفاء" وقال في مناسبة أخرى "لو لم تكن الجمهورية الإسلامية، لما وُجد حزب الله بهذا الشكل" وفي أحد خطاباته في ذكرى تحرير الجنوب (25 أيار مايو عام 2000) قال "لولا الدعم الإيراني بالسلاح والمال والخبرة، لما تمكّنا من الاستمرار في المقاومة وتحرير الأرض."
كيف لا، وإيران أنشأت منذ الثمانينات معسكرات التدريب والتأهيل، وأرسلت كوادر أمنية وفنية من الحرس الثوري، وموّلت الحزب منذ سنواته الأولى وزودته بالأسلحة والصواريخ، خصوصاً خلال المواجهات مع إسرائيل بين عامي 1996 و2000 إلى حين تحرير جنوب لبنان من الاحتلال، ولاحقاً خلال حرب تموز يوليو من العام 2006.
في كتاب "انهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية"، إنتقد الكاتب الإسرائيلي رونين بيرغمان ما وصفه باستخفاف الاستخبارات الأميركية و"الإسرائيلية" بتأثير انتصار ثورة الإمام الخميني في إيران على "شيعة لبنان" وجاء في كتابه: " كانت المعسكرات جزءاً من استراتيجية طويلة ومركزة جداً تهدف الى تمدد الثورة الإسلامية الى لبنان بعد وصولها الى السلطة في إيران، فلبنان البلد الصغير الواقع في قلب الشرق الأوسط مع عدد كبير من الشيعة الفقراء المهمشين والمتعطشين للثورة على واقعهم. فقد أراد الخميني أن يجد “موقعاً استراتيجياً متقدماً يقربنا من القدس”، على الحدود مع لبنان، وبحلول نهاية العام 1979 كان المئات من الشيعة يتدربون ليصبحوا جيشاً من حرب العصابات"
دور سوري متعدد الأبعاد
كان لسورية دور متعدد الأبعاد في دعم "حزب الله" وإن كان قد شهد تفاوتاً في مراحل مختلفة. فخلال سنوات العمل السري للحزب (بين 1982 و1985) اقتصر دور دمشق على تسهيل دخول عناصر الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان، منطقة البقاع تحديداً، لتدريب المقاتلين المقاومين لإسرائيل.
لاحقاً، ساهمت سورية في ترسيخ نفوذ "حزب الله" من خلال وصايتها وهيمنتها على القرار السياسي والأمني في لبنان، خصوصًا بعد اتفاق الطائف (1989) وحتى اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري واتهام سوريا باغتياله وإجبارها على سحب كامل قواتها من الأراضي اللبنانية في نيسان ابريل من العام 2005. وهنا يتضح دورها متعدد الأبعاد.
أولاً، على المستوى الأمني، سمحت سورية لحزب الله بالاحتفاظ بسلاحه بعد الحرب الأهلية، في استثناء فريد من نوعه في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف عام 1989، باعتباره حركة "مقاومة" وسهلت حركة المقاتلين ونقل السلاح عبر الحدود اللبنانية ـ السورية، خصوصًا عبر منطقة البقاع، واستخدمت أجهزتها الأمنية لتأمين خطوط إمداد السلاح من إيران إلى البقاع والجنوب عبر الأراضي السورية.
ثانياً، على المستوى السياسي، دعم النظام السوري وجود "حزب الله" في السلطة، منذ انتخابات العام 1992 وهي أول انتخابات بعد الحرب الأهلية، من خلال الضغط على الحكومات المتعاقبة لإعطاء "حصّة" وازنة للأحزاب الشيعية أي "أمل" و"حزب الله" ما ساهم في دمج الحزب تدريجيًا في المعادلة السياسية اللبنانية..
ثالثاً، في المحافل الدولية، كانت سوريا تحمي "حزب الله" دبلوماسياً عند كل تصعيد دولي ضده لمصلحة إسرائيل، وقد وصف الصحافي البريطاني روبرت فيسك في كتابه "الويلات الكبرى" موقف سوريا بالقول " كانت سوريا في كل جولة تفاوض تحفظ لحزب الله دوره كالمسدس على الطاولة". ولعلّ ما جاء بعد المجازر الإسرائيلية في عملية "عناقيد الغضب" (1996) خير مثال إذ صَدر ما يُعرَف بـ "اتفاق نيسان" برعاية أميركية ـ فرنسية ـ سورية ـ إيرانية، وأعطى "حزب الله" شرعية للرد على إسرائيل من جنوب لبنان عندما "تضرب إسرائيل مناطق مدنية".
في المقابل، حاولت سوريا في بعض الأحيان الضغط على الحزب لتهدئة الجبهة الجنوبية، أو تأخير أي عمل عسكري إذا كان له تأثير سلبي في مسارٍ دبلوماسي أو سياسي. وفي وثائق لبنانية وإسرائيلية تعود للفترة الممتدة بين مؤتمر مدريد للسلام (1991) ومؤتمر أوسلو (1993) تُظهر التقارير تراجعًا في العمليات الهجومية لحزب الله، وامتناعه عن تبنّي أي هجمات كبيرة خلال جولات المفاوضات فكانت عملياته بمعظمها دفاعية أو محدودة النطاق، وذلك منعاً لاستخدامها ذريعة لإفشال المفاوضات وكنوع من بادرة حسن النية تجاه الغرب الراعي للمفاوضات.
يضاف إلى ذلك إصرار سورية على وحدة المسارين اللبناني والسوري للخلاص من الاحتلال. يتضح مما ورد أن العلاقة الثلاثية بين "حزب الله" وسوريا وإيران قامت على توزيع الأدوار. إيران تتولى التمويل والسلاح والعقيدة، فيما سوريا تتولى الحماية في المحافل الدولية والدعم السياسي واللوجستي على الأرض. على أن يتولى "حزب الله" المقاومة ضد إسرائيل ويسجل النقاط التي تسمح له بتعزيز دوره في لبنان والمنطقة. لكنّ الأدوار هذه قد انتهت فعلياً، مع انتقال الحكم في سوريا إلى سلطة لا تريد الانخراط في أي حرب وفق ما أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع، وكذلك مع غموض الموقف الإيراني الذي يبدو متريّثاً ومناوراً في ظل تعثّر مفاوضاته مع الغرب لرفع العقوبات التي تخنق اقتصاده.
المواءمة بين العقيدة والواقعيّة السياسة
واجه "حزب الله" تحدّياً كبيراً في المواءمة بين أهداف نشأته العقائدية (الدولة الإسلامية) وواقع المشاركة السياسية داخل نظام طائفي متنوع وتوافقي. وإذا كانت الواقعية في نظام من هذا النوع تتطلب التواصل مع كل مكوناته، فقد سعى الحزب منذ التسعينات إلى الانفتاح والانتقال من العمل العسكري فقط إلى المشاركة في الحياة السياسية اللبنانية. إذ شارك في الانتخابات النيابية في العام 1992 معتنقاً مبدأ التعايش مع الدولة والتفاعل مع القوى السياسية التي تمثل مكونات المجتمع اللبناني كافة. ثم شارك في الحكومة اللبنانية لأول مرة في العام 2005، ما زاد من فاعلية نشاطه السياسي وحضوره في المؤسسات العامة.
كان لسورية دور متعدد الأبعاد في دعم "حزب الله" وإن كان قد شهد تفاوتاً في مراحل مختلفة. فخلال سنوات العمل السري للحزب (بين 1982 و1985) اقتصر دور دمشق على تسهيل دخول عناصر الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان، منطقة البقاع تحديداً، لتدريب المقاتلين المقاومين لإسرائيل.ومن المحطات المهمة في المسار الانفتاحي للحزب، إبرام اتفاق مع التيار الوطني الحرّ الذي كان وما يزال يمثل شريحة واسعة من المسيحيين في لبنان، في ما يُعرف بـ"ورقة تفاهم مار مخايل" في 6 شباط فبراير من العام 2006. الوثيقة كانت بمثابة تفاهم سياسي علني ومكتوب، بين طرفَين كانا على طرفي نقيض خلال الحرب الأهلية وفي مرحلة ما بعد العام 2005 (إغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان).
قد يمثّل هذا التفاهم ذروة البراغماتية التي انتهجها "حزب الله" والتي جنى بفضلها شرعيةً وطنيةً عابرةً للطوائف، في لحظة كان يُهاجَم فيها داخليًا وخارجيًا، ونجح في التصدي لمحاولات عزله من قبل فريق "14 آذار" الذي اتهمه في العام 2005 باغتيال الرئيس رفيق الحريري، كما نجح "حزب الله" في اختراق البيئة المسيحية سياسيًا ودحض الاتهام الموجه ضدّه بأنه "تنظيم شيعي منغلق" وبأن ولاءه لإيران وليس للبنان. وأثمر تفاهم مار مخايل، تحالفاً سياسياً جعل الحزب يدعم وصول مؤسِّس ورئيس التيار الوطني الحر ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية (2016) فحصد الحزب غطاءً سياسيًا كبيرًا داخل الدولة اللبنانية، وقلّص الضغوط الدولية عليه من دون أن يلغيه.
فالحزب وبرغم انفتاحه السياسي، حافظ على عقيدته القتالية المرتبطة بولاية الفقيه والمقاومة المسلحة، ما أسهم في استمرار الانتقادات الداخلية والخارجية، التي تفاقمت أكثر عندما اختار الانخراط بالحرب في سوريا لدعم نظام بشار الأسد. ومنذ ذلك الحين، بدأ الحزب بدفع الأثمان السياسية والعسكرية والشعبية، وبمواجهة أكبر موجة تشكيك في قدرته على إحقاق التوازن بين الثبات العقائدي والتكيّف السياسي. ويبقى التساؤل حول مستقبل هذا التوازن مطروحاً في ظل تسارع الأحداث الإقليمية والتحولات الدولية فضلاً عن تعقيدات الساحة اللبنانية المضطربة.
*باحثة وإعلامية لبنانية